ما الذى يحدث فى ميدان التحرير؟ من الذى يدفعنا كالمخدرين نحو الحرب
الأهلية المجنونة التى لا ترحم؟ مصريون يشتبكون مع مصريين فى الشوارع
بالعصى والأسلحة البيضاء والحجارة، لاختلاف فى الرأى والتوجه السياسى،
والنتيجة موت مواطن و550 جريحاً، حسب بيان وزارة الصحة، وعدد منهم إصاباتهم
خطرة.. أى جنون يدفعنا إلى سفك دماء بعضنا البعض وكأننا فى حرب بدائية لا
معنى لها؟
هل ندرك أن الدماء التى تسيل على الأسفلت مصرية، وأن لا أحد يستطيع التفرقة
بين الدماء التى تؤيد بقاء مبارك والدماء التى تعارضه؟ هل ندرك أن الخراب
الذى نتجه إليه مثل قطار يهوى بسرعته القصوى، بينما ركاب العربة الأولى
يتشاجرون مع ركاب العربة الثانية، غافلين أن القطار يهوى بهم جميعاً إلى
الهاوية؟ أليس بيننا رجل رشيد يضع الأولويات فى أجندة وطنية تقدم مصلحة هذا
البلد على المصالح الشخصية للفرقاء المتهافتين؟
أكاد أجزم أن وسط القاهرة الآن قد أصبح ملعباً مفتوحاً لأصابع المخابرات
الأجنبية، والقوى الإقليمية لتشكيل مصر ما بعد مبارك، مصر الفرقاء والطوائف
والأقليات وأصحاب المصالح والتيارات السياسية الهامشية.. أكاد أجزم أن قوى
إقليمية موجودة بكثافة فى قلب القاهرة وتغذى تلك الصراعات بين مؤيدى
ومعارضى مبارك لإبقاء الفتنة فى أوجها ومنع الوصول إلى نقطة الضوء فى آخر
النفق.
بعد خطاب مبارك العاطفى أمس، الذى نجح فى حشد بعض القوى إلى جانبه، حدث جدل
كبير بين الشباب المنتفض فى ميدان التحرير، بعضهم قال إننا حققنا جوهر
مطالبنا، الحكومة تغيرت وتحتاج إلى فرصة، وهناك نائب لرئيس الجمهورية يحمل
دعوة مفتوحة للحوار مع كافة القوى السياسية وتعهداً رئاسياً بالتنحى بعد
انتهاء الولاية الحالية، أى بعد أشهر معدودة لضمان تسليم البلد عزيزة وليست
راكعة أو فى حالة فوضى، وأصبحت قطاعات لا بأس بها من المجتمع فى حالة تقبل
لمبدأ منح الفرصة للحكومة ونائب الرئيس والرئيس خلال الأشهر المقبلة، فإن
أنجزوا ما نتمناه كان بها، وإن لم يفعلوا فميدان التحرير موجود وشعاراتنا
موجودة واستعداداتنا للتضحية أشد وأقوى.
ومع تبلور هذا الطرح بين كثير من الشباب والشيوخ، انقلبت الآية رأساً على
عقب، واندلعت الاشتباكات العنيفة بين مؤيدين ومعارضين لما طرحه مبارك،
اشتباكات فيها كثير من الغل والعنف، بها نية القتل والإصابة للمختلفين فى
الرأى، والنزوع نحو إطلاق أسوأ ما فى الطبيعة البشرية، وبها قبل ذلك
وبعده، الرغبة الموجهة سياسياً لإغلاق الباب الذى بدا موارباً أمام
المنتفضين، بعنف يدفعهم إلى وضع العقل جانباً والتفكير فى الثأر والدم لا
أكثر ولا أقل.
أكاد أجزم أن ما حدث اليوم فى ميدان التحرير هو من تدبير أجهزة استخباراتية
إقليمية لا تريد أى التئام للجرح المصرى، وترجو أن يظل نازفاً محموماً
بعيداً عن آمال الشفاء.. فهل بيننا من يخرج متجرداً من الهوى ومن شهوة
السلطة والتسلط، ليقترح على جميع الفرقاء فرصة لالتقاط الأنفاس وحساب
المكاسب والخسائر؟ هل بيننا من يخرج ليقترح الراحة يومين للمتعارضين بعيداً
عن حرب الشوارع والميادين؟
هل يمكن أن تعيد قوات الشرطة والجيش الانتشار بحزم ووفق القانون ومع احترام
جميع حقوق المواطنين؟ هل يمكن أن نحكم عقولنا وننظر قليلاً فى مصلحة هذا
البلد الذى لا يستحق منا أن نضيعه ثم نجلس ونبكى عليه كالنساء بعد أن عجزنا
عن صيانته وحمل أمانته كالرجال؟ "اللهم اهدِ قومى فإنهم لا يعلمون".