كان يا ما كان في سالف الزمان، بجزائر الهند أو إيران، أسطورة صغيرة جاءت
مسافرة في برطمان. عن ملك من ملوك ساسان، صاحب حشم وولدان، وجند وأعوان.
مرت ببغداد والشام حتى استقرت في القاهرة. لتوافي فيها خيال حكائين مهرة،
ورجال بررة، قد ضجروا من السلطان ومن زوجاتهم، فلم يكن لهم إلا السمر في
المقاهي وعلى أبواب الدكاكين.
هذا هو الثابت عن أصل حكايات ألف ليلة وليلة، ومما حكاه الحكاؤون أخذت
ألف ليلة وليلة صورتها التي وصلت إلينا. صحيح أننا نجد تنويها عنها لدى
المسعودي في القرن الثالث الهجري في بغداد، إلا أنها لم تدون إلا في منتصف
العهد المملوكي في القاهرة، وما وصل القاهرة كان صغيرا جدا مقارنة بما
انتهت إليه الحكايات. يدلل على ذلك اكتساب أكثر القصص فيها بعد ذلك لروح
مصرية خالصة، جاءت بين محكم الصياغة كحكاية مسرور التاجر ومعشوقته زين
المواصف، ومبتذل كحكاية أبي صير وأبي قير.
أما مالم يثبت من تاريخ ألف ليلة وليلة، فنعرضه هنا، عن أصول الحكايات
التي بثت فيها. والذي دفعنا للشك والبحث والتمحيص كان التساؤل القائم على
فلسفة التآمر لأحد القراء في أحد المنتديات حيث قال : “واضح من
أسلوب الكتاب أن كاتبه سطحي جدا وساذج إلى أبعد الحدود ؛ وليت الأمر
توقف عند هذا الحد ، ولكنه يمتلك قدر كبير من الانحرافات الفكرية بل
والخلقية التي يعمل جاهدا ? وللأسف الشديد ? على صبغ التاريخ الإسلامي بها
وبالتالي يشوه هذا التاريخ تشويها شديدا وخاصة حين يتناول خلفاء ووزراء
مشهورين بسيرتهم الناصعة وتاريخهم المشرف ويزج بهم فى ثنايا قصصه الخرافية
والمليئة إضافة إلى الخرافات بالانحرافات الجنسية والخلقية”
ويرى صديقنا الشكاك أن ما ورد في الحكايات كان هدفه الأساسي نشر الانحلال بين نفوس الناس، وبث الوقيعة بيننا وبين أجدادنا ذوي السير
الناصعة، لأننا أبناء ملائكة بالمناسبة لا بشر يسير بهم الظلم والفقر والقهر كل مسلك من مسالك الحياة.
يقول : لما انتصر العثمانيون في مرج دابق، سقطت في أيديهم ملفات كبير البصاصين التي ذكرها جمال الغيطاني في تاريخه العظيم المسمى
باسم ناظر الحسبة ا( الزيني بركات ) لذي حير كبير البصاصين الشهاب زكريا
وحتى يتمكن العثمانيون من فرض سطوتهم على مصر المنهوبة رتبوا العمل في
هذه الوثائق. حكايات عن تجار وعن جوارٍ وعن لصوص
وقطاع طرق، ودسائس ومؤامرات جعلت القائد التركي يصرخ من هول ما رأى وهو يتصفح الوثائق : “عرب خيااانات ، مصريين خيااانات”.
لم يصدق المسكين أن سجلات الملكين ( هو شيطان واحد بالمناسبة فعند الله
ملكان يكتبان الحسنات والسيئات وعند مولانا كبير البصاصين شيطان واحد يكتب
السيئات فقط )، لم يصدق أن هذه السجلات يمكن أن تكون حقيقة أرضية يمكن
قراءتها.
ونحن البشر من تمام رحمة الله بنا، أن ستر دواخلنا عمن حولنا، وإلا لكرهنا
حياتنا. ستر جسدنا بجلد بديع رقيق ساحر، وستر عقولنا بألسنتنا،
ثم عفا عما دار في خلدنا ولم نتحدث به، ثم زاد فعفا عما تحدثنا به وتبنا عنه.
المهم أن صاحبنا القائد التركي، كان له مستشار من عند بحر الخزر، يهودي
ماكر حصيف ( مؤامرة بقى ) له أنف اليهود في الحكايات وصوت شايلوك في تاجر
البندقية. نصحه قائلا: لا تحرقها يا سيدي، فهي ثورة كبيرة قد نحتاج إليها
ذات يوم في إدارة شئون هذه البلاد الواسعة والتعرف على أهلها، ثم قال له
اجعلني على خزائن الوثائق إني داهية مسيحة. فجعله (فسيّح اليهودي) لكل
تاجر ذا نفوذ ولكل جارية ولكل إمام جامع.
يساومهم على ألا يفضحهم، فيتحولون من الولاء لكبير البصاصين إلى أمين
الخزائن. ثم أصبح هو صانع الحكايات لا يحتاج إلى الوثائق بعد أن أتقن
أدواته وعرف طريقه.
وكان من عمل هذا الأمين أن قرب إليه الحكائين الذي يأكلون عيشهم بلسانهم
كشعراء السلاطين غير أن شعراء السلاطين يرضون السلطان ، أما حكائي المقاهي
فلا يرضون أحدا. لا السلاطين ولا الناس ولا الله، لا يرضون إلا بطونهم
التي لا ترضى. فسارت الحكايات على المقاهي مرمّزة بأسماء مشهورة غير
معاصرة، وأماكن بعيدة تفتقر إلى الدقة. وأول أدلة افتقارها إلى الدقة
مفتتح ما وصلنا من ألف ليلة وليلة أنها عن ملك من ملوك
ساسان من جزائر الهند والصين، وملوك ساسان كانوا في بخارى ولم يكونوا في الهند.
هذا ما ادعاه صديقنا الشكاك، أما ما ادعاه الخواجات الذين عرفونا بهذه
الحكايات. فهو أن هذه الحكايات عرفتنا الحياة الاجتماعية التي سادت في
عصور الظلم والقهر التي عاشها المصريون.
نقلت إلينا صورة المرأة التي يتمناها الرجل المثقل بهموم الحياة “فنظر
الحمال وجدها صبية رشيقة القد قاعدة النهد ذات حسن وجمال وقد واعتدال
وجبين كالهلال وعيون كالغزلان وخدود مثل شقائق النعمان وفم كخاتم سليمان
ووجه كالبدر في الإشراق ونهدين كرمانتين باتفاق وبطن مطوي تحت الثياب كطي
السجل للكتاب”. ولعل هذا الحمال المسكين الذي تعود أن يطرق بيوت الكبار
فيرى فيها الجواري والنساء المنعمات، ثم يعود مهدود
الحيل إلى زوجة لن يكون حيلها بأقوى منه. وهذه الزوجة أيضا نجد صورة لمحبوبها الذي تتمنى أن تفر معه من زوجها الفقير.
صورة العقل والسلوك والأحلام والأماني والقيم في عصر بلغ فيه الظلم و
الفقر والتهميش مداه، فتحا لا يستهان به على الأدب الشعبي، ثم على
الأدب الإنساني كله.
حكاية “النائم الذي صحا” والتي بنا عليها الأديب الأسباني كاليرون دي
لاباركا مسرحيته الخالدة “إنما الحياة حلم” وبنى عليها سعد الله ونوس
مسرحيته “الملك هو الملك” وحكاية الجارية تودد التي بنى عليها الإسباني
لاب دي فيجا قصة الفتاة تيودور .
قاطعني: وفضيحة تاريخية لا حد لها.
قلت : إن التاريخ لا يؤخذ من أنصاف الحكايات، ومن وثائق ناقصة . إنها سلعة
الحكائين والرواة. أما التاريخ فتكتبه الأفعال الظاهرة. وأنت نفسك
لو سجلت ما يدور في عقلك بشأني ثم علمته أنا لقتلك بالتأكيد، لكننا نبتسم معا الآن لأننا لا نعلم .. فأجدر بنا أن نظل لا نعلم