- الجزء الأول
د. محمد عبد الرحمن يونس
باحث وقاص وروائي ,
من الولاة الّذين قدّمتهم حكايات ألف ليلة وليلة تقديماً ساخراً الحجّاج بن يوسف الثّقفي (40-95هـ/660-714م)، فهو ظالم غشوم، يختطف زوجات المسلمين ويقدّمهنّ هدايا لسيّده الخليفة عبد الملك بن مروان، كما تصوّره حكاية » نعم ونعمة «، إذ تكشف الحكاية عن امرأة جميلة اسمها » نعم «، وقد كانت زوجة لـ » نعمة بن الرّبيع «، و » لم يكن بالكوفة جارية أحسن ولا أحلى ولا أظرف منها، وقد كبرت وقرأت القرآن والعلوم، وعرفت أنواع اللّعب والآلات، وبرعت في المغنى و آلات الملاهي، حتى أنّها فاقت جميع أهل عصرها «(1) وكما يشيع خبر جميع النّساء الجميلات في مدن ألف ليلة وليلة فقد شاع خبر جمال هذه المرأة في مدينة الكوفة، فيسمع بها الحجّاج، ويقرّر أن يحتال عليها ويخطفها، ويقدّمها هديّة للخليفة الأمويّ عبد الملك بن مروان.
و لأنّ لعجائز ألف ليلة و ليلة قدرات متميّزة على النصب و الاحتيال، فإنّ الحجّاج يلجأ إلى إحداهنّ لمساعدته في حبك الحيلة، واختطاف » نعم «. يقول الرّاوي(2) » ثمّ استدعى بعجوز قهرمانة وقال لها: امضي إلى دار الرّبيع واجتمعي بالجارية نعم، و تسبّبي في أخذها، لأنّه لا يوجد على وجه الأرض مثلها، فقبلت العجوز من الحجّاج ما قاله «.
وبطبيعة الحال، فإنّ عمليّة اختطاف الجارية سيكون لها مكافأة ماليّة كبيرة يقدّمها الحجّاج إلى القهرمانة ، وهو مستعدّ لتقديم هذه المكافأة، طالما أنّ خطف هذه الجارية سيحقّق له مكافأة أهمّ، وهي زيادة حظوته عند عبد الملك بن مروان، وبالتالي تغاضي هذا الأخير عن عبث الحجّاج بالمجتمع الإسلاميّ، وتنكيله بشرفاء هذا المجتمع، كما هو معروف تاريخيّاً، إذ أسرف الحجّاج في قتل الناس، ولم يرحم شيوخهم وهم على حافّة الموت، بل أمر بضرب أعناقهم كمال فعل مع الشّيخ عمير بن صابئ(3).. وقد أُحصِي من قتله الحجّاج بن يوسف »فوُجِد مائةً و عشرين ألفاً، ومات و في حبسه خمسون ألف رجل، وثلاثون ألف امرأة، (…) و كان يحبس النّساء و الرّجال في موضع واحد، ولم يكن للحبس ستر يستر النّاس من الشّمس في الصّيف ولا من المطر والبرد في الشّتاء «(4)، مع العلم أنّ جميع هؤلاء القتلى والمساجين » لم يَجِب على أحد منهم قطع ولا قتل «(5).
ويقول راوي(6) الحكاية: » ثمّ إنّ العجوز توجّهت إلى الحجّاج. فقال لها: ما وراءك؟ فقالت له: إنّي نظرت إلى الجّارية فرأيتها لم تلد النّساء أحسن منها في زمانها. فقال لها الحجّاج: إن فعلت ما أمرتك به يصل إليك منّي خير جزيل. فقالت له: أريد منك المهلة شهراً كاملاً. فقال لها: أمهلك شهراً «.
وتستطيع القهرمانة خلال هذا الشّهر أن تقدّم نفسها لـ » نعمة بن الربيع « وزوجته » نعم « وأسرته، على أنّها مثال للزّاهدة المتعبّدة، الفانية عمرها في الرّكوع والسّجود والدّعاء والصّوم. وعندما يتأكّد كل من في الدّار أنّهم أمام سيّدة زاهدة، تختلي العجوز بالجارية » نعم « وتقول لها(7): » يا سيّدتي والله إنّي حضرت الأماكن الطّاهرة ودعوت لك، وأتمنّى أن تكوني معي حتى تري المشايخ الواصلين ويدعون لك بما تختارين « . وتنطلي الحيلة عليها، وعلى أمّ زوجها، عندما كان زوجها خارج منزله، إذ تقول » نعم «( لأمّ زوجها: »سألتكِ بالله أن تأذني لي في الخروج مع هذه المرأة الصّالحة لأتفرّج على أولياء الله في الأماكن الشّريفة، وأعود بسرعة وقبل مجيء سيّدي «. وأمام دهاء العجوز القهرمانة وورعها الزّائف، وتوق الجارية لزيارة الأماكن الشّريفة، اضطرّت الأم لأن تسمح لزوج ابنها بالخروج، وما إن تخرج الزّوجة » نعم « من دارها حتى تسارع القهرمانة بالاحتيال عليها، وأخذها إلى قصر الحجّاج بن يوسف بالكوفة، القصر الذي تظنّه » نعم «، للوهلة الأولى، مكاناً طاهراً يجتمع فيه أهل الذّكر من أولياء الله الصّالحين: »
ثمّ أخذت الجارية بالحيلة وتوجّهت بها إلى قصر الحجّاج، وعرّفته بمجيئها بعد أن أدخلتها في مقصورة، فأتى الحجّاج ونظر إليها، فرآها أجمل أهل زمانها ولم ير مثلها، فلمّا رأته نعم سترت وجهها، فلم يفارقها حتى استدعى حاجبه وأركب معها خمسين فارساً ، وأمره أن يأخذ الجارية على نجيب سابق، ويتوجّه بها إلى دمشق، ويسلّمها إلى أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، وكتب له كتاباً«(9).
إنّ للعجائز في ألف ليلة وليلة قدرة عجيبة على المكر والإحتيال، إذ تشير حكايات اللّيالي إلى أنّ هذه العجائز اكتسبن في حياتهنّ، و من خلال تعاملهنّ مع رجال عصرهنّ ونسائهنّ، خبرة كبيرة في اصطياد الجواري الجميلات، وتقديمهنّ للرّجال العشّاق، مقابل مكافأة مالية. وكان الرّواة جريئين عليهنّ، فعلى سبيل المثال نجد أنّ أحد الرّواة يصف العجوز شواهي ذات الدّواهي في حكاية » عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان « بالعاهرة(10)، و بـ » سيّدة العجائز الماكرة و مرجع الكهّان في الفتن الثّائرة «(11). وفي حكاية » علي الزيبق المصري ودليلة المحتالة ابنتها زينت النّصّابة «، يصف الرّاوي العجوز دليلة المحتالة بأنّها أخبث من إبليس الذّي كان قد تعلّم المكر منها، فقد كانت » صاحبة حيل وخداع ومناصف وكانت تتحيّل على الثّعبان حتى تطلعه من وكره! و كان إبليس يتعلّم منها المكر ! «(12). والعجوز في حكاية » نعم و نعمة « متقنّعة بثياب الزّهاد، و » في تسبيح وابتهال وقلبها ملآن بالمكر و الاحتيال «(13).
ولا تخلو مدينة من مدن ألف ليلة وليلة من العجائز الماكرات والمحتالات، إلاّ أنّه من الملاحظ أنّ أهمّ المدن الإسلاميّة في ألف ليلة وليلة، والتي تجد فيها هذه العجائز مرتعاً خصباً لممارسة عمليّات النّصب والاحتيال، هي بالترتيب: بغداد والقاهرة و دمشق، وبخاصّة في عهدي الدّولتين الأمويّة والعبّاسيّة. ويمكن تفسير ظاهرة النّصب والاحتيال في هذه المدن،بأنّها كانت نتيجة لتفشّي ظاهرة الطّغيان والتسلّط ـ في هاتين الدّولتين اللّتين حكمتا هاته المدن ـ من جهة، وما رافق هذه الظاهرة من ظلم الحكّام وفجورهم وابتعادهم عن هموم شعوبهم ومصائبها من جهة أخرى. ومن هنا كانت الحيلة، في بنيتها العميقة، حيلة ضدّ المظالم، وضدّ المجتمع نفسه، بجميع تشكيلاته الطّبقيّة سياسيّاً واجتماعيّاً.
وتورّط في هذه الحيلة الفقراء والأغنياء، النّساء و الرّجال، رجال السلطة و عامّة الشعب. فالشخصيّة المستلبة المحرومة من لقمة عيشها تحتال لأجل هذه اللقمة، و الأغنياء يحتالون لزيادة ثرواتهم، و الملوك و السلاطين و الخلفاء يحتالون لزيادة جواريهم و أملاكهم، و الوزراء يحتالون على ملوكهم و بناتهم الأميرات الجميلات، و نساء السلطة المتخمات ثراءً و بطراً يحتلن لإشباع متطلباتهنّ الجنسيّة و المحرّمة، و نساء التجار تحتال على أزواجهن للخروج من المنازل و الوصول إلى عشّاقهنّ من الغلمان الظرفاء، و القهرمانة العجوز في حكاية » نعم و نعمة « تجد نفسها مندفعة للتورّط في الحيلة، لأنّها تحقّق من خلالها امتلاك الثروة من جهة، و تأمن شرّ السلطة السياسيّة و بطشها من جهة أخرى، فهي لا تستطيع أن ترفض طلب والٍ ظالم كالحجّاج بن يوسف الثقفي.
و قد أدّى سعار التجديد الجنسيّ عند شخوص ألف ليلة و ليلة في المدن الإسلاميّة، في أحيان كثيرة، إلى ظهور نوع من العجائز المحتالات، و العارفات بفنون الصبوة و العشق و سعار الجسد، و المتخصّصات في خطف النساء، إلاّ أنّ حيل العجائز في الليالي ليست قصديّة، أو ليست موجودة عند هذه العجائز لأنّ لهنّ طاقة عجيبة على الشرّ و المكر، وعلى تعليم إبليس فنون الحيلة كما يرى أحد الرّواة، و كما أشير إلى ذلك سابقاً، بل لأنّ المجتمع الذي عايشته هاته العجائز هو مجتمع التّباين الطّبقي، ومجتمع الذّكور الذي تُحرم فيه النّساء من كثير من امتيازات الرّجال، المجتمع الذّي يلد الرّجال، » أي ما يمكن أن نقول عنه، بأنّ الرّجل يلد الرّجل، والذّكر داخل ابنه الذّكر، واسم الدّم والمنيّ داخل الابن، وحسب هذا النّظام كانت المرأة (…) الجهيض المنحرف و الثّانوي«(14) و من هنا فإنّ حيلة النساء بشكل عام في اللّيالي كانت نتيجة للبنى الاقتصاديّة و الاجتماعيّة والسّياسيّة الفاسدة، التي يشكّلها الحكّام الذّكور، ورجال السّلطة الأقوياء، والتي يُؤذى منها، بالإضافة إلى النّساء، الرّجال الفقراء الفاقدون لجميع وسائل القوّة والملكيّة. ويرى أحد الباحثين أنّ » ظاهرة العجوز [المحتالة] في اللّيالي تجسيد لمعاناة الجواري و الحرائر على حدّ سواء بكل جوانبها المضطربة مما جعل سلوكها في اللّيالي امتداداً للذّات المحرومة فراحت تخطّط لتحقيق آمال تعينها على سحق الحرمان بسلوك كان يعتبره المجتمع السّائد مقبولاً بالإضافة إلى خضوعه للوقائع اليوميّة في ممارسات الحياة «(15).
وبالعودة إلى حكاية » نعم ونعمة « يُلاحظ أنّ الحجّاج لا يعمل على العبث بأمن مواطنيه في الكوفة، وتفريقهم عن أزواجهم، وتهجيرهم قسريّاً عن أوطانهم، ونشر بذور الفساد، وذلك بتشجيع مفاهيم الاحتيال و الاختطاف فحسب، بل هو يكذب على الخليفة عبد الملك بن مروان، ويدّعي أنّه اشترى له الجارية الجميلة » نعم « بعشرة آلاف دينار.
يقول الرّاوي(16): » فتوجّه الحاجب و أخذ الجارية على هجين، وسافر بها وهي باكية العين من أجل فراق سيّدها، حتى وصلوا إلى دمشق، و استأذن على أمير المؤمنين فأذن له، فدخل الحاجب عليه وأخبره بخبر الجارية، فأخلى لها مقصورة. ثم دخل الخليفة حريمه فرأى زوجته، فقال لها: إنّ الحجّاج قد اشترى لي جارية من بنات ملوك الكوفة بعشرة آلاف دينار، وأرسل إليّ هذا الكتاب وهي صحبة الكتاب «.
إنّ سلوك الحجّاج في الحكاية، و هو يخطف النّساء، ويؤسّس لما يهدم القيم الإنسانيّة في المدينة الإسلاميّة، من كذب واحتيال،و تفريق بين المحبّين، وتهجير قسري لهم، ليس غريباً أو بعيداً عن مجمل مواقفه وتصرّفاته التّاريخيّة التي كانت معادية لجميع مفاهيم الحقّ والعدل، والرّحمة بالرّعيّة. وهاهو يعترف بنفسه أنّ فيه كثيراً من العيوب التي تؤكّد معاداتها للمفاهيم الإنسانيّة التي يجب أن يتحلّى بها من يصبح والياً على المسلمين، من خلال حواره الآتي مع الخليفة عبد الملك بن مروان: » وقال عبد الملك بن مروان للحجّاج: إنّه ليس من أحد إلاّ و هو يعرف عيب نفسه، فصِف لي عيوبك.
قال: أعْفِني يا أمير المؤمنين.
قال: لست أفعل.
قال: أنا لجوج لدود حقود حسود.
قال: ما في إبليس شرٌّ من هذا))(17).
ويدين الرّاوي في حكاية » نعم ونعمة « جلاوزة الحجّاج، وصاحب شرطته، إذ يصوّره متقاعساً عن كشف جرائم الاختطاف التي تحدث في الكوفة، ومتواطئاً مع سيّده الحجّاج في التّغطية على خطف » نعم « جارية » نعمة «، إذ بعد أن تُخطف الجارية يشكّ » نعمة « بأنّ الذي خطف جاريته هو صاحب الشّرطة، فيتوجّه إلى داره، ويتوعّده بأنّه سيشكوه إلى الحجّاج إن لم يرجع الجارية له. يقول الرّاوي(18): » ثمّ توجّه إلى صاحب الشّرطة فقال له: أتحتال عليّ وتأخذ جاريتي من داري فلا بدّ لي أن أسافر وأشتكيك إلى أمير المؤمنين. فقال صاحب الشّرطة: ومن أخذها؟ فقال: عجوز صفتها كذا وكذا، وعليها ملبوس من الصّوف وبيدها سُبْحة عدد حبّاتها ألوف. فقال له صاحب الشّرطة: أوقفني على العجوز وأنا أخلّص لك جاريتك. فقال: و من يعرف العجوز؟ فقال له صاحب الشّرطة: ما يعلم الغيب إلاّ الله سبحانه وتعالى. وقد علم صاحب الشّرطة أنّها محتالة الحجّاج، فقال له نعمة: ما أعرف حاجتي إلاّ منك وبيني وبينك الحجّاج. فقال له: امضِ إلى من شئت. «. إلاّ أنّ خيبة » نعمة بن الرّبيع « كانت شديدة عندما استمع إلى المسرحيّة الهزليّة التي افتعلها الحجّاج مع صاحب شرطته، طالباً منه أن يبحث عن العجوز المحتالة، وعن الجارية » نعم «، ويعيدها إلى صاحبها: » فقال [الحجّاج]: هاتوا صاحب الشّرطة فنأمره أن يفتّش على العجوز.
فلمّا حضر صاحب الشّرطة قال له: أريد منك أن تفتّش على جارية نعمة بن الرّبيع. فقال له صاحب الشّرطة: لا يعلم الغيب إلاّ الله تعالى. فقال له الحجّاج: لا بدّ أن تركب الخيل وتبصر الجارية في الطّرقات وتنظر في البلدان (…) والطّرقات وتفتّش على الجارية. ثمّ التفت إلى نعمة وقال له: إن لم ترجع جاريتك دفعت لك عشر جوارٍ من دار صاحب الشّرطة «(19).
و عندما سمع » نعمة « ما قاله الحجّاج، خرج يائساً وذهب إلى داره، فشاهده والده الرّبيع بن حاتم الذي كان من أكابر أهل الكوفة ووجهائها(20)، وخبيراً عارفاً بأخلاق الحجّاج وتجاوزاته، وتواطؤ صاحب شرطته، وتغطيته لهذه التّجاوزات، وتأكّد أنّ الذي خطف زوج ابنه هو الحجّاج بن يوسف الثّقفي. يقول الرّاوي(21): » وخرج نعمة مغموماً وقد يئس من الحياة، وكان قد بلغ من العمر أربع عشرة سنة، ولا نبات بعارضيه، فجعل يبكي وينتحب، وانعزل في داره. ولم يزل يبكي إلى الصّباح، فأقبل والده عليه وقال: يا ولدي إنّ الحجّاج قد احتال على الجّارية وأخذها، و من ساعة إلى ساعة يأتي الله بالفرج من عنده، فتزايدت الهموم على نعمة وصار لا يعلم ما يقول ولا يعرف من يدخل عليه. وأقام ضعيفاً ثلاثة أشهر حتّى تغيّرت أحواله ويئس منه أبواه، ودخلت عليه الأطباء فقالوا: ما له دواء إلاّ الجارية «.
وما إن يصل » نعمة بن الرّبيع « إلى دمشق، لأجل البحث عن جاريته، حتى يكشف السّرد الحكائي عن وجود جاريته » نعم « في قصر عبد الملك بن مروان. وهنالك في قصر الخليفة تنكشف الحقيقة، وتؤكّد أخت الخليفة أنّ الحجّاج كان كاذباً في ما ادّعاه: » فقالت أخت الخليفة: يا أمير المؤمنين إنّ هذه الواقفة هي نعم المسروقة. سرقها الحجّاج بن يوسف الثّقفي وأوصلها لك، وكذب فيما ادّعاه في كتابه من أنّه اشتراها بعشرة آلاف دينار، وهذا الواقف هو نعمة بن الرّبيع سيّدها، وأنا أسألك بحرمة آبائك الطّاهرين أن تعفو عنهما وتهبهما لبعضهما، لتغنم أجرهما، فإنّهما في قبضتك وقد أكلا من طعامك وشربا من شرابك، وأنا الشّافعة فيهما المستوهبة دمهما «(22).
و تؤكّد الحكاية أنّ الخليفة عبد الملك بن مروان عفا عنهما، ووهبها لبعضهما. وقد يتساءل متلقّي الحكاية: لِمَ تستحلف أخت الخليفة ـ التي لا يذكر الرّاوي اسماً لها ـ أخاها أن يعفو عنهما؟ وما هي الجريمة التي ارتكباها حتى يعفو عنهما؟ و ما جدوى هذا العفو مادام لا يوجد هناك أية جريمة؟. فبحث » نعمة « عن زوجته هو بحث مشروع، ولم يكن متجاوزاً لهيبة الخليفة وسلطاته، مادامت الجارية الأسيرة في قصره هي زوجة رجل من رعاياه كان قد ظلمه الحجّاج والي هذا الخليفة. ولأنّ الرّاوي في هذه الحكاية مؤدلج ضدّ الوالي الظّالم الحجّاج، و متعاطف مع سيّده عبد الملك بن مروان في آن، فقد رأى ضرورة أن يتحلّى أمير المؤمنين بدمشق، بالحكمة والعدل، اللّذين يدفعانه للعفو عن » نعمة « و زوجته » نعم «. وقد اضطّر أن يقول على لسان الخليفة: » لا بأس عليكما فقد وهبتكما لبعضكما«(23). وقد غاب عن إيديولوجية هذا الرّاوي أنّ » نعمة « و » نعم « ليسا مجرمين بحق سلطة عبد الملك بن مروان وسياسته، وأنّ هذا العفو في المحصّلة الأخيرة ليس كرماً من الخليفة، ولا مأثرة من المآثر الّتي يجب أن تُذكَر له، مادام المعفو عنهما مظلومين و مهجّرين من قبل واليه المحتال الحجّاج. ويمكن القول: إنّ أي رجل عادي سويّ جنسيّاً، ومستقيم أخلاقيّاً، لو وُضَع موضع الخليفة عبد الملك بن مروان لكان قد تصرّف مثله، وأرجع » نعم « لسيّدها » نعمة «.
و من الملاحظ، أنّه على الرّغم من أنّ عبد الملك بن مروان تأكّد أنّ واليه الحجّاج قد اعتدى على حرمة المرأة » نعم « وكرامتها، وسلبها حرّيتها بالخطف، وحوّلها إلى جارية مستلبة، وهجّرها قسريّاً من مدينتها الكوفة، وحرمها من زوجها » نعمة «. وسبب تعاسة لهذا الزّوج كادت تفتك به، واجترأ وكذب على الخليفة ـ على الرّغم من أنّه يمثّل أعلى رمز سياسيّ سلطويّ، ودينيّ في الدّولة الإسلاميّة قاطبة، في عهد بني أميّة ـ وعلى الرّغم من كل ذلك ، فإنّ الحكاية تنتهي من دون أن تشير أية إشارة إلى أنّ الخليفة عاقب واليه الحجّاج على جريمته أو أدانه، أو حتّى استدعاه، وسأله: لماذا ينتهك حرمات منازل المسلمين، ويعتدي على حرّيات المواطنين في الكوفة؟. ولقد غاب عن الرّاوي المتعاطف مع نظام السّلطة الإسلاميّة المركزيّة بدمشق، والّتي يمثّلها عبد الملك بن مروان، أنّ انفراج الحكاية على نهاية سعيدة، ينعم بها أبطال الحكاية: عبد الملك بن مروان، و » نعمة « و » نعم «، والطبيب العجمي الذي سافر مع » نعمة « من الكوفة إلى دمشق، حيث » أقاموا في أطيب عيش إلى أن أتاهم هادم اللّذات و مفرّق الجماعات (24)«، ليس شرطاً أن يشكّل حالة سعيدة، أو أدنى مستوى من مستويات العيش الطّيب عند مواطني الكوفة الّذين يتعرّضون لمزيد من ظلم الحجّاج و انتهاكاته لحرمات منازلهم، طالما أنّ الخليفة تجاوز عن جريمة الحجّاج ولم يعاقبه عليها، وطالما أنّه ما دام قائماً على رأس السّلطة السّياسيّة والدّينيّة في الكوفة.
ويشير المؤرّخون، إلى أنّ الحجّاج بقي والياً للخليفة عبد الملك بن مروان، طوال استلام هذا الأخير لمنصب خلافة المسلمين في دمشق الأمويّة، ولم يعزله عن العراق أو يسجنه أو يعاقبه العقاب الرّادع الّذي يجعله يكفّ عن أذى المسلمين و سجنهم وسفك دمائهم، على الرّغم من معرفته الأكيدة بما سبّبه واليه الحجّاج للمسلمين من أذى و مصائب، وتقتيل وتنكيل، لأنّه هو الّذي سلّطه على النّاس(25)، وأطلق يده فيهم، وسمح له برمي الكعبة بالمنجنيق(26). وربّما كان قد آلمه أسلوب القتل والتّنكيل الّذي انتهجه الحجّاج، لأنّه عندما بلغه أنّ الحجّاج قتل الشّاعر عمران بن عصام العنزي(27) وابن الأشعث(28)، استنكر قائلاً: » قطع الله يد الحجّاج«(29). ومات عبد الملك بن مروان سنة 86هـ/705م، واستلم ابنه الوليد بن عبد الملك مقاليد الحكم، وظلّ الحجّاج والياً في عهده، منتهجاً السّياسة التي انتهجها في عهد أبيه عبد الملك، من سجن وترهيب وقتل، إلى أن مات سنة خمس وتسعين هجرية، في مدينة واسط العراقيّة(30).
د. محمد عبد الرحمن يونس
باحث وقاص وروائي ,
من الولاة الّذين قدّمتهم حكايات ألف ليلة وليلة تقديماً ساخراً الحجّاج بن يوسف الثّقفي (40-95هـ/660-714م)، فهو ظالم غشوم، يختطف زوجات المسلمين ويقدّمهنّ هدايا لسيّده الخليفة عبد الملك بن مروان، كما تصوّره حكاية » نعم ونعمة «، إذ تكشف الحكاية عن امرأة جميلة اسمها » نعم «، وقد كانت زوجة لـ » نعمة بن الرّبيع «، و » لم يكن بالكوفة جارية أحسن ولا أحلى ولا أظرف منها، وقد كبرت وقرأت القرآن والعلوم، وعرفت أنواع اللّعب والآلات، وبرعت في المغنى و آلات الملاهي، حتى أنّها فاقت جميع أهل عصرها «(1) وكما يشيع خبر جميع النّساء الجميلات في مدن ألف ليلة وليلة فقد شاع خبر جمال هذه المرأة في مدينة الكوفة، فيسمع بها الحجّاج، ويقرّر أن يحتال عليها ويخطفها، ويقدّمها هديّة للخليفة الأمويّ عبد الملك بن مروان.
و لأنّ لعجائز ألف ليلة و ليلة قدرات متميّزة على النصب و الاحتيال، فإنّ الحجّاج يلجأ إلى إحداهنّ لمساعدته في حبك الحيلة، واختطاف » نعم «. يقول الرّاوي(2) » ثمّ استدعى بعجوز قهرمانة وقال لها: امضي إلى دار الرّبيع واجتمعي بالجارية نعم، و تسبّبي في أخذها، لأنّه لا يوجد على وجه الأرض مثلها، فقبلت العجوز من الحجّاج ما قاله «.
وبطبيعة الحال، فإنّ عمليّة اختطاف الجارية سيكون لها مكافأة ماليّة كبيرة يقدّمها الحجّاج إلى القهرمانة ، وهو مستعدّ لتقديم هذه المكافأة، طالما أنّ خطف هذه الجارية سيحقّق له مكافأة أهمّ، وهي زيادة حظوته عند عبد الملك بن مروان، وبالتالي تغاضي هذا الأخير عن عبث الحجّاج بالمجتمع الإسلاميّ، وتنكيله بشرفاء هذا المجتمع، كما هو معروف تاريخيّاً، إذ أسرف الحجّاج في قتل الناس، ولم يرحم شيوخهم وهم على حافّة الموت، بل أمر بضرب أعناقهم كمال فعل مع الشّيخ عمير بن صابئ(3).. وقد أُحصِي من قتله الحجّاج بن يوسف »فوُجِد مائةً و عشرين ألفاً، ومات و في حبسه خمسون ألف رجل، وثلاثون ألف امرأة، (…) و كان يحبس النّساء و الرّجال في موضع واحد، ولم يكن للحبس ستر يستر النّاس من الشّمس في الصّيف ولا من المطر والبرد في الشّتاء «(4)، مع العلم أنّ جميع هؤلاء القتلى والمساجين » لم يَجِب على أحد منهم قطع ولا قتل «(5).
ويقول راوي(6) الحكاية: » ثمّ إنّ العجوز توجّهت إلى الحجّاج. فقال لها: ما وراءك؟ فقالت له: إنّي نظرت إلى الجّارية فرأيتها لم تلد النّساء أحسن منها في زمانها. فقال لها الحجّاج: إن فعلت ما أمرتك به يصل إليك منّي خير جزيل. فقالت له: أريد منك المهلة شهراً كاملاً. فقال لها: أمهلك شهراً «.
وتستطيع القهرمانة خلال هذا الشّهر أن تقدّم نفسها لـ » نعمة بن الربيع « وزوجته » نعم « وأسرته، على أنّها مثال للزّاهدة المتعبّدة، الفانية عمرها في الرّكوع والسّجود والدّعاء والصّوم. وعندما يتأكّد كل من في الدّار أنّهم أمام سيّدة زاهدة، تختلي العجوز بالجارية » نعم « وتقول لها(7): » يا سيّدتي والله إنّي حضرت الأماكن الطّاهرة ودعوت لك، وأتمنّى أن تكوني معي حتى تري المشايخ الواصلين ويدعون لك بما تختارين « . وتنطلي الحيلة عليها، وعلى أمّ زوجها، عندما كان زوجها خارج منزله، إذ تقول » نعم «( لأمّ زوجها: »سألتكِ بالله أن تأذني لي في الخروج مع هذه المرأة الصّالحة لأتفرّج على أولياء الله في الأماكن الشّريفة، وأعود بسرعة وقبل مجيء سيّدي «. وأمام دهاء العجوز القهرمانة وورعها الزّائف، وتوق الجارية لزيارة الأماكن الشّريفة، اضطرّت الأم لأن تسمح لزوج ابنها بالخروج، وما إن تخرج الزّوجة » نعم « من دارها حتى تسارع القهرمانة بالاحتيال عليها، وأخذها إلى قصر الحجّاج بن يوسف بالكوفة، القصر الذي تظنّه » نعم «، للوهلة الأولى، مكاناً طاهراً يجتمع فيه أهل الذّكر من أولياء الله الصّالحين: »
ثمّ أخذت الجارية بالحيلة وتوجّهت بها إلى قصر الحجّاج، وعرّفته بمجيئها بعد أن أدخلتها في مقصورة، فأتى الحجّاج ونظر إليها، فرآها أجمل أهل زمانها ولم ير مثلها، فلمّا رأته نعم سترت وجهها، فلم يفارقها حتى استدعى حاجبه وأركب معها خمسين فارساً ، وأمره أن يأخذ الجارية على نجيب سابق، ويتوجّه بها إلى دمشق، ويسلّمها إلى أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، وكتب له كتاباً«(9).
إنّ للعجائز في ألف ليلة وليلة قدرة عجيبة على المكر والإحتيال، إذ تشير حكايات اللّيالي إلى أنّ هذه العجائز اكتسبن في حياتهنّ، و من خلال تعاملهنّ مع رجال عصرهنّ ونسائهنّ، خبرة كبيرة في اصطياد الجواري الجميلات، وتقديمهنّ للرّجال العشّاق، مقابل مكافأة مالية. وكان الرّواة جريئين عليهنّ، فعلى سبيل المثال نجد أنّ أحد الرّواة يصف العجوز شواهي ذات الدّواهي في حكاية » عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان « بالعاهرة(10)، و بـ » سيّدة العجائز الماكرة و مرجع الكهّان في الفتن الثّائرة «(11). وفي حكاية » علي الزيبق المصري ودليلة المحتالة ابنتها زينت النّصّابة «، يصف الرّاوي العجوز دليلة المحتالة بأنّها أخبث من إبليس الذّي كان قد تعلّم المكر منها، فقد كانت » صاحبة حيل وخداع ومناصف وكانت تتحيّل على الثّعبان حتى تطلعه من وكره! و كان إبليس يتعلّم منها المكر ! «(12). والعجوز في حكاية » نعم و نعمة « متقنّعة بثياب الزّهاد، و » في تسبيح وابتهال وقلبها ملآن بالمكر و الاحتيال «(13).
ولا تخلو مدينة من مدن ألف ليلة وليلة من العجائز الماكرات والمحتالات، إلاّ أنّه من الملاحظ أنّ أهمّ المدن الإسلاميّة في ألف ليلة وليلة، والتي تجد فيها هذه العجائز مرتعاً خصباً لممارسة عمليّات النّصب والاحتيال، هي بالترتيب: بغداد والقاهرة و دمشق، وبخاصّة في عهدي الدّولتين الأمويّة والعبّاسيّة. ويمكن تفسير ظاهرة النّصب والاحتيال في هذه المدن،بأنّها كانت نتيجة لتفشّي ظاهرة الطّغيان والتسلّط ـ في هاتين الدّولتين اللّتين حكمتا هاته المدن ـ من جهة، وما رافق هذه الظاهرة من ظلم الحكّام وفجورهم وابتعادهم عن هموم شعوبهم ومصائبها من جهة أخرى. ومن هنا كانت الحيلة، في بنيتها العميقة، حيلة ضدّ المظالم، وضدّ المجتمع نفسه، بجميع تشكيلاته الطّبقيّة سياسيّاً واجتماعيّاً.
وتورّط في هذه الحيلة الفقراء والأغنياء، النّساء و الرّجال، رجال السلطة و عامّة الشعب. فالشخصيّة المستلبة المحرومة من لقمة عيشها تحتال لأجل هذه اللقمة، و الأغنياء يحتالون لزيادة ثرواتهم، و الملوك و السلاطين و الخلفاء يحتالون لزيادة جواريهم و أملاكهم، و الوزراء يحتالون على ملوكهم و بناتهم الأميرات الجميلات، و نساء السلطة المتخمات ثراءً و بطراً يحتلن لإشباع متطلباتهنّ الجنسيّة و المحرّمة، و نساء التجار تحتال على أزواجهن للخروج من المنازل و الوصول إلى عشّاقهنّ من الغلمان الظرفاء، و القهرمانة العجوز في حكاية » نعم و نعمة « تجد نفسها مندفعة للتورّط في الحيلة، لأنّها تحقّق من خلالها امتلاك الثروة من جهة، و تأمن شرّ السلطة السياسيّة و بطشها من جهة أخرى، فهي لا تستطيع أن ترفض طلب والٍ ظالم كالحجّاج بن يوسف الثقفي.
و قد أدّى سعار التجديد الجنسيّ عند شخوص ألف ليلة و ليلة في المدن الإسلاميّة، في أحيان كثيرة، إلى ظهور نوع من العجائز المحتالات، و العارفات بفنون الصبوة و العشق و سعار الجسد، و المتخصّصات في خطف النساء، إلاّ أنّ حيل العجائز في الليالي ليست قصديّة، أو ليست موجودة عند هذه العجائز لأنّ لهنّ طاقة عجيبة على الشرّ و المكر، وعلى تعليم إبليس فنون الحيلة كما يرى أحد الرّواة، و كما أشير إلى ذلك سابقاً، بل لأنّ المجتمع الذي عايشته هاته العجائز هو مجتمع التّباين الطّبقي، ومجتمع الذّكور الذي تُحرم فيه النّساء من كثير من امتيازات الرّجال، المجتمع الذّي يلد الرّجال، » أي ما يمكن أن نقول عنه، بأنّ الرّجل يلد الرّجل، والذّكر داخل ابنه الذّكر، واسم الدّم والمنيّ داخل الابن، وحسب هذا النّظام كانت المرأة (…) الجهيض المنحرف و الثّانوي«(14) و من هنا فإنّ حيلة النساء بشكل عام في اللّيالي كانت نتيجة للبنى الاقتصاديّة و الاجتماعيّة والسّياسيّة الفاسدة، التي يشكّلها الحكّام الذّكور، ورجال السّلطة الأقوياء، والتي يُؤذى منها، بالإضافة إلى النّساء، الرّجال الفقراء الفاقدون لجميع وسائل القوّة والملكيّة. ويرى أحد الباحثين أنّ » ظاهرة العجوز [المحتالة] في اللّيالي تجسيد لمعاناة الجواري و الحرائر على حدّ سواء بكل جوانبها المضطربة مما جعل سلوكها في اللّيالي امتداداً للذّات المحرومة فراحت تخطّط لتحقيق آمال تعينها على سحق الحرمان بسلوك كان يعتبره المجتمع السّائد مقبولاً بالإضافة إلى خضوعه للوقائع اليوميّة في ممارسات الحياة «(15).
وبالعودة إلى حكاية » نعم ونعمة « يُلاحظ أنّ الحجّاج لا يعمل على العبث بأمن مواطنيه في الكوفة، وتفريقهم عن أزواجهم، وتهجيرهم قسريّاً عن أوطانهم، ونشر بذور الفساد، وذلك بتشجيع مفاهيم الاحتيال و الاختطاف فحسب، بل هو يكذب على الخليفة عبد الملك بن مروان، ويدّعي أنّه اشترى له الجارية الجميلة » نعم « بعشرة آلاف دينار.
يقول الرّاوي(16): » فتوجّه الحاجب و أخذ الجارية على هجين، وسافر بها وهي باكية العين من أجل فراق سيّدها، حتى وصلوا إلى دمشق، و استأذن على أمير المؤمنين فأذن له، فدخل الحاجب عليه وأخبره بخبر الجارية، فأخلى لها مقصورة. ثم دخل الخليفة حريمه فرأى زوجته، فقال لها: إنّ الحجّاج قد اشترى لي جارية من بنات ملوك الكوفة بعشرة آلاف دينار، وأرسل إليّ هذا الكتاب وهي صحبة الكتاب «.
إنّ سلوك الحجّاج في الحكاية، و هو يخطف النّساء، ويؤسّس لما يهدم القيم الإنسانيّة في المدينة الإسلاميّة، من كذب واحتيال،و تفريق بين المحبّين، وتهجير قسري لهم، ليس غريباً أو بعيداً عن مجمل مواقفه وتصرّفاته التّاريخيّة التي كانت معادية لجميع مفاهيم الحقّ والعدل، والرّحمة بالرّعيّة. وهاهو يعترف بنفسه أنّ فيه كثيراً من العيوب التي تؤكّد معاداتها للمفاهيم الإنسانيّة التي يجب أن يتحلّى بها من يصبح والياً على المسلمين، من خلال حواره الآتي مع الخليفة عبد الملك بن مروان: » وقال عبد الملك بن مروان للحجّاج: إنّه ليس من أحد إلاّ و هو يعرف عيب نفسه، فصِف لي عيوبك.
قال: أعْفِني يا أمير المؤمنين.
قال: لست أفعل.
قال: أنا لجوج لدود حقود حسود.
قال: ما في إبليس شرٌّ من هذا))(17).
ويدين الرّاوي في حكاية » نعم ونعمة « جلاوزة الحجّاج، وصاحب شرطته، إذ يصوّره متقاعساً عن كشف جرائم الاختطاف التي تحدث في الكوفة، ومتواطئاً مع سيّده الحجّاج في التّغطية على خطف » نعم « جارية » نعمة «، إذ بعد أن تُخطف الجارية يشكّ » نعمة « بأنّ الذي خطف جاريته هو صاحب الشّرطة، فيتوجّه إلى داره، ويتوعّده بأنّه سيشكوه إلى الحجّاج إن لم يرجع الجارية له. يقول الرّاوي(18): » ثمّ توجّه إلى صاحب الشّرطة فقال له: أتحتال عليّ وتأخذ جاريتي من داري فلا بدّ لي أن أسافر وأشتكيك إلى أمير المؤمنين. فقال صاحب الشّرطة: ومن أخذها؟ فقال: عجوز صفتها كذا وكذا، وعليها ملبوس من الصّوف وبيدها سُبْحة عدد حبّاتها ألوف. فقال له صاحب الشّرطة: أوقفني على العجوز وأنا أخلّص لك جاريتك. فقال: و من يعرف العجوز؟ فقال له صاحب الشّرطة: ما يعلم الغيب إلاّ الله سبحانه وتعالى. وقد علم صاحب الشّرطة أنّها محتالة الحجّاج، فقال له نعمة: ما أعرف حاجتي إلاّ منك وبيني وبينك الحجّاج. فقال له: امضِ إلى من شئت. «. إلاّ أنّ خيبة » نعمة بن الرّبيع « كانت شديدة عندما استمع إلى المسرحيّة الهزليّة التي افتعلها الحجّاج مع صاحب شرطته، طالباً منه أن يبحث عن العجوز المحتالة، وعن الجارية » نعم «، ويعيدها إلى صاحبها: » فقال [الحجّاج]: هاتوا صاحب الشّرطة فنأمره أن يفتّش على العجوز.
فلمّا حضر صاحب الشّرطة قال له: أريد منك أن تفتّش على جارية نعمة بن الرّبيع. فقال له صاحب الشّرطة: لا يعلم الغيب إلاّ الله تعالى. فقال له الحجّاج: لا بدّ أن تركب الخيل وتبصر الجارية في الطّرقات وتنظر في البلدان (…) والطّرقات وتفتّش على الجارية. ثمّ التفت إلى نعمة وقال له: إن لم ترجع جاريتك دفعت لك عشر جوارٍ من دار صاحب الشّرطة «(19).
و عندما سمع » نعمة « ما قاله الحجّاج، خرج يائساً وذهب إلى داره، فشاهده والده الرّبيع بن حاتم الذي كان من أكابر أهل الكوفة ووجهائها(20)، وخبيراً عارفاً بأخلاق الحجّاج وتجاوزاته، وتواطؤ صاحب شرطته، وتغطيته لهذه التّجاوزات، وتأكّد أنّ الذي خطف زوج ابنه هو الحجّاج بن يوسف الثّقفي. يقول الرّاوي(21): » وخرج نعمة مغموماً وقد يئس من الحياة، وكان قد بلغ من العمر أربع عشرة سنة، ولا نبات بعارضيه، فجعل يبكي وينتحب، وانعزل في داره. ولم يزل يبكي إلى الصّباح، فأقبل والده عليه وقال: يا ولدي إنّ الحجّاج قد احتال على الجّارية وأخذها، و من ساعة إلى ساعة يأتي الله بالفرج من عنده، فتزايدت الهموم على نعمة وصار لا يعلم ما يقول ولا يعرف من يدخل عليه. وأقام ضعيفاً ثلاثة أشهر حتّى تغيّرت أحواله ويئس منه أبواه، ودخلت عليه الأطباء فقالوا: ما له دواء إلاّ الجارية «.
وما إن يصل » نعمة بن الرّبيع « إلى دمشق، لأجل البحث عن جاريته، حتى يكشف السّرد الحكائي عن وجود جاريته » نعم « في قصر عبد الملك بن مروان. وهنالك في قصر الخليفة تنكشف الحقيقة، وتؤكّد أخت الخليفة أنّ الحجّاج كان كاذباً في ما ادّعاه: » فقالت أخت الخليفة: يا أمير المؤمنين إنّ هذه الواقفة هي نعم المسروقة. سرقها الحجّاج بن يوسف الثّقفي وأوصلها لك، وكذب فيما ادّعاه في كتابه من أنّه اشتراها بعشرة آلاف دينار، وهذا الواقف هو نعمة بن الرّبيع سيّدها، وأنا أسألك بحرمة آبائك الطّاهرين أن تعفو عنهما وتهبهما لبعضهما، لتغنم أجرهما، فإنّهما في قبضتك وقد أكلا من طعامك وشربا من شرابك، وأنا الشّافعة فيهما المستوهبة دمهما «(22).
و تؤكّد الحكاية أنّ الخليفة عبد الملك بن مروان عفا عنهما، ووهبها لبعضهما. وقد يتساءل متلقّي الحكاية: لِمَ تستحلف أخت الخليفة ـ التي لا يذكر الرّاوي اسماً لها ـ أخاها أن يعفو عنهما؟ وما هي الجريمة التي ارتكباها حتى يعفو عنهما؟ و ما جدوى هذا العفو مادام لا يوجد هناك أية جريمة؟. فبحث » نعمة « عن زوجته هو بحث مشروع، ولم يكن متجاوزاً لهيبة الخليفة وسلطاته، مادامت الجارية الأسيرة في قصره هي زوجة رجل من رعاياه كان قد ظلمه الحجّاج والي هذا الخليفة. ولأنّ الرّاوي في هذه الحكاية مؤدلج ضدّ الوالي الظّالم الحجّاج، و متعاطف مع سيّده عبد الملك بن مروان في آن، فقد رأى ضرورة أن يتحلّى أمير المؤمنين بدمشق، بالحكمة والعدل، اللّذين يدفعانه للعفو عن » نعمة « و زوجته » نعم «. وقد اضطّر أن يقول على لسان الخليفة: » لا بأس عليكما فقد وهبتكما لبعضكما«(23). وقد غاب عن إيديولوجية هذا الرّاوي أنّ » نعمة « و » نعم « ليسا مجرمين بحق سلطة عبد الملك بن مروان وسياسته، وأنّ هذا العفو في المحصّلة الأخيرة ليس كرماً من الخليفة، ولا مأثرة من المآثر الّتي يجب أن تُذكَر له، مادام المعفو عنهما مظلومين و مهجّرين من قبل واليه المحتال الحجّاج. ويمكن القول: إنّ أي رجل عادي سويّ جنسيّاً، ومستقيم أخلاقيّاً، لو وُضَع موضع الخليفة عبد الملك بن مروان لكان قد تصرّف مثله، وأرجع » نعم « لسيّدها » نعمة «.
و من الملاحظ، أنّه على الرّغم من أنّ عبد الملك بن مروان تأكّد أنّ واليه الحجّاج قد اعتدى على حرمة المرأة » نعم « وكرامتها، وسلبها حرّيتها بالخطف، وحوّلها إلى جارية مستلبة، وهجّرها قسريّاً من مدينتها الكوفة، وحرمها من زوجها » نعمة «. وسبب تعاسة لهذا الزّوج كادت تفتك به، واجترأ وكذب على الخليفة ـ على الرّغم من أنّه يمثّل أعلى رمز سياسيّ سلطويّ، ودينيّ في الدّولة الإسلاميّة قاطبة، في عهد بني أميّة ـ وعلى الرّغم من كل ذلك ، فإنّ الحكاية تنتهي من دون أن تشير أية إشارة إلى أنّ الخليفة عاقب واليه الحجّاج على جريمته أو أدانه، أو حتّى استدعاه، وسأله: لماذا ينتهك حرمات منازل المسلمين، ويعتدي على حرّيات المواطنين في الكوفة؟. ولقد غاب عن الرّاوي المتعاطف مع نظام السّلطة الإسلاميّة المركزيّة بدمشق، والّتي يمثّلها عبد الملك بن مروان، أنّ انفراج الحكاية على نهاية سعيدة، ينعم بها أبطال الحكاية: عبد الملك بن مروان، و » نعمة « و » نعم «، والطبيب العجمي الذي سافر مع » نعمة « من الكوفة إلى دمشق، حيث » أقاموا في أطيب عيش إلى أن أتاهم هادم اللّذات و مفرّق الجماعات (24)«، ليس شرطاً أن يشكّل حالة سعيدة، أو أدنى مستوى من مستويات العيش الطّيب عند مواطني الكوفة الّذين يتعرّضون لمزيد من ظلم الحجّاج و انتهاكاته لحرمات منازلهم، طالما أنّ الخليفة تجاوز عن جريمة الحجّاج ولم يعاقبه عليها، وطالما أنّه ما دام قائماً على رأس السّلطة السّياسيّة والدّينيّة في الكوفة.
ويشير المؤرّخون، إلى أنّ الحجّاج بقي والياً للخليفة عبد الملك بن مروان، طوال استلام هذا الأخير لمنصب خلافة المسلمين في دمشق الأمويّة، ولم يعزله عن العراق أو يسجنه أو يعاقبه العقاب الرّادع الّذي يجعله يكفّ عن أذى المسلمين و سجنهم وسفك دمائهم، على الرّغم من معرفته الأكيدة بما سبّبه واليه الحجّاج للمسلمين من أذى و مصائب، وتقتيل وتنكيل، لأنّه هو الّذي سلّطه على النّاس(25)، وأطلق يده فيهم، وسمح له برمي الكعبة بالمنجنيق(26). وربّما كان قد آلمه أسلوب القتل والتّنكيل الّذي انتهجه الحجّاج، لأنّه عندما بلغه أنّ الحجّاج قتل الشّاعر عمران بن عصام العنزي(27) وابن الأشعث(28)، استنكر قائلاً: » قطع الله يد الحجّاج«(29). ومات عبد الملك بن مروان سنة 86هـ/705م، واستلم ابنه الوليد بن عبد الملك مقاليد الحكم، وظلّ الحجّاج والياً في عهده، منتهجاً السّياسة التي انتهجها في عهد أبيه عبد الملك، من سجن وترهيب وقتل، إلى أن مات سنة خمس وتسعين هجرية، في مدينة واسط العراقيّة(30).