مجلة المحماة – العدد السادس
السنة الثانية والثلاثون سنة 1952
بحث اختصاص المحكمة الجنائية
بالحكم في الدعوى المدنية بعد الحكم بالبراءة
لحضرة الأستاذ إبراهيم محمد صبيحة
الذي لفت نظري إلى هذا البحث هو مقال للدكتور محمود محمود مصطفى في مجلة القانون والاقتصاد السنة 21 تحت عنوان اتجاهات جديدة في قانون الإجراءات الجنائية صحيفة (214) (رابعًا) حيث يقول (كان قانون تحقيق الجنايات يجيز للمحكمة الجنائية أن تقضي في الدعوى المدنية رغم قضائها بالبراءة في الدعوى الجنائية لعدم المعاقبة على الواقعة (المادتان (147) و (172)), ولم يرد في القانون الجديد مقابل لهذين النصين إذ رأى الشارع أنه إذا انهار الأساس الذي من أجله سمح بالخروج عن قواعد توزيع الاختصاص فإنه لا يبقى محل لتكليف المحكمة الجنائية بالفصل في الدعوى المدنية على أساس مدني بحت فيتعين عليها عندئذ أن تقضي بعدم ولايتها بنظرها).
فالموضوع هو هل تحكم المحكمة الجنائية في الدعوى المدنية بعد الحكم بالبراءة؟ وهذا التساؤل خاص بالمخالفات والجنح والجنايات.
وقبل البحث نذكر باختصار الحالات العملية له:
1 - حالة انعدام أحد الأركان القانونية للمسؤولية الجنائية (كانعدام القصد في الجرائم العمدية أو التمييز والإدراك لجنون أو عاهة أو لأن السن أقل من سبع سنوات).
2 - حالة الإكراه والضرورة.
3 - حالة انعدام الخطأ في المسؤولية الجنائية وقيام المسؤولية المدنية على أساس المادة (178) مدني جديد مسؤولية المتبوع بالنسبة للتابع.
ففي هذه الحالات جميعًا تبرئ المحكمة المتهم ولكن ما مصير الدعوى المدنية الملحقة بالدعوى الجنائية.
إن تكليف المحكمة الجنائية بالحكم في الدعوى المدنية له أهمية عملية هو استكمال بحث الموضوع أمامها بدلاً من طرحه ثانيةً أمام المحكمة المدنية اقتصادًا للوقت والمصاريف وعدم تكرار الإجراءات.
وإذا أخذنا بالرأي العكسي الذي يقول به الدكتور محمود محمود مصطفى تقابلنا صعوبة تحديد الصيغة القانونية للحكم أي ما هو سبب تخلي القاضي عن نظر الدعوى المدنية هل هو عدم قبول الدعوى وقد كانت فعلاً مقبولة أم هو رفض وليس هناك ما يسوغه لأن الرفض خاص بالموضوع أم هو عدم اختصاص وأسبابه معروفة وليس فيما ذكره الأستاذ ما يبرره أم هو سقوط وواضح أنه ليس كذلك، ولسنا نعرف ما الذي يقصده الأستاذ بقضاء المحكمة بعدم ولايتها ولم يوضح الصياغة التي تصوغ فيها المحكمة قضاءها بعدم الولاية.
الصحيح أن لا سبب في القانون يسند رأي الأستاذ وأنها مختصة وملزمة بالفصل في الدعوى المدنية حتى بعد الحكم بالبراءة وذلك لما يأتي:
فأولاً: في القانون القديم:
النصوص صريحة في المخالفات والجنح والجنايات في أن المحاكم الجنائية عليها أن تفصل في الدعوى المدنية رغم الحكم بالبراءة.
فالمادة (147): إذا رئُى أن الواقعة غير ثابتة …. يحكم القاضي ببراءة المتهم ويجوز له مع ذلك أن يحكم في التعويضات.
والمادة (172): إذا كانت الواقعة غير ثابتة … يحكم القاضي ببراءة المتهم ويجوز له أن يحكم أيضًا بالتعويضات.
المادة (50): تشكيل محاكم الجنايات: إذا رأت المحكمة أن التهمة ثبتت على المتهم … تقرر إدانته وفي عكس ذلك تحكم ببراءته …
وعلى كل حال يجب أن يفصل في نفس هذا الحكم في التضمينات …
والفقه بداهة مجمع على ذلك.
ثانيًا: في القانون الجديد:
1- روح القانون هي التبسيط والتسهيل في الإجراءات كما قال بحق الأستاذ وكما ضرب لذلك روح الأمثال (الإحالة غرفة الاتهام - التجنيح) وليس في الرأي الذي انتهى إليه ما يتفق مع تلك الروح بل أنه يناقضها، لأنه إذا تخلت المحكمة عن نظر الدعوى المدنية بعد الحكم بالبراءة فمعنى ذلك أن المدعي المدني سوف يضطر إلى إعادة رفع دعواه أمام المحكمة المدنية بمصاريف جديدة، ومعناه أنه سيضيع عليه الوقت الذي مر والجهد الذي بذل، كما سيضيع الوقت والجهد اللذان بذلتهما المحكمة الجنائية التي بحثت الموضوع تفصيلاً حتى فصلت فيه، وظاهر أن مثل هذا الحل يتعذر أن يرمي إليه مشرع أعطى حق التجنيح للقاضي الجزئي !!
2 - والمفروض عند تعديل التشريع أن تكون ثم أسباب تبرر العدول عن حكم النص القديم ولم يبين الأستاذ ما الذي يدعو إلى العدول عن الحكم القديم.
3 - وليس في الأعمال التحضيرية كلها ما يدل على أن الشارع أراد المعنى الذي ذهب إليه الأستاذ.
4 - بل إن عكس رأيه هو الصحيح، فالعرابي باشا (هو أحد واضعي القانون) يقول في كتابه الإجراءات الجنائية الجديد الجزء الأول صحيفة (202) فقرة (394) (إن القانون قد نص بالمادة (309) إجراءات على أن كل حكم يصدر في موضوع الدعوى الجنائية يجب أن يفصل في التعويضات التي يطلبها المدعي بالحقوق المدنية أو المتهم، والمحكمة تحكم في موضوع الدعوى الجنائية إما بالإدانة أو بالبراءة وفي الحالتين تحكم في التعويضات بمنحها أو رفضها).
5 - أخيرًا لقد اجتهد الأستاذ في مسألة النص فيها صريح، وواضح ألا مساغ للاجتهاد في مورد النص.
( أ ) فالمادة (309) صريحة فهي تقول (كل حكم يصدر في موضوع الدعوى الجنائية يجب أن يفصل في التعويضات التي يطلبها المدعي بالحقوق المدنية أو المتهم) والحكم بالبراءة حكم في الموضوع وتطبيق هذا النص لا يحتاج لاجتهاد فهو ينتهي حتمًا إلى وجوب الفصل في الدعوى المدنية وذلك بصريح النص.
قد يتساءل عن سبب عدم إيراد النصوص مشابهة للنصوص القديمة؟
وظاهر أن السبب هو أن الشارع الجديد أراد التبسيط، فبدلاً من أن يورد نفس العبارة في باب المخالفات ثم في الجنح ثم في الجنايات أتى بحكم واحد لها جميعًا في مادة واحدة هي المادة (309) وبذلك كان الشارع الجديد في هذا الصدد أحكم صياغة وأقصد عبارة من الشارع القديم.
وظاهر أن الإيجاز الذي اصطنعه لم يقلل من صراحة الحكم الذي أخذ به.
(ب) وثم نص آخر لا يقل صراحةً عن نص المادة (309) وهو نص (259) فقرة ثانية إجراءات (إذا سقطت الدعوى الجنائية بعد رفعها لسبب من الأسباب الخاصة بها فلا تأثير لذلك في سير الدعوى المدنية المرفوعة معها).
وهذه المادة تتناول حالة سقوط الدعوى العمومية وقد رأى المشرع تناول هذه الحالة بنص صريح لأنها حالة لا يمكن القول معها بأنه قد صدر حكم في الموضوع، وإنما هي حالة خاصة تقوم فيها الدعوى المدنية وحدها بعد استحالة نظر الدعوى العمومية لسقوطها بمضي المدة أو بالوفاة أو بالصلح (الذي كانت تجهله النيابة مثلاً).
وهذا النص وحده كان يمكن الاستناد عليه في القول بأن القضاء في الدعوى المدنية واجب حتى بعد الحكم بالبراءة لأنه ما دام المسلم أن المشرع الجديد يستهدف التبسيط والقصد في الإجراءات وما دام قد نص صراحةً على وجوب الفصل في الدعوى المدنية بعد سقوط الدعوى العمومية, فالأخذ بنفس الحكم واجب من باب أولى في حالة الحكم الموضوعي لأن الحكم بالسقوط لا يحتاج غالبًا إلى بحث ظروف الدعوى تفصيلاً، أما الحكم في الموضوع فلا يتصور إلا بعد استكمال هذا البحث.
يخلص من هذا أن الرأي الصحيح في الموضوع هو أن المحكمة الجنائية ملزمة بالفصل في الدعوى المدنية التي ترفع إليها صحيحة في حالتي الحكم بالبراءة والسقوط وذلك بصريح النصوص: المادة (309) و (259) التي لا يحتاج الأمر معها إلى بحث أو اجتهاد.
السنة الثانية والثلاثون سنة 1952
بحث اختصاص المحكمة الجنائية
بالحكم في الدعوى المدنية بعد الحكم بالبراءة
لحضرة الأستاذ إبراهيم محمد صبيحة
الذي لفت نظري إلى هذا البحث هو مقال للدكتور محمود محمود مصطفى في مجلة القانون والاقتصاد السنة 21 تحت عنوان اتجاهات جديدة في قانون الإجراءات الجنائية صحيفة (214) (رابعًا) حيث يقول (كان قانون تحقيق الجنايات يجيز للمحكمة الجنائية أن تقضي في الدعوى المدنية رغم قضائها بالبراءة في الدعوى الجنائية لعدم المعاقبة على الواقعة (المادتان (147) و (172)), ولم يرد في القانون الجديد مقابل لهذين النصين إذ رأى الشارع أنه إذا انهار الأساس الذي من أجله سمح بالخروج عن قواعد توزيع الاختصاص فإنه لا يبقى محل لتكليف المحكمة الجنائية بالفصل في الدعوى المدنية على أساس مدني بحت فيتعين عليها عندئذ أن تقضي بعدم ولايتها بنظرها).
فالموضوع هو هل تحكم المحكمة الجنائية في الدعوى المدنية بعد الحكم بالبراءة؟ وهذا التساؤل خاص بالمخالفات والجنح والجنايات.
وقبل البحث نذكر باختصار الحالات العملية له:
1 - حالة انعدام أحد الأركان القانونية للمسؤولية الجنائية (كانعدام القصد في الجرائم العمدية أو التمييز والإدراك لجنون أو عاهة أو لأن السن أقل من سبع سنوات).
2 - حالة الإكراه والضرورة.
3 - حالة انعدام الخطأ في المسؤولية الجنائية وقيام المسؤولية المدنية على أساس المادة (178) مدني جديد مسؤولية المتبوع بالنسبة للتابع.
ففي هذه الحالات جميعًا تبرئ المحكمة المتهم ولكن ما مصير الدعوى المدنية الملحقة بالدعوى الجنائية.
إن تكليف المحكمة الجنائية بالحكم في الدعوى المدنية له أهمية عملية هو استكمال بحث الموضوع أمامها بدلاً من طرحه ثانيةً أمام المحكمة المدنية اقتصادًا للوقت والمصاريف وعدم تكرار الإجراءات.
وإذا أخذنا بالرأي العكسي الذي يقول به الدكتور محمود محمود مصطفى تقابلنا صعوبة تحديد الصيغة القانونية للحكم أي ما هو سبب تخلي القاضي عن نظر الدعوى المدنية هل هو عدم قبول الدعوى وقد كانت فعلاً مقبولة أم هو رفض وليس هناك ما يسوغه لأن الرفض خاص بالموضوع أم هو عدم اختصاص وأسبابه معروفة وليس فيما ذكره الأستاذ ما يبرره أم هو سقوط وواضح أنه ليس كذلك، ولسنا نعرف ما الذي يقصده الأستاذ بقضاء المحكمة بعدم ولايتها ولم يوضح الصياغة التي تصوغ فيها المحكمة قضاءها بعدم الولاية.
الصحيح أن لا سبب في القانون يسند رأي الأستاذ وأنها مختصة وملزمة بالفصل في الدعوى المدنية حتى بعد الحكم بالبراءة وذلك لما يأتي:
فأولاً: في القانون القديم:
النصوص صريحة في المخالفات والجنح والجنايات في أن المحاكم الجنائية عليها أن تفصل في الدعوى المدنية رغم الحكم بالبراءة.
فالمادة (147): إذا رئُى أن الواقعة غير ثابتة …. يحكم القاضي ببراءة المتهم ويجوز له مع ذلك أن يحكم في التعويضات.
والمادة (172): إذا كانت الواقعة غير ثابتة … يحكم القاضي ببراءة المتهم ويجوز له أن يحكم أيضًا بالتعويضات.
المادة (50): تشكيل محاكم الجنايات: إذا رأت المحكمة أن التهمة ثبتت على المتهم … تقرر إدانته وفي عكس ذلك تحكم ببراءته …
وعلى كل حال يجب أن يفصل في نفس هذا الحكم في التضمينات …
والفقه بداهة مجمع على ذلك.
ثانيًا: في القانون الجديد:
1- روح القانون هي التبسيط والتسهيل في الإجراءات كما قال بحق الأستاذ وكما ضرب لذلك روح الأمثال (الإحالة غرفة الاتهام - التجنيح) وليس في الرأي الذي انتهى إليه ما يتفق مع تلك الروح بل أنه يناقضها، لأنه إذا تخلت المحكمة عن نظر الدعوى المدنية بعد الحكم بالبراءة فمعنى ذلك أن المدعي المدني سوف يضطر إلى إعادة رفع دعواه أمام المحكمة المدنية بمصاريف جديدة، ومعناه أنه سيضيع عليه الوقت الذي مر والجهد الذي بذل، كما سيضيع الوقت والجهد اللذان بذلتهما المحكمة الجنائية التي بحثت الموضوع تفصيلاً حتى فصلت فيه، وظاهر أن مثل هذا الحل يتعذر أن يرمي إليه مشرع أعطى حق التجنيح للقاضي الجزئي !!
2 - والمفروض عند تعديل التشريع أن تكون ثم أسباب تبرر العدول عن حكم النص القديم ولم يبين الأستاذ ما الذي يدعو إلى العدول عن الحكم القديم.
3 - وليس في الأعمال التحضيرية كلها ما يدل على أن الشارع أراد المعنى الذي ذهب إليه الأستاذ.
4 - بل إن عكس رأيه هو الصحيح، فالعرابي باشا (هو أحد واضعي القانون) يقول في كتابه الإجراءات الجنائية الجديد الجزء الأول صحيفة (202) فقرة (394) (إن القانون قد نص بالمادة (309) إجراءات على أن كل حكم يصدر في موضوع الدعوى الجنائية يجب أن يفصل في التعويضات التي يطلبها المدعي بالحقوق المدنية أو المتهم، والمحكمة تحكم في موضوع الدعوى الجنائية إما بالإدانة أو بالبراءة وفي الحالتين تحكم في التعويضات بمنحها أو رفضها).
5 - أخيرًا لقد اجتهد الأستاذ في مسألة النص فيها صريح، وواضح ألا مساغ للاجتهاد في مورد النص.
( أ ) فالمادة (309) صريحة فهي تقول (كل حكم يصدر في موضوع الدعوى الجنائية يجب أن يفصل في التعويضات التي يطلبها المدعي بالحقوق المدنية أو المتهم) والحكم بالبراءة حكم في الموضوع وتطبيق هذا النص لا يحتاج لاجتهاد فهو ينتهي حتمًا إلى وجوب الفصل في الدعوى المدنية وذلك بصريح النص.
قد يتساءل عن سبب عدم إيراد النصوص مشابهة للنصوص القديمة؟
وظاهر أن السبب هو أن الشارع الجديد أراد التبسيط، فبدلاً من أن يورد نفس العبارة في باب المخالفات ثم في الجنح ثم في الجنايات أتى بحكم واحد لها جميعًا في مادة واحدة هي المادة (309) وبذلك كان الشارع الجديد في هذا الصدد أحكم صياغة وأقصد عبارة من الشارع القديم.
وظاهر أن الإيجاز الذي اصطنعه لم يقلل من صراحة الحكم الذي أخذ به.
(ب) وثم نص آخر لا يقل صراحةً عن نص المادة (309) وهو نص (259) فقرة ثانية إجراءات (إذا سقطت الدعوى الجنائية بعد رفعها لسبب من الأسباب الخاصة بها فلا تأثير لذلك في سير الدعوى المدنية المرفوعة معها).
وهذه المادة تتناول حالة سقوط الدعوى العمومية وقد رأى المشرع تناول هذه الحالة بنص صريح لأنها حالة لا يمكن القول معها بأنه قد صدر حكم في الموضوع، وإنما هي حالة خاصة تقوم فيها الدعوى المدنية وحدها بعد استحالة نظر الدعوى العمومية لسقوطها بمضي المدة أو بالوفاة أو بالصلح (الذي كانت تجهله النيابة مثلاً).
وهذا النص وحده كان يمكن الاستناد عليه في القول بأن القضاء في الدعوى المدنية واجب حتى بعد الحكم بالبراءة لأنه ما دام المسلم أن المشرع الجديد يستهدف التبسيط والقصد في الإجراءات وما دام قد نص صراحةً على وجوب الفصل في الدعوى المدنية بعد سقوط الدعوى العمومية, فالأخذ بنفس الحكم واجب من باب أولى في حالة الحكم الموضوعي لأن الحكم بالسقوط لا يحتاج غالبًا إلى بحث ظروف الدعوى تفصيلاً، أما الحكم في الموضوع فلا يتصور إلا بعد استكمال هذا البحث.
يخلص من هذا أن الرأي الصحيح في الموضوع هو أن المحكمة الجنائية ملزمة بالفصل في الدعوى المدنية التي ترفع إليها صحيحة في حالتي الحكم بالبراءة والسقوط وذلك بصريح النصوص: المادة (309) و (259) التي لا يحتاج الأمر معها إلى بحث أو اجتهاد.