سامحهم الله..
أفزعونا باسم الدين وأرهبونا بآيات العذاب وسامونا خوفا وقهرا وطردا من رحمة الله.
لا عقولهم تعي ولا قلوبهم ترق ولا ألسنتهم
تسكت ولا أياديهم تكف ليل نهار عن ارهابنا وايلامنا وبناء جدار سميك بين
الناس وبين رب الناس.
كيف تحول الدين بإيمانهم إلي سكين؟ وكيف
تغير القرآن بأفواههم إلي فرمان؟ وكيف انقلبت السماحة إلي استباحة والبر
إلي شر، والصحوة إلي سطوة، واليد التي تزرع وتعطي إلي يد تبطش وتؤذي؟؟
اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فقالوا إن
رأيهم هو رأي الدين، وإن كلامهم هو كلام الله وان من يرفض أو يختلف مع
توجهاتهم: مرتد، وعلماني، وضال.
اصابتني رعدة شديدة عندما قرأت تفاصيل
جريمة السلفيين في قنا، وأخذتني صدمة ذهول عندما سمعت حديث الشيخ محمد حسين
يعقوب عن الاستفتاء باعتباره »غزوة الصناديق«، وشعرت بإحباط كبير عندما
عرفت أن البعض يكفر الدكتور يحيي الجمل لأنه قال إن الاستفتاء لا يمكن أن
يكون فيه اجماع لانه لا يوجد بين الناس اجماع علي الله نفسه!
وتذكرت كيف ذبح الاحرار والمفكرون في
تاريخنا الممتد من القهر إلي القهر بعد أن ألبسوهم أردية الكفر والزندقة
لانهم اختلفوا مع السلطان، لقد قتل ابن المقفع لانه دعا الخليفة المنصور
إلي الاحسان إلي الرعية في رسالة ارسلها اليه وقال الخليفة وقتها »والله
لأقتلنك قتلة يسير بذكرها الركبان« فقطعه قطعة قطعة ورمي كل قطعة إمامه في
النار حتي مات، ومن يومها وهو موصوم بالزندقة، وينقل لنا الدكتور أمام عبد
الفتاح في كتابه الرائع »الطاغية« مشهد اغتيال الجعد بن درهم لخلاف سياسي
مع الخليفة هشام بن عبد الملك عندما دعا إلي الكوفة الناس أن يضحوا
بضحاياهم في عيد الاضحي وقال: أما أنا فسأتقرب لله بذبح الجعد بن درهم لأنه
زنديق!
إن اخطر ما اخاف علي بلادي في الفترة
القادمة ذلك الحديث المتصل في السياسة بأسم الدين، وأكثر ما يحبطني ذلك
الخلط المتكرر بين النضال السياسي والجهاد، وأجد من اللازم في ظل هذه الردة
الرجوع إلي حضن الوطن، والاستئناس برموزه الانقياء من سعد زغلول ومحمد
عبده إلي مصطفي النحاس ورشيد رضا ومحمود فهمي النقراشي.
إنني مازلت أقول انه لا يمكن تحويل
المعركة من اجل الوطن إلي معركة دينية، لأننا نعرف ديننا جيدا ونعلم أن
الاسلام أطلق حرية الفرد السياسية وفتح له نوافذ العدل والشوري وحق
الاختيار وأقر المواطنة ودعا إلي التسامح والمحبة والسلام، والله اعلم.
يري الاقتصادي »جريشام« أن العملة الرديئة
تطرد العملة الجيدة من التداول في الأسواق. ويبدو أن هذا المبدأ قد امتد
من الفكر الاقتصادي إلي الفكر السياسي والاجتماعي معاً. ويوم أن نمكن
الأفكار الخبيثة من أن تطرد الأفكار الطيبة وأن يسقط حق الشعب في أخذ الوقت
الكافي له لرسم خارطة طريق مستقبله ومستقبل الأجيال القادمة، يومها يسقط
مبادئ الحق والعدالة الحرية وتكافؤ الفرص في جميع المجالات.
إنهم يريدون أن يخمدوا أنفاس العقول
المفكرة وأنفاس حتي الذين يدافعون عنهم. هم أهل الكهف، أصوات هؤلاء الذين
أخذهم النوم بعيداً عن التطور الذي حدث في ثورة 25 يناير، حتي إذا ما
استيقظوا لم يستوعبوا الحاضر الجديد، فنزعوا بآمالهم إلي الماضي يستحضرونه!
يستحيل ما يريدون، غاية ما يقدرون عليه أن
يغيبوا عن الوعي مرة أخري، وأن يقطعوا أنفسهم عن التطور وأن يعودوا إلي
كهوفهم. وذلك لأن الخارجين من الكهوف يحاولون أن ينقلوا إلينا أسلوب ما قبل
الثورة، أسلوب التشكيك والتشاؤم، إنهم لا يقدرون علي غير ذلك فراحوا
يسترجعون أمجاد »البعكوكة« ظناً منهم أنهم بذلك ينكرون الثورة ويسترجعون
الماضي. أسلوبهم هذا، أسلوب العاجز عن أن يقدم حلاً لشيء. فراحوا ينالون من
كل شيء وراحوا يثبتون الذات بنبذ الآخرين، ويسقطون عليهم بعض ذاتهم. فهم
فشلوا في الماضي، ويحقدون علي الحاضر، ومن داخلهم يلعنون المستقبل.
قالوا »نعم«، نعم هذه قالوها لكل حاكم من قبل، ولكن - نعمهم - تلك خبيثة مثل أفكارهم وغير نافعة، ذلك أنها لا تعني أنهم مع الثورة.
إن »لا« هي الوجه الآخر لـ »نعم« فما كان
لنعم معني من غير »لا«، نعم كما يجب و»لا« كما يجب. أما »نعم« لكل شيء بما
في ذلك ما لا يجب، فهي خيانة لما يجب وضعف لا يقيم الديمقراطية. وأما »لا«
لكل شيء بما في ذلك ما لا يجب، فهي خيانة لما يجب وعناد يهدد
بالديكتاتورية. فليس (بلا) وحدها ولا (بنعم) وحدها تقوم الديمقراطية!
فلتكن النظرة موضوعية، ولتكن »نعم« لما
يجب و»لا« لما يجب، فإن الشعوب الحرة العظيمة هي وحدها القادرة علي قول نعم
ولا في الأوقات المناسبة.
إن ديمقراطية نعم، ديمقراطية أمية، وهي في
الحقيقة ديكتاتورية، فكل »نعم« يجب أن تكون ذات مغزي موضوعي وكل »لا« يجب
أن تكون ذات منطق مفهوم ومقنع.
أما (نعم) التي تصدر عن شخص لا يملك القدرة علي قول (لا)، لا تنصر المحكومين ولا تنفع الحاكمين.