ما يقتضي منا مستهل مقالنا هذا هو إيضاح الفكرة قبل الخوض في الموضوع الذي
نحن بصدد مناولته، علينا أولا أن نعرّف الديمقراطية دون أن نبحر بعيدا في
مدلولات هذه اللفظة اليونانية، فالدائر على كل لسان هنا، هو أن لفظة
الديمقراطية تعني حكم الشعب، أو سلطة الشعب أو بمعنى أوضح الاحتكام إلى
البشر، إلى العقل البشري في إدارة شؤون الحكم وتداول السلطة، أما الإسلام
فيمكن لنا أن نقف عند بعض أحكامه في هذا السياق، أي الجانب الديني منه
الذي يشرّع له في أحقيته بالسلطة والحكم، وذلك حصرا من خلال الكتاب والسنة،
وربما أيضا اجتهاد بعض السلف من الأئمة في بعض الأحكام عندما تلتقي مع
رغبة السلطويين..
علينا التنبه بداية مما يجمع عليه أكثر الدارسين من أن التعصب في الدين،
يهدم العقل كما يرى جون لوك، فـ”الدين الحق لم يوجد للفخفخة المظهرية، ولا
لسيطرة الإكليروس، ولا للعنف، بل وجد لتنظيم حياة الناس، وفقا للفضيلة
والتقوى” بتعبير جون لوك، كما يحذر كانط في هذا المنحى إذ يقول: “إن دينا
يعلن الحرب على العقل سوف يصبح مع مرور الزمن غير قادر على الصمود أمامه”
فأي دين إذا لم يواكب التطورات المستجدة في ضوء العقل واهتداءا به وأيضا
بمختلف العلوم الطبيعية في حياة الدنيا، فلسوف يتجاوزه الزمن، ويصبح مركونا
في متحف الماضي..
من المعلوم أيضا أن الديمقراطية تفترض العلمانية حتما، فلا ديمقراطية بدون
علمانية، لكن العلمانية كما يقول الدكتور برهان غليون: “لا تعني تبني عقيدة
لا دينية، ولا استبعاد الدين من الحياة العامة، ولا تقييد الحريات
الدينية، إنها تعني حياد الدولة ومؤسساتها تجاه الأديان والعقائد حتى تضمن
المساواة الكاملة بين مواطنيها بصرف النظر عن اعتقاداتهم” فالديمقراطية
تنفي حصر إدارة نظام الحكم بيد رجال الدين كما قضى بذلك – حسب تفسيرهم –
مما ورد في القرآن الكريم: “إن الحكم إلا لله” فالحكم هنا على سبيل القصر،
وأيضا في الآية التالية “له الحكم” إن الديانتين المسيحية والإسلام دعتا
إلى وحدة الدين والدنيا، وهذه الدعوة لم تقتصر على المسيحية كما يرى
السلفيون في الإسلام، بل وجدنا حسن البنـّا مؤسس “حزب الإخوان المسلمون”
يرى أن الإسلام دين ودولة، وينادون اليوم بأن الإسلام هو الحل، فرغم حظر
الحكومة المصرية لرفع هذا الشعار، فقد وجدناه مرفوعا في لافتات
حركة”الإخوان المسلمون” في الانتخابات البرلمانية الأخيرة عام2010م وهذا
يعني فيما يعنيه وحدة الدين والدنيا، كشعار استراتيجي للإسلام السياسي..
وإذا كان الإسلاميون جاهروا بطرح الشورى كسنة بديلة عن الديمقراطية في
اختيار من يحكمون، إلا أن الشورى في الحقيقة ليست مرادفة للديمقراطية لأنها
محكومة بأسباب، وبحقبة زمنية محددة، وبشكل تمظهرها، كل هذا يبعدها عن آلية
وطبيعة الديمقراطية، بل أكثر من هذا، فالإسلام السياسي يرى أن الديمقراطية
مناقض للحكم الإسلامي، بل أنه يدفع المسلم للكفر بالنظام الديمقراطي، حيث
لا يمكن الجمع بين مسلم ولفظة ديمقراطي، فعندهم ثمة حكم الله فحسب، وما
يقابله هو حكم الطاغوت أي الشيطان، ولا بد بالتالي من اجتناب الطاغوت..
في الغرب في البدايات، سعت المؤسسات السياسية لتتوحد في المؤسسات الدينية،
وكان على الجماهير التي لا حول لها ولا قوة أن تخضع للدولة ظل الله في
الأرض، أي أن المؤسستين السياسية والدينية لعبتا الدور السلبي ذاته، أولا
في القبول بالواقع الاستبدادي، وبيان قصر الإنسان وتفاهته أمام الدولة،
وعجزه من فعل أي خير أو تغيير، فها هو القديس أوغسطين يبرر استبداد
الأنظمة، ويشيد بها، وبأن “السلطة القائمة معطاة من الله، فمن يعصاها إنما
يعصى الله، ويجلب على نفسه اللعنة” كما برر لاسترقاق الإنسان لأخيه
الإنسان، عندما جاء بذريعة واهية يرفضها العقل البشري، حيث يقول: “إن الله
قد أدخل الرق في العالم كعقاب على الخطيئة، وسيكون تمردا على إرادته أن
يحاول إلغاء هذا الرق” وهذا ما حدا روجيه غارودي ليقول عن الكنيسة أنها
“كانت تبارك وتنسب إلى إرادة الله كل صور التحكم الطبقي من رقّ وقنانة”
فالأوامر والنواهي والتشريع كلها بيد الله الواحد الأحد، وبالتالي هذا
يقتضي وجوب الكفر بالنظام الديمقراطي أو بحكم الطاغوت، هذا ما يراه الإسلام
السياسي..
من جانب آخر فهذا فيورباخ يرى “أن الدين لا ينطوي أساسا على مبدأ الثقافة
والتعليم لأنه لا يتخطى مصاعب الحياة الأرضية إلا بالخيال والإله والسماء”
فالنظرة الدينية هنا نظرة مجردة مغرقة في المثالية دون سند علمي، ولا حكم
عقلي راجح، فالدين يؤسس لسيادة المراتب العليا على المراتب الدنيا، فسريان
نفوذ الدين على العباد يوطد بالتالي سريان أوامر ونواهي آلهة الأرض عليهم،
وامتثالهم لطاعتهم، فحكم الدين اقتضى وجود (جلاد وكاهن) الأول يأمر ويرغم
بالعصا، أما الثاني فيوعظ ويحذر الناس لدى شق عصا الطاعة، أي الدعوة
الصريحة للامتثال والخنوع، وليس أمام العباد بـدّ إلا أن تمتثل لإرادة
الدولة ظل الله في الأرض…
الإسلام السياسي بهذا يتعرض لنظرية العقد الاجتماعي، كشكل من أشكال
الديمقراطية في الحكم، فعندما احتاج البشر في مرحلة تاريخية ما إلى تشريع
وضعي (من وضع البشر) ينظم أمور حياتهم، وفي سبيل ضبط إدارة العلاقات فيما
بينهم، ارتضت المصالح المتناقضة أن تمتثل لإرادة سلطة ما تنتخب ديمقراطيا
ينصاع لها الجميع، ومنبثقة عن الإرادة الشعبية الحرة، فالإسلام السياسي
اعتبر هذا بمثابة تنكر لوجود الخالق، ومنازعة لسلطانه، واعتبروها بالتالي
كفرا..
الإسلام السياسي يعترض على النظم الديمقراطية في إطار إباحته لحرية الفرد
في خياره لأي دين يعتنق، سواء أكان أصله الوحي الإلهي أم من وضع البشر، ولا
تثريب عليه بالتالي من تغيير دينه.. بالمقابل ثمة آيات صريحة تترك الخيار
للفرد بين الكفر والإيمان، وأي دين أو سبيل يختار، (إنا هديناه النجدين،
إما شاكرا وإما كفورا) وقوله تعالي : (فمن شاء منكم فليؤمن ومن شاء فليكفر)
والإنسان هو الذي يتحمل تبعات ما يختار، ولا يوكل للفرد في الأرض أن يكون
مشرّعا بإذنه تعالى في أحكامه ليحكم بالقصاص العادل من الآخرين..
الفريق الإسلامي هذا أيضا يعادي مجانية التعليم في ظل أنظمة ديمقراطية
بذريعة أنها تبيح للفرد لتعلّم الكفر والمذاهب الضالة..أجل إن الديمقراطية
تتيح للفرد فرص التعليم الحر، ولا ترغمه على هذا المعتقد أو ذاك، فيترك له
الخيار فيما يعتقد أو لا يعتقد، والديمقراطية أو الحرية في التعليم هي التي
تدفع بالدارس لتتفتح مواهبه الثقافية دون حـدّ، ومن ثم فهو حر فيما
يختار..
هناك سؤال لا بد من طرحه على هؤلاء..أي نظام تشريعي إسلامي في العالم
الإسلامي ستقتدون به.؟ وأي برنامج سياسي ديني ستعملون على هديه.؟ هاتوا
برامجكم لنتناقش حولها.. أعلمونا عن دولة إسلامية واحدة هي مثلكم وقدوتكم
في نظام التشريع والحكم.. لكن جراء عجزكم ستكتفون بالنقد وبالنقد وحده،
وليس بحوزتكم غيره، وليتكم اكتفيتم في نقدكم بالقلم دون سيف..
في الغرب ستجد أن المؤسسات الدينية التقليدية قد استنفدت غرض وجودها
وتواصلها مع الحداثة، فما عاد الغرب بحاجة إلى معابد وكهنة تتحكم بحياتهم،
فهؤلاء اعتكفوا في مؤسساتهم الدينية، ثم دعوا السياسة لأصحابها السياسيين،
وبالتالي فالسعادة لم تعد في كنف المعتقدات الأسطورية، بل أصبحت السعادة
بالوفرة الاقتصادية، والتمتع بالحياة البهيجة، والعيش الكريم في أجواء من
الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة، فجاءت ثورة الأمم الحديثة لتريح
الإنسان، وتعفيه من كثير من الأعباء المنزلية، والتعب والجهد في مؤسسته،
والغرب في دأب مستمر للزيادة في إنتاج القيم الاستعمالية، والاستمتاع الحر
بوقت الفراغ، وسوف يتمكن هذا الغرب من التغلب على كل معوقات الحياة،
وستتنحى عاجلا أم آجلا تلك القوى الحائلة دون تحقيق كل ذلك، أي المساواة
والعدالة للجميع ..
هذا الفريق الإسلامي أيضا يتجاوز كل ما تحققه الديمقراطية من (حرية الرأي،
وحرية الاعتقاد، والحرية الشخصية، وحق الملكية، وحق العمل والسكن والانتقال
والتعليم، إلى غير ذلك من الحقوق والحريات…) فيقف عند خصلة الأخلاق
فيقرنها بجانب منها بالسلوك الجنسي، أقول أولا لماذا نحمّـل الديمقراطية كل
هذا؟ فالأخلاق ما هي سوى قواعد معينة لسلوك الفرد يتعين عليه التقيد بها
استجابة منه لمقتضيات المجتمع، أي بلغة بسيطة أن الأخلاق نتاج اجتماعي، ولا
تحصر في الديمقراطية وحدها، والمجتمع هو الذي يلفظ أو يتقبل هذه الخصلة أو
تلك، والتشريع هو الذي يرعى ما يتفق حوله أكثرية المجتمع في النظم
الديمقراطية، ليست ثمة أخلاق خارج نطاق المجتمع الإنساني، وأخلاق أي طبقة،
أي فئة تخضع لمصالح هذه الطبقة أو تلك الفئة، فليس السلوك الجنسي (الزنى
مثلا) من مفردات الديمقراطية، وأيضا فهؤلاء لماذا لا يستذكرون التسرية
بالجواري في الإسلام، وما رأيهم اليوم في ذلك السلوك، فضلا عن زواج المتعة،
وإني على يقين أنهم فيها مختلفون كل فريق حسب قراءاته واجتهاداته، فلا
إجماع عندهم البتة..
أخيرا أقول أن الديمقراطية تخص عادة الأنظمة ،شكل الحكم وطبيعة السلطة، وهي
خضعت لتطورات تاريخية، وتبدلات كثيرة، فديمقراطية أثينا بالأمس البعيد لم
تكن كديمقراطية الغرب اليوم، فهي عرفت أشكالا عديدة، ولم تأخذ شكلا محددا
في يوم من الأيام، وهي في اغتناء وتنوع دائمين، وحوله اختلاف كبير، لها
أنماط عديدة، منها على سبيل المثال والتعدد الديمقراطية الليبرالية كما
الحال في بريطانيا، والديمقراطية الدستورية والمثال الولايات المتحدة
الأمريكية، وأخيرا وليس آخرا الديمقراطية التنازعية أو التمثيلية كما هو
حاصل في فرنسا وهكذا..وتبقى الديمقراطية بكل أشكالها مرفوضة إسلاميا، لكن
يبقى أن نقول أن الغرب تمكن عبر نضال طويل ومرير، أن يحقق المأثور القائل
(ما لله لله وما لقيصر لقيصر) أي الفصل بين الدين والدنيا..!
دهام حسن
نحن بصدد مناولته، علينا أولا أن نعرّف الديمقراطية دون أن نبحر بعيدا في
مدلولات هذه اللفظة اليونانية، فالدائر على كل لسان هنا، هو أن لفظة
الديمقراطية تعني حكم الشعب، أو سلطة الشعب أو بمعنى أوضح الاحتكام إلى
البشر، إلى العقل البشري في إدارة شؤون الحكم وتداول السلطة، أما الإسلام
فيمكن لنا أن نقف عند بعض أحكامه في هذا السياق، أي الجانب الديني منه
الذي يشرّع له في أحقيته بالسلطة والحكم، وذلك حصرا من خلال الكتاب والسنة،
وربما أيضا اجتهاد بعض السلف من الأئمة في بعض الأحكام عندما تلتقي مع
رغبة السلطويين..
علينا التنبه بداية مما يجمع عليه أكثر الدارسين من أن التعصب في الدين،
يهدم العقل كما يرى جون لوك، فـ”الدين الحق لم يوجد للفخفخة المظهرية، ولا
لسيطرة الإكليروس، ولا للعنف، بل وجد لتنظيم حياة الناس، وفقا للفضيلة
والتقوى” بتعبير جون لوك، كما يحذر كانط في هذا المنحى إذ يقول: “إن دينا
يعلن الحرب على العقل سوف يصبح مع مرور الزمن غير قادر على الصمود أمامه”
فأي دين إذا لم يواكب التطورات المستجدة في ضوء العقل واهتداءا به وأيضا
بمختلف العلوم الطبيعية في حياة الدنيا، فلسوف يتجاوزه الزمن، ويصبح مركونا
في متحف الماضي..
من المعلوم أيضا أن الديمقراطية تفترض العلمانية حتما، فلا ديمقراطية بدون
علمانية، لكن العلمانية كما يقول الدكتور برهان غليون: “لا تعني تبني عقيدة
لا دينية، ولا استبعاد الدين من الحياة العامة، ولا تقييد الحريات
الدينية، إنها تعني حياد الدولة ومؤسساتها تجاه الأديان والعقائد حتى تضمن
المساواة الكاملة بين مواطنيها بصرف النظر عن اعتقاداتهم” فالديمقراطية
تنفي حصر إدارة نظام الحكم بيد رجال الدين كما قضى بذلك – حسب تفسيرهم –
مما ورد في القرآن الكريم: “إن الحكم إلا لله” فالحكم هنا على سبيل القصر،
وأيضا في الآية التالية “له الحكم” إن الديانتين المسيحية والإسلام دعتا
إلى وحدة الدين والدنيا، وهذه الدعوة لم تقتصر على المسيحية كما يرى
السلفيون في الإسلام، بل وجدنا حسن البنـّا مؤسس “حزب الإخوان المسلمون”
يرى أن الإسلام دين ودولة، وينادون اليوم بأن الإسلام هو الحل، فرغم حظر
الحكومة المصرية لرفع هذا الشعار، فقد وجدناه مرفوعا في لافتات
حركة”الإخوان المسلمون” في الانتخابات البرلمانية الأخيرة عام2010م وهذا
يعني فيما يعنيه وحدة الدين والدنيا، كشعار استراتيجي للإسلام السياسي..
وإذا كان الإسلاميون جاهروا بطرح الشورى كسنة بديلة عن الديمقراطية في
اختيار من يحكمون، إلا أن الشورى في الحقيقة ليست مرادفة للديمقراطية لأنها
محكومة بأسباب، وبحقبة زمنية محددة، وبشكل تمظهرها، كل هذا يبعدها عن آلية
وطبيعة الديمقراطية، بل أكثر من هذا، فالإسلام السياسي يرى أن الديمقراطية
مناقض للحكم الإسلامي، بل أنه يدفع المسلم للكفر بالنظام الديمقراطي، حيث
لا يمكن الجمع بين مسلم ولفظة ديمقراطي، فعندهم ثمة حكم الله فحسب، وما
يقابله هو حكم الطاغوت أي الشيطان، ولا بد بالتالي من اجتناب الطاغوت..
في الغرب في البدايات، سعت المؤسسات السياسية لتتوحد في المؤسسات الدينية،
وكان على الجماهير التي لا حول لها ولا قوة أن تخضع للدولة ظل الله في
الأرض، أي أن المؤسستين السياسية والدينية لعبتا الدور السلبي ذاته، أولا
في القبول بالواقع الاستبدادي، وبيان قصر الإنسان وتفاهته أمام الدولة،
وعجزه من فعل أي خير أو تغيير، فها هو القديس أوغسطين يبرر استبداد
الأنظمة، ويشيد بها، وبأن “السلطة القائمة معطاة من الله، فمن يعصاها إنما
يعصى الله، ويجلب على نفسه اللعنة” كما برر لاسترقاق الإنسان لأخيه
الإنسان، عندما جاء بذريعة واهية يرفضها العقل البشري، حيث يقول: “إن الله
قد أدخل الرق في العالم كعقاب على الخطيئة، وسيكون تمردا على إرادته أن
يحاول إلغاء هذا الرق” وهذا ما حدا روجيه غارودي ليقول عن الكنيسة أنها
“كانت تبارك وتنسب إلى إرادة الله كل صور التحكم الطبقي من رقّ وقنانة”
فالأوامر والنواهي والتشريع كلها بيد الله الواحد الأحد، وبالتالي هذا
يقتضي وجوب الكفر بالنظام الديمقراطي أو بحكم الطاغوت، هذا ما يراه الإسلام
السياسي..
من جانب آخر فهذا فيورباخ يرى “أن الدين لا ينطوي أساسا على مبدأ الثقافة
والتعليم لأنه لا يتخطى مصاعب الحياة الأرضية إلا بالخيال والإله والسماء”
فالنظرة الدينية هنا نظرة مجردة مغرقة في المثالية دون سند علمي، ولا حكم
عقلي راجح، فالدين يؤسس لسيادة المراتب العليا على المراتب الدنيا، فسريان
نفوذ الدين على العباد يوطد بالتالي سريان أوامر ونواهي آلهة الأرض عليهم،
وامتثالهم لطاعتهم، فحكم الدين اقتضى وجود (جلاد وكاهن) الأول يأمر ويرغم
بالعصا، أما الثاني فيوعظ ويحذر الناس لدى شق عصا الطاعة، أي الدعوة
الصريحة للامتثال والخنوع، وليس أمام العباد بـدّ إلا أن تمتثل لإرادة
الدولة ظل الله في الأرض…
الإسلام السياسي بهذا يتعرض لنظرية العقد الاجتماعي، كشكل من أشكال
الديمقراطية في الحكم، فعندما احتاج البشر في مرحلة تاريخية ما إلى تشريع
وضعي (من وضع البشر) ينظم أمور حياتهم، وفي سبيل ضبط إدارة العلاقات فيما
بينهم، ارتضت المصالح المتناقضة أن تمتثل لإرادة سلطة ما تنتخب ديمقراطيا
ينصاع لها الجميع، ومنبثقة عن الإرادة الشعبية الحرة، فالإسلام السياسي
اعتبر هذا بمثابة تنكر لوجود الخالق، ومنازعة لسلطانه، واعتبروها بالتالي
كفرا..
الإسلام السياسي يعترض على النظم الديمقراطية في إطار إباحته لحرية الفرد
في خياره لأي دين يعتنق، سواء أكان أصله الوحي الإلهي أم من وضع البشر، ولا
تثريب عليه بالتالي من تغيير دينه.. بالمقابل ثمة آيات صريحة تترك الخيار
للفرد بين الكفر والإيمان، وأي دين أو سبيل يختار، (إنا هديناه النجدين،
إما شاكرا وإما كفورا) وقوله تعالي : (فمن شاء منكم فليؤمن ومن شاء فليكفر)
والإنسان هو الذي يتحمل تبعات ما يختار، ولا يوكل للفرد في الأرض أن يكون
مشرّعا بإذنه تعالى في أحكامه ليحكم بالقصاص العادل من الآخرين..
الفريق الإسلامي هذا أيضا يعادي مجانية التعليم في ظل أنظمة ديمقراطية
بذريعة أنها تبيح للفرد لتعلّم الكفر والمذاهب الضالة..أجل إن الديمقراطية
تتيح للفرد فرص التعليم الحر، ولا ترغمه على هذا المعتقد أو ذاك، فيترك له
الخيار فيما يعتقد أو لا يعتقد، والديمقراطية أو الحرية في التعليم هي التي
تدفع بالدارس لتتفتح مواهبه الثقافية دون حـدّ، ومن ثم فهو حر فيما
يختار..
هناك سؤال لا بد من طرحه على هؤلاء..أي نظام تشريعي إسلامي في العالم
الإسلامي ستقتدون به.؟ وأي برنامج سياسي ديني ستعملون على هديه.؟ هاتوا
برامجكم لنتناقش حولها.. أعلمونا عن دولة إسلامية واحدة هي مثلكم وقدوتكم
في نظام التشريع والحكم.. لكن جراء عجزكم ستكتفون بالنقد وبالنقد وحده،
وليس بحوزتكم غيره، وليتكم اكتفيتم في نقدكم بالقلم دون سيف..
في الغرب ستجد أن المؤسسات الدينية التقليدية قد استنفدت غرض وجودها
وتواصلها مع الحداثة، فما عاد الغرب بحاجة إلى معابد وكهنة تتحكم بحياتهم،
فهؤلاء اعتكفوا في مؤسساتهم الدينية، ثم دعوا السياسة لأصحابها السياسيين،
وبالتالي فالسعادة لم تعد في كنف المعتقدات الأسطورية، بل أصبحت السعادة
بالوفرة الاقتصادية، والتمتع بالحياة البهيجة، والعيش الكريم في أجواء من
الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة، فجاءت ثورة الأمم الحديثة لتريح
الإنسان، وتعفيه من كثير من الأعباء المنزلية، والتعب والجهد في مؤسسته،
والغرب في دأب مستمر للزيادة في إنتاج القيم الاستعمالية، والاستمتاع الحر
بوقت الفراغ، وسوف يتمكن هذا الغرب من التغلب على كل معوقات الحياة،
وستتنحى عاجلا أم آجلا تلك القوى الحائلة دون تحقيق كل ذلك، أي المساواة
والعدالة للجميع ..
هذا الفريق الإسلامي أيضا يتجاوز كل ما تحققه الديمقراطية من (حرية الرأي،
وحرية الاعتقاد، والحرية الشخصية، وحق الملكية، وحق العمل والسكن والانتقال
والتعليم، إلى غير ذلك من الحقوق والحريات…) فيقف عند خصلة الأخلاق
فيقرنها بجانب منها بالسلوك الجنسي، أقول أولا لماذا نحمّـل الديمقراطية كل
هذا؟ فالأخلاق ما هي سوى قواعد معينة لسلوك الفرد يتعين عليه التقيد بها
استجابة منه لمقتضيات المجتمع، أي بلغة بسيطة أن الأخلاق نتاج اجتماعي، ولا
تحصر في الديمقراطية وحدها، والمجتمع هو الذي يلفظ أو يتقبل هذه الخصلة أو
تلك، والتشريع هو الذي يرعى ما يتفق حوله أكثرية المجتمع في النظم
الديمقراطية، ليست ثمة أخلاق خارج نطاق المجتمع الإنساني، وأخلاق أي طبقة،
أي فئة تخضع لمصالح هذه الطبقة أو تلك الفئة، فليس السلوك الجنسي (الزنى
مثلا) من مفردات الديمقراطية، وأيضا فهؤلاء لماذا لا يستذكرون التسرية
بالجواري في الإسلام، وما رأيهم اليوم في ذلك السلوك، فضلا عن زواج المتعة،
وإني على يقين أنهم فيها مختلفون كل فريق حسب قراءاته واجتهاداته، فلا
إجماع عندهم البتة..
أخيرا أقول أن الديمقراطية تخص عادة الأنظمة ،شكل الحكم وطبيعة السلطة، وهي
خضعت لتطورات تاريخية، وتبدلات كثيرة، فديمقراطية أثينا بالأمس البعيد لم
تكن كديمقراطية الغرب اليوم، فهي عرفت أشكالا عديدة، ولم تأخذ شكلا محددا
في يوم من الأيام، وهي في اغتناء وتنوع دائمين، وحوله اختلاف كبير، لها
أنماط عديدة، منها على سبيل المثال والتعدد الديمقراطية الليبرالية كما
الحال في بريطانيا، والديمقراطية الدستورية والمثال الولايات المتحدة
الأمريكية، وأخيرا وليس آخرا الديمقراطية التنازعية أو التمثيلية كما هو
حاصل في فرنسا وهكذا..وتبقى الديمقراطية بكل أشكالها مرفوضة إسلاميا، لكن
يبقى أن نقول أن الغرب تمكن عبر نضال طويل ومرير، أن يحقق المأثور القائل
(ما لله لله وما لقيصر لقيصر) أي الفصل بين الدين والدنيا..!
دهام حسن