الثورة
الخلاقة التي قمنا بها جاءت إلينا بالحرية والعدالة و... النخبة أيضا؛
فمصطلح النخبة وإن كان معروفا من قبل، لكنه لم يكن متداولا إلا بعد الثورة،
وبدأنا بالفعل نعرف النخبة مع بدايات الثورة، واكتشفنا وقتها أن النخبة
تعني هؤلاء الضيوف ذوي البدل والكرافتات الذين كانوا يصعدون على منصات
التحرير يلقون كلمات لا تتجاوز الثلاث دقائق، وكأنها ...الإلهام، بينما الملايين عليهم أن يسمعوا ويرددوا وراءهم هتافاتهم، ثم يصفّقوا، عرفت فيما بعد أن هؤلاء الملايين هم العامة..
وتطوّر
مفهوم النخبة بعد الثورة من خلال البرامج الفضائية، نعم هم الضيوف الذين
يجلسون بنفس البدل والكرافتات مشبكين أياديهم يتحدثون بحماس عن مستقبل
البلاد، وينطقون كلاما بعضه إنجليزي وبعضه عربي وكلاهما يحتاج إلى ترجمة..
بينما العامة يُستضافون في الشارع، ويُسألون عن القضايا باختصار، فيجيبون
باختصار أيضا..
ثم وجدنا أن هؤلاء النخبة هم هم من يكتبون في الجرائد
والمواقع الشهيرة، ربما نفس ما قالوه اليوم السابق في برامج الثرثرة، بينما
العامة هم من يشترون هذه الجرائد ويدفعون للدخول إلى هذه المواقع.
جلست
وحدي أتأمل قليلا فوجدت أن النخبة هم من يحصلون على كل شيء؛ المقاعد
الوثيرة، والبدل الأنيقة، والوظائف المرموقة، والمسميات العلمية اللي تخضّ
جوه وبره، وغالبا هم من يأتون إلى الميدان مرتدين النظارات الشمسية.. ثم
ضربت رأسي بيدي قائلا: أمال إنت فاكر إيه؟ ما هي النخبة دي أصلا معناها
كده.. النخبة يعني الصفوة.. الخلاصة يا عم الفكيك!
أمال الناس اللي تحت
دول إيه؟ دول العامة أو اللوكال.. كل دي شتايم، طب سمّيهم القاعدة الشعبية
برضه دي شتيمة، طب أقول لك: دول الجماهير.. الجماهير الغفيرة.. وخليهم
يحسوا بنفسهم وقول لهم إنتم أصحاب الكلمة الأولى والأخيرة، إنتم الشعب مصدر
السلطات وصاحب الأصوات والحكم في كل القرارات، المصوتين في كل انتخابات..
لكن
النخبة أبت إلا أن تحرم اللوكال حتى من حقهم الطبيعي الذي يدافعون عنه..
حتى أصواتهم التي غنّوها في معزوفة الاستفتاء بكل نغم "نعم يا حبيبي نعم"..
استكثرها النخبة عليهم.. فأرادوا أن يخالفوا الأغلبية الشعبية؛ لصالح رؤى
رأوها، نختلف حول مدى صوابها، ولكن لا نختلف حول أنه لا يحق لأحد أن يقفز
على نتائج عملية اقتراع ديمقراطية..
بت النخبة التي لم تكتفِ بالبرامج
والبدل والوظائف والنظارات الشمس.. فأرادت أن تتدخل بكل قوة لإنقاذ الشعب
من نفسه.. من جهالته الجهلاء وظلامته الظلماء، وغباوته الغبواء -أي حاجة في
أي حاجة- "حاسب لتعوّر روحك" هكذا قالها النخبة لشعب مصر.. قالها خالد
منتصر حين قال "إن نتائج صناديق الاقتراع وحدها غير كافية"، وقالها عمرو
حمزاوي حين طالب بتأجيل الانتخابات وقال "إن هناك مواد دستورية ومواد فوق
دستورية"، ولم يذكر أن هناك مواد تحت دستورية، ومواد مشعة ومواد ملتهبة..
وقالها العدد المختلَف عليه في التحرير الجمعة الماضية حين قالوا "الدستور
أولا".. وإن كنت أرى أن "المصري اليوم" أولا؛ لأن المصري اليوم ظروفه صعبة
جدا يجب السعي تحو تحقيق استقراره قبل أن يلعن الجدليات التي لا تريد أن
تنتهي..
أعلنت النخبة في غالبيتها عن وجه غاية في القبح.. وجه ديكتاتوري
يحتقر الإرادة الشعبية وينظر للمواطن باستخفاف ويتهمه بعدم النضج، وجه
براجماتي يبحث عن مصالح خاصة يؤخّر لأجلها مسيرة استقرار الوطن وانتهاء
فترة الحكم الانتقالي؛ غير عابئ بفوضى أمنية غالبا لا تطال المناطق الراقية
التي يقطنها النخبة، ولا انفلات أمني رهيب يهدد فقط اللوكال من سكان
الأحياء الشعبية.. ولا غياب الاستثمارات وعجز الشركات والمصانع عن توفير
دخول العمال؛ لأن النخبة تحوّل رواتبهم متعددة المصادر على البنوك بالعملة
الصعبة..
لم أكن أودّ أن تكون الصورة بهذه القتامة، ولكن نسبة كبيرة من
النخبة أصرّت أن تظهر العار الذي تخفيه منذ عقود، وهي أنها في معظمها ليست
من هذا الشعب، ولا تنتمي إليه إلا من خلال القراءة عنه والكتابة له،
متظاهرو الجمعة الماضية الذين لا ذنب لهم فيما فعلوا، واتبعوا الحق الذي
رأوه، رأوه عبر النخبة التي لا تعرف أن هناك من لم يذق اللحم منذ ثورة
يناير كما حكى لي أحد الشيوخ.. لم يعرفوا أن هناك من لم يتقاض راتبا بالفعل
منذ توقيت مشابه كما حكى لي أحد الشباب.. نخبة من النخبة لا تعرف الشعب،
ولهذا لم تفكر في الشعب بأكثر من نظريات علمية وفلسفات أيديولوجية تخرج بها
علينا عبر التليفزيون أو الجرنان..
تقول لي حنانيك قليلا؛ فنحن جميعا
في سفينة الوطن، أقول لك: اسأل النخبة هل تبرّع أحد منهم لجمعية رعاية
أيتام أو مشروع خيري فقد مصدر تبرعاته؟ هل فكّر أحد منهم في مساعدة أهالي
قرية تعيش في الظلام والعطش ولا تعرف لمن تشكو ما بها؟ هل زار أحدهم مستشفى
حكوميا، وعرف كيف توفّر أسرة عاطلة دواءً باهظ الثمن لعائل مبتلى بمجموعة
من الأمراض؟
ماذا تعرف النخبة عن مصر التي يتفلسفون حول مستقبلها،
ويبحثون عن نظام يرضي طموحاتهم؟ مصر تحتاج إلى التعمير والتطوير والتنمية
أكثر ما تحتاج إلى التنظير والتحليل والتقديم والتأخير.
أحب أن ألفت
النظر إلى أنني لا أتحدث عن جميع النخبة المثقفة والسياسية في مصر؛ فلدينا
أقلام تكتب بمداد حب الوطن، وعقول تعفّرت بتراب الوطن، وذاقت مع أهله
الأمرّين، فخرجت من رحم المعاناة، ولكن ما أقلهم وما أعزّهم، وما أعفّهم عن
الضوء والثرثرة..
ليلحق النخبة أنفسهم، وليعودوا أدراجهم عن الاستعلاء
والتجهيل الذي يبدونه بحق المواطن، وليقرؤوا رسائل الشارع/ الشعب/ العامة،
قبل أن يخسروا بريقهم إذا انصرف عنهم الناس، وخشية أن ينقلب عليهم الشعب
إذا استمروا في دعاوى استغبائه، محاولين القفز فوق طموحاته؛ فالشعب ليس
غبيا بل يسمع ويقرأ ويفهم... ويقرّر أيضا.
حكاوي الغندور
الخلاقة التي قمنا بها جاءت إلينا بالحرية والعدالة و... النخبة أيضا؛
فمصطلح النخبة وإن كان معروفا من قبل، لكنه لم يكن متداولا إلا بعد الثورة،
وبدأنا بالفعل نعرف النخبة مع بدايات الثورة، واكتشفنا وقتها أن النخبة
تعني هؤلاء الضيوف ذوي البدل والكرافتات الذين كانوا يصعدون على منصات
التحرير يلقون كلمات لا تتجاوز الثلاث دقائق، وكأنها ...الإلهام، بينما الملايين عليهم أن يسمعوا ويرددوا وراءهم هتافاتهم، ثم يصفّقوا، عرفت فيما بعد أن هؤلاء الملايين هم العامة..
وتطوّر
مفهوم النخبة بعد الثورة من خلال البرامج الفضائية، نعم هم الضيوف الذين
يجلسون بنفس البدل والكرافتات مشبكين أياديهم يتحدثون بحماس عن مستقبل
البلاد، وينطقون كلاما بعضه إنجليزي وبعضه عربي وكلاهما يحتاج إلى ترجمة..
بينما العامة يُستضافون في الشارع، ويُسألون عن القضايا باختصار، فيجيبون
باختصار أيضا..
ثم وجدنا أن هؤلاء النخبة هم هم من يكتبون في الجرائد
والمواقع الشهيرة، ربما نفس ما قالوه اليوم السابق في برامج الثرثرة، بينما
العامة هم من يشترون هذه الجرائد ويدفعون للدخول إلى هذه المواقع.
جلست
وحدي أتأمل قليلا فوجدت أن النخبة هم من يحصلون على كل شيء؛ المقاعد
الوثيرة، والبدل الأنيقة، والوظائف المرموقة، والمسميات العلمية اللي تخضّ
جوه وبره، وغالبا هم من يأتون إلى الميدان مرتدين النظارات الشمسية.. ثم
ضربت رأسي بيدي قائلا: أمال إنت فاكر إيه؟ ما هي النخبة دي أصلا معناها
كده.. النخبة يعني الصفوة.. الخلاصة يا عم الفكيك!
أمال الناس اللي تحت
دول إيه؟ دول العامة أو اللوكال.. كل دي شتايم، طب سمّيهم القاعدة الشعبية
برضه دي شتيمة، طب أقول لك: دول الجماهير.. الجماهير الغفيرة.. وخليهم
يحسوا بنفسهم وقول لهم إنتم أصحاب الكلمة الأولى والأخيرة، إنتم الشعب مصدر
السلطات وصاحب الأصوات والحكم في كل القرارات، المصوتين في كل انتخابات..
لكن
النخبة أبت إلا أن تحرم اللوكال حتى من حقهم الطبيعي الذي يدافعون عنه..
حتى أصواتهم التي غنّوها في معزوفة الاستفتاء بكل نغم "نعم يا حبيبي نعم"..
استكثرها النخبة عليهم.. فأرادوا أن يخالفوا الأغلبية الشعبية؛ لصالح رؤى
رأوها، نختلف حول مدى صوابها، ولكن لا نختلف حول أنه لا يحق لأحد أن يقفز
على نتائج عملية اقتراع ديمقراطية..
بت النخبة التي لم تكتفِ بالبرامج
والبدل والوظائف والنظارات الشمس.. فأرادت أن تتدخل بكل قوة لإنقاذ الشعب
من نفسه.. من جهالته الجهلاء وظلامته الظلماء، وغباوته الغبواء -أي حاجة في
أي حاجة- "حاسب لتعوّر روحك" هكذا قالها النخبة لشعب مصر.. قالها خالد
منتصر حين قال "إن نتائج صناديق الاقتراع وحدها غير كافية"، وقالها عمرو
حمزاوي حين طالب بتأجيل الانتخابات وقال "إن هناك مواد دستورية ومواد فوق
دستورية"، ولم يذكر أن هناك مواد تحت دستورية، ومواد مشعة ومواد ملتهبة..
وقالها العدد المختلَف عليه في التحرير الجمعة الماضية حين قالوا "الدستور
أولا".. وإن كنت أرى أن "المصري اليوم" أولا؛ لأن المصري اليوم ظروفه صعبة
جدا يجب السعي تحو تحقيق استقراره قبل أن يلعن الجدليات التي لا تريد أن
تنتهي..
أعلنت النخبة في غالبيتها عن وجه غاية في القبح.. وجه ديكتاتوري
يحتقر الإرادة الشعبية وينظر للمواطن باستخفاف ويتهمه بعدم النضج، وجه
براجماتي يبحث عن مصالح خاصة يؤخّر لأجلها مسيرة استقرار الوطن وانتهاء
فترة الحكم الانتقالي؛ غير عابئ بفوضى أمنية غالبا لا تطال المناطق الراقية
التي يقطنها النخبة، ولا انفلات أمني رهيب يهدد فقط اللوكال من سكان
الأحياء الشعبية.. ولا غياب الاستثمارات وعجز الشركات والمصانع عن توفير
دخول العمال؛ لأن النخبة تحوّل رواتبهم متعددة المصادر على البنوك بالعملة
الصعبة..
لم أكن أودّ أن تكون الصورة بهذه القتامة، ولكن نسبة كبيرة من
النخبة أصرّت أن تظهر العار الذي تخفيه منذ عقود، وهي أنها في معظمها ليست
من هذا الشعب، ولا تنتمي إليه إلا من خلال القراءة عنه والكتابة له،
متظاهرو الجمعة الماضية الذين لا ذنب لهم فيما فعلوا، واتبعوا الحق الذي
رأوه، رأوه عبر النخبة التي لا تعرف أن هناك من لم يذق اللحم منذ ثورة
يناير كما حكى لي أحد الشيوخ.. لم يعرفوا أن هناك من لم يتقاض راتبا بالفعل
منذ توقيت مشابه كما حكى لي أحد الشباب.. نخبة من النخبة لا تعرف الشعب،
ولهذا لم تفكر في الشعب بأكثر من نظريات علمية وفلسفات أيديولوجية تخرج بها
علينا عبر التليفزيون أو الجرنان..
تقول لي حنانيك قليلا؛ فنحن جميعا
في سفينة الوطن، أقول لك: اسأل النخبة هل تبرّع أحد منهم لجمعية رعاية
أيتام أو مشروع خيري فقد مصدر تبرعاته؟ هل فكّر أحد منهم في مساعدة أهالي
قرية تعيش في الظلام والعطش ولا تعرف لمن تشكو ما بها؟ هل زار أحدهم مستشفى
حكوميا، وعرف كيف توفّر أسرة عاطلة دواءً باهظ الثمن لعائل مبتلى بمجموعة
من الأمراض؟
ماذا تعرف النخبة عن مصر التي يتفلسفون حول مستقبلها،
ويبحثون عن نظام يرضي طموحاتهم؟ مصر تحتاج إلى التعمير والتطوير والتنمية
أكثر ما تحتاج إلى التنظير والتحليل والتقديم والتأخير.
أحب أن ألفت
النظر إلى أنني لا أتحدث عن جميع النخبة المثقفة والسياسية في مصر؛ فلدينا
أقلام تكتب بمداد حب الوطن، وعقول تعفّرت بتراب الوطن، وذاقت مع أهله
الأمرّين، فخرجت من رحم المعاناة، ولكن ما أقلهم وما أعزّهم، وما أعفّهم عن
الضوء والثرثرة..
ليلحق النخبة أنفسهم، وليعودوا أدراجهم عن الاستعلاء
والتجهيل الذي يبدونه بحق المواطن، وليقرؤوا رسائل الشارع/ الشعب/ العامة،
قبل أن يخسروا بريقهم إذا انصرف عنهم الناس، وخشية أن ينقلب عليهم الشعب
إذا استمروا في دعاوى استغبائه، محاولين القفز فوق طموحاته؛ فالشعب ليس
غبيا بل يسمع ويقرأ ويفهم... ويقرّر أيضا.
حكاوي الغندور