الوطن كبيرة جدا جدا كأنها الجَمَل، والمصالح الشخصية ضيقة جدا جدا كأنها
سمّ الخياط، والمتاجرون في سوق الثورة يصرّون على أن يلج هذا الجمل من سمّ
الخياط.
خرج الشباب يوم الجمعة؛ لإنقاذ الثورة، واتفق كثير من
المصريين على أن لهم ألف حق فيما ذهبوا إليه؛ لأن التباطؤ والالتفاف على
المطالب هو سمة تبدو في هذه المرحلة بما يحير العقول جميعا.
قرر الشباب أن يعتصموا في الميدان.. قال الكثيرون: لعلها وسيلة ضغط مشروعة ولديهم مائة حق!
قرر
الشباب الثائر أن يغلق مجمع التحرير، تململ الكثير من الناس وبدأوا
ينفضّون بعقولهم وقلوبهم عن هؤلاء الشباب، ولكنهم وكأنهم قالوا: لعله تهديد
بالتصعيد على أمل أن تدرك الإدارة الحاكمة للبلاد جدية مطالبهم!
خرج د.
عصام شرف محددا جدولا زمنيا لتلبية مطالب الثوار الأساسية، ربما تأخر
القول، ربما تأخر رد الفعل الإيجابي، ولكن أصبح الآن لدينا خارطة طريق،
نستطيع أن نسأل عنها ونحاسب عليها، والجدول الزمني محدود في كل الأحوال.
ولكن؟
وضعْ تحت "لكن" مائة ألف خط، لم يقتنع الشباب، وقرروا استمرار اعتصامهم،
مع التهديد بتصعيد الأمور للدرجة التي بات السويسيون يهددون بإغلاق قناة
السويس، والتحريريون يهددون بإغلاق محطة المترو.. إلى هنا وقد انفضّ الناس
من حولهم تماما..
نفس الأخطاء يرتكبونها..
نفس العصبية واللا سياسية، واللا تقدير لأبعاد الأمور..
هجوم غير واعٍ على المجلس العسكري وقيادته.
هجوم أصبح غير ذي معنى على قيادات من المنتظر أن ترحل قريبا..
أما
العجب بين كل هذا فهو ما جاء في بيان شباب الائتلاف الذي أعلنوه من "مقر
جريدة التحرير"! ليس ميدان التحرير، بل مقر جريدة رئيس تحريرها هو الأستاذ
إبراهيم عيسى، الذي نشر مقاله اليوم بعنوان "العسكري لا يأمر الثوري"..
متبنيا خط الهجوم على المجلس العسكري وقيادته!
أما العجب فهو المطالبة باستقالة عصام شرف، واتفاق قوى الائتلاف على الدكتور محمد البرادعي رئيسا للوزراء في حكومة إنقاذ وطني..
بانت الحكاية، وانقسم الجميع.
تعالوا معي لنقرأ هذه الفقرة من بيان شباب الائتلاف:
"الدكتور
عصام شرف أصبح عائقا أمام استكمال مسيرة الثورة حينما أبدى من الضعف
والسلبية وغياب الإرادة الثورية الكثير، وذلك مثلا في قدرته على تطهير كافة
مؤسسات الدولة وعلى رأسها مكتبه ووزارته من فلول النظام السابق
والمتقاعسين عن أداء عملهم، وقضايا محاكمة قتلة الشهداء ورموز النظام
السابق، وإصدار قوانين كقانون تجريم الاعتصامات والإضرابات وقانون مباشرة
الحقوق السياسية والأحزاب دون مراجعة سياسية ومشاركة مجتمعية حقيقية في رسم
خريطة مستقبل الحياة السياسية في مصر في السنوات القادمة، إن عصام شرف لم
يكن رئيس وزراء فعليا مطلق اليد ومخول الصلاحيات؛ فالمجلس العسكري الذي
استبدّ بإدارة المرحلة الانتقالية وأدارها بشكل فردي من طرف واحد، قوّض
صلاحيات شرف نهائيا، وقيّد حركته تماما، وصنع منه واجهة ناصعة لديمقراطية
شكلية في إدارة الفترة الانتقالية وتفاصيلها".
هم يجرّمون د. عصام شرف
ويتهمونه بالضعف والسلبية وغياب الإرادة الثورية، ثم يعودون ليتهموا المجلس
العسكري بأنه هو من قيّد يده وأضعف مكانته..
هكذا، لا وزارة تعجبهم، ولا خارطة طريق تكفيهم، ولا مجلس عسكري يقدّرون دوره..
ما النتيجة إذن؟
النتيجة أن يخرج بيان من المجلس العسكري يلقيه اللواء الفنجري بمنتهى العصبية التي تريد أن تكشف عن نوع من الحزم.
واتهام صريح بأن هناك من يريدون أن يقفزوا على السلطة، وأن القوات المسلحة لن تسمح بهذا.
وتهديد لمن يعطّل مصالح الناس بأن القوات المسلحة المفوّضة من الشعب لن تقف مكتوفة الأيدي تجاه من يعطّلون مصالح هذا الشعب..
وكما
ترون، الأمر في اتجاه التصعيد، والطريق إلى المواجهة بين مصالح الشعب التي
يتكلم عنها المجلس العسكري ومجلس الوزراء، وبين مطالب الشعب التي يتكلم
عنها شباب الائتلاف، وكأن شعب مصر أصبح ممزقا بين المصالح والمطالب، وكأن
شعب مصر شعبان! (مثنى شعب) وليس شعبان عبد الرحيم الذي يكره إسرائيل ويحب
عمرو موسى، ولم يأتِ على ذكر البرادعي نهائيا!
إن هذا التصعيد ليس في مصلحة أحد أيها الثوار الذين كنتم تشنقون الدمى في الميدان تعبيرا عن نفاذ العدل كما ترونه.
فأنتم بهذا التصعيد والإصرار على المواجهة تشنقون ثورة هذا الشعب، وتسيرون باتجاه المزيد من الخسائر..
إن
مطالب هذا الشعب تماما هي مصالحه، فاتحدوا، وتفهموا، أنتم حققتم باعتصامكم
وإصراركم الكثير، فلا تضيّعوه بعنادكم أو استكباركم، أو أن تعجبكم كثرتكم.
المحاكمات
ستكون علنية، والوزراء سيتغيرون، والداخلية ستُقصي الذين طغوا وتجبروا،
فأعطوا أنفسكم فرصة أن تكونوا على قدر المسئولية، وإلا فلن يكون نصيبكم في
قلوب المصريين بأفضل من نصيب ظالميهم.
بقلم : رمضان الغندور