مذكرات بريء في السجن
اليوم الأول
أكاد أجن، الدنيا تدور من حولي، لا أصدق أنني في السجن، أصبحت رقماً، مجرد رقم... السجين (109)، يا إلهي مجرد رقم، طرح من بين الأعداد التي تدب فوق الأرض حياة وحركة وصراخاً وفرحاً.. اللعنة على هذه الخطوط الحلزونية التي تشدني... أحس بها تخنقني... تفتك بي... كيف تجمعت هذه الحلزونيات المتزحلقة وكيف تحلقت حولي، أشعر بها تشعل النار في أحشائي رغم ملمسها الرطب... آه ها هي تصرخ راقصة، تستعد للوليمة التي تعدها للقمر... أوَيرضى القمر أن أكون الوجبة الدسمة التي يملأ بها فوهاته المطفأة ليزيد انحدارها المظلم، لا بد أنه سيرفض.. لقد كنت صديقه الحميم.. هل يتخلى عني..لا... لا.. لا أعتقد أنه يخون الصداقة القوية التي جمعتنا دائما على عهد الوفاء والحب.. لكن.. هذه الحلزونيات تشوه وجهي وتغير صورتي عنده، قد يفقد القمر ذاكرته وينساني... فتتفتح شهيته الحمراء، ويقبل علي بنهم دوامات البحر يقطعني بالسكين والشوكة، دافعاً بِقِطَعي الصغيرة إلى جوفه الجائع للحم البشري..
اليوم الثاني
حاولت جاهداً النوم، لكنني مؤمن بعدم جدية الحكم الصادر ضدي.. أية همسة، أية حركة مهما كانت خفيفة تنبهني بسرعة... فأحسب أنهم قادمون ليأخذوني إلى الحرية.. فأنا بريء.. متأكد من ذلك.. ولا يعقل أن يزجوا بريئاً مثلي في السجن.
اليوم الثالث
ينتابني القلق، لا أطيق الحياة داخل هذا المكان اللعين، جميع من حولي مجرمون خرقوا القانون، حشروني بينهم، ألا يعلم القاضي أنه بحكمه عليّ بالحبس بين هؤلاء المجرمين يشوهني ويهز روحي الطيبة.
وجودي هنا يؤذيني، أرى على وجوه بعض المساجين علاما ت الطيبة والبراءة.. أيكونون براء هم الآخرون..؟ لا أظن هذا.. لا بد أن الأحكام التي صدرت ضدهم عادلة.. فلا يمكن للقاضي أن يحكم بغير العدل.. إن العدل مهنته وشعاره وكلامه... لكنه حكم عليّ بالسجن.. إذن فحكمه عادل..لا... لا.. لا أتصور عدالة حكمه هذا بالذات.. لا بد أن القاضي أخطأ عند نطقه للحكم.. لا أشك في ذلك.. هو لم يقصدني أنا.. لعله كان يقصد المتهم الآخر الذي جلس في قفص الاتهام تحت حراسة الشرطة، لقد كنت خارج القفص أتمتع بحريتي كاملة، كيف وصلت إلى السجن.. كيف.. كيف..
مضت فترة الصباح، وأنا أنتظر أن يصدر أمر الإفراج عني في أي لحظة، أكاد أختنق... النهار يتلاشى.. إنه الليل والظلام.. هل مكتوب عليّ العيش ليلة أخرى بين اللصوص والقتلة.
اليوم العاشر
يصهرني الخوف.. أحس بضغط رهيب داخل رأسي..أحس به يقترب من حافة الانفجار.. لم تعد لي قابلية لتناول الطعام.. مارست إضراباً عن كل شيء وضد نفسي.. كان اليوم ميعاد الزيارة.. رفضت لقاء زوجتي وابني.. لا أستطيع مواجهتهم.. فما معنى أنني باقٍ إلى اليوم.. أشعر بأن الدنيا انقلبت رأساً على عقب وأنا ما عدت أنا... وأحسبني صرت علامة استفهام.. سؤال غامض لا يجد أحدٌ سواي جوابه.. من أكون.. هل أنا ذلك الإنسان الموادع الذي يحب الحياة والحرية، أم أنا الرقم (109) المحكوم عليه بالحبس بين جدران السجن والمدان بجريمة لا تمحوها أبداً ذاكرة الحياة.. ذاكرة الشارع.. ذاكرة العيون.. ذاكرة الهمز واللمز والإشارات المتعمدة... لا بد أنني مجرم عريق في الإجرام وإلا ما معنى بقائي إلى اليوم محجوزاً وراء هذه القضبان الحديدية الصدئة.. أرى علامات الدم القديمة المتراكمة الملتصقة بها... حتماً هي آثار مساجين عانوا مرارة الخوف وعذاب القهر والإحباط... أيرد جميل الإنسان هكذا.. السجن.. وسجين.. ومجرم.. و.. و.... وصفات أسوأ كثيراً لا تنتهي أبداً..
حضر المحامي لزيارتي عصر اليوم.. أعلمني أنه سيستأنف الحكم الصادر ضدي وسيتم النظر في الاستئناف بعد عشرة أيام.. أكدت على المحامي ضرورة أن يثبت براءتي.. لأنني برئ فعلاً.. برئ.. برئ... برئ.. والله العظيم برئ..
اليوم الخامس عشر
حالتي الصحية سيئة جداً وهي تتدهور باستمرار من سيئ إلى أسوأ، لا أستطيع النوم أو الإخلاد إلى الراحة ولو للحظات قصيرة وقليلة.. الأشباح تحوطني من كل الجهات، تتجاذبني فيما بينها، كأنني كرة تركلها أقدامهم الممتدة الطويلة كالصدأ الذي لا ينعدم أبداً.. أسمع ضحكاتهم الهستيرية التي تزيد من تحطيمي وتدفعني أكثر إلى هاوية المصير الذي لا عودة منه مهما امتدت السلالم، ومهما تعلقت بالحبال.. آه منها الأشباح.. إنهم يشيرون إلى مستهزئين.. انظروا.. إنه يدعي براءته.. هذا الأبله.. يصدق نفسه.. هو لا يعرف أنه لن يخرج من هنا أبداً.. بل لن ندعه يخرج... سنقيده إلى أوتادنا الجهنمية حتى يفقد كل أمل فلا يحلم بالخروج مرةً أخرى..
ها هم الأشباح قادمون يوجهون كلامهم لي.. أسمعهم وأراهم بوضوح... بيوتاً عنكبوتية سوداء رهيبة، تمتص دمائي وقد شدوا أطرافي إلى اتجاهات متعاكسة.. أنا أتمزق.. أتمزق.. إذ أسمع صرخاتهم الحيوانية.. اسمع يا هذا.. لن تتركنا أبداً حتى تتم فترة محكوميتك وبعدها لن ندعك تخرج.. سنجدد الحكم عليك.. سنضاعفه.. سنلصق بك تهمة أخرى تلتهم ما تبقى منك.. سنلتهمك حتى النهاية.. هل تسمع.. حتى النهاية.......
لا أستطيع الاستمرار في هذه المسرحية القذرة.. إنهم يسخرون مني بدرجة تفوق احتمالي البشري.. ما أنا إلا بشر.. بشر.. أوقفوا هذه المهزلة.. ارحموني ودعوني أخرج إلى الحياة.. إلى زوجتي.. إلى ابني.. إلى القمر.. إلى الشمس.. إلى البحر.. إلى الأرض.. أريد أن أمرغ وجهي في التراب.. دعوني أخرج.. أخرج.. أخرج..
لقد أغمي علي اليوم.. عادني طبيب السجن الذي لم يفعل أكثر من صفعي عدة صفعات نزلت على وجهي العظمي، ودلق الماء البارد على وجهي ثم قال أنني بخير وما جرى لي أمر طبيعي، ويحصل لمعظم المساجين الجدد... كم هو أفّاك.. كل سجين يفعل ذلك..! ألا يرى براءتي تشع من خلال عينيي البائستين.. ألا يرى وجهي المحطم.. لم يعد لي ملامح خاصة.. فقدت ملامحي السابقة التي إمحت.. لم تبق غير ملامح الخوف والقهر واليأس والظلام.. حتى عيناي صارتا أضعف من أن تبصرا الشمس ولو كانت بكل وهجها تغطيني.. ألا يرى هزالي ونحول جسمي.. أكنت أهتم أن أحبس لو كنت مجرماً حقاً.. حتماً كنت سأصبر، وأندم بصمت على ما فعلت.. لكنني أعرف نفسي أكثر من أي شخص آخر، أكثر من القاضي ومن المحامي ومن الناس جميعهم.. وستعاينون براءتي فعلاً وستندمون أنكم عاملتموني بهذه القسوة وذلك لما يصدر القرار ببراءتي بعد أيام..
متى تأتي يا يوم الاستئناف.. حضورك السريع مهم جداً... أحضر بسرعة قبل أن ينهار الجبل... قبل أن يصبح مجرد حصى صغيرة يتقاذفها الأطفال فيما بينهم وهم لا يعلمون أن هذه الحصى كانت في يوم من الأيام جبلاً دافع عنهم وعن آبائهم وأجدادهم أخطار السيول والغزاة والوحوش والعواصف..
اليوم التاسع عشر
أرتعش بشدة.. نظراتي.. شفتاي.. أصابعي.. جسمي كل أعضائي ترتجف.. نار.. نار تسري داخلي تنهشني عضواً عضواً ونفساً نفساً.. مثل الحمى تنتابني كبركان يفور استعدادا للانفجار الرهيب.
منذ ثلاثة أيام وأنا أرقد فوق السرير بمستشفى السجن.. لا أتحرك ولا أتكلم، اليوم فقط استطعت الكلام حيث طلبت ورقاً وقلماً وبدأت أكتب.. كل ما سبق كتبته على جدران السجن وأنا أعيد كتابته الآن على الورق... لأول مرة في حياتي أكتب على الورق عن حالتي وعن نفسي..
إنهم يحاولون معي، لكن لا فائدة من أي علاج.. ظهور براءتي هو العلاج الوحيد الناجع.. المحامي يقول.. البراءة تحتاج إلى أدلة نفي قوية تدفع الظلم عني.. وأنا لا أملك دليلاً واحداً يدعمني في قضيتي العادلة، ولا أملك حتى ولو شاهداً واحداً يعضدني.. أشعر أنها المؤامرة للقضاء عليّ.. الأدلة كلها ضدي. وأعجب كيف وجدت هذه الأدلة، وكيف تواجد شهود الإثبات الذين شهدوا ضدي.
أخالني مجرماً حقاً وأنني أستحق الحكم المجحف ضدي.. أخبروني أنني كنت أهذي طوال الأيام الثلاثة السابقة، وأنني كنت أصرخ كما لو أن أحداً يذبحني.. هم يذبحونني فعلاً.. كان عليّ التنبه لما يجري ويحاك حولي، كنت ساذجاً عندما وافقت على العمل معهم، لم أكن أدري بنواياهم السوداء.. كنت محتاجاً للعمل، كانوا محترفين وخبراء في مجالهم ودسائسهم، يعرفون عملهم جيداً، ظلوا يشدونني نحوهم إلى أن وقعت.. حتى إذا تم اكتشافهم كانت الدلائل كلها تشير نحوي بعيداً عنهم.
صرخت بأعلى صوتي.. أريد زوجتي وابني.. أحضروهما اليوم بل الآن.. فأنا أشعر بتحسن.. وقد اشتقت لهما.. لم أرهما منذ دخلت السجن.. رفضت باستمرار رؤيتهما... صرخت.. أحضروهما.. أريد رؤيتهما فوراً.. الآن..
أشعر ببعض الراحة في نفسي لا أعرف مصدرها.. سأحاول النوم حتى أكون مستعداً أمام المحكمة.. غداً يجب أن أكون سليماً معافى ليمكنني مواجهة المجرمين.. لقد تكشفت الحقيقة في نفسي وسأكشف كل شيء وأقول كل شيء... قد لا يستمعون لقولي لكنني حتماً سأبذر الشكوك من حولهم وسيكونون دائماً في موضع الريبة والاتهام.
رأيت زوجتي وابني.. شعرت بالراحة والأمان وبالسعادة إذ ضممتهما إلى صدري وغمرتهما بقبلاتي.. الحمدلله لم يرياني خلف القضبان وغداً سأخرج بريئاً كما كنت قبلاً.. آه ما أحلى النوم.. منذ زمن طويل لم أذق طعمه.. سأنام الآن فغداً البراءة...
النهاية لم اكتبها أنا
بينما المحكمة تستعد لنظر الاستئناف المقدم لها من المحكوم عليه السجين رقم (109)، إذ بشرطي من إدارة السجون يتقدم حاملاً بيده ورقة يقدمها إلى القاضي الذي يقرأها بصمت قبل أن يعلن قراره... إلغاء الجلسة وحفظ القضية لغياب المحكوم عليه رقم (109) بسبب وفاته الفجائية داخل مستشفى السجن
اليوم الأول
أكاد أجن، الدنيا تدور من حولي، لا أصدق أنني في السجن، أصبحت رقماً، مجرد رقم... السجين (109)، يا إلهي مجرد رقم، طرح من بين الأعداد التي تدب فوق الأرض حياة وحركة وصراخاً وفرحاً.. اللعنة على هذه الخطوط الحلزونية التي تشدني... أحس بها تخنقني... تفتك بي... كيف تجمعت هذه الحلزونيات المتزحلقة وكيف تحلقت حولي، أشعر بها تشعل النار في أحشائي رغم ملمسها الرطب... آه ها هي تصرخ راقصة، تستعد للوليمة التي تعدها للقمر... أوَيرضى القمر أن أكون الوجبة الدسمة التي يملأ بها فوهاته المطفأة ليزيد انحدارها المظلم، لا بد أنه سيرفض.. لقد كنت صديقه الحميم.. هل يتخلى عني..لا... لا.. لا أعتقد أنه يخون الصداقة القوية التي جمعتنا دائما على عهد الوفاء والحب.. لكن.. هذه الحلزونيات تشوه وجهي وتغير صورتي عنده، قد يفقد القمر ذاكرته وينساني... فتتفتح شهيته الحمراء، ويقبل علي بنهم دوامات البحر يقطعني بالسكين والشوكة، دافعاً بِقِطَعي الصغيرة إلى جوفه الجائع للحم البشري..
اليوم الثاني
حاولت جاهداً النوم، لكنني مؤمن بعدم جدية الحكم الصادر ضدي.. أية همسة، أية حركة مهما كانت خفيفة تنبهني بسرعة... فأحسب أنهم قادمون ليأخذوني إلى الحرية.. فأنا بريء.. متأكد من ذلك.. ولا يعقل أن يزجوا بريئاً مثلي في السجن.
اليوم الثالث
ينتابني القلق، لا أطيق الحياة داخل هذا المكان اللعين، جميع من حولي مجرمون خرقوا القانون، حشروني بينهم، ألا يعلم القاضي أنه بحكمه عليّ بالحبس بين هؤلاء المجرمين يشوهني ويهز روحي الطيبة.
وجودي هنا يؤذيني، أرى على وجوه بعض المساجين علاما ت الطيبة والبراءة.. أيكونون براء هم الآخرون..؟ لا أظن هذا.. لا بد أن الأحكام التي صدرت ضدهم عادلة.. فلا يمكن للقاضي أن يحكم بغير العدل.. إن العدل مهنته وشعاره وكلامه... لكنه حكم عليّ بالسجن.. إذن فحكمه عادل..لا... لا.. لا أتصور عدالة حكمه هذا بالذات.. لا بد أن القاضي أخطأ عند نطقه للحكم.. لا أشك في ذلك.. هو لم يقصدني أنا.. لعله كان يقصد المتهم الآخر الذي جلس في قفص الاتهام تحت حراسة الشرطة، لقد كنت خارج القفص أتمتع بحريتي كاملة، كيف وصلت إلى السجن.. كيف.. كيف..
مضت فترة الصباح، وأنا أنتظر أن يصدر أمر الإفراج عني في أي لحظة، أكاد أختنق... النهار يتلاشى.. إنه الليل والظلام.. هل مكتوب عليّ العيش ليلة أخرى بين اللصوص والقتلة.
اليوم العاشر
يصهرني الخوف.. أحس بضغط رهيب داخل رأسي..أحس به يقترب من حافة الانفجار.. لم تعد لي قابلية لتناول الطعام.. مارست إضراباً عن كل شيء وضد نفسي.. كان اليوم ميعاد الزيارة.. رفضت لقاء زوجتي وابني.. لا أستطيع مواجهتهم.. فما معنى أنني باقٍ إلى اليوم.. أشعر بأن الدنيا انقلبت رأساً على عقب وأنا ما عدت أنا... وأحسبني صرت علامة استفهام.. سؤال غامض لا يجد أحدٌ سواي جوابه.. من أكون.. هل أنا ذلك الإنسان الموادع الذي يحب الحياة والحرية، أم أنا الرقم (109) المحكوم عليه بالحبس بين جدران السجن والمدان بجريمة لا تمحوها أبداً ذاكرة الحياة.. ذاكرة الشارع.. ذاكرة العيون.. ذاكرة الهمز واللمز والإشارات المتعمدة... لا بد أنني مجرم عريق في الإجرام وإلا ما معنى بقائي إلى اليوم محجوزاً وراء هذه القضبان الحديدية الصدئة.. أرى علامات الدم القديمة المتراكمة الملتصقة بها... حتماً هي آثار مساجين عانوا مرارة الخوف وعذاب القهر والإحباط... أيرد جميل الإنسان هكذا.. السجن.. وسجين.. ومجرم.. و.. و.... وصفات أسوأ كثيراً لا تنتهي أبداً..
حضر المحامي لزيارتي عصر اليوم.. أعلمني أنه سيستأنف الحكم الصادر ضدي وسيتم النظر في الاستئناف بعد عشرة أيام.. أكدت على المحامي ضرورة أن يثبت براءتي.. لأنني برئ فعلاً.. برئ.. برئ... برئ.. والله العظيم برئ..
اليوم الخامس عشر
حالتي الصحية سيئة جداً وهي تتدهور باستمرار من سيئ إلى أسوأ، لا أستطيع النوم أو الإخلاد إلى الراحة ولو للحظات قصيرة وقليلة.. الأشباح تحوطني من كل الجهات، تتجاذبني فيما بينها، كأنني كرة تركلها أقدامهم الممتدة الطويلة كالصدأ الذي لا ينعدم أبداً.. أسمع ضحكاتهم الهستيرية التي تزيد من تحطيمي وتدفعني أكثر إلى هاوية المصير الذي لا عودة منه مهما امتدت السلالم، ومهما تعلقت بالحبال.. آه منها الأشباح.. إنهم يشيرون إلى مستهزئين.. انظروا.. إنه يدعي براءته.. هذا الأبله.. يصدق نفسه.. هو لا يعرف أنه لن يخرج من هنا أبداً.. بل لن ندعه يخرج... سنقيده إلى أوتادنا الجهنمية حتى يفقد كل أمل فلا يحلم بالخروج مرةً أخرى..
ها هم الأشباح قادمون يوجهون كلامهم لي.. أسمعهم وأراهم بوضوح... بيوتاً عنكبوتية سوداء رهيبة، تمتص دمائي وقد شدوا أطرافي إلى اتجاهات متعاكسة.. أنا أتمزق.. أتمزق.. إذ أسمع صرخاتهم الحيوانية.. اسمع يا هذا.. لن تتركنا أبداً حتى تتم فترة محكوميتك وبعدها لن ندعك تخرج.. سنجدد الحكم عليك.. سنضاعفه.. سنلصق بك تهمة أخرى تلتهم ما تبقى منك.. سنلتهمك حتى النهاية.. هل تسمع.. حتى النهاية.......
لا أستطيع الاستمرار في هذه المسرحية القذرة.. إنهم يسخرون مني بدرجة تفوق احتمالي البشري.. ما أنا إلا بشر.. بشر.. أوقفوا هذه المهزلة.. ارحموني ودعوني أخرج إلى الحياة.. إلى زوجتي.. إلى ابني.. إلى القمر.. إلى الشمس.. إلى البحر.. إلى الأرض.. أريد أن أمرغ وجهي في التراب.. دعوني أخرج.. أخرج.. أخرج..
لقد أغمي علي اليوم.. عادني طبيب السجن الذي لم يفعل أكثر من صفعي عدة صفعات نزلت على وجهي العظمي، ودلق الماء البارد على وجهي ثم قال أنني بخير وما جرى لي أمر طبيعي، ويحصل لمعظم المساجين الجدد... كم هو أفّاك.. كل سجين يفعل ذلك..! ألا يرى براءتي تشع من خلال عينيي البائستين.. ألا يرى وجهي المحطم.. لم يعد لي ملامح خاصة.. فقدت ملامحي السابقة التي إمحت.. لم تبق غير ملامح الخوف والقهر واليأس والظلام.. حتى عيناي صارتا أضعف من أن تبصرا الشمس ولو كانت بكل وهجها تغطيني.. ألا يرى هزالي ونحول جسمي.. أكنت أهتم أن أحبس لو كنت مجرماً حقاً.. حتماً كنت سأصبر، وأندم بصمت على ما فعلت.. لكنني أعرف نفسي أكثر من أي شخص آخر، أكثر من القاضي ومن المحامي ومن الناس جميعهم.. وستعاينون براءتي فعلاً وستندمون أنكم عاملتموني بهذه القسوة وذلك لما يصدر القرار ببراءتي بعد أيام..
متى تأتي يا يوم الاستئناف.. حضورك السريع مهم جداً... أحضر بسرعة قبل أن ينهار الجبل... قبل أن يصبح مجرد حصى صغيرة يتقاذفها الأطفال فيما بينهم وهم لا يعلمون أن هذه الحصى كانت في يوم من الأيام جبلاً دافع عنهم وعن آبائهم وأجدادهم أخطار السيول والغزاة والوحوش والعواصف..
اليوم التاسع عشر
أرتعش بشدة.. نظراتي.. شفتاي.. أصابعي.. جسمي كل أعضائي ترتجف.. نار.. نار تسري داخلي تنهشني عضواً عضواً ونفساً نفساً.. مثل الحمى تنتابني كبركان يفور استعدادا للانفجار الرهيب.
منذ ثلاثة أيام وأنا أرقد فوق السرير بمستشفى السجن.. لا أتحرك ولا أتكلم، اليوم فقط استطعت الكلام حيث طلبت ورقاً وقلماً وبدأت أكتب.. كل ما سبق كتبته على جدران السجن وأنا أعيد كتابته الآن على الورق... لأول مرة في حياتي أكتب على الورق عن حالتي وعن نفسي..
إنهم يحاولون معي، لكن لا فائدة من أي علاج.. ظهور براءتي هو العلاج الوحيد الناجع.. المحامي يقول.. البراءة تحتاج إلى أدلة نفي قوية تدفع الظلم عني.. وأنا لا أملك دليلاً واحداً يدعمني في قضيتي العادلة، ولا أملك حتى ولو شاهداً واحداً يعضدني.. أشعر أنها المؤامرة للقضاء عليّ.. الأدلة كلها ضدي. وأعجب كيف وجدت هذه الأدلة، وكيف تواجد شهود الإثبات الذين شهدوا ضدي.
أخالني مجرماً حقاً وأنني أستحق الحكم المجحف ضدي.. أخبروني أنني كنت أهذي طوال الأيام الثلاثة السابقة، وأنني كنت أصرخ كما لو أن أحداً يذبحني.. هم يذبحونني فعلاً.. كان عليّ التنبه لما يجري ويحاك حولي، كنت ساذجاً عندما وافقت على العمل معهم، لم أكن أدري بنواياهم السوداء.. كنت محتاجاً للعمل، كانوا محترفين وخبراء في مجالهم ودسائسهم، يعرفون عملهم جيداً، ظلوا يشدونني نحوهم إلى أن وقعت.. حتى إذا تم اكتشافهم كانت الدلائل كلها تشير نحوي بعيداً عنهم.
صرخت بأعلى صوتي.. أريد زوجتي وابني.. أحضروهما اليوم بل الآن.. فأنا أشعر بتحسن.. وقد اشتقت لهما.. لم أرهما منذ دخلت السجن.. رفضت باستمرار رؤيتهما... صرخت.. أحضروهما.. أريد رؤيتهما فوراً.. الآن..
أشعر ببعض الراحة في نفسي لا أعرف مصدرها.. سأحاول النوم حتى أكون مستعداً أمام المحكمة.. غداً يجب أن أكون سليماً معافى ليمكنني مواجهة المجرمين.. لقد تكشفت الحقيقة في نفسي وسأكشف كل شيء وأقول كل شيء... قد لا يستمعون لقولي لكنني حتماً سأبذر الشكوك من حولهم وسيكونون دائماً في موضع الريبة والاتهام.
رأيت زوجتي وابني.. شعرت بالراحة والأمان وبالسعادة إذ ضممتهما إلى صدري وغمرتهما بقبلاتي.. الحمدلله لم يرياني خلف القضبان وغداً سأخرج بريئاً كما كنت قبلاً.. آه ما أحلى النوم.. منذ زمن طويل لم أذق طعمه.. سأنام الآن فغداً البراءة...
النهاية لم اكتبها أنا
بينما المحكمة تستعد لنظر الاستئناف المقدم لها من المحكوم عليه السجين رقم (109)، إذ بشرطي من إدارة السجون يتقدم حاملاً بيده ورقة يقدمها إلى القاضي الذي يقرأها بصمت قبل أن يعلن قراره... إلغاء الجلسة وحفظ القضية لغياب المحكوم عليه رقم (109) بسبب وفاته الفجائية داخل مستشفى السجن