مصر الجديدة لعمل مباراة لكرة القدم تقليدًا للكبار.. عندما اصطفّ الأطفال
للّعب رآهم حارس إحدى العمارات؛ فمنعهم اللعب، وقام برشّ الشارع بالماء..
موقف عادي تراه يحدث منذ فجر التاريخ..
فماذا كان رد فعل الأطفال؟!
ما كان من الأطفال إلا أن قاموا بجمع كمية من الزلط من إحدى العمارات
المجاورة تحت الإنشاء، وقاموا برصّ الزلط بعرض الطريق، وجلسوا فوقه ومنعوا
مرور السيارات بالشارع..
هذا ما جاء في برنامج "مساء الأنوار" للمذيع مدحت شلبي بالفيديو..
لم
أتعجب عندما رأيت هذا الخبر على شاشة التلفاز، فعندما يرى الأطفال في
يومين متتاليين أخبارًا عن وقفة احتجاجية لأهالي العياط يقطعون بها شريط
السكة الحديد المؤدي إلى الصعيد، ويحتجزون ركابًا بالآلاف داخل هذه
القطارات..
ثم وقفة أخرى لعمال المترو، الذين ناموا على القضبان، معطّلين خط المترو في الاتجاهين..
ووقفة ثالثة قام بها أصحاب المزارع السمكية، قطعوا بها الطريق الدولي حتى تُنفذ مطالبهم..
ثم
اعتزام المراقبين الجويين الإضراب حتى تُنفذ مطالبهم أيضًا.. (تخيل؛
المراقبون الجويّون يعني لا أرض ولا جو، لا يبقى سوى المياه الإقليمية
ليكتمل إغلاق منافذ مصر)!
يجب أن نعذر الأطفال إذن، فماذا يفعلون
عندما يسمعون كل يوم عن احتجاج ورفض المدرسين المنتدبين للعمل في الكنترول،
وتهديد كنترول الثانوية العامة في الجيزة بالتوقف؛ لمجرد أن اسم الرئيس
المخلوع مازال موجودًا على المباني والمنشآت في أكتوبر..
وتكون معرفتهم بمبنى ماسبيرو ليس بأنه المبنى الذي تخرج منه برامج الأطفال، بل بأنه مبنى الاعتصام الرئيسي بمصر الآن..
لقد
أعطيتُ الأطفال العذر في تصرفهم هذا؛ فما هم إلا ببغاوات يقلدون ما
يسمعون، ولكن دون أن يفهموا شيئًا منه؛ فهم لا يعلمون مدى الخسائر التي سوف
تعود على الدولة والأفراد من تعطل هذه الأشياء الحيوية..
لا
يعلمون أن أكثر من 250 سائحًا لم يستطيعوا السفر من القاهرة إلى الصعيد
ليقوموا برحلتهم ويرَوا آثارنا، مما اضطر إدارة السكة الحديدية إلى إرجاع
ثمن التذاكر إليهم.. مع العلم بأن ثمن التذكرة السياحية أكثر بكثير من
التذكرة العادية.
ناهيك عن الإساءة إلى سمعة مصر السياحية.. لا يعلم
هؤلاء الأطفال أن من حُبسوا داخل القطارات ربما يكونون مرضى أو ذوي
احتياجات، أو أعمال تَفسد عليهم، أو.. أو.. إلى آخره..
لا يدرك
هؤلاء الأطفال ما هي المضارّ التي سوف يضار بها الكثيرون لمجرد توقف خط
المترو، وتعطيل حركته في الاتجاهين ولو لبضع ساعات، أو إضراب أصحاب المزارع
السمكية، والمدرسين عن الذهاب إلى الكنترول، أو الكارثة التي من الممكن أن
تحدث إذا قام المراقبون الجويون بالإضراب، و.. و.. وآخرون نسمع عنهم ويسمع
الأطفال معنا كل يوم، بل أحيانا كل ساعة..
أنا لا أقول إن كل
هؤلاء ليس لهم مطالب، وربما تكون مطالب اضطرارية. ولا أقول إن الإضراب
والاعتصام ليسا حقًّا مشروعًا لمن غُبِن حقه، ولكن الله خلق لنا العقل كي
يزين به ابن آدم، حتى يفكر فيما يصلح أن يفعله وما لا يصلح.. وفي توقيت
صُنعه.
فلماذا يقررون الاعتصام على السكك الحديدية، أو المترو، أو
أمام ماسبيرو بالذات؟ في رأيي أنهم لا يردون حقهم فقط، بل يريدون أخذ حقهم
هُم، ومنع حقوق آخرين.. فهم هكذا لا يعترضون ليُقِرّوا مطالبهم، بل يعطلون
مصالح آخرين ربما تكون أكثر أهمية.
فلو علموا أن ما يعطلونه أشياء
شديدة الحيوية بالنسبة لأصحابها؛ ما فعلوا! ماذا لو لم توافق الحكومة أو
الجهة المسئولة على مطلب المدرسين مثلاً، وتوقف الكنترول الخاص بالثانوية
العامة؟
ألا يفكر هؤلاء بما يمكن أن يحدث لو كان لأحدهم ابنٌ في
الثانوية العامة؟ لو فكر لما فعلها أو حتى فكر في فعلها.. وقتها كان سوف
يقول ماذا يحدث لو لم يُرفع اسم الرئيس المخلوع أسبوعًا أو أسبوعين أو حتى
شهرًا؟ لن تنطبق السماء على الأرض، فلينتظر ثم يُرفع بعد ذلك..
لقد
قرأت نكتة في جريدة الجمهورية عن زوجة، تحدّت زوجها وقد أعدت حقائبها،
قائلة له: "والله لو لم تزِدْ المصروف لأعتصمنّ في ماسبيرو"!
أخشى ما أخشاه أن تصبح حياتنا كلها وقفات واعتصامات دون أن نفعل شيئًا! هناك حكمة تقول: "ما لا يؤخذ كله لا يترك جُلّه"
لماذا
لا نفعل ما نقدر عليه حتى نصل إلى أن نستطيع عمل كل ما نريد عمله؟ لماذا
لا يكون هناك مكان خاص بالشكاوى؟ تذهب إليه ويتم فحصها وتنظيمها في
أولويات، وبجدية تامة؛ حتى تصبح الثقة متبادلة بين الحكومة والشعب، وحتى لا
تتعطل الحياة وتفسَد وتُهدر أموال، وأحيانا نفوس..
لماذا لا نفكر
قبل كل فعل في أن السلبيات سوف تعود على بلد بأكمله؛ وليس على أفراد؟ لماذا
نطلب.. ونطلب.. ونطلب، ونحن واقفون ولا نتحرك لعمل شيء بسيط لهذا البلد
الذي نحبه بالقول وليس بالفعل؟ يجب أن نفكّر حقاً فيما نفعل؛ فنحن في
النهاية لا نؤثر على الحاضر فقط، بل نسنّ السنن للأطفال الذين سيصنعون
المستقبل.. فالحذر قبل أن نضيع الحاضر والمستقبل مقابل أمور ربما لا تستحق
كل هذا الضجيج.