ليست
ثورات، بل هي نهاية دولة ما بعد الاستعمار التي تلفظ أنفاسها الأخيرة
أمامنا في العالم العربي وما وراءه. ومن هنا يمكننا تصور أن نهاية دولة ما
بعد الاستعمار لم تبدأ في تونس، بل بدأت بالصراع الممتد في السودان، والذي
أوصلنا إلى صيغة تفكيك الدولة إلى دولتين في الجنوب والشمال، وربما إلى
ثالثة في دارفور....
ونموذج السودان يساعدنا على فهم ما يمكن أن تصل إليه الأمور في ليبيا
واليمن الآن، ويضعنا أمام نهايات مختلفة للثورة على غير ما حدث في مصر
وتونس، على الأقل من حيث المدة الزمنية التي يحتاجها سقوط النظام، وهذا
نموذج. أما النموذج الآخر لنهاية دولة ما بعد الاستعمار فهو نموذج تغيير
النظام من الخارج في حالة عراق صدام، والذي جاء نتيجة لسلوك ترنح دولة ما
بعد الاستعمار في دخولها حربا مع إيران وغزوها لجارتها الكويت.. دولة فقدت
بوصلتها فوصلت إلى نهايتها. النموذج الثالث هو تحلل الدولة نتيجة لانهيار
البيت من الداخل كما حدث في تونس بن علي ومصر مبارك. ما أود قوله هو أن
البداية كانت في السودان، لا في تونس.
وبـ«دولة ما بعد الاستعمار»، أعني
الدول التي تم استعمارها بالفعل بوجود قوات أجنبية على أرضها أو وضعها تحت
وصاية استعمارية مثل مصر وليبيا والجزائر في الشمال الأفريقي، والسودان
جنوبا، ولبنان وسوريا والعراق وفلسطين في الهلال الخصيب، إلى آخر هذه
المجموعة التي يمكن وضعها في سياق تحليلي محدد، دونما خلط البرتقال
بالليمون. فالعالم العربي ليس كله وحدة واحدة كما يروج دعاة التحليل
الثقافي الحضاري في الدراسات المقارنة للنظم السياسية أو حتى في العلاقات
الدولية. وفي هذا السياق يكون جزء من اليمن وبعض دول الخليج والمغرب مختلفا
عن بقية دول ما بعد الاستعمار، بينما تقع إسرائيل مثلا داخل إطار دولة ما
بعد الاستعمار. ومن هنا، تكون إمكانية التحلل في إسرائيل أقرب إلى الحدوث
منها في المغرب مثلا، لكن هذه قفزة تحليلية تحتاج إلى تفكر عميق وتبدو
صادمة لأول وهلة.. ومن هنا يأتي التنوع في الثورات، أو عدمها.
إذن ما
أريد قوله هو أن حالة التفكك لدولة ما بعد الاستعمار وصلت إلى أقصاها في
حالة السودان، الذي انقسم إلى دولتين، وربما في طريقه إلى الانشطار إلى
دولة ثالثة في دارفور. وفي هذا السياق يمكننا رؤية ما حدث لدول أخرى غير
عربية في أفريقيا قبل الثورات العربية. السودان دولة عانت مما يعرف بالصراع
طويل الأمد بين المجموعات العرقية المختلفة في الديانة وفي الجغرافيا. هذه
الحالة استمر فيها الصراع لأكثر من ربع قرن، وهي تمثل أقصى درجات سلم
الانشطار في دولة ما بعد الاستعمار. بينما تمثل تونس ومصر درجات أقل. وفي
هذا الإطار التحليلي يمكننا أن نرى موقع كل من سوريا وليبيا واليمن، فكلها
حالات تقف في تلك المساحة ما بين نموذج تونس ونموذج السودان.
إذا نظرنا
للمشهد من خلال هذا المنظور، فلن نفاجأ لو استمرت الثورة في ليبيا إلى أكثر
من عام أو خمسة أعوام، فقد تتحرك ليبيا في اتجاه حركة جون قرنق في جنوب
السودان، ونتحدث عن مواجهات بين طرابلس وبنغازي على المدى المتوسط على
الأقل. ومن هنا لا نتعجل نهاية القذافي. ولنكن جاهزين ومستعدين لفكرة أن
قصف الناتو لليبيا لن يؤدي إلى نهاية النظام بل ربما إلى تقسيم ليبيا.
الشيء
نفسه ينطبق على اليمن، وربما يكون اليمن مرشحا للصراع الممتد أكثر من
ليبيا نظرا لطبيعة الانشطارات الموجودة فيه، والمتمثلة في التمزق القبلي
الذي ظهر على السطح اليوم بين قادة قبيلة حاشد والرئيس اليمني وأنصاره، هذا
إضافة إلى صراع الحوثيين في الشمال مع صنعاء، وكذلك الصراع التقليدي بين
شمال اليمن وجنوبه، والذي أدى إلى قيام دولتين في السابق انقسمتا تبعا
للنظام الدولي القائم آنذاك، بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي، ولن يكون
غريبا على دولة انقسمت تبعا لتقسيمة النظام الدولي في الستينات والسبعينات
من أعلى، أن تنقسم هذه المرة من أسفل بحكم الجغرافيا والصراعات القبلية
والمذهبية.
ومن ذلك المنظور أيضا يمكننا رؤية مستقبل سوريا كمجتمع من
الموزاييك الطائفي والمذهبي والديني والعرقي، نموذج قريب من حالة العراق
الذي متى ما تحلل، دخلت فيه الدولة في حروب أهلية وطائفية، وقتل على
الهوية، وتفجيرات وتفخيخات، وجذب للتيارات المتطرفة والتدخل الأجنبي. وهذا
النموذج مرت به الدولة اللبنانية، واستمرت الحرب في لبنان لأكثر من خمسة
عشر عاما.
الثورات العربية قد تكون بدأت في تونس، ثم مصر، لكن تحلل دولة
ما بعد الاستعمار هو ما تشهده منطقة الشرق الأوسط الآن، ولا بد أن نكون
جاهزين لتبعات الصراع، ليس للشرق الأوسط فقط وإنما لدول ما بعد الاستعمار
عموما في كل العالم. ربما لا يأتي التحلل بشكله الثوري الذي حدث في مصر
وتونس، فقد يأتي بصيغة تفكك السودان، أو بأنماط أخرى، ومن هنا تكون الدول
التي لم تمر بالتجربة الاستعمارية هي الناجية من حالة التحلل الحادثة ولو
لفترة. ومن هنا أيضا، تكون أعيننا في شمال أفريقيا مثلا على الجزائر، لا
المغرب، فدولة ما بعد الاستعمار تحمل بذرة فنائها في داخلها. ومن هنا أيضا،
يجب على الدول التي تحللت مثل مصر وتونس ألا تحاول إصلاح البناء القديم
الذي تملك منه الفيروس، بل النجاة تكمن في بناء دولة جديدة من طينة جديدة
لم يتملك منها فيروس دولة ما بعد الاستعمار. غير ذلك «يبقى التور في
طحينه»، كما نقول في الصعيد.
بقلم : مأمون فندي
ثورات، بل هي نهاية دولة ما بعد الاستعمار التي تلفظ أنفاسها الأخيرة
أمامنا في العالم العربي وما وراءه. ومن هنا يمكننا تصور أن نهاية دولة ما
بعد الاستعمار لم تبدأ في تونس، بل بدأت بالصراع الممتد في السودان، والذي
أوصلنا إلى صيغة تفكيك الدولة إلى دولتين في الجنوب والشمال، وربما إلى
ثالثة في دارفور....
ونموذج السودان يساعدنا على فهم ما يمكن أن تصل إليه الأمور في ليبيا
واليمن الآن، ويضعنا أمام نهايات مختلفة للثورة على غير ما حدث في مصر
وتونس، على الأقل من حيث المدة الزمنية التي يحتاجها سقوط النظام، وهذا
نموذج. أما النموذج الآخر لنهاية دولة ما بعد الاستعمار فهو نموذج تغيير
النظام من الخارج في حالة عراق صدام، والذي جاء نتيجة لسلوك ترنح دولة ما
بعد الاستعمار في دخولها حربا مع إيران وغزوها لجارتها الكويت.. دولة فقدت
بوصلتها فوصلت إلى نهايتها. النموذج الثالث هو تحلل الدولة نتيجة لانهيار
البيت من الداخل كما حدث في تونس بن علي ومصر مبارك. ما أود قوله هو أن
البداية كانت في السودان، لا في تونس.
وبـ«دولة ما بعد الاستعمار»، أعني
الدول التي تم استعمارها بالفعل بوجود قوات أجنبية على أرضها أو وضعها تحت
وصاية استعمارية مثل مصر وليبيا والجزائر في الشمال الأفريقي، والسودان
جنوبا، ولبنان وسوريا والعراق وفلسطين في الهلال الخصيب، إلى آخر هذه
المجموعة التي يمكن وضعها في سياق تحليلي محدد، دونما خلط البرتقال
بالليمون. فالعالم العربي ليس كله وحدة واحدة كما يروج دعاة التحليل
الثقافي الحضاري في الدراسات المقارنة للنظم السياسية أو حتى في العلاقات
الدولية. وفي هذا السياق يكون جزء من اليمن وبعض دول الخليج والمغرب مختلفا
عن بقية دول ما بعد الاستعمار، بينما تقع إسرائيل مثلا داخل إطار دولة ما
بعد الاستعمار. ومن هنا، تكون إمكانية التحلل في إسرائيل أقرب إلى الحدوث
منها في المغرب مثلا، لكن هذه قفزة تحليلية تحتاج إلى تفكر عميق وتبدو
صادمة لأول وهلة.. ومن هنا يأتي التنوع في الثورات، أو عدمها.
إذن ما
أريد قوله هو أن حالة التفكك لدولة ما بعد الاستعمار وصلت إلى أقصاها في
حالة السودان، الذي انقسم إلى دولتين، وربما في طريقه إلى الانشطار إلى
دولة ثالثة في دارفور. وفي هذا السياق يمكننا رؤية ما حدث لدول أخرى غير
عربية في أفريقيا قبل الثورات العربية. السودان دولة عانت مما يعرف بالصراع
طويل الأمد بين المجموعات العرقية المختلفة في الديانة وفي الجغرافيا. هذه
الحالة استمر فيها الصراع لأكثر من ربع قرن، وهي تمثل أقصى درجات سلم
الانشطار في دولة ما بعد الاستعمار. بينما تمثل تونس ومصر درجات أقل. وفي
هذا الإطار التحليلي يمكننا أن نرى موقع كل من سوريا وليبيا واليمن، فكلها
حالات تقف في تلك المساحة ما بين نموذج تونس ونموذج السودان.
إذا نظرنا
للمشهد من خلال هذا المنظور، فلن نفاجأ لو استمرت الثورة في ليبيا إلى أكثر
من عام أو خمسة أعوام، فقد تتحرك ليبيا في اتجاه حركة جون قرنق في جنوب
السودان، ونتحدث عن مواجهات بين طرابلس وبنغازي على المدى المتوسط على
الأقل. ومن هنا لا نتعجل نهاية القذافي. ولنكن جاهزين ومستعدين لفكرة أن
قصف الناتو لليبيا لن يؤدي إلى نهاية النظام بل ربما إلى تقسيم ليبيا.
الشيء
نفسه ينطبق على اليمن، وربما يكون اليمن مرشحا للصراع الممتد أكثر من
ليبيا نظرا لطبيعة الانشطارات الموجودة فيه، والمتمثلة في التمزق القبلي
الذي ظهر على السطح اليوم بين قادة قبيلة حاشد والرئيس اليمني وأنصاره، هذا
إضافة إلى صراع الحوثيين في الشمال مع صنعاء، وكذلك الصراع التقليدي بين
شمال اليمن وجنوبه، والذي أدى إلى قيام دولتين في السابق انقسمتا تبعا
للنظام الدولي القائم آنذاك، بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي، ولن يكون
غريبا على دولة انقسمت تبعا لتقسيمة النظام الدولي في الستينات والسبعينات
من أعلى، أن تنقسم هذه المرة من أسفل بحكم الجغرافيا والصراعات القبلية
والمذهبية.
ومن ذلك المنظور أيضا يمكننا رؤية مستقبل سوريا كمجتمع من
الموزاييك الطائفي والمذهبي والديني والعرقي، نموذج قريب من حالة العراق
الذي متى ما تحلل، دخلت فيه الدولة في حروب أهلية وطائفية، وقتل على
الهوية، وتفجيرات وتفخيخات، وجذب للتيارات المتطرفة والتدخل الأجنبي. وهذا
النموذج مرت به الدولة اللبنانية، واستمرت الحرب في لبنان لأكثر من خمسة
عشر عاما.
الثورات العربية قد تكون بدأت في تونس، ثم مصر، لكن تحلل دولة
ما بعد الاستعمار هو ما تشهده منطقة الشرق الأوسط الآن، ولا بد أن نكون
جاهزين لتبعات الصراع، ليس للشرق الأوسط فقط وإنما لدول ما بعد الاستعمار
عموما في كل العالم. ربما لا يأتي التحلل بشكله الثوري الذي حدث في مصر
وتونس، فقد يأتي بصيغة تفكك السودان، أو بأنماط أخرى، ومن هنا تكون الدول
التي لم تمر بالتجربة الاستعمارية هي الناجية من حالة التحلل الحادثة ولو
لفترة. ومن هنا أيضا، تكون أعيننا في شمال أفريقيا مثلا على الجزائر، لا
المغرب، فدولة ما بعد الاستعمار تحمل بذرة فنائها في داخلها. ومن هنا أيضا،
يجب على الدول التي تحللت مثل مصر وتونس ألا تحاول إصلاح البناء القديم
الذي تملك منه الفيروس، بل النجاة تكمن في بناء دولة جديدة من طينة جديدة
لم يتملك منها فيروس دولة ما بعد الاستعمار. غير ذلك «يبقى التور في
طحينه»، كما نقول في الصعيد.
بقلم : مأمون فندي