منذ ما يزيد على الأسبوع، صدر قرار المجلس الأعلى للقضاء بنقل وقائع جلسات قضايا الفساد وقتل المتظاهرين لرموز النظام السابق عن طريق البث المرئي، سواء كان ذلك بطريق البث المباشر بكاميرات التليفزيون أو عن طريق السماح بالتقاط الصور الفوتوغرافية للمتهمين فى أثناء انعقاد جلسات المحاكمة، ولعل هذا القرار قد أثار العديد من التساؤلات ومنها هل كانت الجلسات قبل ذلك سرية ولم يتوافر فيها العلانية؟
وهو ما يؤدى لسؤال آخر ما هو المقصود بالعلانية ومبرراتها؟ ومتى تكون الجلسة سرية؟ وما نطاق قرار مجلس القضاء الأعلى المشار إليه آنفا من حيث الأشخاص ونوعية القضايا؟
ويجيب عن هذه الأسئلة المستشار أيمن سيد محمد عبدالرحمن نائب رئيس هيئة قضايا الدولة، بالنسبة لمدى توافر العلانية من عدمها فى جلسات محاكمة رموز النظام السابق قبل صدور قرار المجلس الأعلى للقضاء بنقل وقائع الجلسات والسماح بتصويرها تليفزيونيا وفوتوغرافيا، فإن العلانية كانت متوافرة قبل ذلك القرار، حيث تتحقق العلانية فى هذا المقام عملا بأحكام المادة 268 من قانون الإجراءات الجنائية والمادة 18 من قانون السلطة القضائية والمادة 169 من دستور سنة 1971 الملغى بالسماح لمن يشاء من الجمهور بأن يشهد إجراءات المحاكمة، ولكن لا يتنافى مع العلانية أن يحدد الدخول إلى قاعة الجلسة بموجب تصاريح تصدر من رئيس الدائرة إذا كانت قاعة الجلسة مثلا ضيقة ولا تسع غير عدد معين، مادام الثابت أن توزيع هذه التصاريح لم يكن مقصورا على فئة من الناس دون أخري، «حكم نقض جلسة 11 مارس سنة 1952 مجموعة أحكام النقض س3 رقم 209 ص 562».
أما إذا ثبت أن التصاريح توزع على فئة بعينها فقط، فإن علانية الجلسة تكون غير متوافرة مما يشوب المحاكمة البطلان، كذلك لا يتنافى مع العلانية واجب المحافظة على النظام بالجلسة فلرئيس الجلسة أن يخرج من قاعة الجلسة من يخل بنظامها، فإن لم يمتثل وتمادى كان للمحكمة أن تحكم على الفور بحبسه أربعا وعشرين ساعة أو بتغريمه عملا بأحكام المادة 243 من قانون الإجراءات الجنائية.
ويدخل فى دلالة العلانية بهذا المعنى حق الصحافة فى أن تنشر على الرأى العام مادار فى الجلسة، أو أن تنشر الحكم الذى يصدر فى الدعوي، كما يحق للصحافة أيضا أن تنشر قرار الإحالة إلى القضاء أو التكليف بالحضور.
وهذا عن معنى العلانية ودلالتها، ولا يدخل فى هذه الدلالة النقل التليفزيونى أو التصوير الفوتوغرافى لإجراءات المحاكمة.
أما عن مبررات العلانية بالمعنى القانونى سالف الإشارة إليه هى تحقيق الصالح العام، إذ تمكين الجمهور من حضور الجلسة كفيل بمراقبة أعمال القضاء ومدعاة إلى الثقة فى عدالته.
أما عن سرية الجلسات، فإنه استثناء من مبدأ علانية الجلسة، يجوز للمحكمة مراعاة للنظام العام أو محافظة على الآداب العامة أن تأمر بسماع الدعوى كلها أو بعضها فى جلسة سرية أو تمنع فئات معينة من الحضور فيها وذلك عملا بأحكام الماة 268 من قانون الإجراءات الجنائية والمادة 18 من قانون السلطة القضائية.
ومن أمثلة الحالات التى يكون للمحكمة أن تسمع فيها الدعوى كلها أو بعضها فى جلسة سرية كحالة دعوى جنائية أقيمت عن جريمة تجسس، ومقتضى الحال يجب سماع شهود الإثبات فيها وهم ضباط المخابرات العامة الذين قاموا بأعمال التحريات وجمع الأدلة وضبط المتهم فتقرر المحكمة سرية الجلسة حرصا على حياتهم، فضلا عن الحفاظ على سرية عمل جهاز المخابرات وعدم المجاهرة بأسماء ضباطه ورتبهم أو عملائه السريين، وكذلك من أمثلة حالات سرية الجلسات جرائم زنا الزوج وزنا الزوجة حيث يقتضى الأمر التطرق لاسم الزوج والزوجة وقت ضبط أيهما بارتكاب الزنا تفصيلا، لما فى ذلك من مساس بالأعراض، وقد يحصل أى منهما على البراءة بعد ذلك.
والقرار بجعل الجلسة سرية يجب أن يصدر من المحكمة وليس رئيسها وحده، أى إذا كانت المحكمة مكونة من ثلاثة مستشارين فيجب أن يصدر القرار إما بإجماع آراء الثلاثة أو بالأغلبية دون أن ينفرد بهذا القرار رئيس المحكمة وحده ويجب أن يكون القرار مسببا، ويكفى أن يؤسس ويسبب بالاستناد إلى اعتبار النظام العام والآداب دون إيضاح آخر، وتقدير ذلك متروك للمحكمة دون رقابة من محكمة النقض (حكم نقض جلسة 7 ديسمبر سنة 1942، مجموعة القواعد القانونية ج 6 رقم 30 ص 41).
وللمحكمة أن تقرر سرية الجلسة بالنسبة إلى بعض الإجراءات مثل سماع أحد الشهود، أو أن تمنع فئات معينة من الحضور بالجلسة مثل النساء والأطفال ولكن السرية لا تحرم الخصوم فى الدعوى الجنائية من حضور الجلسة، والخصوم هم المتهم، والنيابة العامة والمدعى بالحق المدنى (المجنى عليه أو المضرور من الجريمة) والمسئول عن الحقوق المدنية، وكذلك وكلاؤهم (سواء كانوا محامين أو غير محامين).
وإذا ما تقررت سرية الجلسة امتنع نشر ما يجرى فيها بأى وسيلة من وسائل النشر وعقوبة مخالفة ذلك هى الحبس والغرامة أو إحدى هاتين العقوبتين تطبيقا للمادة (189) من قانون العقوبات.
والعودة للعلانية تتم بقرار من رئيس المحكمة وحده دون باقى أعضاء المحكمة، ولا يشترط تسبيب قرار العودة للعلانية لأنه عودة إلى الأصل.
أما بالنسبة لصدور الحكم فيجب أن يكون فى جلسة علنية، ولو كانت الدعوى نظرت فى جلسة سرية، ومن ثم فإذا ما صدر الحكم فى جلسة سرية كان مشوبا بالبطلان عملا لأحكام المادة 303 من قانون الإجراءات الجنائية والمادة 18 من قانون السلطة القضائية.
أما عن مدلول قرار المجلس الأعلى للقضاء بالسماح بتصوير ونقل وقائع جلسات المتهمين من رموز النظام السابق تليفزيونيا أو فوتوغرافيا فى جرائم الفساد المالى وقتل المتظاهرين، فإن هذا القرار ليس الهدف منه تحقيق العلانية، لأن العلانية بالمعنى القانونى آنف الإشارة إليه متحققة فى كل المحاكمات إذا توافر مدلولها سابق الإشارة إليه، وإنما هو من قبيل بث روح الثقة والطمأنينة فى قلوب ذوى الضحايا فى جرائم قتل المتظاهرين والرأى العام فى قضايا الفساد المالي، وحسنا ما فعل مجلس القضاء الأعلى بذلك القرار، لأنه كان يجب أن يصدر فى مثل هذه القضايا اهتداء بكثير من المحاكمات التى تمت فى دول تعيش مثل ظروف مصر أو وقعت فيها قضايا كبرى مثل ما حدث فى إندونيسيا عند محاكمة الرئيس أحمد سوهارتو بتهم الفساد المالى واستغلال النفوذ، وكذلك ما حدث مع الرئيس الأمريكى السابق بيل كلينتون فى قضية كذبه تحت اليمين عن علاقته بالمتدربة مونيكا ليونسكي، وكذلك محاكمة محمد بوعشير راعى الجماعة الإسلامية المتطرفة المسئولة عن تفجيرات جزيرة بالى فى إندونيسيا، و مثل محاكمة يوليا تموشينكو رئيسة الوزراء فى أوكرانيا عن تهمة شراء الغاز من روسيا فى عام 2009 بأسعار مرتفعة عن المعدلات العالمية مما أضر باقتصاد بلادها، ومثل محاكمة روبرت مردوخ ونجله جيمس مردوخ فى قضية التنصت على مواطنين وشخصيات عامة بريطانية، وأخيرا مثل وقائع جلسة تجديد حبس أندرس بيرينج بريفيك المتهم بارتكاب الهجوم الإرهابى المزدوج الذى روع النرويج الجمعة الماضية.
أما عن نطاق قرار المجلس الأعلى للقضاء من حيث الأشخاص والوقائع فيتحدد هذا النطاق بأشخاص رموز النظام السابق فى قضايا الفساد المالي، وقتل أو إصابة المتظاهرين فى أحداث ثورة 25 يناير فقط، وتطبيقا لذلك فإذا ما رفعت قضية مدنية ضد أحد رموز النظام السابق بشأن تعويضات سواء من أهالى الضحايا أو من الدولة فلا ينسحب عليها قرار المجلس الأعلى ولا تنقل بطريق البث المباشر التليفزيونى أو الفوتوغرافي.
كذلك إذا ما رفعت إحدى زوجات أحد المسئولين فى النظام السابق أو أحد المتهمين فى قضايا فساد أو قتل أو اصابة متظاهرين ـ دعوى تطليق أو خلع أو نفقة أو غيرها فلا يجوز نقلها تليفزيونيا أو فوتوغرافيا.
وكذلك لا يمتد قرار المجلس الأعلى للقضاء إلى قضايا الفساد المالى أو جرائم القتل والسرقة وغيرها من الجرائم لأشخاص خلاف رموز ومسئولى النظام السابق فيمنع نقلها تليفزيونيا أو فوتوغرافيا مع توافر العلانية بهذه القضايا بالمعنى القانونى سالف الإشارة إليه.