الحق فى التقاضى وطرق تحريك الدعوى الدستورية بقلم المستشار الدكتور عبد العزيز محمد سالمان رئيس هيئة المفوضين بالمحكمة الدستورية العليا
الحق في التقاضي
تمهيد وتقسيم:
لا يكفي مجرد النص على الحقوق والحريات العامة في الدساتير حتى يمكن القول بوجودها حقيقةً، وأنها مكفولة للأفراد، وأن الدولة المقررة لها دولة تخضع لسيادة القانون وتضمن للأفراد حقوقهم وحرياتهم، ونقف على قدم المساواة مع الدول الديمقراطية الحقيقية.
بل لا بد- وحتى لا تظل النصوص المقررة للحقوق والحريات حبرًا على ورق- أن تكفل الدولة ضمانات حقيقية لممارسة هذه الحقوق والحريات، ومن الأفضل للفرد أن يتقرر له بعض الحقوق والحريات مع توفير الضمان لمباشرتها والتمتع بها خيرًا من أن تتقرر له جميع الحقوق والحريات مع إهمال هذا الضمان.
والضمانات الحقيقية للحقوق والحريات كثيرة ومتعددة، بعضها ضمانات واقعية نتصرف إلى تغيير الواقع الفعلي إلى الأفضل بما يؤدي إلى أن يستطيع الأفراد التمتع بحقوقهم وحرياتهم، ومنها تحسين وزيادة الإنتاج، وتوفير حد أدنى من اليسر، وحد أدنى من أوقات الفراغ، وقدر وافر من الثقافة.. إلخ.
وبعضها الآخر، منها ضمانات قانونية تتمثل في الفصل بين السلطات والرقابة المتبادلة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وفوق هذا وذاك يأتي استقلال السلطة القضائية.
ويأتي الحق في التقاضي في مقدمة هذه الحقوق قاطبة؛ إذْ عن طريقه تُحمى كافة الحقوق والحريات.
وانطلاقًا من هذه المقدمة نتناول الحق في التقاضي وطرق تحريك الدعوى الدستورية خلال فصول ثلاثة:
الفصل الأول: الحق في التقاضي (إطلالة عامة من خلال أحكام المحكمة الدستورية العليا).
الفصل الثاني: طرق تحريك الدعوى الدستورية.
الفصل الثالث: الدعوى الدستورية المباشرة وحق التقاضي (رأينا في تأثير عدم إتاحة الطعن المباشر على الحق في التقاضي).
الفصل الأول: الحق في التقاضي.. إطلالة عامة
لا جدال في أن حق الأفراد في التقاضي حق أصيل، وعماد الحريات جميعًا، إذ بدونه يستحيل عليهم أن يأمنوا على تلك الحريات أو يردوا الاعتداء عليهم، ونظام الحكم لا يمكن أن يعتبر ديمقراطيًّا إلا إذا كفل للأفراد حق الالتجاء إلى القضاء، وحاجة الأفراد إلى هذا الحق هي حاجة مستمرة ومتزايدة، خاصةً بعد ازدياد دور الدولة وازدياد تدخلها.
وتدخل الدولة في شئون الأفراد- وأن استهدف صالحهم- قد يكون مصحوبًا بإجراءات استثنائية أو مساس بحقوق أساسية أو مغالاة في التكاليف أو انحراف بالسلطة أو شطط في التقدير أو إضعاف للضمانات المقررة، ومن ثم ينبغي أن يبقى باب القضاء مفتوحًا أمام الأفراد ليعرضوا عليه أمرهم ويطلبوا إليه إنصافهم من ظلم يعتقدون بوقوعه عليهم.
ولا جدال في أن كفالة حق الأفراد في التقاضي تبعث في نفوسهم الرضا والإحساس المطمئن والإيمان بالعدل، وأن حرمانهم من هذا الحق يبعث في نفوسهم الاستياء والإحساس بالقلق والشعور بالظلم.
فكفالة حق التقاضي أمر لا غنى عنه، وضرورة يلزم توفيرها جنبًا إلى جنب مع تزايد نشاط الدولة المتدخل في شئون الأفراد، وكفالة هذا الحق في دولة ما دليل على استجابة نظام الحكم فيها لرغبات المحكومين ولمقومات حياة دستورية وشرعية.
وإذا كان حق التقاضي بهذه الأهمية الكبرى فإن تناوله والإحاطة به من خلال هذه الورقة- المعدة سريعًا- لن يوفيه حقه، ومن ثَمَّ فإننا نقتصر على عرض لبعض المبادئ المؤجزة لأحكام المحكمة الدستورية العليا حول هذا الحق دون التعرض لأية تفصيلات فقهية لا يتسع لها المقام؛ وذلك على النحو الآتي:
مبدأ المساواة أساس حق التقاضي: لا يجوز للمشرع أن يقيم تمييزًا بين المواطنين على صعيد الفصل بطريقة منصفة في حقوقهم والتزاماتهم.
إن الدستور بما نص عليه في المادة 68 منه، من ضمان حق كل مواطن في اللجوء إلى قاضيه الطبيعي لرد ما قد يقع من عدوان على الحقوق التي يدعيها، قد دلَّ على أمرين: أولهما: أن لكل مواطن أن يسعى بدعواه إلى قاضٍ يكون بالنظر إلى طبيعة المنازعة، وعلى ضوء مختلف العناصر التي لابستها، مهيأ دون غيره للفصل فيها.
ثانيهما: أن الناس جميعًا لا يتمايزون فيما بينهم في مجال حقهم في النفاذ إلى قاضيهم الطبيعي، ولا في نطاق القواعد الإجرائية والموضوعية التي تحكم الخصومة القضائية عينها، ولا في فعالية ضمانة الدفاع التي يكفلها الدستور والمشرع للحقوق التي يدعونها، ولا في اقتضائها وفق مقاييس موحدة عند توافر شروط طلبها، ولا في طرق الطعن التي تنظمها، بل يجب أن يكون للحقوق عينها، قواعد موحدة سواء في مجال التداعي بشأنها، أو الدفاع عنها، أو استئدائها، أو الطعن في الأحكام التي تتعلق بها، ولا يجوز بالتالي أن يقيم المشرع فيما بين المواطنين، تمييزًا غير مبرر في شأن إعمال هذه القواعد، بما يعطلها لفريقٍ من بينهم أو يقيدها، وبوجه خاص على صعيد الفصل بطريقة منصفة في حقوقهم المدنية والتزاماتهم، ويؤيد ذلك أن طرق الطعن في الأحكام لا تعتبر مجرد وسائل إجرائية ينشئها المشرع ليوفر من خلالها سبل تقويم اعوجاجها، بل هي في واقعها أوثق اتصالاً بالحقوق التي تتناولها، سواء في مجال إثباتها أو نفيها أو توصيفها، ليكون مصيرها عائدًا أساسًا إلى انفتاح هذه الطرق أو انغلاقها، وكذلك إلى التمييز بين المواطنين المتحدة مراكزهم القانونية indentically situ- ated في مجال النفاذ إلى فرصها.
حكم المحكمة الدستورية العليا بجلسة 5 أغسطس سنة 1995 في القضية رقم 9 لسنة 16 قضائية دستورية.
الحق في التقاضي يدور حول محاور ثلاثة نتناولها تباعًا:
المحور الأول: وجوب تمكين كل متقاضٍ من النفاذ إلى القضاء نفاذًا ميسرًا:
ويكون النفاذ ميسرًا بإتاحة الطعن على جميع الأعمال والقرارات ولا يحصن منها أي عمل أو قرار من رقابة القضاء (الحكم في القضية رقم 18 لسنة 5 ق. دستورية جلسة 6/6/1987).
ومن مقتضاه أيضًا ألا يعزل الناس جميعهم أو بعضهم من النفاذ إليه، أو إهدار التشريع لولاية السلطة القضائية كليًّا أو جزئيًّا أو عزلها عن نظر منازعات معينة مما تختص به (الحكم في الدعوى رقم 15 لسنة 17 ق. دستورية جلسة 2/12/1995).
ومن مقتضاه أيضًا ألا يمنع أي فرد من قيد الدعوى القضائية أمام أي محكمة.
النفاذ الميسر يجب أن يُتاح للوطني والأجنبي على السواء، فلا يجوز للدولة أن تجحد على غير مواطنيها حقهم في اللجوء على محاكمها. (الحكم في الدعوى رقم 98 لسنة 4 ق. دستورية جلسة 5/3/1994).
النفاذ الميسر إلى القضاء لا يجوز أن يكون محملاً بأعباء مالية يكون من شأنها أن تعطل الحق في التقاضي ذاته (الحكم في الدعوى رقم 129 لسنة 18 ق. دستورية جلسة 3/1/1998).
ويجب ألا يكون مقترنًا بقيود تُرهقه أو تعسر الحصول على الترضية القضائية أو تحول دونها أو أن يكون مقترنًا بأية عوائق منافية لطبيعته (الحكم في الدعوى رقم 104 لسنة 20 ق. دستورية جلسة 3/7/1999).
وينبغي أن يكون هذا النفاذ منضبطًا وفق أسس موضوعية لا تمييز فيها (الحكم في الدعوى رقم 15 لسنة 17 ق. دستورية جلسة 2/12/1995).
ويجب ألا تكون مصروفات الدعوى عبئًا على مَن أقامها كلما كان محقًّا فيها. (الحكم في الدعوى رقم 106 لسنة 19 ق. دستورية جلسة 1/1/2000).
المحور الثاني: استقلال القضاء وحيدته: تأتي الركيزة الثانية أو الحلقة الوسطى من حلقات الحق في التقاضي في استقلال القضاء وحيدته.
وهذه الركيزة الثانية من الأهمية الكبرى بحيث لا نستطيع أن نغطي جوانبها في وقتٍ قصير، ونشير إليها مجرد إشارات سريعة من أحكام المحكمة الدستورية العليا حولها:
استقلال القضاء وحيدته يعتبران قيدًا على السلطة التقديرية للمشرع في مجال تنظيم الحقوق (الحكم في الدعوى رقم 133 لسنة 19 ق دستورية جلسة 3/4/1999).
استقلال القضاء وحيدته يكفل للمتقاضي حقًّا متكاملاً ومتكافئًا مع غيره في محاكمة منصفة (الحكم في الدعوى رقم 15 لسنة 14 ق دستورية جلسة 15/5/1993).
استقلال السلطة القضائية عاصم من تدخل أي جهة في شئون العدالة أو التأثير في مجرياتها ومتطلباتها (الحكم في الدعوى رقم 31 لسنة 10 ق دستورية جلسة 7/12/1991).
الحيدة والاستقلال لازمان لضمان ألا يخضع القاضي في عمله لغير سلطان القانون وبنظرة متجردة (الحكم في الدعوى رقم 83 لسنة 16 ق دستورية جلسة 16/11/1996).
الاستقلال والحيدة عنصران متكاملان لا غناءَ بأحدهم عن الآخر ولا تقوم العدالة بدونهما معًا (الحكم في الدعوى رقم 83 لسنة 20 ق دستورية جلسة 5/12/1998).
من مقتضيات الاستقلال ألا يحرم القاضي من سلطة وقف تنفيذ العقوبة إذ أن ذلك يعتبر تدخلاً مباشرًا في شئون الوظيفة القضائية بما ينال من جوهرها ويخل بمقوماتها (الحكم في الدعوى رقم 42 لسنة 19 ق دستورية جلسة 7/2/1998).
التزام الدولة بضمان حق التقاضي هو فرع من واجبها نحو الخضوع للقانون (الحكم في الدعوى رقم 193 لسنة 19 ق دستورية جلسة 6/5/2000).
المحور الثالث: الوصول إلى الترضية القضائية النهائية:
لا يكفي لكفالة حق التقاضي أن يكون النفاذ إلى القضاء ميسرًا لكل وطن أو أجنبي، وأن يكفل للقضاء الاستقلال والحيدة، وإنما لا بد من الوصول إلى الترضية القضائية النهائية التي تعني أن توفر الدولة للخصومة في نهاية مطافها حلاًّ منصفًا بمثل التسوية التي يعمد من يطلبها إلى الحصول عليها بوصفها الترضية القضائية التي يسعى إليها لمواجهة الإخلال بالحقوق التي يدعيها.. هذه الترضية بافتراض مشروعيتها واتساقها مع أحكام الدستور تندمج في الحق في التقاضي باعتبارها الحلقة الأخيرة فيه.
وقد أكدت المحكمة الدستورية العليا على أهمية هذا المحور، ومن ذلك قضاؤها: أنه بغير اقتران الترضية القضائية بوسائل تنفيذها يكون حق التقاضي مفزعًا من مضمونه (الحكم في الدعوى رقم 2 لسنة 14 ق دستورية جلسة 3/4/1993).
الترضية القضائية التي لا تقترن بوسائل تنفيذها جبرًا تعطل دور السلطة القضائية في مجال تأمين الحقوق وتفقد قيمتها العملية (الحكم في الدعوى رقم 37 لسنة 18 ق دستورية جلسة 4/4/1998).
الامتناع عن تنفيذ الأحكام الجائرة لقوة الأمر المقضي من جانب الموظفين العموميين المكلفين بذلك يعتبر جريمة (الحكم في الدعوى رقم 129 لسنة 18 ق دستورية جلسة 3/1/1998).
سلطة المشرع في تنظيم حق التقاضي:
من الأمور شديدة الأهمية بيان حدود سلطة المشرع في تنظيم حق التقاضي، وقد أبرزت المحكمة الدستورية العليا حدود هذه السلطة في الكثير من أحكامها تذكر منها:
سلطة المشرع في تنظيم حق التقاضي، سلطة تقديرية لاختيار الوسيلة التي تتفق مع الأغراض التي يتوخاها (الحكم في الدعوى رقم 47 لسنة 17 ق دستورية جلسة 4/1/1997).
ليس ثمة قيد على سلطة المشرع في تنظيم حق التقاضي إلا إذا فرض الدستور في شأن ممارستها ضوابط محددة (الحكم في الدعوى رقم 193 لسنة 19 ق دستورية جلسة 6/5/2000).
يتعين على المشرع في مجال تنظيم حق التقاضي أن يفاضل بين صور هذا التنظيم ليختار منها ما يكون مناسبًا لخصائص المنازعات التي يتعلق بها ومتطلباتها (الحكم في الدعوى رقم 181 لسنة 19 ق دستورية جلسة 4/1/2000).
تنظيم المشرع لحق التقاضي غير مقيد بأشكال جامدة لا يريم عنها تفرع قوالبها في صورة صماء لا تبديل فيها، بل يجوز مغايرته وفقًا لكل حالة، وأن يقدر ما يناسبها (الحكم في الدعوى رقم 38 لسنة 16 ق دستورية جلسة 16/11/1996).
تعديل اختصاص الهيئات القضائية غير جائز إلا بقانون (الحكم في الدعوى رقم 2 لسنة 1 ق عليا جلسة 6/11/1971).
تعديل اختصاص الهيئات القضائية بقرار جمهوري يخالف الدستور (الحكم في الدعوى رقم 4 لسنة 1 ق عليا جلسة 3/7/1971).
عدم جواز أن يميز المشرع- في مجال الطعن- بين المحاكم المتساوية في مرتبتها وتشكيلها (الحكم في الدعوى رقم 39 لسنة 15 ق دستورية جلسة 4/2/1995).
إسقاط المشرع لضمانة الدفاع أو الحد منها يؤدي إلى إسقاط الضمانات التي كفلها الدستور لكل مواطن في مجال الالتجاء إلى قاضيه الطبيعي (الحكم في الدعوى رقم 15 لسنة 17 ق دستورية جلسة 2/12/1995).
الفصل الثاني: طرق تحريك الدعوى الدستورية
حددت المادتان 27، 29 من قانون المحكمة الدستورية العليا أسلوب المحكمة في الرقابة على الدستورية وطرق تحريك الدعوى أمامها فنصَّت المادة 27 على أنه يجوز للمحكمة في جميع الحالات أن تقضي بعدم دستورية أي نصٍّ في قانون أو لائحة يعرض لها بمناسبة ممارسة اختصاصاتها، ويتصل بالنزاع المطروح عليها؛ وذلك بعد اتباع الإجراءات المقررة لتحضير الدعاوى الدستورية، كما نصَّت المادة 29 على أن تتولى المحكمة الرقابة القضائية على دستورية القوانين واللوائح على الوجه التالي:
1- إذا تراءى لإحدى المحاكم أو الهيئات ذات الاختصاص القضائي أثناء نظر إحدى القضايا عدم دستورية نص في قانون أو لائحة لازم للفصل في النزاع أوقفت الدعوى، وأحالت الأوراق بغير رسوم إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل في المسألة الدستورية.
2- إذا دفع أحد الخصوم أثناء نظر دعوى أمام إحدى المحاكم أو الهيئات ذات الاختصاص القضائي بعدم دستورية نص في قانون أو لائحة ورأت المحكمة أو الهيئة أن الدفع جدوى أجلت نظر الدعوى، وحددت لمَن أثار الدفع ميعادًا لا يجاوز ثلاثة أشهر لرفع الدعوى بذلك أمام المحكمة الدستورية العليا، فإذا لم ترفع الدعوى في الميعاد اعتبر الدفع كأنَّ لم يكن والمستفاد من هذين النصين أن أسلوب الرقابة يتنوع إلى أنواع ثلاثة، أي أن هناك أساليب ثلاثة يمكن بأحدها أن تمارس المحكمة رقابتها على دستورية القوانين، وهذه الطرق هي:
1- الدفع بعدم الدستورية أمام محكمة الموضوع.
2- الإحالة من محكمة الموضوع.
3- حق التصدي المقرر للمحكمة الدستورية.
ولنتناول كل أسلوب من هذه الأساليب في مطلب مستقل:
المطلب الأول: الرقابة بطريقة الدفع من الأفراد
كان الدفع من جانب أحد الخصوم هو الأسلوب الوحيد الذي يمكن عن طريقه تحريك دعوى الدستورية في ظل المحكمة العليا، فلم يعرف قانونها الإحالة من جانب محكمة الموضوع من تلقاء نفسها في حالة الشك في دستورية قانون، كما لم يقر للمحكمة الحق في التصدي.
وبصدور قانون المحكمة تعدَّل هذا الوضع، لكن يبقى الدفع هو أكثر الطرق شيوعًا، ومؤداه أن تجد محكمة الموضوع- أثناء نظر إحدى الدعاوى- أنها مضطرة للتعرض لنقطة قانونية تتعلق بالدستور لكونها لازمة للفصل في الدعوى الموضوعية فيدفع أحد خصوم الدعوى بعدم دستورية نص في قانون أو لائحة، وعليها في هذه الحالة أن تبحث مدى جدية هذا الدفع، فإذا ما تحققت من جديته فعليها أن تؤجل الفصل في الدعوى المنظورة أمامها، وتحدد ميعادًا للخصوم لا يتجاوز ثلاثة أشهر لرفع دعوى الدستورية، فإذا لم ترفع الدعوى في الميعاد اعتبر الدفع كأن لم يكن، ويقصد بالجدية أن يتحقق القاضي من أنه لا يقصد منه الكيد أو إطالة أمد التقاضي، ويتحدد ذلك بالتأكيد من مسألتين أساسيتين: أولاً: أن يكون الفصل في مسألة الدستورية منتجًا أي أن يكون القانون أو اللائحة المطعون في دستوريتها متصلة بموضوع النزاع؛ أي أن يكون هذا القانون أو اللائحة محتمل التطبيق على النزاع، في الدعوى الأصلية على أي وجه من الوجوه، وأن الحكم بعدم الدستورية سيفيد منه صاحب الشأن في الدعوى المنظورة، فإذا اتضح للقاضي أن القانون أو اللائحة المطعون بعدم دستوريتها لا تتصل بالنزاع المعروض عليه قرر رفض الدفع بعدم الدستورية، واستمر في نظر الدعوى الموضوعية دون التفات لمسألة الدستورية، وهذا ما قضت به المحكمة الإدارية العليا بجلسة 16 مارس لسنة 1974؛ حيث ذهبت إلى أنه من حيث أن الشركة الطاعنة دفعت بعدم دستورية المادة 49 من نظام العاملين بالقطاع العام فيما تضمنته المادة المذكورة من حظر الطعن في بعض أحكام المحاكم التأديبية أمام المحكمة الإدارية العليا؛ وذلك استنادًا على أحكام قانون مجلس الدولة رقم 47 لسنة 1972، وعلى أساس أن نظام التقاضي يأبى قصر التقاضي على درجة واحدة في المنازعات التأديبية الخاصة بالعاملين في القطاع العام دون باقي تلك المنازعات الخاصة بغيرهم من العاملين، ومن حيث إنه أيًّا كان الرأي في جواز الطعن في الأحكام المشار إليها بالتطبيق لقانون مجلس الدولة رقم 47 لسنة 1972م فإن المنازعة الماثلة لا شأنَ لها بأحكام القانون المذكور، فيما يتعلق بحالات الطعن أمام المحكمة الإدارية العليا، ومن ثَمَّ يكون الدفع بعدم دستورية المادة 49 في المنازعة الماثلة غير جدي وتلتفت عنه المحكمة.
وأما الشرط الثاني فيجب أن يتحقق من أن مطابقة القانون أو اللائحة للدستور تحتمل اختلاف وجهات النظر أي أن يكون هناك شبهة في عدم دستورية القانون أو اللائحة والشك يفسر في جانب عدم الدستورية عند تقدير مدى جدية الدفع، وقرار القاضي بشأن الجدية ليس نهائيًّا بل من حق صاحب الشأن أن يطعن عليه بالطرق المقررة للطعن أي بالاستئناف والنقض إذا كنا في نطاق القضاء الإداري.
والدفع بعدم الدستورية هو دفع موضوعي يمكن إثارته في أي مرحلةٍ من مراحل الدعوى، وهو دفع قانوني يمكن إثارته أمام محكمة النقض، وهو دفع يتعلق بالنظام العام إذْ يمكن لمحكمة الموضوع أن تتعرض له من تلقاءِ نفسها، وأن تحيل أمر الدستورية إلى المحكمة الدستورية العليا، وهذا بصريح نص قانون المحكمة الدستورية العليا، ومتى دفع الخصم بعدم الدستورية ورأت المحكمة أن الدفع جدي فإنها تؤجل الدعوى وتضرب للخصم أجلاً لا يجاوز ثلاثة أشهر ليرفع الدعوى بعدم الدستورية، أمام المحكمة الدستورية، وهذا الميعاد من مواعيد السقوط إذ أنه عقب انتهائه فإن حق الخصم في الدفع يسقط وتستمر المحكمة في نظر موضوع الدعوى دون التفات للدفع.
ونرى أن الدعوى الموضوعية تستأنف سيرها بقوة القانون في حالة عدم رفع الدعوى الدستورية في الميعاد؛ لأنها لم تكن متوقفةً حتى يعجلها الخصم بل كانت مؤجلةً، ومتى انتهى الأجل فإنها تستمر في نظر الدعوى بقوة القانون مع مراعاة قواعد الشطب والحضور الواردة بقانون المرافعات، ولا شك أنه إذا رفعت الدعوى أمام المحكمة الدستورية العليا بعد الميعاد فإنها تقضي بعدم قبولها شكلاً ولا يمنعها ذلك من ممارسة حقها في التصدي، كما سنرى فيما بعد.
المطلب الثاني: الرقابة عن طريقة الإحالة من محكمة الموضوع
أعطى المشرع الحق لقاضي الموضوع في أن يلجأ إلى المحكمة الدستورية العليا، كلما رأى أن نصًّا ما في قانون أو لائحة لازمًا للفصل في الدعوى المنظورة أمامه يكون مشكوكًا في دستوريته؛ وذلك بصرف النظر عن مصالح الخصوم في الدعوى الموضوعية، إذْ قد لا ينتبه أي منهم إلى الطعن في دستورية هذا القانون أو اللائحة، وقد نصَّت على ذلك المادة 29 من قانون المحكمة الدستورية العليا بقولها إذا تراءى لإحدى المحاكم أو الهيئات ذات الاختصاص القضائي أثناء نظر إحدى الدعاوى عدم دستورية نص في قانون أو لائحة لازم للفصل في النزاع أوقفت الدعوى، وأحالت الأوراق بغير رسوم إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل في المسألة الدستورية.
ومقتضى ذلك أن من حق أي محكمة في السلم القضائي أن تحيل من تلقاء نفسها أي نص تراه غير دستوري إلى المحكمة الدستورية العليا، وهذا يعتبر من الروافد الجديدة التي أضافها قانون المحكمة الدستورية، وموسعًا من طرق اتصال المحكمة الدستورية بالدعوى الدستورية.
وهذه الإحالة مشروطة بشرط مهم هو أن يكون النص المحال لازمًا للفصل في الدعوى الموضوعية وتقدير ما إذا كان النص لازمًا للفصل في الدعوى من عدمه متروك لقاضي الموضوع، ولا شك أن هذا الطريق الجديد الذي أوجده المشرع قد دفع كثيرًا من الحرج عن قاضي الموضوع، إذْ بغير ذلك كان يمكن أن يوجد نص غير دستوري ولم ينتبه الخصوم إلى ذلك، ومع ذلك يجد القاضي نفسه مضطرًا لتطبيقه مع تيقنه من عدم دستوريته.
ويمكن أن يثار التساؤل عن مدى سلطة قاضي الموضوع في إحالة النص المشكوك في دستوريته إلى المحكمة إذا تخاذل من دفع بعدم الدستورية ولم يرفع الدعوى أمامها في الموعد المحدد له، وطلب الخصم تعجيل الدعوى بعد فوات هذا الموعد.
نرى أنه لا يوجد ما يمنع قاضي الموضوع في هذه المسألة من أن يحيل هذا النص ذاته ومن تلقاء نفسه إلى المحكمة الدستورية العليا إذا تراءى له عدم دستورية هذا النص، وأنه لازم للفصل في الدعوى، والقول بغير ذلك يجعل دعوى عدم الدستورية دعوى شخصية وليست عينية، كما أراد لها المشرع فلا يتصور أن يجد القاضي نفسه أمام نص صاحب الشأن لم يرفع الدعوى في الموعد المحدد.
ومن الجدير بالذكر أن اتصال المحكمة الدستورية العليا بالمسألة الدستورية من خلال الإحالة يتم بمجرد صدور قرار الإحالة، ولا تتقيد هذه الإحالة بميعاد بل تقوم مناسبتها كلما رجح الظن لدى محكمة الموضوع بأن النص المعروض عليها بذاتها هو نص غير دستوري.
المطلب الثالث: الرقابة بطريقة التصدي من المحكمة الدستورية العليا
أعطى القانون للمحكمة الحق في أن تتصدى لممارسة الرقابة على دستورية القوانين كلما رأت نصًّا غير دستوري، وكان ذا صلة بالنزاع المطروح عليها، فنصت المادة 27 من قانون المحكمة الدستورية العليا على أنه يجوز للمحكمة في جميع الحالات أن تقضي بعدم دستورية أي نص في قانون أو لائحة يعرض لها بمناسبة ممارسة اختصاصها، ويتصل بالنزاع المطروح عليها؛ وذلك بعد اتباع الإجراءات المقررة لتحضير الدعاوى الدستورية.
والتصدي كأحد أساليب الرقابة هو أمر مستحدث في قانون المحكمة الدستورية العليا، ولم تكن هذه الرخصة مقررة للمحكمة العليا عند إنشائها ولم تكن بطبيعة الحال- مقررة للقضاء قبل إنشاء القضاء الدستوري.
والمستفاد من النص السابق، أنه قد يتضح للمحكمة الدستورية أثناء ممارسة اختصاصاتها سواء منها المتعلقة بالرقابة على دستورية القوانين أو التفسير أو تنازع الاختصاص وتنفيذ الأحكام المتناقضة، أن نصًّا في قانون أو لائحة يتصل بالنزاع المعروض عليها مخالف للدستور، ففي هذه الحالة تتصدى المحكمة لهذا النص وتقوم بفحص دستوريته والقضاء إما بدستوريته أو بعدم دستوريته وفقًا للضوابط المقررة بالمادة 27 سالفة البيان، وتتمثل هذه الضوابط في الآتي:
1- أنه لكي تمارس المحكمة الدستورية رخصة التصدي فلا بد أن يكون ذلك بمناسبة ممارسة المحكمة لاختصاصٍ من اختصاصاتها وهو حق تباشره المحكمة من تلقاء نفسها دون حاجةٍ إلى دفع يقدم إليها، وإذا كان ذلك كذلك فإن من حق الأفراد أن ينبهوا المحكمة الدستورية إلى أن نظر الدعوى المطروحة على المحكمة، وليس كل الأفراد يحق لهم ذلك، وإنما الحق مقصورٌ على أصحاب الصفة في النزاع المطروح على المحكمة، ويمكن أن يكون في صورة طلب يقدم للمحكمة كما يمكن أن يضمنوه المذكرات التي تقدم للمحكمة، ومن المتصور أن يتم ذلك في حالة ما إذا كانت المحكمة تمارس اختصاصاتها بالفصل في تنازع الاختصاص أو تنفيذ الأحكام أو اختصاصها في الرقابة على دستورية القوانين، ولكنه أمر غير متصور في مزاولة اختصاصها بالتفسير، إذْ لا علاقةَ للأفراد بهذا الاختصاص، وإن كان هذا لا ينفي تصدي المحكمة من تلقاء نفسها لفحص دستورية النص المعروض أمر تفسيره.
2- إن التصدي لا يعني أن المحكمة تباشر فحص الدستورية فور اكتشافها للمخالفة الدستورية، بل يجب لممارسة رخصة التصدي أن تتخذ الإجراءات المعتادة لتحضير الدعاوى، أي أن تحيل المحكمة النص إلى هيئة المفوضين لتحضير الدعوى وإعداد تقرير برأيها ثم تعرض الأوراق على رئيس المحكمة لتحديد جلسة ليتم الفصل في الدعوى الدستورية.
3- إن المحكمة وهي في سبيلها إلى التصدي تكتفي بمجرد قيام صلة بين النص المطروح عليها والنص الذي رأت التصدي لفحص دستوريته، فلم يشترط القانون أن يكون النص محل التصدي لازمًا للفصل في الدعوى بل اكتفى بمجرد قيام صلة أيًا كانت، وفي هذا توسعة لمجال مباشرة الرقابة عن طريق التصدي، واستلزمت المحكمة أن يكون النص متصلاً بنزاع معروض عليها بالفعل، واتصلت المحكمة به اتصالاً مطابقًا للأوضاع القانونية المقررة فإذا لم تكن المحكمة قد اتصلت بالنزاع المطروح أمامها اتصالاً قانونيًّا فلا مجالَ لممارسة رخصة التصدي.
الدكتور المنصور
06-18-2010, 06:06 PM
وقد أعملت المحكمة هذا التخريج القانوني في العديد من الأحكام التي طُلب منها ممارسة رخصة التصدي، وانتهت إلى رفض هذا الطلب؛ ومن ذلك على سبيل المثال حكمها بجلسة 11/6/1983م في الدعوى رقم 31 لسنة 1 ق دستورية بقولها، وحيث إنه لا محل لما يثيره المدعي من أن لهذه المحكمة رخصة التصدي لعدم دستورية النص المطعون فيه طبقًا لما تقضي به المادة 27 من قانونها، والتي تنص على أنه يجوز للمحكمة في جميع الحالات أن تقضي بعدم دستورية؛ أي نص في قانون أو لائحة لها بمناسبة ممارسة اختصاصها، ويتصل بالنزاع المطروح عليها؛ وذلك بعد اتباع الإجراءات المقررة لتحضير الدعاوى الدستورية؛ ذلك أن إعمال هذه الرخصة المقررة للمحكمة طبقًا للمادة المذكورة منوط بأن يكون النص الذي يرد عليه التصدي متصلاً بنزاع مطروح عليها، فإذا انتفى قيام النزاع أمامها كما هو الحال في الدعاوى الراهنة التي انتهت المحكمة من قِبل إلى انتهاء الخصومة فيها، ومن ثَمَّ فلا يكون لرخصة التصدي سند يسوغ إعمالها.
وكذلك حكمها بجلسة 21/12/1985 في الدعوى رقم 18 لسنة 6 ق بقولها حيث إنه لا محل لما يطلبه المدعيان من إعمال المحكمة لرخصة التصدي لعدم دستورية القرار بقانون المطعون عليه طبقًا لما تقضي به المادة 27 من قانونها، والتي تنص على أنه لا يجوز للمحكمة في جميع الحالات أن تقضي بعدم دستورية أي نص في قانون أو لائحة يعرض لها بمناسبة ممارسة اختصاصها، ويتصل بالنزاع المطروح عليها؛ وذلك بعد اتباع الإجراءات المقررة لتحضير الدعاوى الدستورية. ذلك أن إعمال هذه الرخصة المقررة للمحكمة طبقًا للمادة المذكورة منوط بأن يكون النص الذي يرد عليها التصدي متصلاً بالنزاع المطروح عليها، فإذا انتفى قيام أمامها كما هو الحال في الدعوى الراهنة التي انتهت المحكمة من قبل إلى عدم قبولها فلا يكون لرخصة التصدي سند يسوغ إعمالها.
والواقع أن هذا النهج الذي انتهجته المحكمة نهج غير سديد وفيه تضييق لممارسة الرقابة عن طريق رخصة التصدي، وهو ما لم يرده المشرع؛ ذلك أن المشرع قد استخدم لإعطاء الحق في التصدي للمحكمة الدستورية عبارة بمناسبة ممارسة اختصاصها؛ مما يعتبر رغبة من المشرع في التوسع في حالات التصدي إذا أراد التضييق من حالات التصدي لكان يجب عليه استعمال اصطلاح أثناء بدلاً من اصطلاح بمناسبة إذ أن بحث مدى قبول الدعوى أو البحث في مدى توافر أي شرط من شروط الدعوى يعتبر بمناسبة لاستخدام المحكمة الدستورية العليا حقها في التصدي.
4- إن قانون المحكمة الدستورية إذا أجاز لها من تلقاء ذاتها اللجوء إلى حق التصدي إنما أراد أن يقرر المزيد من الضمانات في مجال الشرعية الدستورية، فلقد كان من غير السائغ ولا المقبول أن يخول المشرع المحاكم حق الإحالة ثم يحرم المحكمة الدستورية ذاتها من استعمال حق التصدي، وهي المحكمة صاحبة الولاية العامة والمقصورة عليها هذه الولاية فيما يتصل بدستورية القوانين واللوائح، وبذلك يكون حق التصدي مكملاً للدفع الفرعي ولحق الإحالة باعتبار أن هذه الصور حلقات ثلاث تتعاون جميعًا في توكيد الشرعية الدستورية، وقد أحكم المشرع بهذه الحلقات جميعًا الرقابة على دستورية القوانين.
ويجب أن نشير إلى أن الرقابة على الدستورية التي تباشرها المحكمة الدستورية من خلال استعمالها لحق التصدي لا تتقيد شأنها في ذلك شأن الإحالة التي تتم بها المسألة الدستورية من محكمة الموضوع، هذا وقد أعملت المحكمة حقها في التصدي في البعض من القضايا نذكر منها حكمها الصادر بجلسة 16 مايور 1982م في الدعوى رقم 10 لسنة 1 ق دستورية؛ حيث طعن أحد أعضاء مجلس الدولة بعدم دستورية الفقرة الأولى من المادة 104 والفقرة الثانية من المادة 119 من قانون مجلس الدولة فقررت بأنه لما كانت المادة 104 من قانون مجلس الدولة الصادر بالقرار بقانون رقم 47 لسنة 1972م تنص على أن تختص إحدى دوائر المحكمة الإدارية العليا دون غيرها بالفصل في الطلبات التي يقدمها رجال مجلس الدولة بإلغاء القرارات الإدارية النهائية المتعلقة بأي شأن من شئونهم؛ وذلك عدا النقل والندب متى كان مبنى الطلب عيبًا في الشكل أو مخالفة القوانين واللوائح أو أخطاء في تطبيقها أو تأويلها أو إساءة استعمال السلطة فإنها تماثل في حكمها الفقرة الأول من المادة 83 من قانون السلطة القضائية الصادر بالقرار بقانون 46 لسنة 1972 والمعدل بالقانون 49 لسنة 1973، فيما نصَّت عليه من أن تختص دوائر المواد المدنية والتجارية لمحكمة النقض دون غيرها بالفصل في الطلبات التي يقدمها رجال القضاء والنيابة العامة بإلغاء القرارات الإدارية النهائية المتعلقة بأي شأن من شئونهم؛ وذلك عدا النقل والندب، متى كان في الطلب عيب في الشكل أو مخالفة القوانين واللوائح أو أخطاء في تطبيقها أو تأويلها أو إساءة استعمال السلطة؛ الأمر الذي دعا المحكمة إلى إعمال رخصة التصدي المتاحة لها طبقًا للمادة 27 من قانونها فيما يتعلق بهذه المادة الأخيرة لاتصالها بالنزاع المطروح عليها.
حق الأفراد في اللجوء إلى المحكمة الدستورية العليا
كان المشروع الأصلي لقانون المحكمة الدستورية العليا، وهو الذي أقره مجلس الدولة (في 20 ديسمبر 1973) ينص على أنه يجوز لكل ذي مصلحة شخصية مباشرة أن يطعن لدى المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية أي نص في قانون أو لائحة.
أي أنه كان يحق للأفراد أن يلجئوا إلى المحكمة الدستورية العليا مباشرة طاعنين في دستورية التشريعات واللوائح، إلا أن المشروعات التي تلت هذا المشروع جاءت خاليةً من تقرير هذا الحق للأفراد بما فيهم القانون الحالي.
وفي الواقع أن القانون الدستوري المقارن قد حوى دولاً تبيح للأفراد حق اللجوء المباشر إلى المحكمة الدستورية العليا، ودولاً أخرى لا تبيح للأفراد ذلك، ومثال الدول الأولى سويسرا في دستورها الصادر 29 مايو 1874 فيجوز لكل ذي مصلحة حالية أو مستقبلية أن يطعن أمام المحكمة العليا الاتحادية بعدم دستورية القوانين الصادرة من الولايات، ودستور كوبا سنة 1934م ودستور أسبانيا 1931م والدستوري الليبي الصادر عام 1953م ودستور السودان الصادر عام 1973م، أما الأنظمة الدستورية الأخرى فقد حرمت الأفراد من اللجوء إلى المحكمة الدستورية العليا، وقصرت هذا الحق على بعض الهيئات.
ولقد كانت هذه الأنظمة المختلفة مائلة عند وضع نص المادة 29 من قانون المحكمة الدستورية العليا الذي رأى أن يستن طريقًا وسطًا فلم يكتف بطريق الدفع الذي يبدي أمام مختلف المحاكم، كما كان الحال أمام المحكمة العليا، وإنما أضاف إليه طريقين آخرين أولهما حق أية محكمة أو أية جهة ذات اختصاص قضائي أن توقف الدعوى وتحيل الأوراق بغير رسوم إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل في المسألة الدستورية، والثاني هو حق المحكمة الدستورية العليا في جميع الحالات أن تقضي بعدم دستورية أي نص في قانون أو لائحة يعرض لها بمناسبة ممارسة اختصاصها؛ وذلك طبقًا للمادة 27، وقد رؤى الاكتفاء حاليًّا بهذه الوسائل الثلاث خشيةَ أن تؤدي إباحة حق الطعن المباشر إلى إساءة استعماله بما يكدس القضايا أمام المحكمة، ويعوقها عن التفرع لمهامها الجسام، علاوةً على أن الأصل هو مراعاة كافة القوانين واللوائح لأحكام الدستور إلى أن يثور خلاف جدي بشأن عدم دستورية أي نص منها عند طرحه على القضاء لتطبيقه فيعرض أمر دستورية للبت فيه.
وقد تواترت أحكام المحكمة الدستورية العليا على القضاء بعدم قبول الدعوى إذا ما رفعت من قبل الأفراد بطريقة مباشرة أي أنها استقرت على أنه لا حق للأفراد في اللجوء إلى المحكمة الدستورية العليا للطعن بعدم الدستورية، ومن ذلك قضاؤها في الدعوى رقم 8 لسنة 2 ق دستورية جلسة 5/12/1981؛ وذلك بقولها لما كان ما تقدَّم، وكانت ولاية هذه المحكمة في الدعاوى الدستورية لا تقوم إلا باتصالها بالدعوى اتصالاً قانونيًّا طبقًا للأوضاع المقررة في المادتين 27، 29 من قانون المحكمة الدستورية العليا، الصادر بالقانون رقم 48 لسنة 1979 اللتين رسمتا سبل التداعي في شأن الدعاوى الدستورية وليس من بينها سبيل الدعوى الأصلية أو الطلبات العارضة التي تقدم للمحكمة مباشرة طعنًا في دستورية التشريعات، وكان طلب المدعي الحكم بعدم دستورية المادة 8 من القانون 40 لسنة 1977 بنظام الأحزاب السياسية بعد تعديلها بالقانون 30 لسنة 1981م الذي استبدل بأعضاء مجلس الشعب أعضاء من الشخصيات العامة قد أثار في مذكرته المقدمة بجلسة 3 أكتوبر 1981 كطلب عارض، وبالتالي لم تتصل بالمحكمة اتصالاً قانونيًا فإنه يتعين الالتفات عنه.
وإذا كان البعض من الفقه قد أيَّد اتجاه قانون المحكمة الدستورية بحرمان الأفراد من اللجوء إليها مباشرةً لرفع دعواهم بعد الدستورية بحجة عدم إغراق المحكمة بسيل من الدعاوى التي قد لا يقصد منها سوى اللدد في الخصومة وإطالة أمد التقاضي.
فإننا نرى أنه من الأوفق أن يأخذ المشرع المصري بطريق بالدعوى الأصلية إلى جانب الطرق الثلاث الأخرى، وليس من شأن إساءة استخدام المواطنين لحق أصيل كحق التقاضي في شأن دستورية أو عدم دستورية القوانين وحرمانهم بصفة مطلقة من هذا الحق، بل إن من الواجب أن يتقرر هذا الحق للأفراد وضع بعض الضمانات لعدم إساءة استعمال هذا الحق كأن يشترط فيمن يرفع دعوى أصلية بعد الدستورية أن يكون في مركز قانوني يمسه النص المطعون عليه على غرار شرط المصلحة في دعوى الإلغاء، كما يمكن أن يفرض على الطاعن إيداع كفالة مالية يودعها قبل الطعن أو فرض غرامة مالية كبيرة على مَن يخسر الدعوى؛ مما يحد من عدد الدعاوى بحيث لا يرفع الدعوى إلا من كان جادًّا ومقتنعًا بعدم دستورية النص الذي يطعن عليه.
الفصل الثالث
الدعوى الدستورية المباشرة وحق التقاضي
عدم إتاحة الطعن المباشر لا يؤثر في حق التقاضي
إذا كنا من مؤيدي أن يتجه المشرع صوب الدعوى المباشرة التي تتيح للأفراد إقامة الدعوى الدستورية مباشرة أمام المحكمة الدستورية العليا دون أن يتوقف ذلك على تقدير جدية دفع من جانب محكمة الموضوع أو تصريح بالطعن، رغم ما نراه من محاذير حقيقية يمكن أن ينقلب معها أمر الرقابة إلى قضايا مكدسة أمام المحكمة الدستورية العليا لا يخلو معظمها من الكيد والرغبة في إطالة أمد الخصومات مما يسبب تعطيلاً للرقابة ذاتها وإلى ضياع الهدف الحقيقي منها.
إلا أن الأمر يتوقف على تدخل المشرع لمنح الأفراد هذا الحق مع صعوبة هذا الأمر في الوقت الحالي؛ فالأمر الواقع الآن أن قانون المحكمة الدستورية العليا لا يجيز الطعن المباشر، ولا تستطيع المحكمة مهما أوتيت من قوة أو من شجاعة أن تقفز فوق النصوص المنظمة لاختصاصها.
والسؤال الذي يطرح نفسه هل في عدم إتاحة الدعوى المباشرة أو الطعن المباشر ما ينتقص من الحق في التقاضي؟ وما العلاج لحين حدوث التعديل التشريعي أو عدم حدوثه؟
بدايةً.. لا نرى أن عدم تخويل الأفراد حق الطعن المباشر بمعنى إقامة الدعوى مباشرةً أمام المحكمة الدستورية العليا ودون المرور على محكمة الموضوع يؤدي بذاته إلى الانتقاص من حق التقاضي، إذا ما مُورست رقابة الدستورية بالأساليب الثلاثة السابق ذكرها بكفاءة وفاعلية وبنظرة شاملة وموضوعية بحيث يقوم كل طرفٍ من أطراف منظومة الدعوى الدستورية بدوره على أكمل وجه.
فالأفراد، والمحاكم بأنواعها (محكمة الموضوع)، والمحكمة الدستورية العليا ذاتها، كل عليه دور مهم يتعين أن يقوم به بفاعلية.
أولاً: بالنسبة للأفراد:
يجب أن يقوم كل فردٍ بدوره تجاه وطنه وتجاه النظام الدستوري بأن يتفهم جيدًا حقوقه وواجباته ويحرص كل الحرص على التمسك بها، وأن يتمتع بها على أوسع نطاق، وأن يكون لكل فرد دور فاعل ومؤثر، ويكون له من الثقافة الدستورية ما يؤهله إلى تفهم دور المحكمة الدستورية العليا والرسالة التي تؤديها، وأن يعينها على أدائها بأن يبتعد عن كل دعوى لا يقصد منها سوى الكيد أو إطالة أمد التقاضي وعدم اتخام المحكمة- والقضاء بوجه عام- بمثل هذه الدعاوى بما يطيل أمد التقاضي ويجعله جهدًا عبثًا بما يؤدي بدوره إلى إهدار الحماية التي يقررها المشرع للحقوق.
ثانيًا: بالنسبة لمحكمة الموضوع:
لمحكمة الموضوع- من وجهة نظرنا- دور كبير في تفعيل الرقابة والتوسع في مباشرتها وتعويض المتقاضين عن عدم إتاحة الطعن المباشر، ويتمثل هذا الدور في موقفها من تقدير جدية الدفع، وفي موقفها من النصوص التي تشكك في دستوريتها، وتمارس بصددها رخصة الإحالة إلى المحكمة الدستورية العليا، ونتناول تباعًا كيفية تقدير جدية الدفع والخطوات التي يتعين على محكمة الموضوع اتباعها حتى يكون تقديرها للجدية سليمًا ومجديًا، ولا يؤدي إلى إطالة أمد التقاضي، ونبين كذلك ضوابط الإحالة من جانب محكمة الموضوع؛ وذلك من منظور علمي:
أولاً: دور محكمة الموضوع في تقدير جدية الدفع:
من الناحية العملية كيف يقدر القاضي جدية الدفع؟ وما الخطوات التي يتعين على قاضي الموضوع اتباعها حتى يأتي تقديره للجدية صائبًا؟
بديةً نقرر أن تقدير قاضي الموضوع لجدية الدفوع المبدأة أمامه بعدم الدستورية ليست بالمهمة السهلة أو البسيطة، ولها من الأهمية الكبرى ما ينبغي معها أن تأخذ حظًا وفيرًا من العناية بحيث يكون تقدير محكمة الموضوع للجدية بمثابة المصفاة، وبحيث لا يصل إلى المحكمة الدستورية العليا إلا النصوص التي يكون الشك في دستوريتها واضحًا.
ومن ثم يلزم أن يتبع قاضي الموضوع عدة خطوات أو يجيب على عدة تساؤلات أهمها:
1- أن يستوثق أن النص المدفوع بعدم دستوريته لازمًا للفصل في الدعوى الموضوعية: على قاضي الموضوع أن يتيقن من أن النص المثار أمر دستوريته لازمًا للفصل في الدعوى، فإن كان غير لازم للفصل في الدعوى المطروحة أمامه فإن القاضي يلتفت عنه لانعدام مصلحة مبدي الدفع في إثارة أمر دستوريته مسترشدًا في ذلك بأحكام المحكمة الدستورية العليا العديدة الصادرة في شأن المصلحة وكيفية تقديرها.
2- وأن يبحث القاضي بعد ذلك عن مدى إمكانية الفصل في النزاع دون التعرض للدستورية فإن وجد أن ذلك ممكنًا تعين عليه أن يطرح أمر الدستورية جانبًا، ويقوم بالفصل في النزاع وفقًا للحل الآخر الذي ارتآه، وكأن يكون هناك دفع بالانقضاء للتقادم أو لغيره من الأسباب، ويكون معه أيضًا دفع بعدم الدستورية فإذا كان الدفع بالانقضاء مقبولاً وتنتهي به الخصومة الموضوعية فإن الدفع بعدم الدستورية يغدو غير منتج، وهذا الأمر وإن كان يندرج في اشتراط أن يكون النص لازم للفصل في الدعوى، إلا أننا آثرنا أن نورده بخطوة مستقلة، يجب أن يفكر فيها القاضي عند تقدير الجدية.
3- وأن يبحث عما إذا كانت المحكمة الدستورية العليا قد صدر عنها قضاء موضوعي في شأن دستوريته من عدمه:
إذا تحقق القاضي من أن النص المطعون بعدم دستوريته لازم للفصل في الدعوى الموضوعية فعليه أن ينتقل إلى الخطوة التالية، وهي لا تقل أهمية عن الأولى، وهي أن يبحث ويتحقق قبل تقديره للجدية من عدم صدور حكم بشأنه من المحكمة الدستورية العليا سواء كان قد صدر بعدم دستورية هذا النص، أو صدر بدستوريته ورفض الدعوى لأن الحكم الصادر من المحكمة الدستورية العليا في الدعاوى الدستورية ملزم لجميع سلطات الدولة وللكافة بصرف النظر عن خصوم الدعوى الدستورية، فالحكم ذو حجية مطلقة ويستفيد منه كل ذي مصلحة، ولا يجوز أيضًا معاودة الطعن على ذات النص- ووفقًا لذات النطاق- مرتين لأن في ذلك إنكار وإهدار للحجية المطلقة، ومن ثم فإذا كان الحكم الدستوري ملزمًا وبصورة مطلقة للخصوم فلا يكون لأي شخص مصلحة في أن يطعن عليه من جديد بعدم الدستورية.
الحق في التقاضي
تمهيد وتقسيم:
لا يكفي مجرد النص على الحقوق والحريات العامة في الدساتير حتى يمكن القول بوجودها حقيقةً، وأنها مكفولة للأفراد، وأن الدولة المقررة لها دولة تخضع لسيادة القانون وتضمن للأفراد حقوقهم وحرياتهم، ونقف على قدم المساواة مع الدول الديمقراطية الحقيقية.
بل لا بد- وحتى لا تظل النصوص المقررة للحقوق والحريات حبرًا على ورق- أن تكفل الدولة ضمانات حقيقية لممارسة هذه الحقوق والحريات، ومن الأفضل للفرد أن يتقرر له بعض الحقوق والحريات مع توفير الضمان لمباشرتها والتمتع بها خيرًا من أن تتقرر له جميع الحقوق والحريات مع إهمال هذا الضمان.
والضمانات الحقيقية للحقوق والحريات كثيرة ومتعددة، بعضها ضمانات واقعية نتصرف إلى تغيير الواقع الفعلي إلى الأفضل بما يؤدي إلى أن يستطيع الأفراد التمتع بحقوقهم وحرياتهم، ومنها تحسين وزيادة الإنتاج، وتوفير حد أدنى من اليسر، وحد أدنى من أوقات الفراغ، وقدر وافر من الثقافة.. إلخ.
وبعضها الآخر، منها ضمانات قانونية تتمثل في الفصل بين السلطات والرقابة المتبادلة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وفوق هذا وذاك يأتي استقلال السلطة القضائية.
ويأتي الحق في التقاضي في مقدمة هذه الحقوق قاطبة؛ إذْ عن طريقه تُحمى كافة الحقوق والحريات.
وانطلاقًا من هذه المقدمة نتناول الحق في التقاضي وطرق تحريك الدعوى الدستورية خلال فصول ثلاثة:
الفصل الأول: الحق في التقاضي (إطلالة عامة من خلال أحكام المحكمة الدستورية العليا).
الفصل الثاني: طرق تحريك الدعوى الدستورية.
الفصل الثالث: الدعوى الدستورية المباشرة وحق التقاضي (رأينا في تأثير عدم إتاحة الطعن المباشر على الحق في التقاضي).
الفصل الأول: الحق في التقاضي.. إطلالة عامة
لا جدال في أن حق الأفراد في التقاضي حق أصيل، وعماد الحريات جميعًا، إذ بدونه يستحيل عليهم أن يأمنوا على تلك الحريات أو يردوا الاعتداء عليهم، ونظام الحكم لا يمكن أن يعتبر ديمقراطيًّا إلا إذا كفل للأفراد حق الالتجاء إلى القضاء، وحاجة الأفراد إلى هذا الحق هي حاجة مستمرة ومتزايدة، خاصةً بعد ازدياد دور الدولة وازدياد تدخلها.
وتدخل الدولة في شئون الأفراد- وأن استهدف صالحهم- قد يكون مصحوبًا بإجراءات استثنائية أو مساس بحقوق أساسية أو مغالاة في التكاليف أو انحراف بالسلطة أو شطط في التقدير أو إضعاف للضمانات المقررة، ومن ثم ينبغي أن يبقى باب القضاء مفتوحًا أمام الأفراد ليعرضوا عليه أمرهم ويطلبوا إليه إنصافهم من ظلم يعتقدون بوقوعه عليهم.
ولا جدال في أن كفالة حق الأفراد في التقاضي تبعث في نفوسهم الرضا والإحساس المطمئن والإيمان بالعدل، وأن حرمانهم من هذا الحق يبعث في نفوسهم الاستياء والإحساس بالقلق والشعور بالظلم.
فكفالة حق التقاضي أمر لا غنى عنه، وضرورة يلزم توفيرها جنبًا إلى جنب مع تزايد نشاط الدولة المتدخل في شئون الأفراد، وكفالة هذا الحق في دولة ما دليل على استجابة نظام الحكم فيها لرغبات المحكومين ولمقومات حياة دستورية وشرعية.
وإذا كان حق التقاضي بهذه الأهمية الكبرى فإن تناوله والإحاطة به من خلال هذه الورقة- المعدة سريعًا- لن يوفيه حقه، ومن ثَمَّ فإننا نقتصر على عرض لبعض المبادئ المؤجزة لأحكام المحكمة الدستورية العليا حول هذا الحق دون التعرض لأية تفصيلات فقهية لا يتسع لها المقام؛ وذلك على النحو الآتي:
مبدأ المساواة أساس حق التقاضي: لا يجوز للمشرع أن يقيم تمييزًا بين المواطنين على صعيد الفصل بطريقة منصفة في حقوقهم والتزاماتهم.
إن الدستور بما نص عليه في المادة 68 منه، من ضمان حق كل مواطن في اللجوء إلى قاضيه الطبيعي لرد ما قد يقع من عدوان على الحقوق التي يدعيها، قد دلَّ على أمرين: أولهما: أن لكل مواطن أن يسعى بدعواه إلى قاضٍ يكون بالنظر إلى طبيعة المنازعة، وعلى ضوء مختلف العناصر التي لابستها، مهيأ دون غيره للفصل فيها.
ثانيهما: أن الناس جميعًا لا يتمايزون فيما بينهم في مجال حقهم في النفاذ إلى قاضيهم الطبيعي، ولا في نطاق القواعد الإجرائية والموضوعية التي تحكم الخصومة القضائية عينها، ولا في فعالية ضمانة الدفاع التي يكفلها الدستور والمشرع للحقوق التي يدعونها، ولا في اقتضائها وفق مقاييس موحدة عند توافر شروط طلبها، ولا في طرق الطعن التي تنظمها، بل يجب أن يكون للحقوق عينها، قواعد موحدة سواء في مجال التداعي بشأنها، أو الدفاع عنها، أو استئدائها، أو الطعن في الأحكام التي تتعلق بها، ولا يجوز بالتالي أن يقيم المشرع فيما بين المواطنين، تمييزًا غير مبرر في شأن إعمال هذه القواعد، بما يعطلها لفريقٍ من بينهم أو يقيدها، وبوجه خاص على صعيد الفصل بطريقة منصفة في حقوقهم المدنية والتزاماتهم، ويؤيد ذلك أن طرق الطعن في الأحكام لا تعتبر مجرد وسائل إجرائية ينشئها المشرع ليوفر من خلالها سبل تقويم اعوجاجها، بل هي في واقعها أوثق اتصالاً بالحقوق التي تتناولها، سواء في مجال إثباتها أو نفيها أو توصيفها، ليكون مصيرها عائدًا أساسًا إلى انفتاح هذه الطرق أو انغلاقها، وكذلك إلى التمييز بين المواطنين المتحدة مراكزهم القانونية indentically situ- ated في مجال النفاذ إلى فرصها.
حكم المحكمة الدستورية العليا بجلسة 5 أغسطس سنة 1995 في القضية رقم 9 لسنة 16 قضائية دستورية.
الحق في التقاضي يدور حول محاور ثلاثة نتناولها تباعًا:
المحور الأول: وجوب تمكين كل متقاضٍ من النفاذ إلى القضاء نفاذًا ميسرًا:
ويكون النفاذ ميسرًا بإتاحة الطعن على جميع الأعمال والقرارات ولا يحصن منها أي عمل أو قرار من رقابة القضاء (الحكم في القضية رقم 18 لسنة 5 ق. دستورية جلسة 6/6/1987).
ومن مقتضاه أيضًا ألا يعزل الناس جميعهم أو بعضهم من النفاذ إليه، أو إهدار التشريع لولاية السلطة القضائية كليًّا أو جزئيًّا أو عزلها عن نظر منازعات معينة مما تختص به (الحكم في الدعوى رقم 15 لسنة 17 ق. دستورية جلسة 2/12/1995).
ومن مقتضاه أيضًا ألا يمنع أي فرد من قيد الدعوى القضائية أمام أي محكمة.
النفاذ الميسر يجب أن يُتاح للوطني والأجنبي على السواء، فلا يجوز للدولة أن تجحد على غير مواطنيها حقهم في اللجوء على محاكمها. (الحكم في الدعوى رقم 98 لسنة 4 ق. دستورية جلسة 5/3/1994).
النفاذ الميسر إلى القضاء لا يجوز أن يكون محملاً بأعباء مالية يكون من شأنها أن تعطل الحق في التقاضي ذاته (الحكم في الدعوى رقم 129 لسنة 18 ق. دستورية جلسة 3/1/1998).
ويجب ألا يكون مقترنًا بقيود تُرهقه أو تعسر الحصول على الترضية القضائية أو تحول دونها أو أن يكون مقترنًا بأية عوائق منافية لطبيعته (الحكم في الدعوى رقم 104 لسنة 20 ق. دستورية جلسة 3/7/1999).
وينبغي أن يكون هذا النفاذ منضبطًا وفق أسس موضوعية لا تمييز فيها (الحكم في الدعوى رقم 15 لسنة 17 ق. دستورية جلسة 2/12/1995).
ويجب ألا تكون مصروفات الدعوى عبئًا على مَن أقامها كلما كان محقًّا فيها. (الحكم في الدعوى رقم 106 لسنة 19 ق. دستورية جلسة 1/1/2000).
المحور الثاني: استقلال القضاء وحيدته: تأتي الركيزة الثانية أو الحلقة الوسطى من حلقات الحق في التقاضي في استقلال القضاء وحيدته.
وهذه الركيزة الثانية من الأهمية الكبرى بحيث لا نستطيع أن نغطي جوانبها في وقتٍ قصير، ونشير إليها مجرد إشارات سريعة من أحكام المحكمة الدستورية العليا حولها:
استقلال القضاء وحيدته يعتبران قيدًا على السلطة التقديرية للمشرع في مجال تنظيم الحقوق (الحكم في الدعوى رقم 133 لسنة 19 ق دستورية جلسة 3/4/1999).
استقلال القضاء وحيدته يكفل للمتقاضي حقًّا متكاملاً ومتكافئًا مع غيره في محاكمة منصفة (الحكم في الدعوى رقم 15 لسنة 14 ق دستورية جلسة 15/5/1993).
استقلال السلطة القضائية عاصم من تدخل أي جهة في شئون العدالة أو التأثير في مجرياتها ومتطلباتها (الحكم في الدعوى رقم 31 لسنة 10 ق دستورية جلسة 7/12/1991).
الحيدة والاستقلال لازمان لضمان ألا يخضع القاضي في عمله لغير سلطان القانون وبنظرة متجردة (الحكم في الدعوى رقم 83 لسنة 16 ق دستورية جلسة 16/11/1996).
الاستقلال والحيدة عنصران متكاملان لا غناءَ بأحدهم عن الآخر ولا تقوم العدالة بدونهما معًا (الحكم في الدعوى رقم 83 لسنة 20 ق دستورية جلسة 5/12/1998).
من مقتضيات الاستقلال ألا يحرم القاضي من سلطة وقف تنفيذ العقوبة إذ أن ذلك يعتبر تدخلاً مباشرًا في شئون الوظيفة القضائية بما ينال من جوهرها ويخل بمقوماتها (الحكم في الدعوى رقم 42 لسنة 19 ق دستورية جلسة 7/2/1998).
التزام الدولة بضمان حق التقاضي هو فرع من واجبها نحو الخضوع للقانون (الحكم في الدعوى رقم 193 لسنة 19 ق دستورية جلسة 6/5/2000).
المحور الثالث: الوصول إلى الترضية القضائية النهائية:
لا يكفي لكفالة حق التقاضي أن يكون النفاذ إلى القضاء ميسرًا لكل وطن أو أجنبي، وأن يكفل للقضاء الاستقلال والحيدة، وإنما لا بد من الوصول إلى الترضية القضائية النهائية التي تعني أن توفر الدولة للخصومة في نهاية مطافها حلاًّ منصفًا بمثل التسوية التي يعمد من يطلبها إلى الحصول عليها بوصفها الترضية القضائية التي يسعى إليها لمواجهة الإخلال بالحقوق التي يدعيها.. هذه الترضية بافتراض مشروعيتها واتساقها مع أحكام الدستور تندمج في الحق في التقاضي باعتبارها الحلقة الأخيرة فيه.
وقد أكدت المحكمة الدستورية العليا على أهمية هذا المحور، ومن ذلك قضاؤها: أنه بغير اقتران الترضية القضائية بوسائل تنفيذها يكون حق التقاضي مفزعًا من مضمونه (الحكم في الدعوى رقم 2 لسنة 14 ق دستورية جلسة 3/4/1993).
الترضية القضائية التي لا تقترن بوسائل تنفيذها جبرًا تعطل دور السلطة القضائية في مجال تأمين الحقوق وتفقد قيمتها العملية (الحكم في الدعوى رقم 37 لسنة 18 ق دستورية جلسة 4/4/1998).
الامتناع عن تنفيذ الأحكام الجائرة لقوة الأمر المقضي من جانب الموظفين العموميين المكلفين بذلك يعتبر جريمة (الحكم في الدعوى رقم 129 لسنة 18 ق دستورية جلسة 3/1/1998).
سلطة المشرع في تنظيم حق التقاضي:
من الأمور شديدة الأهمية بيان حدود سلطة المشرع في تنظيم حق التقاضي، وقد أبرزت المحكمة الدستورية العليا حدود هذه السلطة في الكثير من أحكامها تذكر منها:
سلطة المشرع في تنظيم حق التقاضي، سلطة تقديرية لاختيار الوسيلة التي تتفق مع الأغراض التي يتوخاها (الحكم في الدعوى رقم 47 لسنة 17 ق دستورية جلسة 4/1/1997).
ليس ثمة قيد على سلطة المشرع في تنظيم حق التقاضي إلا إذا فرض الدستور في شأن ممارستها ضوابط محددة (الحكم في الدعوى رقم 193 لسنة 19 ق دستورية جلسة 6/5/2000).
يتعين على المشرع في مجال تنظيم حق التقاضي أن يفاضل بين صور هذا التنظيم ليختار منها ما يكون مناسبًا لخصائص المنازعات التي يتعلق بها ومتطلباتها (الحكم في الدعوى رقم 181 لسنة 19 ق دستورية جلسة 4/1/2000).
تنظيم المشرع لحق التقاضي غير مقيد بأشكال جامدة لا يريم عنها تفرع قوالبها في صورة صماء لا تبديل فيها، بل يجوز مغايرته وفقًا لكل حالة، وأن يقدر ما يناسبها (الحكم في الدعوى رقم 38 لسنة 16 ق دستورية جلسة 16/11/1996).
تعديل اختصاص الهيئات القضائية غير جائز إلا بقانون (الحكم في الدعوى رقم 2 لسنة 1 ق عليا جلسة 6/11/1971).
تعديل اختصاص الهيئات القضائية بقرار جمهوري يخالف الدستور (الحكم في الدعوى رقم 4 لسنة 1 ق عليا جلسة 3/7/1971).
عدم جواز أن يميز المشرع- في مجال الطعن- بين المحاكم المتساوية في مرتبتها وتشكيلها (الحكم في الدعوى رقم 39 لسنة 15 ق دستورية جلسة 4/2/1995).
إسقاط المشرع لضمانة الدفاع أو الحد منها يؤدي إلى إسقاط الضمانات التي كفلها الدستور لكل مواطن في مجال الالتجاء إلى قاضيه الطبيعي (الحكم في الدعوى رقم 15 لسنة 17 ق دستورية جلسة 2/12/1995).
الفصل الثاني: طرق تحريك الدعوى الدستورية
حددت المادتان 27، 29 من قانون المحكمة الدستورية العليا أسلوب المحكمة في الرقابة على الدستورية وطرق تحريك الدعوى أمامها فنصَّت المادة 27 على أنه يجوز للمحكمة في جميع الحالات أن تقضي بعدم دستورية أي نصٍّ في قانون أو لائحة يعرض لها بمناسبة ممارسة اختصاصاتها، ويتصل بالنزاع المطروح عليها؛ وذلك بعد اتباع الإجراءات المقررة لتحضير الدعاوى الدستورية، كما نصَّت المادة 29 على أن تتولى المحكمة الرقابة القضائية على دستورية القوانين واللوائح على الوجه التالي:
1- إذا تراءى لإحدى المحاكم أو الهيئات ذات الاختصاص القضائي أثناء نظر إحدى القضايا عدم دستورية نص في قانون أو لائحة لازم للفصل في النزاع أوقفت الدعوى، وأحالت الأوراق بغير رسوم إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل في المسألة الدستورية.
2- إذا دفع أحد الخصوم أثناء نظر دعوى أمام إحدى المحاكم أو الهيئات ذات الاختصاص القضائي بعدم دستورية نص في قانون أو لائحة ورأت المحكمة أو الهيئة أن الدفع جدوى أجلت نظر الدعوى، وحددت لمَن أثار الدفع ميعادًا لا يجاوز ثلاثة أشهر لرفع الدعوى بذلك أمام المحكمة الدستورية العليا، فإذا لم ترفع الدعوى في الميعاد اعتبر الدفع كأنَّ لم يكن والمستفاد من هذين النصين أن أسلوب الرقابة يتنوع إلى أنواع ثلاثة، أي أن هناك أساليب ثلاثة يمكن بأحدها أن تمارس المحكمة رقابتها على دستورية القوانين، وهذه الطرق هي:
1- الدفع بعدم الدستورية أمام محكمة الموضوع.
2- الإحالة من محكمة الموضوع.
3- حق التصدي المقرر للمحكمة الدستورية.
ولنتناول كل أسلوب من هذه الأساليب في مطلب مستقل:
المطلب الأول: الرقابة بطريقة الدفع من الأفراد
كان الدفع من جانب أحد الخصوم هو الأسلوب الوحيد الذي يمكن عن طريقه تحريك دعوى الدستورية في ظل المحكمة العليا، فلم يعرف قانونها الإحالة من جانب محكمة الموضوع من تلقاء نفسها في حالة الشك في دستورية قانون، كما لم يقر للمحكمة الحق في التصدي.
وبصدور قانون المحكمة تعدَّل هذا الوضع، لكن يبقى الدفع هو أكثر الطرق شيوعًا، ومؤداه أن تجد محكمة الموضوع- أثناء نظر إحدى الدعاوى- أنها مضطرة للتعرض لنقطة قانونية تتعلق بالدستور لكونها لازمة للفصل في الدعوى الموضوعية فيدفع أحد خصوم الدعوى بعدم دستورية نص في قانون أو لائحة، وعليها في هذه الحالة أن تبحث مدى جدية هذا الدفع، فإذا ما تحققت من جديته فعليها أن تؤجل الفصل في الدعوى المنظورة أمامها، وتحدد ميعادًا للخصوم لا يتجاوز ثلاثة أشهر لرفع دعوى الدستورية، فإذا لم ترفع الدعوى في الميعاد اعتبر الدفع كأن لم يكن، ويقصد بالجدية أن يتحقق القاضي من أنه لا يقصد منه الكيد أو إطالة أمد التقاضي، ويتحدد ذلك بالتأكيد من مسألتين أساسيتين: أولاً: أن يكون الفصل في مسألة الدستورية منتجًا أي أن يكون القانون أو اللائحة المطعون في دستوريتها متصلة بموضوع النزاع؛ أي أن يكون هذا القانون أو اللائحة محتمل التطبيق على النزاع، في الدعوى الأصلية على أي وجه من الوجوه، وأن الحكم بعدم الدستورية سيفيد منه صاحب الشأن في الدعوى المنظورة، فإذا اتضح للقاضي أن القانون أو اللائحة المطعون بعدم دستوريتها لا تتصل بالنزاع المعروض عليه قرر رفض الدفع بعدم الدستورية، واستمر في نظر الدعوى الموضوعية دون التفات لمسألة الدستورية، وهذا ما قضت به المحكمة الإدارية العليا بجلسة 16 مارس لسنة 1974؛ حيث ذهبت إلى أنه من حيث أن الشركة الطاعنة دفعت بعدم دستورية المادة 49 من نظام العاملين بالقطاع العام فيما تضمنته المادة المذكورة من حظر الطعن في بعض أحكام المحاكم التأديبية أمام المحكمة الإدارية العليا؛ وذلك استنادًا على أحكام قانون مجلس الدولة رقم 47 لسنة 1972، وعلى أساس أن نظام التقاضي يأبى قصر التقاضي على درجة واحدة في المنازعات التأديبية الخاصة بالعاملين في القطاع العام دون باقي تلك المنازعات الخاصة بغيرهم من العاملين، ومن حيث إنه أيًّا كان الرأي في جواز الطعن في الأحكام المشار إليها بالتطبيق لقانون مجلس الدولة رقم 47 لسنة 1972م فإن المنازعة الماثلة لا شأنَ لها بأحكام القانون المذكور، فيما يتعلق بحالات الطعن أمام المحكمة الإدارية العليا، ومن ثَمَّ يكون الدفع بعدم دستورية المادة 49 في المنازعة الماثلة غير جدي وتلتفت عنه المحكمة.
وأما الشرط الثاني فيجب أن يتحقق من أن مطابقة القانون أو اللائحة للدستور تحتمل اختلاف وجهات النظر أي أن يكون هناك شبهة في عدم دستورية القانون أو اللائحة والشك يفسر في جانب عدم الدستورية عند تقدير مدى جدية الدفع، وقرار القاضي بشأن الجدية ليس نهائيًّا بل من حق صاحب الشأن أن يطعن عليه بالطرق المقررة للطعن أي بالاستئناف والنقض إذا كنا في نطاق القضاء الإداري.
والدفع بعدم الدستورية هو دفع موضوعي يمكن إثارته في أي مرحلةٍ من مراحل الدعوى، وهو دفع قانوني يمكن إثارته أمام محكمة النقض، وهو دفع يتعلق بالنظام العام إذْ يمكن لمحكمة الموضوع أن تتعرض له من تلقاءِ نفسها، وأن تحيل أمر الدستورية إلى المحكمة الدستورية العليا، وهذا بصريح نص قانون المحكمة الدستورية العليا، ومتى دفع الخصم بعدم الدستورية ورأت المحكمة أن الدفع جدي فإنها تؤجل الدعوى وتضرب للخصم أجلاً لا يجاوز ثلاثة أشهر ليرفع الدعوى بعدم الدستورية، أمام المحكمة الدستورية، وهذا الميعاد من مواعيد السقوط إذ أنه عقب انتهائه فإن حق الخصم في الدفع يسقط وتستمر المحكمة في نظر موضوع الدعوى دون التفات للدفع.
ونرى أن الدعوى الموضوعية تستأنف سيرها بقوة القانون في حالة عدم رفع الدعوى الدستورية في الميعاد؛ لأنها لم تكن متوقفةً حتى يعجلها الخصم بل كانت مؤجلةً، ومتى انتهى الأجل فإنها تستمر في نظر الدعوى بقوة القانون مع مراعاة قواعد الشطب والحضور الواردة بقانون المرافعات، ولا شك أنه إذا رفعت الدعوى أمام المحكمة الدستورية العليا بعد الميعاد فإنها تقضي بعدم قبولها شكلاً ولا يمنعها ذلك من ممارسة حقها في التصدي، كما سنرى فيما بعد.
المطلب الثاني: الرقابة عن طريقة الإحالة من محكمة الموضوع
أعطى المشرع الحق لقاضي الموضوع في أن يلجأ إلى المحكمة الدستورية العليا، كلما رأى أن نصًّا ما في قانون أو لائحة لازمًا للفصل في الدعوى المنظورة أمامه يكون مشكوكًا في دستوريته؛ وذلك بصرف النظر عن مصالح الخصوم في الدعوى الموضوعية، إذْ قد لا ينتبه أي منهم إلى الطعن في دستورية هذا القانون أو اللائحة، وقد نصَّت على ذلك المادة 29 من قانون المحكمة الدستورية العليا بقولها إذا تراءى لإحدى المحاكم أو الهيئات ذات الاختصاص القضائي أثناء نظر إحدى الدعاوى عدم دستورية نص في قانون أو لائحة لازم للفصل في النزاع أوقفت الدعوى، وأحالت الأوراق بغير رسوم إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل في المسألة الدستورية.
ومقتضى ذلك أن من حق أي محكمة في السلم القضائي أن تحيل من تلقاء نفسها أي نص تراه غير دستوري إلى المحكمة الدستورية العليا، وهذا يعتبر من الروافد الجديدة التي أضافها قانون المحكمة الدستورية، وموسعًا من طرق اتصال المحكمة الدستورية بالدعوى الدستورية.
وهذه الإحالة مشروطة بشرط مهم هو أن يكون النص المحال لازمًا للفصل في الدعوى الموضوعية وتقدير ما إذا كان النص لازمًا للفصل في الدعوى من عدمه متروك لقاضي الموضوع، ولا شك أن هذا الطريق الجديد الذي أوجده المشرع قد دفع كثيرًا من الحرج عن قاضي الموضوع، إذْ بغير ذلك كان يمكن أن يوجد نص غير دستوري ولم ينتبه الخصوم إلى ذلك، ومع ذلك يجد القاضي نفسه مضطرًا لتطبيقه مع تيقنه من عدم دستوريته.
ويمكن أن يثار التساؤل عن مدى سلطة قاضي الموضوع في إحالة النص المشكوك في دستوريته إلى المحكمة إذا تخاذل من دفع بعدم الدستورية ولم يرفع الدعوى أمامها في الموعد المحدد له، وطلب الخصم تعجيل الدعوى بعد فوات هذا الموعد.
نرى أنه لا يوجد ما يمنع قاضي الموضوع في هذه المسألة من أن يحيل هذا النص ذاته ومن تلقاء نفسه إلى المحكمة الدستورية العليا إذا تراءى له عدم دستورية هذا النص، وأنه لازم للفصل في الدعوى، والقول بغير ذلك يجعل دعوى عدم الدستورية دعوى شخصية وليست عينية، كما أراد لها المشرع فلا يتصور أن يجد القاضي نفسه أمام نص صاحب الشأن لم يرفع الدعوى في الموعد المحدد.
ومن الجدير بالذكر أن اتصال المحكمة الدستورية العليا بالمسألة الدستورية من خلال الإحالة يتم بمجرد صدور قرار الإحالة، ولا تتقيد هذه الإحالة بميعاد بل تقوم مناسبتها كلما رجح الظن لدى محكمة الموضوع بأن النص المعروض عليها بذاتها هو نص غير دستوري.
المطلب الثالث: الرقابة بطريقة التصدي من المحكمة الدستورية العليا
أعطى القانون للمحكمة الحق في أن تتصدى لممارسة الرقابة على دستورية القوانين كلما رأت نصًّا غير دستوري، وكان ذا صلة بالنزاع المطروح عليها، فنصت المادة 27 من قانون المحكمة الدستورية العليا على أنه يجوز للمحكمة في جميع الحالات أن تقضي بعدم دستورية أي نص في قانون أو لائحة يعرض لها بمناسبة ممارسة اختصاصها، ويتصل بالنزاع المطروح عليها؛ وذلك بعد اتباع الإجراءات المقررة لتحضير الدعاوى الدستورية.
والتصدي كأحد أساليب الرقابة هو أمر مستحدث في قانون المحكمة الدستورية العليا، ولم تكن هذه الرخصة مقررة للمحكمة العليا عند إنشائها ولم تكن بطبيعة الحال- مقررة للقضاء قبل إنشاء القضاء الدستوري.
والمستفاد من النص السابق، أنه قد يتضح للمحكمة الدستورية أثناء ممارسة اختصاصاتها سواء منها المتعلقة بالرقابة على دستورية القوانين أو التفسير أو تنازع الاختصاص وتنفيذ الأحكام المتناقضة، أن نصًّا في قانون أو لائحة يتصل بالنزاع المعروض عليها مخالف للدستور، ففي هذه الحالة تتصدى المحكمة لهذا النص وتقوم بفحص دستوريته والقضاء إما بدستوريته أو بعدم دستوريته وفقًا للضوابط المقررة بالمادة 27 سالفة البيان، وتتمثل هذه الضوابط في الآتي:
1- أنه لكي تمارس المحكمة الدستورية رخصة التصدي فلا بد أن يكون ذلك بمناسبة ممارسة المحكمة لاختصاصٍ من اختصاصاتها وهو حق تباشره المحكمة من تلقاء نفسها دون حاجةٍ إلى دفع يقدم إليها، وإذا كان ذلك كذلك فإن من حق الأفراد أن ينبهوا المحكمة الدستورية إلى أن نظر الدعوى المطروحة على المحكمة، وليس كل الأفراد يحق لهم ذلك، وإنما الحق مقصورٌ على أصحاب الصفة في النزاع المطروح على المحكمة، ويمكن أن يكون في صورة طلب يقدم للمحكمة كما يمكن أن يضمنوه المذكرات التي تقدم للمحكمة، ومن المتصور أن يتم ذلك في حالة ما إذا كانت المحكمة تمارس اختصاصاتها بالفصل في تنازع الاختصاص أو تنفيذ الأحكام أو اختصاصها في الرقابة على دستورية القوانين، ولكنه أمر غير متصور في مزاولة اختصاصها بالتفسير، إذْ لا علاقةَ للأفراد بهذا الاختصاص، وإن كان هذا لا ينفي تصدي المحكمة من تلقاء نفسها لفحص دستورية النص المعروض أمر تفسيره.
2- إن التصدي لا يعني أن المحكمة تباشر فحص الدستورية فور اكتشافها للمخالفة الدستورية، بل يجب لممارسة رخصة التصدي أن تتخذ الإجراءات المعتادة لتحضير الدعاوى، أي أن تحيل المحكمة النص إلى هيئة المفوضين لتحضير الدعوى وإعداد تقرير برأيها ثم تعرض الأوراق على رئيس المحكمة لتحديد جلسة ليتم الفصل في الدعوى الدستورية.
3- إن المحكمة وهي في سبيلها إلى التصدي تكتفي بمجرد قيام صلة بين النص المطروح عليها والنص الذي رأت التصدي لفحص دستوريته، فلم يشترط القانون أن يكون النص محل التصدي لازمًا للفصل في الدعوى بل اكتفى بمجرد قيام صلة أيًا كانت، وفي هذا توسعة لمجال مباشرة الرقابة عن طريق التصدي، واستلزمت المحكمة أن يكون النص متصلاً بنزاع معروض عليها بالفعل، واتصلت المحكمة به اتصالاً مطابقًا للأوضاع القانونية المقررة فإذا لم تكن المحكمة قد اتصلت بالنزاع المطروح أمامها اتصالاً قانونيًّا فلا مجالَ لممارسة رخصة التصدي.
الدكتور المنصور
06-18-2010, 06:06 PM
وقد أعملت المحكمة هذا التخريج القانوني في العديد من الأحكام التي طُلب منها ممارسة رخصة التصدي، وانتهت إلى رفض هذا الطلب؛ ومن ذلك على سبيل المثال حكمها بجلسة 11/6/1983م في الدعوى رقم 31 لسنة 1 ق دستورية بقولها، وحيث إنه لا محل لما يثيره المدعي من أن لهذه المحكمة رخصة التصدي لعدم دستورية النص المطعون فيه طبقًا لما تقضي به المادة 27 من قانونها، والتي تنص على أنه يجوز للمحكمة في جميع الحالات أن تقضي بعدم دستورية؛ أي نص في قانون أو لائحة لها بمناسبة ممارسة اختصاصها، ويتصل بالنزاع المطروح عليها؛ وذلك بعد اتباع الإجراءات المقررة لتحضير الدعاوى الدستورية؛ ذلك أن إعمال هذه الرخصة المقررة للمحكمة طبقًا للمادة المذكورة منوط بأن يكون النص الذي يرد عليه التصدي متصلاً بنزاع مطروح عليها، فإذا انتفى قيام النزاع أمامها كما هو الحال في الدعاوى الراهنة التي انتهت المحكمة من قِبل إلى انتهاء الخصومة فيها، ومن ثَمَّ فلا يكون لرخصة التصدي سند يسوغ إعمالها.
وكذلك حكمها بجلسة 21/12/1985 في الدعوى رقم 18 لسنة 6 ق بقولها حيث إنه لا محل لما يطلبه المدعيان من إعمال المحكمة لرخصة التصدي لعدم دستورية القرار بقانون المطعون عليه طبقًا لما تقضي به المادة 27 من قانونها، والتي تنص على أنه لا يجوز للمحكمة في جميع الحالات أن تقضي بعدم دستورية أي نص في قانون أو لائحة يعرض لها بمناسبة ممارسة اختصاصها، ويتصل بالنزاع المطروح عليها؛ وذلك بعد اتباع الإجراءات المقررة لتحضير الدعاوى الدستورية. ذلك أن إعمال هذه الرخصة المقررة للمحكمة طبقًا للمادة المذكورة منوط بأن يكون النص الذي يرد عليها التصدي متصلاً بالنزاع المطروح عليها، فإذا انتفى قيام أمامها كما هو الحال في الدعوى الراهنة التي انتهت المحكمة من قبل إلى عدم قبولها فلا يكون لرخصة التصدي سند يسوغ إعمالها.
والواقع أن هذا النهج الذي انتهجته المحكمة نهج غير سديد وفيه تضييق لممارسة الرقابة عن طريق رخصة التصدي، وهو ما لم يرده المشرع؛ ذلك أن المشرع قد استخدم لإعطاء الحق في التصدي للمحكمة الدستورية عبارة بمناسبة ممارسة اختصاصها؛ مما يعتبر رغبة من المشرع في التوسع في حالات التصدي إذا أراد التضييق من حالات التصدي لكان يجب عليه استعمال اصطلاح أثناء بدلاً من اصطلاح بمناسبة إذ أن بحث مدى قبول الدعوى أو البحث في مدى توافر أي شرط من شروط الدعوى يعتبر بمناسبة لاستخدام المحكمة الدستورية العليا حقها في التصدي.
4- إن قانون المحكمة الدستورية إذا أجاز لها من تلقاء ذاتها اللجوء إلى حق التصدي إنما أراد أن يقرر المزيد من الضمانات في مجال الشرعية الدستورية، فلقد كان من غير السائغ ولا المقبول أن يخول المشرع المحاكم حق الإحالة ثم يحرم المحكمة الدستورية ذاتها من استعمال حق التصدي، وهي المحكمة صاحبة الولاية العامة والمقصورة عليها هذه الولاية فيما يتصل بدستورية القوانين واللوائح، وبذلك يكون حق التصدي مكملاً للدفع الفرعي ولحق الإحالة باعتبار أن هذه الصور حلقات ثلاث تتعاون جميعًا في توكيد الشرعية الدستورية، وقد أحكم المشرع بهذه الحلقات جميعًا الرقابة على دستورية القوانين.
ويجب أن نشير إلى أن الرقابة على الدستورية التي تباشرها المحكمة الدستورية من خلال استعمالها لحق التصدي لا تتقيد شأنها في ذلك شأن الإحالة التي تتم بها المسألة الدستورية من محكمة الموضوع، هذا وقد أعملت المحكمة حقها في التصدي في البعض من القضايا نذكر منها حكمها الصادر بجلسة 16 مايور 1982م في الدعوى رقم 10 لسنة 1 ق دستورية؛ حيث طعن أحد أعضاء مجلس الدولة بعدم دستورية الفقرة الأولى من المادة 104 والفقرة الثانية من المادة 119 من قانون مجلس الدولة فقررت بأنه لما كانت المادة 104 من قانون مجلس الدولة الصادر بالقرار بقانون رقم 47 لسنة 1972م تنص على أن تختص إحدى دوائر المحكمة الإدارية العليا دون غيرها بالفصل في الطلبات التي يقدمها رجال مجلس الدولة بإلغاء القرارات الإدارية النهائية المتعلقة بأي شأن من شئونهم؛ وذلك عدا النقل والندب متى كان مبنى الطلب عيبًا في الشكل أو مخالفة القوانين واللوائح أو أخطاء في تطبيقها أو تأويلها أو إساءة استعمال السلطة فإنها تماثل في حكمها الفقرة الأول من المادة 83 من قانون السلطة القضائية الصادر بالقرار بقانون 46 لسنة 1972 والمعدل بالقانون 49 لسنة 1973، فيما نصَّت عليه من أن تختص دوائر المواد المدنية والتجارية لمحكمة النقض دون غيرها بالفصل في الطلبات التي يقدمها رجال القضاء والنيابة العامة بإلغاء القرارات الإدارية النهائية المتعلقة بأي شأن من شئونهم؛ وذلك عدا النقل والندب، متى كان في الطلب عيب في الشكل أو مخالفة القوانين واللوائح أو أخطاء في تطبيقها أو تأويلها أو إساءة استعمال السلطة؛ الأمر الذي دعا المحكمة إلى إعمال رخصة التصدي المتاحة لها طبقًا للمادة 27 من قانونها فيما يتعلق بهذه المادة الأخيرة لاتصالها بالنزاع المطروح عليها.
حق الأفراد في اللجوء إلى المحكمة الدستورية العليا
كان المشروع الأصلي لقانون المحكمة الدستورية العليا، وهو الذي أقره مجلس الدولة (في 20 ديسمبر 1973) ينص على أنه يجوز لكل ذي مصلحة شخصية مباشرة أن يطعن لدى المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية أي نص في قانون أو لائحة.
أي أنه كان يحق للأفراد أن يلجئوا إلى المحكمة الدستورية العليا مباشرة طاعنين في دستورية التشريعات واللوائح، إلا أن المشروعات التي تلت هذا المشروع جاءت خاليةً من تقرير هذا الحق للأفراد بما فيهم القانون الحالي.
وفي الواقع أن القانون الدستوري المقارن قد حوى دولاً تبيح للأفراد حق اللجوء المباشر إلى المحكمة الدستورية العليا، ودولاً أخرى لا تبيح للأفراد ذلك، ومثال الدول الأولى سويسرا في دستورها الصادر 29 مايو 1874 فيجوز لكل ذي مصلحة حالية أو مستقبلية أن يطعن أمام المحكمة العليا الاتحادية بعدم دستورية القوانين الصادرة من الولايات، ودستور كوبا سنة 1934م ودستور أسبانيا 1931م والدستوري الليبي الصادر عام 1953م ودستور السودان الصادر عام 1973م، أما الأنظمة الدستورية الأخرى فقد حرمت الأفراد من اللجوء إلى المحكمة الدستورية العليا، وقصرت هذا الحق على بعض الهيئات.
ولقد كانت هذه الأنظمة المختلفة مائلة عند وضع نص المادة 29 من قانون المحكمة الدستورية العليا الذي رأى أن يستن طريقًا وسطًا فلم يكتف بطريق الدفع الذي يبدي أمام مختلف المحاكم، كما كان الحال أمام المحكمة العليا، وإنما أضاف إليه طريقين آخرين أولهما حق أية محكمة أو أية جهة ذات اختصاص قضائي أن توقف الدعوى وتحيل الأوراق بغير رسوم إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل في المسألة الدستورية، والثاني هو حق المحكمة الدستورية العليا في جميع الحالات أن تقضي بعدم دستورية أي نص في قانون أو لائحة يعرض لها بمناسبة ممارسة اختصاصها؛ وذلك طبقًا للمادة 27، وقد رؤى الاكتفاء حاليًّا بهذه الوسائل الثلاث خشيةَ أن تؤدي إباحة حق الطعن المباشر إلى إساءة استعماله بما يكدس القضايا أمام المحكمة، ويعوقها عن التفرع لمهامها الجسام، علاوةً على أن الأصل هو مراعاة كافة القوانين واللوائح لأحكام الدستور إلى أن يثور خلاف جدي بشأن عدم دستورية أي نص منها عند طرحه على القضاء لتطبيقه فيعرض أمر دستورية للبت فيه.
وقد تواترت أحكام المحكمة الدستورية العليا على القضاء بعدم قبول الدعوى إذا ما رفعت من قبل الأفراد بطريقة مباشرة أي أنها استقرت على أنه لا حق للأفراد في اللجوء إلى المحكمة الدستورية العليا للطعن بعدم الدستورية، ومن ذلك قضاؤها في الدعوى رقم 8 لسنة 2 ق دستورية جلسة 5/12/1981؛ وذلك بقولها لما كان ما تقدَّم، وكانت ولاية هذه المحكمة في الدعاوى الدستورية لا تقوم إلا باتصالها بالدعوى اتصالاً قانونيًّا طبقًا للأوضاع المقررة في المادتين 27، 29 من قانون المحكمة الدستورية العليا، الصادر بالقانون رقم 48 لسنة 1979 اللتين رسمتا سبل التداعي في شأن الدعاوى الدستورية وليس من بينها سبيل الدعوى الأصلية أو الطلبات العارضة التي تقدم للمحكمة مباشرة طعنًا في دستورية التشريعات، وكان طلب المدعي الحكم بعدم دستورية المادة 8 من القانون 40 لسنة 1977 بنظام الأحزاب السياسية بعد تعديلها بالقانون 30 لسنة 1981م الذي استبدل بأعضاء مجلس الشعب أعضاء من الشخصيات العامة قد أثار في مذكرته المقدمة بجلسة 3 أكتوبر 1981 كطلب عارض، وبالتالي لم تتصل بالمحكمة اتصالاً قانونيًا فإنه يتعين الالتفات عنه.
وإذا كان البعض من الفقه قد أيَّد اتجاه قانون المحكمة الدستورية بحرمان الأفراد من اللجوء إليها مباشرةً لرفع دعواهم بعد الدستورية بحجة عدم إغراق المحكمة بسيل من الدعاوى التي قد لا يقصد منها سوى اللدد في الخصومة وإطالة أمد التقاضي.
فإننا نرى أنه من الأوفق أن يأخذ المشرع المصري بطريق بالدعوى الأصلية إلى جانب الطرق الثلاث الأخرى، وليس من شأن إساءة استخدام المواطنين لحق أصيل كحق التقاضي في شأن دستورية أو عدم دستورية القوانين وحرمانهم بصفة مطلقة من هذا الحق، بل إن من الواجب أن يتقرر هذا الحق للأفراد وضع بعض الضمانات لعدم إساءة استعمال هذا الحق كأن يشترط فيمن يرفع دعوى أصلية بعد الدستورية أن يكون في مركز قانوني يمسه النص المطعون عليه على غرار شرط المصلحة في دعوى الإلغاء، كما يمكن أن يفرض على الطاعن إيداع كفالة مالية يودعها قبل الطعن أو فرض غرامة مالية كبيرة على مَن يخسر الدعوى؛ مما يحد من عدد الدعاوى بحيث لا يرفع الدعوى إلا من كان جادًّا ومقتنعًا بعدم دستورية النص الذي يطعن عليه.
الفصل الثالث
الدعوى الدستورية المباشرة وحق التقاضي
عدم إتاحة الطعن المباشر لا يؤثر في حق التقاضي
إذا كنا من مؤيدي أن يتجه المشرع صوب الدعوى المباشرة التي تتيح للأفراد إقامة الدعوى الدستورية مباشرة أمام المحكمة الدستورية العليا دون أن يتوقف ذلك على تقدير جدية دفع من جانب محكمة الموضوع أو تصريح بالطعن، رغم ما نراه من محاذير حقيقية يمكن أن ينقلب معها أمر الرقابة إلى قضايا مكدسة أمام المحكمة الدستورية العليا لا يخلو معظمها من الكيد والرغبة في إطالة أمد الخصومات مما يسبب تعطيلاً للرقابة ذاتها وإلى ضياع الهدف الحقيقي منها.
إلا أن الأمر يتوقف على تدخل المشرع لمنح الأفراد هذا الحق مع صعوبة هذا الأمر في الوقت الحالي؛ فالأمر الواقع الآن أن قانون المحكمة الدستورية العليا لا يجيز الطعن المباشر، ولا تستطيع المحكمة مهما أوتيت من قوة أو من شجاعة أن تقفز فوق النصوص المنظمة لاختصاصها.
والسؤال الذي يطرح نفسه هل في عدم إتاحة الدعوى المباشرة أو الطعن المباشر ما ينتقص من الحق في التقاضي؟ وما العلاج لحين حدوث التعديل التشريعي أو عدم حدوثه؟
بدايةً.. لا نرى أن عدم تخويل الأفراد حق الطعن المباشر بمعنى إقامة الدعوى مباشرةً أمام المحكمة الدستورية العليا ودون المرور على محكمة الموضوع يؤدي بذاته إلى الانتقاص من حق التقاضي، إذا ما مُورست رقابة الدستورية بالأساليب الثلاثة السابق ذكرها بكفاءة وفاعلية وبنظرة شاملة وموضوعية بحيث يقوم كل طرفٍ من أطراف منظومة الدعوى الدستورية بدوره على أكمل وجه.
فالأفراد، والمحاكم بأنواعها (محكمة الموضوع)، والمحكمة الدستورية العليا ذاتها، كل عليه دور مهم يتعين أن يقوم به بفاعلية.
أولاً: بالنسبة للأفراد:
يجب أن يقوم كل فردٍ بدوره تجاه وطنه وتجاه النظام الدستوري بأن يتفهم جيدًا حقوقه وواجباته ويحرص كل الحرص على التمسك بها، وأن يتمتع بها على أوسع نطاق، وأن يكون لكل فرد دور فاعل ومؤثر، ويكون له من الثقافة الدستورية ما يؤهله إلى تفهم دور المحكمة الدستورية العليا والرسالة التي تؤديها، وأن يعينها على أدائها بأن يبتعد عن كل دعوى لا يقصد منها سوى الكيد أو إطالة أمد التقاضي وعدم اتخام المحكمة- والقضاء بوجه عام- بمثل هذه الدعاوى بما يطيل أمد التقاضي ويجعله جهدًا عبثًا بما يؤدي بدوره إلى إهدار الحماية التي يقررها المشرع للحقوق.
ثانيًا: بالنسبة لمحكمة الموضوع:
لمحكمة الموضوع- من وجهة نظرنا- دور كبير في تفعيل الرقابة والتوسع في مباشرتها وتعويض المتقاضين عن عدم إتاحة الطعن المباشر، ويتمثل هذا الدور في موقفها من تقدير جدية الدفع، وفي موقفها من النصوص التي تشكك في دستوريتها، وتمارس بصددها رخصة الإحالة إلى المحكمة الدستورية العليا، ونتناول تباعًا كيفية تقدير جدية الدفع والخطوات التي يتعين على محكمة الموضوع اتباعها حتى يكون تقديرها للجدية سليمًا ومجديًا، ولا يؤدي إلى إطالة أمد التقاضي، ونبين كذلك ضوابط الإحالة من جانب محكمة الموضوع؛ وذلك من منظور علمي:
أولاً: دور محكمة الموضوع في تقدير جدية الدفع:
من الناحية العملية كيف يقدر القاضي جدية الدفع؟ وما الخطوات التي يتعين على قاضي الموضوع اتباعها حتى يأتي تقديره للجدية صائبًا؟
بديةً نقرر أن تقدير قاضي الموضوع لجدية الدفوع المبدأة أمامه بعدم الدستورية ليست بالمهمة السهلة أو البسيطة، ولها من الأهمية الكبرى ما ينبغي معها أن تأخذ حظًا وفيرًا من العناية بحيث يكون تقدير محكمة الموضوع للجدية بمثابة المصفاة، وبحيث لا يصل إلى المحكمة الدستورية العليا إلا النصوص التي يكون الشك في دستوريتها واضحًا.
ومن ثم يلزم أن يتبع قاضي الموضوع عدة خطوات أو يجيب على عدة تساؤلات أهمها:
1- أن يستوثق أن النص المدفوع بعدم دستوريته لازمًا للفصل في الدعوى الموضوعية: على قاضي الموضوع أن يتيقن من أن النص المثار أمر دستوريته لازمًا للفصل في الدعوى، فإن كان غير لازم للفصل في الدعوى المطروحة أمامه فإن القاضي يلتفت عنه لانعدام مصلحة مبدي الدفع في إثارة أمر دستوريته مسترشدًا في ذلك بأحكام المحكمة الدستورية العليا العديدة الصادرة في شأن المصلحة وكيفية تقديرها.
2- وأن يبحث القاضي بعد ذلك عن مدى إمكانية الفصل في النزاع دون التعرض للدستورية فإن وجد أن ذلك ممكنًا تعين عليه أن يطرح أمر الدستورية جانبًا، ويقوم بالفصل في النزاع وفقًا للحل الآخر الذي ارتآه، وكأن يكون هناك دفع بالانقضاء للتقادم أو لغيره من الأسباب، ويكون معه أيضًا دفع بعدم الدستورية فإذا كان الدفع بالانقضاء مقبولاً وتنتهي به الخصومة الموضوعية فإن الدفع بعدم الدستورية يغدو غير منتج، وهذا الأمر وإن كان يندرج في اشتراط أن يكون النص لازم للفصل في الدعوى، إلا أننا آثرنا أن نورده بخطوة مستقلة، يجب أن يفكر فيها القاضي عند تقدير الجدية.
3- وأن يبحث عما إذا كانت المحكمة الدستورية العليا قد صدر عنها قضاء موضوعي في شأن دستوريته من عدمه:
إذا تحقق القاضي من أن النص المطعون بعدم دستوريته لازم للفصل في الدعوى الموضوعية فعليه أن ينتقل إلى الخطوة التالية، وهي لا تقل أهمية عن الأولى، وهي أن يبحث ويتحقق قبل تقديره للجدية من عدم صدور حكم بشأنه من المحكمة الدستورية العليا سواء كان قد صدر بعدم دستورية هذا النص، أو صدر بدستوريته ورفض الدعوى لأن الحكم الصادر من المحكمة الدستورية العليا في الدعاوى الدستورية ملزم لجميع سلطات الدولة وللكافة بصرف النظر عن خصوم الدعوى الدستورية، فالحكم ذو حجية مطلقة ويستفيد منه كل ذي مصلحة، ولا يجوز أيضًا معاودة الطعن على ذات النص- ووفقًا لذات النطاق- مرتين لأن في ذلك إنكار وإهدار للحجية المطلقة، ومن ثم فإذا كان الحكم الدستوري ملزمًا وبصورة مطلقة للخصوم فلا يكون لأي شخص مصلحة في أن يطعن عليه من جديد بعدم الدستورية.