من المفيد الإشارة إلى الخطأ القضائي ونتائجه الخطيرة, وخاصة في حالة بقاء عقوبة الإعدام. فالقضاء في فرنسا, على سبيل المثال, عرف خلال تاريخيه أخطاء لم تزل في أذهان الفرنسيين كوصمة في حضارة اعتزوا بها. كما يعرف اليوم, وكل يوم, أخطاء كبيرة. وسوف نشير إلى قضيتين حديثتين هما قضية عمر رداد . وقضية واترو Outreau على التوالي, بعد الحديث الموجز عن الخطأ القضائي.
الإنسان خطاء, والقضاة الذين يمارسون مهام القضاء بشر. وعليه فليس من المستغرب وقوع بعضهم في الخطأ لدى قيامهم بمهامهم. ولكن الخطأ القضائي ليس ككل الأخطاء, نظرا لصدوره عن ممثلي العدالة, ولما يتركه من أضرار تطال المتقاضين في حياتهم, وحرياتهم, و أموالهم..وقد يُوقع سوء طالع إنسان بريء, يملك كل صفات الشرف والنزاهة والاحترام, ضحية لخطا قضائي, فتدمر حياته بكل جوانبها المعنوية, والمادية, والعائلية, والاجتماعية, مما قد يوصله, والأمثلة كثيرة, للانتحار. وقد يفقده حياته في حالة وجود عقوبة الإعدام وتطبيقها. ألا تعتبر عندها الدولة مجرمة بارتكابها جريمة قتل.
الخوف من الوقوع في الخطأ القضائي يقلق القاضي مهما كانت درجته, وفي كل مراحل عمله, فيحرص كل الحرص على عدم حدوثه. ومع ذلك فهولا يصدر عن القاضي لمجرد كونه إنسان, أو لان تكوينه المهني قد يؤدي حتما إلى ذلك . فأزمة القضاء, التي هي بطبيعة الحال أزمة الدولة, تساهم في ذلك وتقود إليه. هذه الأزمة التي تثار من قبل رجال القضاء أنفسهم, وخاصة بعد كل خطأ يقع فيه القضاء في دولة القانون ــ في غيرها لا يعلم احد متى يخطئ القضاء ومتى يصيب ــ. ومن الأسئلة التي تطرح نفسها عند التحدث عن الخطأ مسألة العدالة بمجملها:
هل العدالة بشكلها الحالي قادرة على الاضطلاع بالنظر والفصل في القضايا المتعددة والمتنوعة والمعقدة التي يخضعها المجتمع الحديث لاختصاصها ؟ تكوين القضاة واختيارهم وطرق تعينهم. بناء القضاء. المحاكم و مجالس القضاء les cours ودرجات التقاضي. الإجراءات الزجرية في القضاء الجزائي. الإجراءات الجزائية وأصول المرافعات. النيابة العامة. طرق الدفاع.. قضاء التحقيق. الشرطة القضائية في الاستجواب الأولي وأساليب عملها . أليس أي خلل في سير ملف القضية أمام هذا الجهاز القضائي المعقد سيؤدي للخطأ القضائي في الحكم آو القرار في مرحلته الابتدائية premier ressort أو النهائية dernier ressort ؟ .
عندما كانت السلطتين, الروحية والزمنية في العصور القديمة مندمجتين, لم تكن العدالة إلا فيض من الله. في مثل تلك الدولة لا يمكن أن يسمح بالحديث عن الخطأ القضائي لان العدالة معصومة infaillible. وابتداء مما عرف بعصر الأنوار بدأت الأمور تعرف تغيرا فيما يتعلق بمفهوم الدولة والسلطة والعدالة, فأزيلت العصمة عن هذه الأخيرة.
وتعتبر حملة فولتير القوية لإعادة الاعتبار لذكرى كالاس ولعائلته, وكتابات غيره في نفس الفترة بدايات التصدي للخطأ القضائي. أعقبها فيما بعد حملات أصحاب أقلام مشهورة وجرئيه تدافع عن القضايا العادلة دون النظر إلى أصحابها, وبقدر خطورة انتهاك حقوق الإنسان كان منهم عنف الرد والشجاعة في تحمل المسؤولية.
ونشير هنا سريعا إلى قضية جان كالاس Jean Calas التي تبقى كما يرى البعض مرادفة للخطأ القضائي.
كالاس أب لعائلة بروتستانتية اتهم اثر انتحار ابنه بأنه قاتله وذلك حتى لا يعتنق الكاثوليكية. جناية قتل عمد نسبت إليه في 10 مارس 1762. بعد تعذيب وحشي اقتيد إلى مشنقة نصبت في ساحة الكابيتول في تولوز, ( ساحة جميلة كلما جلست في احد مقاهيها لشرب القهوة منذ 30 عاما, أرى بعد قراءتي لقضية كالاس, بأن هذه الساحة لم تكن على مثل هذا الجمال عبر كل تاريخها, و كأن شبح الضحية, القادم من الزمن البعيد, مازال يطل من خلف ستائر الحضارة الملونة بشتى الألوان, بما فيها اللون الأسود , ليقول بحشرجة كم من أبرياء مجهولين قتلوا أبشع قتل باسم العدالة وسيفها, وما خفي عنكم اشد وأعظم) وتحلق حوله عدد ممن يهوون مشاهد القتل الدموي. وقد استؤنف التعذيب بالدولاب لانتزاع الاعتراف بالقتل, وترك الجسد المحتضر بلحمه الممزق وعظامه المسحوقة لمدة ساعتين ليُخنق أخيرا وتُرمي الجثة في نار المحرقة الملتهبة المعدة لذلك. لقد اعدم كالاس لجريمة لم يرتكبها.
هزت هذه القضية سكان تولوز, ونقلت وقائعها لفولتير الذي عمل خلال 3 سنوات بعزم حتى توصل إلى إثبات براءة كالاس وإعادة الاعتبار لذكراه ولعائلته. ومن أقواله في دفاعه عنه, مستنفرا المحامين وكل أصحاب الضمائر " إخواني الأعزاء تبين أن قضاة تولوز قد قتلوا أكثر الناس براءة. كل مواطني اللانكدوك Languedoc يئنون من هول ما حصل. حتى الأمم الأجنبية التي نعاديها ونحاربها شعرت بالخزي مما جرى. لم يحدث مطلقا, منذ أيام القديس بارتيلمي, شيئا مخز للطبيعة الإنسانية مثل هذا".
بعد ذلك تم إعادة التحقيق في القضية, بناء على موافقة مكتب النقض في 1 مارس 1763 , وفي 7 مارس 1763 قرر مجلس الملك إعادة دراستها . وطلب إلى محكمة تولوز إرسال الوثائق المتعلقة بها. في 4 حزيران 1764 نقض مجلس الملك الأحكام الصادرة عن محكمة تولوز المتعلقة بهذه القضية. وقرر إعادة النظر في الدعوى. في 6 مارس 1765 تم النطق ببراءة جان كالاس مع إعادة الاعتبار لذكراه ولعائلته, ولكن دون إعادة الحياة له. (نذكر هذا لمن لم يقنعه كثيرا ما أوردناه في مقالنا السابق "عقوبة الإعدام ضرورة جزائية أم ثأر وانتقام").
"قتل كالاس في تولوز بسيف العدالة في 9 مارس 1762 احد أكثر الأحداث الدموية التي يجب أن تجلب اهتمام جيلنا والأجيال التي ستعقبنا" فولتير.
كما نشير لرسالة إميل زولا Zola Emile, بعنوان اتهم j’accuse , إلى رئيس الجمهورية الفرنسية Félux Faure في 13/01/1898 للدفاع عن دريفيس الضابط الفرنسي من أصل يهودي الذي وقع ضحية خطا قضائي, والتي لا تعتبر فقط من روائع ما كُتب في الأدب, وإنما كذلك من أروع ما يحمله الإنسان المتنور من إنسانية ومن إصرار على الدفاع عن هذه الإنسانية. فقد جاء فيها, : " سيدي الرئيس أي لطخة من الوحل على اسمك ـ اقصد فوق مقامك ـ قضية دريفيس هذه..سيكتب التاريخ أن هذه الجريمة المنكرة حدثت في عهدك".." الحقيقة سوف أقولها, لأني وعدت بقولها, فإذا كان القضاء الذي عُرضت عليه القضية بشكل قانوني لم يقلها كاملة فان واجبي أن أتكلم, فانا لا أرضى أن أكون متواطئا. عندها ستكون ليالي مسكونة بشبح البريء الذي يتعرض للتعذيب الأليم لجريمة لم يرتكبها". وكتب بعدها رسالة مواساة إلى دريفيس نفسه في 6/7/1899 بعنوان " ستعود فرنسا ارض الإنصاف والطيبة".
أما اليوم وفي ظل العدالة غير المعصومة faillible وحتى ولو أن عبارة الخطأ القضائي غير معترف بها في نص القانون الذي فضل عليها عبارة " إلغاء الإدانة" يعرف الخطأ القضائي عادة على انه خطأ في الوقائع ترتكبه محكمة حكم في تقديرها لجرمية culpabilité شخص ملاحق قضائيا. والسلطة القضائية هي وحدها التي تعترف بوجود مثل هذا الخطأ.
والخطأ القضائي في معناه الواسع, كما يراه البعض ومنهم دومينيك فال يخص كل القرارات المشوبة بخطأ, والصادرة عن المحاكم, عندما تصبح هذه القرارات غير قابلة لأي طعن عادي. وبهذا لا يتعلق الخطأ القضائي بالقرارات décisions الصادرة في الدرجة الأولى , لأنه طالما هناك إمكانية للاستئناف فان المتقاضي ضحية الخطأ يمكنه سلوك الإجراءات العادية , أي أن المحكمة التي تصدر قرارها في الدرجة النهائية تكون في أصل الخطأ, 2006 Grandes erreurs judiciaires, éd. PRAT
ويحب التمييز بين أن يكون المتقاضي ضحية قرار قضائي غير عادل, أو غير عادي, صادر عن المحاكم المدنية, فمثل هذه القرارات لا تعتبر خطا قضائيا بالمعني الخاص بالخطأ القضائي. فالخطأ القضائي هو ما ينتج القرارات الصادرة عن محاكم الجزاء. و يرتكب في حالة قيام محكمة خطا بإدانة بريء بقرار نهائي دون أن يكون هناك إمكانية للطعن العادي فيه.
قبل قانون 15 جوان/حزيران 2000 لم يكن من المستطاع الاستئناف ضد قرارات المحاكم الجنائية cour d’assises, رغم خطورة القضايا من هذه الطبيعة, والصادرة عن 3 قضاة مهنيين professionnels و 9 محلفين شعبيين. يتخذ فيها قرار الإدانة أو التبرئة بأغلبية 8 أصوات على الأقل. ولكن بعد القانون المذكور أصبح بالمستطاع إعادة المحاكمة في نفس القضية في محكمة جنايات أخرى بمحلفين جدد وعددهم هذه المرة 12 محلفا. ويعتبر هذا القانون خطوة لتجنب الوقوع في الخطأ القضائي.
من الطبيعي أن تهدف القرارات الجزائية معاقبة المجرمين, وان تقود كل الإجراءات إلى هذا, ولكن في الواقع لا تجري الأمور دائما بسهولة. فحين ينكر المتهم الوقائع Les faits المنسوبة إليه, وحين يكون من الصعوبة, أو حتى الاستحالة, أن يجد القضاة في ملف القضية اليقين القاطع لارتكاب المتهم الجريمة المنسوبة إليه, وحين تكون أقوال الشهود غير واضحة أو حتى متناقضة, وان لا يتم العثور على أداة الجريمة ,وان تأتي الخبرة العلمية المقدمة متناقضة أحيانا, أو لا تؤكد أو تنفي التورط في التهمة المنسوبة للمتهم. في هذه الحالة هل تتم إدانة المتهم أم تبرئته؟
هذا ما يواجه القضاة. فمن غير المقبول لديهم المخاطرة بإدانة شخص دون التأكد الكامل من تورطه في الجريمة. فحسب مبدأ تفسير الشك لصالح المتهم , يلجأ القضاة إلى التبرئة, حسب المقولة المعروفة رؤية مجرم طليق أفضل مئة مرة من رؤية بريء مسجون. ونضيف في حالة رؤيته معلقا بحبل المشنقة هل هناك مقياس للتفاضل؟.
لا يمكن لمقالة محدودة الادعاء بعرض كل الأسباب التي تؤدي للخطأ القضائي وإنما يمكنها مع ذلك الإشارة السريعة لبعضها :
ـ احتفاظ الشرطة بالشخص , ولو لمدة قصيرة, لاستجوابه
وهو ما يعرف garde à vue (و يختلف عن التوقيف الاحتياطي أو المؤقت détention provisoire). فقبل عرضه على القاضي و فتح دعوى التحقيق ضده ( أي قبل أن يصبح في وضع mise en examen , هذه العبارة حلت منذ عام 1993 محل كلمة المتهم inculpé أمام قضاء التحقيق ), يكون مركز الشرطة أو الدرك أول من بدا الاستماع إليه حول الوقائع المفترض تورطه بها, جاهدا للحصول منه على الاعتراف الذي, رغم اعتباره سيد الأدلة reine des preuves , لا يعكس دائما الحقيقة. فكثيرا ما بين تاريخ القضاء أن الاعتراف لم يكن دائما معبرا عن الحقيقة. فقد يحصل أن يكون للتستر على شخص آخر. أو صادر عمن هو غير متزن نفسيا أو عقليا. أو نتيجة لظروف مكان الحجز وطرق هذا الحجز. ويبقى ذلك صحيحا رغم كل الإجراءات والضمانات القانونية الهادفة لتلافي العيوب في فترة الحجز هذا. (تختلف المصطلحات القانونية بين بلد عربي وآخر)
ـ قضاء التحقيق.
يعتمد النظام القضائي الفرنسي إجراءات التحقيق الجنائي inquisitoire الذي يختلف كليا عن النظام الانكلو ـ سكسوني الذي يطبق الإجراءات الاتهامية accusatoire في طريقة جمع الأدلة حيث على كل طرف أن يقوم بجمع الأدلة, وتعيين الخبراء, وبالتحقيقات الخاصة.
في حين أن قاضي التحقيق في فرنسا هو المكلف بالقيام بهذا كله. وان بدا ظاهريا أن هذا النظام يقوم على المساواة بين الاتهام والدفاع, فان هذه المساواة تبقى شكلية في عدم المساواة في الإمكانيات المادية.
ويعتبر قاضي التحقيق القاضي الأكثر إثارة للجدل في فرنسا. فهو قاضي منفرد يزج في السجون المجرمين والأبرياء, إلى أن جاء قانون 15 جوان 2000 , ودخل حيز التنفيذ في 1 جانفي/ كانون ثاني 2001 فنزع منه اختصاص الأمر بالحبس الاحتياطي, أو إطلاق المشتبه فيه, وأعطاه لقاض أخر هو قاضي الحريات والحجز juge des libertés et de la détention
ومع ذلك فقاضي التحقيق وحده المكلف بالملف, وهو الذي يقوم بالاستجواب, ويقرر المواجهة, ويطلب تأكيدات إضافية ..وهو وحده الذي يجمع وينسق عناصر الاستجوابات المختلفة, والبحث, وهو الذي يقرر عدم وجه المحاكمة non-lieu أو الإحالة على قضاء الحكم. هذه الصلاحيات الواسعة دعت وتدعو كبار القضاة, وقضاة النيابة, للمطالبة بإصلاح قضاء التحقيق وحتى بإلغائه.
المتهم بريء حتى تثبت إدانته من قبل محكمة مختصة. أليس في إيداع المتهم السجن بجنحة أو جناية, قبل إدانته من المحكمة, مخالفة لهذا المبدأ الذي يدعو لإبقاء المتهم طليقا إلى حين ثبوت الإدانة؟.
لقد وضع المشرع تحت تصرف القضاة إمكانية حبس المتهم احتياطيا في انتظار محاكمته وذلك لمقتضيات التحقيق. على أن يبقى هذا الإجراء استثناء. لان حبس شخص تفترض براءته مخاطرة بتجريد بريء من حريته لمدة شهور. ويرى الفرنسيون في قضية اوترو مثلا محزنا ومؤلما.
ومع ذلك فمن الصعب على القضاة التخلي عن إجراءات الحبس الاحتياطي حتى لا يهرب المجرم أو أن يلجأ إلى إخفاء الأدلة, أو تهديمها, أو إثارة الاضطراب في النظام العام. وحسب المادة 1ـ 143 من قانون الإجراءات الجزائية لا يأمر بالحبس الاحتياطي إلا في حالتين:
1ـ أن يكون الشخص المطلوب فتح الدعوى ضده mis en examen معرض لعقوبة جنائية.
2ـ أن يكون الشخص المطلوب فتح الدعوى ضده معرض لعقوبة جنحية مدتها 3 سنوات أو أكثر.
ومع أن التجاوزات من قضاء التحقيق وغيره, تعتبر خللا وظيفيا, ولا تصنف على أنها أخطاء قضائية فهي مع ذلك تقود للخطأ القضائي بمعناه الضيق وتكون في أصله.
ـ شهادات الشهود .
كثيرا ما كانت شهادات شهود الإثبات أو النفي, من الأسباب الرئيسية في تضليل القضاء ووقعه في الخطأ القضائي, نتيجة لشهادات الزور. أو للوقوع تحت التهديد أو الإغراء. أو للتوهم بالتعرف على المتهم أو لضعف الذاكرة.. هذه الشهادات المقدمة في الجلسة مباشرة أمام القضاة والمحلفين يكون أثرها كبير على مصير المتهم.
ـ تقديم الخبرة.
يستفيد القضاء من التطور العلمي والتقني في مجال الكشف عن الجريمة والمجرم. واستخدام الطب الشرعي في معرفة أسباب الموت وظروفه ووقته. والحمض النووي .. ولكن لم تسلم الخبرة دائما من النقد. فكثيرا ما تدحض خبرة لاحقة خبرة سابقة عليها في نفس القضية. أو تعارضها في بعض تفاصيلها. وكثيرا ما كانت نتائجها سبب في إدانة بريء أو تبرئة مجرم. وأنواع الخبرات عديدة كالخبرة في الخطوط, والخبرة في المجال النفسي, وعلم البصمات... وان استطاع هذا الأخير إثبات بصمات شخص في مكان الجريمة, فلا يمكنه مع ذلك أن يثبت إن صاحبها هو المجرم.
ـ المحلفون le jury
قد يخضع المحلفون الشعبيون الذين تتكون منهم المحكمة الجنائية, مع 3 قضاة مهنيين, لتأثير رئيس المحكمة من واقع كونهم لا يعلمون جيدا عمل القضاء, فيحتمون خلف القضاة المهنيين, وبشكل خاص الرئيس, إذا ما أحس بعضهم أن الرئيس يميل إلى تجريم المتهم فان هذا سيؤثر على قناعاتهم الشخصية, التي يشكون في دقتها أمام خبرة وقناعات الرئيس . كما إنهم أكثر من القضاة المحترفين تأثرا بالمرافعات الدائرة أمامهم وسير المحاكمة. ويتنبه المحامون لذلك فيحاولون عن طريق الإلقاء المؤثر, والتوجه بنظراتهم للمحلفين, وتذكيرهم بخطورة ما هم قادمون عليه من إدانة بريء, واستعمال كل فنون المرافعات وتقنياتها, التأثير فيهم لصالح القضية التي يدافعون عنها.
ومع تنبه القضاء لذلك وتضمين اليمين المطلوب من المحلفين أدائه ما يذكرهم بمهامهم: "اقسموا وتعهدوا بأنكم ستتفحصون باهتمام بالغ ودقيق الاتهامات التي ستوجه للمتهم, وبأنكم لا تخونون مصالحه, ولا مصالح المجتمع الذي يوجه له الاتهام, ولا مصالح المعتدى عليه. وبان لا تتصلوا بأحد قبل اتخاذ القرار, وان لا تستمعوا لا للحقد, ولا للكراهية, ولا للشر, ولا للخوف, وان تتذكروا أن المتهم يعتبر بريئا, وان الشك يفسر لمصلحته. وبان تقرروا بناء على الاتهامات والدفوع, وبمقتضى ما تمليه عليكم ضمائركم وقناعاتكم الشخصية بنزاهة, وبالصلابة المطلوبة من الإنسان المستقيم الحر. وان تحفظوا أسرار المداولات حتى بعد انتهاء مهامكم". فان الواقع يثبت أن ذلك لا يحمي بشكل مطلق من الوقوع في الخطأ.
يضاف إلى ما سبق من الأمور التي تدفع للخطأ القضائي وتوقع فيه:
ـ الدفاع المنقوص من قبل المحامي وافتقاده لقوة الحضور ومقدرة الإقناع.
ـ تصرفات المتهم نفسه خلال المحاكمة في اللجوء إلى العنف وكل ما يوحي بأنه عدواني و غير سوي.
ـ سجله العدلي وسوابقه التي تفسر ضده, حتى في التهمة التي يكون منها براء.
ـ دور الإعلام .
ـ الإشاعات. وضغط الرأي العام, وخاصة في القضايا ذات الحساسية الكبيرة.
وأخير لعل الإحصائيات هي القديرة على إبراز حجم الخطأ القضائي, ففي عام 2004, على سبيل المثال, خرج من السجون في فرنسا 600 شخص بريء بقرارات قضائية: لعدم وجه للمحاكمة non-lieu صادرة عن قضاء التحقيق. آو للتبرئة relaxe الصادرة عن محاكم الجنح . أو للتبرئة acquittement الصادرة عن محاكم الجنايات.
بعد قضية اوترو Outreau مؤخرا, وما سببته من صدمات هزت المجتمع الفرنسي بأكمله مما أدت لردود فعل كانت الأقوى منذ قيام الثورة الفرنسية, والإصلاحات القضائية المتعاقبة والى اليوم. بدأ البعض الحديث عن منعطف حاد يمر به القضاء الجزائي الفرنسي.
وكثرت محاولات رجال القضاء, وفي أعلى درجاتهم, للإجابة على التساؤلات العميقة حول مؤسسة القضاء بأكملها, مشيرين في كتب ومقالات وندوات, وفي جلسات تحقيق منها, بشكل خاص, تلك التي كانت تنقلها كل وسائل الإعلام بما فيها التلفزيون, وبمشاركة برلمانية وتحقيق, وحضور سام لقضاة, ومحامين مشهورين, وأساتذة قانون.
ولعل مرافعة النائب العام لدى محكمة الاستئناف بباريس ايف بوت Yves Bot تحت ضغط القضية المذكورة جعلته يعلن بغضب ومن على منصة القضاء : " إن هذه العدالة ليست عدالتي. كما أنها ليست عدالة أحد " ( Ma justice, ed. Bebourin 2007.
د. هايل نصر
الإنسان خطاء, والقضاة الذين يمارسون مهام القضاء بشر. وعليه فليس من المستغرب وقوع بعضهم في الخطأ لدى قيامهم بمهامهم. ولكن الخطأ القضائي ليس ككل الأخطاء, نظرا لصدوره عن ممثلي العدالة, ولما يتركه من أضرار تطال المتقاضين في حياتهم, وحرياتهم, و أموالهم..وقد يُوقع سوء طالع إنسان بريء, يملك كل صفات الشرف والنزاهة والاحترام, ضحية لخطا قضائي, فتدمر حياته بكل جوانبها المعنوية, والمادية, والعائلية, والاجتماعية, مما قد يوصله, والأمثلة كثيرة, للانتحار. وقد يفقده حياته في حالة وجود عقوبة الإعدام وتطبيقها. ألا تعتبر عندها الدولة مجرمة بارتكابها جريمة قتل.
الخوف من الوقوع في الخطأ القضائي يقلق القاضي مهما كانت درجته, وفي كل مراحل عمله, فيحرص كل الحرص على عدم حدوثه. ومع ذلك فهولا يصدر عن القاضي لمجرد كونه إنسان, أو لان تكوينه المهني قد يؤدي حتما إلى ذلك . فأزمة القضاء, التي هي بطبيعة الحال أزمة الدولة, تساهم في ذلك وتقود إليه. هذه الأزمة التي تثار من قبل رجال القضاء أنفسهم, وخاصة بعد كل خطأ يقع فيه القضاء في دولة القانون ــ في غيرها لا يعلم احد متى يخطئ القضاء ومتى يصيب ــ. ومن الأسئلة التي تطرح نفسها عند التحدث عن الخطأ مسألة العدالة بمجملها:
هل العدالة بشكلها الحالي قادرة على الاضطلاع بالنظر والفصل في القضايا المتعددة والمتنوعة والمعقدة التي يخضعها المجتمع الحديث لاختصاصها ؟ تكوين القضاة واختيارهم وطرق تعينهم. بناء القضاء. المحاكم و مجالس القضاء les cours ودرجات التقاضي. الإجراءات الزجرية في القضاء الجزائي. الإجراءات الجزائية وأصول المرافعات. النيابة العامة. طرق الدفاع.. قضاء التحقيق. الشرطة القضائية في الاستجواب الأولي وأساليب عملها . أليس أي خلل في سير ملف القضية أمام هذا الجهاز القضائي المعقد سيؤدي للخطأ القضائي في الحكم آو القرار في مرحلته الابتدائية premier ressort أو النهائية dernier ressort ؟ .
عندما كانت السلطتين, الروحية والزمنية في العصور القديمة مندمجتين, لم تكن العدالة إلا فيض من الله. في مثل تلك الدولة لا يمكن أن يسمح بالحديث عن الخطأ القضائي لان العدالة معصومة infaillible. وابتداء مما عرف بعصر الأنوار بدأت الأمور تعرف تغيرا فيما يتعلق بمفهوم الدولة والسلطة والعدالة, فأزيلت العصمة عن هذه الأخيرة.
وتعتبر حملة فولتير القوية لإعادة الاعتبار لذكرى كالاس ولعائلته, وكتابات غيره في نفس الفترة بدايات التصدي للخطأ القضائي. أعقبها فيما بعد حملات أصحاب أقلام مشهورة وجرئيه تدافع عن القضايا العادلة دون النظر إلى أصحابها, وبقدر خطورة انتهاك حقوق الإنسان كان منهم عنف الرد والشجاعة في تحمل المسؤولية.
ونشير هنا سريعا إلى قضية جان كالاس Jean Calas التي تبقى كما يرى البعض مرادفة للخطأ القضائي.
كالاس أب لعائلة بروتستانتية اتهم اثر انتحار ابنه بأنه قاتله وذلك حتى لا يعتنق الكاثوليكية. جناية قتل عمد نسبت إليه في 10 مارس 1762. بعد تعذيب وحشي اقتيد إلى مشنقة نصبت في ساحة الكابيتول في تولوز, ( ساحة جميلة كلما جلست في احد مقاهيها لشرب القهوة منذ 30 عاما, أرى بعد قراءتي لقضية كالاس, بأن هذه الساحة لم تكن على مثل هذا الجمال عبر كل تاريخها, و كأن شبح الضحية, القادم من الزمن البعيد, مازال يطل من خلف ستائر الحضارة الملونة بشتى الألوان, بما فيها اللون الأسود , ليقول بحشرجة كم من أبرياء مجهولين قتلوا أبشع قتل باسم العدالة وسيفها, وما خفي عنكم اشد وأعظم) وتحلق حوله عدد ممن يهوون مشاهد القتل الدموي. وقد استؤنف التعذيب بالدولاب لانتزاع الاعتراف بالقتل, وترك الجسد المحتضر بلحمه الممزق وعظامه المسحوقة لمدة ساعتين ليُخنق أخيرا وتُرمي الجثة في نار المحرقة الملتهبة المعدة لذلك. لقد اعدم كالاس لجريمة لم يرتكبها.
هزت هذه القضية سكان تولوز, ونقلت وقائعها لفولتير الذي عمل خلال 3 سنوات بعزم حتى توصل إلى إثبات براءة كالاس وإعادة الاعتبار لذكراه ولعائلته. ومن أقواله في دفاعه عنه, مستنفرا المحامين وكل أصحاب الضمائر " إخواني الأعزاء تبين أن قضاة تولوز قد قتلوا أكثر الناس براءة. كل مواطني اللانكدوك Languedoc يئنون من هول ما حصل. حتى الأمم الأجنبية التي نعاديها ونحاربها شعرت بالخزي مما جرى. لم يحدث مطلقا, منذ أيام القديس بارتيلمي, شيئا مخز للطبيعة الإنسانية مثل هذا".
بعد ذلك تم إعادة التحقيق في القضية, بناء على موافقة مكتب النقض في 1 مارس 1763 , وفي 7 مارس 1763 قرر مجلس الملك إعادة دراستها . وطلب إلى محكمة تولوز إرسال الوثائق المتعلقة بها. في 4 حزيران 1764 نقض مجلس الملك الأحكام الصادرة عن محكمة تولوز المتعلقة بهذه القضية. وقرر إعادة النظر في الدعوى. في 6 مارس 1765 تم النطق ببراءة جان كالاس مع إعادة الاعتبار لذكراه ولعائلته, ولكن دون إعادة الحياة له. (نذكر هذا لمن لم يقنعه كثيرا ما أوردناه في مقالنا السابق "عقوبة الإعدام ضرورة جزائية أم ثأر وانتقام").
"قتل كالاس في تولوز بسيف العدالة في 9 مارس 1762 احد أكثر الأحداث الدموية التي يجب أن تجلب اهتمام جيلنا والأجيال التي ستعقبنا" فولتير.
كما نشير لرسالة إميل زولا Zola Emile, بعنوان اتهم j’accuse , إلى رئيس الجمهورية الفرنسية Félux Faure في 13/01/1898 للدفاع عن دريفيس الضابط الفرنسي من أصل يهودي الذي وقع ضحية خطا قضائي, والتي لا تعتبر فقط من روائع ما كُتب في الأدب, وإنما كذلك من أروع ما يحمله الإنسان المتنور من إنسانية ومن إصرار على الدفاع عن هذه الإنسانية. فقد جاء فيها, : " سيدي الرئيس أي لطخة من الوحل على اسمك ـ اقصد فوق مقامك ـ قضية دريفيس هذه..سيكتب التاريخ أن هذه الجريمة المنكرة حدثت في عهدك".." الحقيقة سوف أقولها, لأني وعدت بقولها, فإذا كان القضاء الذي عُرضت عليه القضية بشكل قانوني لم يقلها كاملة فان واجبي أن أتكلم, فانا لا أرضى أن أكون متواطئا. عندها ستكون ليالي مسكونة بشبح البريء الذي يتعرض للتعذيب الأليم لجريمة لم يرتكبها". وكتب بعدها رسالة مواساة إلى دريفيس نفسه في 6/7/1899 بعنوان " ستعود فرنسا ارض الإنصاف والطيبة".
أما اليوم وفي ظل العدالة غير المعصومة faillible وحتى ولو أن عبارة الخطأ القضائي غير معترف بها في نص القانون الذي فضل عليها عبارة " إلغاء الإدانة" يعرف الخطأ القضائي عادة على انه خطأ في الوقائع ترتكبه محكمة حكم في تقديرها لجرمية culpabilité شخص ملاحق قضائيا. والسلطة القضائية هي وحدها التي تعترف بوجود مثل هذا الخطأ.
والخطأ القضائي في معناه الواسع, كما يراه البعض ومنهم دومينيك فال يخص كل القرارات المشوبة بخطأ, والصادرة عن المحاكم, عندما تصبح هذه القرارات غير قابلة لأي طعن عادي. وبهذا لا يتعلق الخطأ القضائي بالقرارات décisions الصادرة في الدرجة الأولى , لأنه طالما هناك إمكانية للاستئناف فان المتقاضي ضحية الخطأ يمكنه سلوك الإجراءات العادية , أي أن المحكمة التي تصدر قرارها في الدرجة النهائية تكون في أصل الخطأ, 2006 Grandes erreurs judiciaires, éd. PRAT
ويحب التمييز بين أن يكون المتقاضي ضحية قرار قضائي غير عادل, أو غير عادي, صادر عن المحاكم المدنية, فمثل هذه القرارات لا تعتبر خطا قضائيا بالمعني الخاص بالخطأ القضائي. فالخطأ القضائي هو ما ينتج القرارات الصادرة عن محاكم الجزاء. و يرتكب في حالة قيام محكمة خطا بإدانة بريء بقرار نهائي دون أن يكون هناك إمكانية للطعن العادي فيه.
قبل قانون 15 جوان/حزيران 2000 لم يكن من المستطاع الاستئناف ضد قرارات المحاكم الجنائية cour d’assises, رغم خطورة القضايا من هذه الطبيعة, والصادرة عن 3 قضاة مهنيين professionnels و 9 محلفين شعبيين. يتخذ فيها قرار الإدانة أو التبرئة بأغلبية 8 أصوات على الأقل. ولكن بعد القانون المذكور أصبح بالمستطاع إعادة المحاكمة في نفس القضية في محكمة جنايات أخرى بمحلفين جدد وعددهم هذه المرة 12 محلفا. ويعتبر هذا القانون خطوة لتجنب الوقوع في الخطأ القضائي.
من الطبيعي أن تهدف القرارات الجزائية معاقبة المجرمين, وان تقود كل الإجراءات إلى هذا, ولكن في الواقع لا تجري الأمور دائما بسهولة. فحين ينكر المتهم الوقائع Les faits المنسوبة إليه, وحين يكون من الصعوبة, أو حتى الاستحالة, أن يجد القضاة في ملف القضية اليقين القاطع لارتكاب المتهم الجريمة المنسوبة إليه, وحين تكون أقوال الشهود غير واضحة أو حتى متناقضة, وان لا يتم العثور على أداة الجريمة ,وان تأتي الخبرة العلمية المقدمة متناقضة أحيانا, أو لا تؤكد أو تنفي التورط في التهمة المنسوبة للمتهم. في هذه الحالة هل تتم إدانة المتهم أم تبرئته؟
هذا ما يواجه القضاة. فمن غير المقبول لديهم المخاطرة بإدانة شخص دون التأكد الكامل من تورطه في الجريمة. فحسب مبدأ تفسير الشك لصالح المتهم , يلجأ القضاة إلى التبرئة, حسب المقولة المعروفة رؤية مجرم طليق أفضل مئة مرة من رؤية بريء مسجون. ونضيف في حالة رؤيته معلقا بحبل المشنقة هل هناك مقياس للتفاضل؟.
لا يمكن لمقالة محدودة الادعاء بعرض كل الأسباب التي تؤدي للخطأ القضائي وإنما يمكنها مع ذلك الإشارة السريعة لبعضها :
ـ احتفاظ الشرطة بالشخص , ولو لمدة قصيرة, لاستجوابه
وهو ما يعرف garde à vue (و يختلف عن التوقيف الاحتياطي أو المؤقت détention provisoire). فقبل عرضه على القاضي و فتح دعوى التحقيق ضده ( أي قبل أن يصبح في وضع mise en examen , هذه العبارة حلت منذ عام 1993 محل كلمة المتهم inculpé أمام قضاء التحقيق ), يكون مركز الشرطة أو الدرك أول من بدا الاستماع إليه حول الوقائع المفترض تورطه بها, جاهدا للحصول منه على الاعتراف الذي, رغم اعتباره سيد الأدلة reine des preuves , لا يعكس دائما الحقيقة. فكثيرا ما بين تاريخ القضاء أن الاعتراف لم يكن دائما معبرا عن الحقيقة. فقد يحصل أن يكون للتستر على شخص آخر. أو صادر عمن هو غير متزن نفسيا أو عقليا. أو نتيجة لظروف مكان الحجز وطرق هذا الحجز. ويبقى ذلك صحيحا رغم كل الإجراءات والضمانات القانونية الهادفة لتلافي العيوب في فترة الحجز هذا. (تختلف المصطلحات القانونية بين بلد عربي وآخر)
ـ قضاء التحقيق.
يعتمد النظام القضائي الفرنسي إجراءات التحقيق الجنائي inquisitoire الذي يختلف كليا عن النظام الانكلو ـ سكسوني الذي يطبق الإجراءات الاتهامية accusatoire في طريقة جمع الأدلة حيث على كل طرف أن يقوم بجمع الأدلة, وتعيين الخبراء, وبالتحقيقات الخاصة.
في حين أن قاضي التحقيق في فرنسا هو المكلف بالقيام بهذا كله. وان بدا ظاهريا أن هذا النظام يقوم على المساواة بين الاتهام والدفاع, فان هذه المساواة تبقى شكلية في عدم المساواة في الإمكانيات المادية.
ويعتبر قاضي التحقيق القاضي الأكثر إثارة للجدل في فرنسا. فهو قاضي منفرد يزج في السجون المجرمين والأبرياء, إلى أن جاء قانون 15 جوان 2000 , ودخل حيز التنفيذ في 1 جانفي/ كانون ثاني 2001 فنزع منه اختصاص الأمر بالحبس الاحتياطي, أو إطلاق المشتبه فيه, وأعطاه لقاض أخر هو قاضي الحريات والحجز juge des libertés et de la détention
ومع ذلك فقاضي التحقيق وحده المكلف بالملف, وهو الذي يقوم بالاستجواب, ويقرر المواجهة, ويطلب تأكيدات إضافية ..وهو وحده الذي يجمع وينسق عناصر الاستجوابات المختلفة, والبحث, وهو الذي يقرر عدم وجه المحاكمة non-lieu أو الإحالة على قضاء الحكم. هذه الصلاحيات الواسعة دعت وتدعو كبار القضاة, وقضاة النيابة, للمطالبة بإصلاح قضاء التحقيق وحتى بإلغائه.
المتهم بريء حتى تثبت إدانته من قبل محكمة مختصة. أليس في إيداع المتهم السجن بجنحة أو جناية, قبل إدانته من المحكمة, مخالفة لهذا المبدأ الذي يدعو لإبقاء المتهم طليقا إلى حين ثبوت الإدانة؟.
لقد وضع المشرع تحت تصرف القضاة إمكانية حبس المتهم احتياطيا في انتظار محاكمته وذلك لمقتضيات التحقيق. على أن يبقى هذا الإجراء استثناء. لان حبس شخص تفترض براءته مخاطرة بتجريد بريء من حريته لمدة شهور. ويرى الفرنسيون في قضية اوترو مثلا محزنا ومؤلما.
ومع ذلك فمن الصعب على القضاة التخلي عن إجراءات الحبس الاحتياطي حتى لا يهرب المجرم أو أن يلجأ إلى إخفاء الأدلة, أو تهديمها, أو إثارة الاضطراب في النظام العام. وحسب المادة 1ـ 143 من قانون الإجراءات الجزائية لا يأمر بالحبس الاحتياطي إلا في حالتين:
1ـ أن يكون الشخص المطلوب فتح الدعوى ضده mis en examen معرض لعقوبة جنائية.
2ـ أن يكون الشخص المطلوب فتح الدعوى ضده معرض لعقوبة جنحية مدتها 3 سنوات أو أكثر.
ومع أن التجاوزات من قضاء التحقيق وغيره, تعتبر خللا وظيفيا, ولا تصنف على أنها أخطاء قضائية فهي مع ذلك تقود للخطأ القضائي بمعناه الضيق وتكون في أصله.
ـ شهادات الشهود .
كثيرا ما كانت شهادات شهود الإثبات أو النفي, من الأسباب الرئيسية في تضليل القضاء ووقعه في الخطأ القضائي, نتيجة لشهادات الزور. أو للوقوع تحت التهديد أو الإغراء. أو للتوهم بالتعرف على المتهم أو لضعف الذاكرة.. هذه الشهادات المقدمة في الجلسة مباشرة أمام القضاة والمحلفين يكون أثرها كبير على مصير المتهم.
ـ تقديم الخبرة.
يستفيد القضاء من التطور العلمي والتقني في مجال الكشف عن الجريمة والمجرم. واستخدام الطب الشرعي في معرفة أسباب الموت وظروفه ووقته. والحمض النووي .. ولكن لم تسلم الخبرة دائما من النقد. فكثيرا ما تدحض خبرة لاحقة خبرة سابقة عليها في نفس القضية. أو تعارضها في بعض تفاصيلها. وكثيرا ما كانت نتائجها سبب في إدانة بريء أو تبرئة مجرم. وأنواع الخبرات عديدة كالخبرة في الخطوط, والخبرة في المجال النفسي, وعلم البصمات... وان استطاع هذا الأخير إثبات بصمات شخص في مكان الجريمة, فلا يمكنه مع ذلك أن يثبت إن صاحبها هو المجرم.
ـ المحلفون le jury
قد يخضع المحلفون الشعبيون الذين تتكون منهم المحكمة الجنائية, مع 3 قضاة مهنيين, لتأثير رئيس المحكمة من واقع كونهم لا يعلمون جيدا عمل القضاء, فيحتمون خلف القضاة المهنيين, وبشكل خاص الرئيس, إذا ما أحس بعضهم أن الرئيس يميل إلى تجريم المتهم فان هذا سيؤثر على قناعاتهم الشخصية, التي يشكون في دقتها أمام خبرة وقناعات الرئيس . كما إنهم أكثر من القضاة المحترفين تأثرا بالمرافعات الدائرة أمامهم وسير المحاكمة. ويتنبه المحامون لذلك فيحاولون عن طريق الإلقاء المؤثر, والتوجه بنظراتهم للمحلفين, وتذكيرهم بخطورة ما هم قادمون عليه من إدانة بريء, واستعمال كل فنون المرافعات وتقنياتها, التأثير فيهم لصالح القضية التي يدافعون عنها.
ومع تنبه القضاء لذلك وتضمين اليمين المطلوب من المحلفين أدائه ما يذكرهم بمهامهم: "اقسموا وتعهدوا بأنكم ستتفحصون باهتمام بالغ ودقيق الاتهامات التي ستوجه للمتهم, وبأنكم لا تخونون مصالحه, ولا مصالح المجتمع الذي يوجه له الاتهام, ولا مصالح المعتدى عليه. وبان لا تتصلوا بأحد قبل اتخاذ القرار, وان لا تستمعوا لا للحقد, ولا للكراهية, ولا للشر, ولا للخوف, وان تتذكروا أن المتهم يعتبر بريئا, وان الشك يفسر لمصلحته. وبان تقرروا بناء على الاتهامات والدفوع, وبمقتضى ما تمليه عليكم ضمائركم وقناعاتكم الشخصية بنزاهة, وبالصلابة المطلوبة من الإنسان المستقيم الحر. وان تحفظوا أسرار المداولات حتى بعد انتهاء مهامكم". فان الواقع يثبت أن ذلك لا يحمي بشكل مطلق من الوقوع في الخطأ.
يضاف إلى ما سبق من الأمور التي تدفع للخطأ القضائي وتوقع فيه:
ـ الدفاع المنقوص من قبل المحامي وافتقاده لقوة الحضور ومقدرة الإقناع.
ـ تصرفات المتهم نفسه خلال المحاكمة في اللجوء إلى العنف وكل ما يوحي بأنه عدواني و غير سوي.
ـ سجله العدلي وسوابقه التي تفسر ضده, حتى في التهمة التي يكون منها براء.
ـ دور الإعلام .
ـ الإشاعات. وضغط الرأي العام, وخاصة في القضايا ذات الحساسية الكبيرة.
وأخير لعل الإحصائيات هي القديرة على إبراز حجم الخطأ القضائي, ففي عام 2004, على سبيل المثال, خرج من السجون في فرنسا 600 شخص بريء بقرارات قضائية: لعدم وجه للمحاكمة non-lieu صادرة عن قضاء التحقيق. آو للتبرئة relaxe الصادرة عن محاكم الجنح . أو للتبرئة acquittement الصادرة عن محاكم الجنايات.
بعد قضية اوترو Outreau مؤخرا, وما سببته من صدمات هزت المجتمع الفرنسي بأكمله مما أدت لردود فعل كانت الأقوى منذ قيام الثورة الفرنسية, والإصلاحات القضائية المتعاقبة والى اليوم. بدأ البعض الحديث عن منعطف حاد يمر به القضاء الجزائي الفرنسي.
وكثرت محاولات رجال القضاء, وفي أعلى درجاتهم, للإجابة على التساؤلات العميقة حول مؤسسة القضاء بأكملها, مشيرين في كتب ومقالات وندوات, وفي جلسات تحقيق منها, بشكل خاص, تلك التي كانت تنقلها كل وسائل الإعلام بما فيها التلفزيون, وبمشاركة برلمانية وتحقيق, وحضور سام لقضاة, ومحامين مشهورين, وأساتذة قانون.
ولعل مرافعة النائب العام لدى محكمة الاستئناف بباريس ايف بوت Yves Bot تحت ضغط القضية المذكورة جعلته يعلن بغضب ومن على منصة القضاء : " إن هذه العدالة ليست عدالتي. كما أنها ليست عدالة أحد " ( Ma justice, ed. Bebourin 2007.
د. هايل نصر