الدور الكبير, المتزايد اتساعا وعمقا, الذي يلعبه القضاء في حياة المجتمعات, يفرضه تشعب الحياة, وتعقيداتها, وتطورها في جميع المجالات : الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والأمني والإعلامي..كما يتطلبه الانفتاح, والتواصل, والتعاون, والتنافس, بين المجتمعات على المستوى الداخلي وفي علاقاتها الخارجية. فالمجتمعات الآسنة ,المنغلقة على نفسها والمجترة لتجاربها فقط, لم تعد تملك مقومات المجتمعات القابلة للحياة والتطور.
ومع ذلك, تبقى جوانب عديدة من دور القضاء ومهامه, وطرق التقاضي والمحاكمات, غامضة ومجهولة, ليس فقط لدى العامة. وإنما كذلك من جانب كبير من المثقفين, وحتى عند العديد من ممارسي مهن لها صلة بالقضاء. ومنها الإلمام بطرق ووسائل وأساليب المحاكمات, وكيفية وصول القاضي إلى إصدار حكمه أو قراره. ومعرفة القاضي نفسه بالكيفية الصحيحة الموصلة إلى إصدار الأحكام والقرارات الملائمة, التي ستعتبر عن صدورها عنوان الحقيقة في القضايا المحكوم بها. أي معرفة, ما يسميه غي تولييه, فن المحاكمة.
وعليه رأينا من المفيد بهذا الصدد عرض كتاب نادر في موضوعه, مؤلفه غي تويليه Guy Thuillier قاض ومدير دراسات في المدرسة العليا للدراسات التطبيقية. عنوانه , l’Art de juger يمكن ترجمته ب "فن المحاكمة".لا يتجاوز عدد صفحاته 74 صفحة باللغة الفرنسية, ( كانت لدى المؤلف رغبة في أن تبلغ عدد الصفحات 800 صفحة كما ذكر في خاتمة الخاتمة) يتصدى فيه لفن المحاكمة عن طريق طرح أسئلة والإجابة عليها بنفسه , عرضنا له ليس ترجمة, ولا دراسة, ولا ادعاء تعليق, أو نقد , وإنما عرض, يتوخى الأمانة, بقدر ما يسمح نقل الأفكار من المصدر إلى اللغة العربية, ومع ذلك, ولضرورة التوضيح كان لا بد من إعادة صياغة الأفكار, دون الخروج بها عن غايتها, بما يتلاءم مع أسلوب لغتنا وطرقها, على أن يكون ذلك في "حلقات" تتناسب مساحة كل منها مع ما تسمح به الجريدة الالكترونية, وكذلك صبر القارئ غير المهتم كثيرا بمثل هذه المواضيع, التي يعتقد أنها لا تتعلق بواقعه اليومي الضاغط إلى درجة يكاد يخرجه من دائرة كل اهتمام, وحتى من دائرة الحياة نفسها.
يطرح الكاتب أسئلة منها:
ماذا يعني فن المحاكمة؟
كيف يمكن أن نحاكم؟
ما هي المبادئ الواجب تطبيقها؟
كيف يمكن أن يكون القاضي قاض جيد, نزيه, موضوعي, معتدل, وحذر؟
ما هي قواعد اللعبة؟
أسئلة صعبة, كما يصفها بنفسه, و يجهد للإجابة عليها في 11 فصل.
في المقدمة يعرض الكاتب مسألة كيفية المحاكمة ومعنى المحاكمة. وكيف ينظر القاضي لنفسه كقاض؟.
نحن هنا, كما يعلن, في مجال من المجالات التي يكتنفها الغموض. في حين أن الاعتقاد السائد أن المحاكمة عملية سهلة, واضحة, سلسة, إذ يكفي تطبيق قاعدة القانون. في هذه الحالة, كما يسارع للإشارة, نكون قد حكمنا بشكل معيب, غير كامل, وغير أكيد. فالأحكام الجادة ليست دائما معتادة ومتواترة, حتى ولو حلم كل قاض بان يكون قاض جيد. ويقرر أن هناك العديد من الصعوبات تعترض المحلل للدخول بعمق في هذا المجال, الذي يبدو بعيدا عن الاهتمام العام.
المحاكمة عملية معقدة لأبعد الحدود. يدخل فيها, لمعرفة أبعادها, الاهتمام بالجانب المتعلق بحياة القاضي, حاضره, وماضيه . و توخي الحذر, مع المواربة, للوصول لهذه المعرفة (لأننا لا نستطيع قول كل شيء), ولكن لا بد من تقديم بعض الملاحظات الضرورية (احتياطيا) حول أسس ومبادئ فن المحاكمة, وحول القاضي وواجباته. وكذلك حول القواعد الجيدة المعمول بها.
تحت عنوان ماذا تعني المحاكمة؟ يقرر الكاتب أن المحاكمة هي الطريقة التي يتم التقاضي بموجبها, وهي غير معزولة ولها صلة بالآخرين, وطريقة في التصرف. أي أنها أكثر من مجرد الخضوع للقواعد القانونية. وفيها يؤخذ في الحسبان: حياة القاضي, والقواعد المعنوية لديه, ومقدرته الحدسية, وإبداعه. ويذكرالكاتب أن ما يُعرف في هذا المجال قليل جدا, لعدم وجود مؤلفات في فن المحاكمة. ولرفض الذهاب بعيدا فيما يتعلق بخلفية عمليات المحاكمة.
هذا الرفض جدير بالاهتمام: فظاهريا, كأننا نلمس المقدس. لا يُراد إبراز أسرار المهنة. يُراد إعطاء صورة عن القضاء وكأنه فوق كل قاعدة. هناك خوف من المحامين الذين يقضون وقتهم في النميمة وقول السوء في القاضي. مما يتطلب الحذر. ولا يوجد شرحا جيدا لهذا (فلا نجد مذكرات خاصة لأحد من القضاة في هذا الشأن). نجد كل عام أعدادا كبيرة من الأحكام, والقرارات, تتزايد, كما يتزايد عدد القضاة. ويمكن افتراض أن هناك طرقا لتعديل الأحكام, وزيادة فعاليتها ومصداقيتها, ولكن لا توجد بحوث حول الآليات التي تُوصل إلى المصداقية.
في هذا المجال, يقول: نحن في حقل ملغم ومفخخ, و ضبابية تحيط بفن المحاكمة, ويعطي على ذلك مثلا : هل توجد طرق محاكمات متطابقة, في حين يوجد قضاة مهنيون وقضاة غير مهنيين ؟ ( تجدر الإشارة إلى أن عدد قضاة القضاء العادي كان عام 1994 .6197 قاض. والقضاة الإداريين 713 قاض, في العام نفسه. والى جانبهم يوجد 20000 قاض غير مهني, بما فيهم قضاة العمال والعمل .. غير مكونين, عموما, بشكل كاف. وموكلة إليهم مهام غير واضحة بدقة, عرفية, ولهم دون شك طرقهم في فن المحاكمة .. ), وفي الوقت الذي فيه لكل محكمة تقاليدها وطقوسها الخاصة ؟ هل بقيت طرق المحاكمة ثابتة أم أنها تبدلت وتنوعت مع الزمن؟ . نرى اليوم اتساع المحاكمات في المجتمع. ولكن برقابة سيئة, واتساع سلطات القضاة, مع ضغط وسائل الإعلام على سير العدالة. مما أدى إلى خلق الكثير من المشاكل. ولكن مع ذلك هل تغير فن المحاكمة في مبادئه؟ هل يجب التذكير بان فن المحاكمة يتغير مع مزاج, وعمر, وجنس, القاضي وتجربته المعيشية, وتكوينه المعنوي, آو الفلسفي ؟.
وعليه, يرى انه من المستحيل بناء نظرية عامة في فن المحاكمة, ومع ذلك يمكن, احتياطيا, رسم نظريات جزئية, غير مكتملة, تسمح بان تعطي نظرة عن القاضي, عن حياته المعيشية, وعن داخله وعالمه الخاص. مثل هذه الطريقة, رغم كونها تعسفية, توضح مع ذك بعض المسائل, وتظهر نقاط الخلاف للباحثين المستقبليين. ويجب الحذر هنا في هذا الميدان. حيث لكل قاض طريقة في المحاكمة, وله أنماطه السلوكية المختلفة, و رؤية للحقوق قد تكون خاصة. المحاكمة ــ ويلفت الكاتب إلى انه يتحدث من موقع التجربة ــ من حيث المبدأ, تعد مهنة صعبة, لها مقتضياتها, تبعث القلق, والاضطراب, وخيبات أمل. مضيفا من يستطيع القول, متأكدا, بأنه قاض جيد.
في الفصل الثاني من الكتاب يتحدث المؤلف عن الركائز fondement المبني عليها فن المحاكمة.
فيعلن أن آلية المحاكمة معقدة , وليس لغير القاضي, في الدرجات المتقدمة, إمكانية إدراكها. فعلى ماذا يتأسس إصدار الحكم jugement؟
يجيب على ذلك عارضا الأسس التالية.
1ـ مقدرة القاضي على النفاذ إلى الكل المبهم, المغلق( ملف القضية), ومعرفته من الداخل.والتنبه لكل مطباته وخفاياه, والبحث في كل زواياه.
2ـ حل العقدة, والتنسيق, والتحديد, والتقرير. وُيقدّم على ذلك مثلا ما لاحظه فاليري من أن فكرة القضاء هي في العمق كالمسرحية ـ مطلوب حل عقدتها, وإعادة التوازن المفقود. بعد ذلك لا يبقى شيء وتنتهي المسرحية. ولا يستطيع القاضي, الواجب عليه القيام بمهام القضاء, ترك المسرحية, أي القضية, دون نهاية.
3 ـ معالجة مجموعة من الأشياء, غير متناسقة, متناقضة, مشكوك بها, متجسدة في كم مختلط ( القضية المطروحة أمامه), يرى فيها العديد من الاحتمالات التي يجب تقيمها , وطرح الافتراضات المتعددة, وتسليط الضوء عليها. وعليه معرفة التمييز بين المهم والأكثر أهمية, وما ليس فيه أية أهمية. وامتلاك الإحساس المسبق بالمعاني التي قد تقود في هذا الاتجاه أو بذاك.
4ـ يدافع القاضي عن النظام العام, والنظام القانوني, والنظام الاجتماعي, طبقا للقواعد. وعليه إعادة النظام المعتدى عليه إلى ما كان عليه قبل خرقه. كما عليه إصدار حكم, أو قرار, يكون واضحا ومثاليا.
5 ـ تتطلب المحاكمة من القاضي امتلاك مرونة فكرية, ومقدرة على الولوج إلى العمق, ومقدرة على الاستيعاب. ويشير المؤلف إلى وجود متعة في عملية المحاكمة, متعة ممزوجة بحساسية. وممزوجة بخوف وبحذر ووسوسة. أشكال هذه المتعة متعددة: المتعة في الوصول إلى فهم ما هو غير مكتمل في ملف قضية بين يديه. متعة كفاح في حل خصومة معروضة عليه. متعة المحاجة والإقناع. متعة تحرير الملخصات, وتركيب الكلام الموزون, وإصدار الأحكام والقرارات الصائبة.
كما يشير, زيادة على ذلك, إلى بعض الأسس التي يعتبرها بسيطة, مثل: استيعاب ما هو مطروح عليه في كل غامض, وتسوية قضية, والدفاع عن النظام العام. واستيعاب خلفيات القضايا المطلوب النظر فيها ضمن:
ـ الوقت والمدد المحددة, والمراحل المتتابعة. فعلى القاضي تقع دائما ضغوط الوقت.
ـ الالتزام: القاضي ملزم بالنطق بالعدالة, حسب أنظمة معينة, فهو يملك وكالة ( غالبا ما تكون عائمة وغير واضحة تتبع العرف), وقواعد يجب احترامها ( سواء أكانت مكتوبة أم عرفية, تعود للتكتم), والتزامات عليه التقيد بها ( الرقابة الذاتية, والتقيد بالانضباط المهني).
ـ عزلة: المحاكمة تتطلب الانعزال عن العالم الواقعي المحيط به, ليتصرف, ويفكر بترو, وغالبا بطقوس معينة.
ـ يعمل القاضي ما بوسعه, وبضمير, ويمكنه أن يصبح "قاض جيد" يصدر أفضل القرارات, ولكن الواقع يبين أن هناك قضاة ليسوا بالمستوى المطلوب, ضعفاء, محدودي التكوين. ويظهر ذلك عندما لا تكون المحاكمة بقاض منفرد. فالمداولات مع نظرائه في القضايا الصعبة, بما يحدث فيها بالضرورة من توتر ومماحكات , واصطدام حساسيات, وجدل فقهي, وبروز العديد من الأفكار المسبقة. يظهر فيها الوضع الصعب لبعض القضاة من النوع المذكور.
ـ ويشير المؤلف إلى الخطأ الذي قد يحصل في المحاكمات, مثلا:
1ـ خلال التحقيق, وعدم المعرفة الكافية, وعدم المثابرة والاجتهاد في العمل, والرغبة في الوصول للقرار المتعجل. وعدم اخذ الوقت الكافي في البحث و التعمق في التفكير.
2ـ عن عدم القدرة على البناء المتماسك للأشياء, وعدم معرفة الصياغة الجيدة للأحكام والقرارات.
3ـ عن اللجوء للبرهنة المجردة التي لا تتصل بالوقائع, إما للاستعجال, وإما للتقيد بما سبق من أحكام وقرارات.
4ـ عن الافتقاد للنزاهة, والبت بطرق انتهازية. والحساسية تجاه التأثيرات, أو الضغوط, وعدم الأمانة في القيام بالوكالة المسندة إليه كقاض. ويضيف المؤلف: إن النظام الذي اعتمدناه (يقصد به النظام القضائي الفرنسي) يقود بسهولة لبلوغ معدل لا بأس به من الأخطاء التي لا يمكن تجنبها, والآتية من القضاة المكونين بشكل غير كاف, ضيقي التفكير والمعرفة, أو المتسرعين في مهامهم.
ـ عن الطموح غير المؤسس للقاضي, وهو المكلف بمهام معقدة, بان يكون قاض جيد, وهو طموح مشروع , والطموح بالتدرج في المراتب القضائية, وبناء سمعة حميدة وشهرة ثابتة. كما يطمح بالوصول إلى مقدرة عالية في صياغة أحكام و قرارات جيدة, وبناء قانوني رائع, وصولا إلى خلق قواعد جديدة " مبادئ عامة". وأحيانا طموحات سياسية ( برؤية أن العالم العادل يقتضي احتلال القاضي فيه المركز الأول, متقدما حتى على المشرع). هذه الطموحات أو الأحلام, كما يراها المؤلف, متعددة الأشكال, فهي أحيانا ديناميكية, وغالبا ما تكون خطيرة ( إذ يمكن إن تفسد الأحكام المطلوب إصدارها Jugements مما يبعده عن الطريق السليم).
ومع ذلك, تبقى جوانب عديدة من دور القضاء ومهامه, وطرق التقاضي والمحاكمات, غامضة ومجهولة, ليس فقط لدى العامة. وإنما كذلك من جانب كبير من المثقفين, وحتى عند العديد من ممارسي مهن لها صلة بالقضاء. ومنها الإلمام بطرق ووسائل وأساليب المحاكمات, وكيفية وصول القاضي إلى إصدار حكمه أو قراره. ومعرفة القاضي نفسه بالكيفية الصحيحة الموصلة إلى إصدار الأحكام والقرارات الملائمة, التي ستعتبر عن صدورها عنوان الحقيقة في القضايا المحكوم بها. أي معرفة, ما يسميه غي تولييه, فن المحاكمة.
وعليه رأينا من المفيد بهذا الصدد عرض كتاب نادر في موضوعه, مؤلفه غي تويليه Guy Thuillier قاض ومدير دراسات في المدرسة العليا للدراسات التطبيقية. عنوانه , l’Art de juger يمكن ترجمته ب "فن المحاكمة".لا يتجاوز عدد صفحاته 74 صفحة باللغة الفرنسية, ( كانت لدى المؤلف رغبة في أن تبلغ عدد الصفحات 800 صفحة كما ذكر في خاتمة الخاتمة) يتصدى فيه لفن المحاكمة عن طريق طرح أسئلة والإجابة عليها بنفسه , عرضنا له ليس ترجمة, ولا دراسة, ولا ادعاء تعليق, أو نقد , وإنما عرض, يتوخى الأمانة, بقدر ما يسمح نقل الأفكار من المصدر إلى اللغة العربية, ومع ذلك, ولضرورة التوضيح كان لا بد من إعادة صياغة الأفكار, دون الخروج بها عن غايتها, بما يتلاءم مع أسلوب لغتنا وطرقها, على أن يكون ذلك في "حلقات" تتناسب مساحة كل منها مع ما تسمح به الجريدة الالكترونية, وكذلك صبر القارئ غير المهتم كثيرا بمثل هذه المواضيع, التي يعتقد أنها لا تتعلق بواقعه اليومي الضاغط إلى درجة يكاد يخرجه من دائرة كل اهتمام, وحتى من دائرة الحياة نفسها.
يطرح الكاتب أسئلة منها:
ماذا يعني فن المحاكمة؟
كيف يمكن أن نحاكم؟
ما هي المبادئ الواجب تطبيقها؟
كيف يمكن أن يكون القاضي قاض جيد, نزيه, موضوعي, معتدل, وحذر؟
ما هي قواعد اللعبة؟
أسئلة صعبة, كما يصفها بنفسه, و يجهد للإجابة عليها في 11 فصل.
في المقدمة يعرض الكاتب مسألة كيفية المحاكمة ومعنى المحاكمة. وكيف ينظر القاضي لنفسه كقاض؟.
نحن هنا, كما يعلن, في مجال من المجالات التي يكتنفها الغموض. في حين أن الاعتقاد السائد أن المحاكمة عملية سهلة, واضحة, سلسة, إذ يكفي تطبيق قاعدة القانون. في هذه الحالة, كما يسارع للإشارة, نكون قد حكمنا بشكل معيب, غير كامل, وغير أكيد. فالأحكام الجادة ليست دائما معتادة ومتواترة, حتى ولو حلم كل قاض بان يكون قاض جيد. ويقرر أن هناك العديد من الصعوبات تعترض المحلل للدخول بعمق في هذا المجال, الذي يبدو بعيدا عن الاهتمام العام.
المحاكمة عملية معقدة لأبعد الحدود. يدخل فيها, لمعرفة أبعادها, الاهتمام بالجانب المتعلق بحياة القاضي, حاضره, وماضيه . و توخي الحذر, مع المواربة, للوصول لهذه المعرفة (لأننا لا نستطيع قول كل شيء), ولكن لا بد من تقديم بعض الملاحظات الضرورية (احتياطيا) حول أسس ومبادئ فن المحاكمة, وحول القاضي وواجباته. وكذلك حول القواعد الجيدة المعمول بها.
تحت عنوان ماذا تعني المحاكمة؟ يقرر الكاتب أن المحاكمة هي الطريقة التي يتم التقاضي بموجبها, وهي غير معزولة ولها صلة بالآخرين, وطريقة في التصرف. أي أنها أكثر من مجرد الخضوع للقواعد القانونية. وفيها يؤخذ في الحسبان: حياة القاضي, والقواعد المعنوية لديه, ومقدرته الحدسية, وإبداعه. ويذكرالكاتب أن ما يُعرف في هذا المجال قليل جدا, لعدم وجود مؤلفات في فن المحاكمة. ولرفض الذهاب بعيدا فيما يتعلق بخلفية عمليات المحاكمة.
هذا الرفض جدير بالاهتمام: فظاهريا, كأننا نلمس المقدس. لا يُراد إبراز أسرار المهنة. يُراد إعطاء صورة عن القضاء وكأنه فوق كل قاعدة. هناك خوف من المحامين الذين يقضون وقتهم في النميمة وقول السوء في القاضي. مما يتطلب الحذر. ولا يوجد شرحا جيدا لهذا (فلا نجد مذكرات خاصة لأحد من القضاة في هذا الشأن). نجد كل عام أعدادا كبيرة من الأحكام, والقرارات, تتزايد, كما يتزايد عدد القضاة. ويمكن افتراض أن هناك طرقا لتعديل الأحكام, وزيادة فعاليتها ومصداقيتها, ولكن لا توجد بحوث حول الآليات التي تُوصل إلى المصداقية.
في هذا المجال, يقول: نحن في حقل ملغم ومفخخ, و ضبابية تحيط بفن المحاكمة, ويعطي على ذلك مثلا : هل توجد طرق محاكمات متطابقة, في حين يوجد قضاة مهنيون وقضاة غير مهنيين ؟ ( تجدر الإشارة إلى أن عدد قضاة القضاء العادي كان عام 1994 .6197 قاض. والقضاة الإداريين 713 قاض, في العام نفسه. والى جانبهم يوجد 20000 قاض غير مهني, بما فيهم قضاة العمال والعمل .. غير مكونين, عموما, بشكل كاف. وموكلة إليهم مهام غير واضحة بدقة, عرفية, ولهم دون شك طرقهم في فن المحاكمة .. ), وفي الوقت الذي فيه لكل محكمة تقاليدها وطقوسها الخاصة ؟ هل بقيت طرق المحاكمة ثابتة أم أنها تبدلت وتنوعت مع الزمن؟ . نرى اليوم اتساع المحاكمات في المجتمع. ولكن برقابة سيئة, واتساع سلطات القضاة, مع ضغط وسائل الإعلام على سير العدالة. مما أدى إلى خلق الكثير من المشاكل. ولكن مع ذلك هل تغير فن المحاكمة في مبادئه؟ هل يجب التذكير بان فن المحاكمة يتغير مع مزاج, وعمر, وجنس, القاضي وتجربته المعيشية, وتكوينه المعنوي, آو الفلسفي ؟.
وعليه, يرى انه من المستحيل بناء نظرية عامة في فن المحاكمة, ومع ذلك يمكن, احتياطيا, رسم نظريات جزئية, غير مكتملة, تسمح بان تعطي نظرة عن القاضي, عن حياته المعيشية, وعن داخله وعالمه الخاص. مثل هذه الطريقة, رغم كونها تعسفية, توضح مع ذك بعض المسائل, وتظهر نقاط الخلاف للباحثين المستقبليين. ويجب الحذر هنا في هذا الميدان. حيث لكل قاض طريقة في المحاكمة, وله أنماطه السلوكية المختلفة, و رؤية للحقوق قد تكون خاصة. المحاكمة ــ ويلفت الكاتب إلى انه يتحدث من موقع التجربة ــ من حيث المبدأ, تعد مهنة صعبة, لها مقتضياتها, تبعث القلق, والاضطراب, وخيبات أمل. مضيفا من يستطيع القول, متأكدا, بأنه قاض جيد.
في الفصل الثاني من الكتاب يتحدث المؤلف عن الركائز fondement المبني عليها فن المحاكمة.
فيعلن أن آلية المحاكمة معقدة , وليس لغير القاضي, في الدرجات المتقدمة, إمكانية إدراكها. فعلى ماذا يتأسس إصدار الحكم jugement؟
يجيب على ذلك عارضا الأسس التالية.
1ـ مقدرة القاضي على النفاذ إلى الكل المبهم, المغلق( ملف القضية), ومعرفته من الداخل.والتنبه لكل مطباته وخفاياه, والبحث في كل زواياه.
2ـ حل العقدة, والتنسيق, والتحديد, والتقرير. وُيقدّم على ذلك مثلا ما لاحظه فاليري من أن فكرة القضاء هي في العمق كالمسرحية ـ مطلوب حل عقدتها, وإعادة التوازن المفقود. بعد ذلك لا يبقى شيء وتنتهي المسرحية. ولا يستطيع القاضي, الواجب عليه القيام بمهام القضاء, ترك المسرحية, أي القضية, دون نهاية.
3 ـ معالجة مجموعة من الأشياء, غير متناسقة, متناقضة, مشكوك بها, متجسدة في كم مختلط ( القضية المطروحة أمامه), يرى فيها العديد من الاحتمالات التي يجب تقيمها , وطرح الافتراضات المتعددة, وتسليط الضوء عليها. وعليه معرفة التمييز بين المهم والأكثر أهمية, وما ليس فيه أية أهمية. وامتلاك الإحساس المسبق بالمعاني التي قد تقود في هذا الاتجاه أو بذاك.
4ـ يدافع القاضي عن النظام العام, والنظام القانوني, والنظام الاجتماعي, طبقا للقواعد. وعليه إعادة النظام المعتدى عليه إلى ما كان عليه قبل خرقه. كما عليه إصدار حكم, أو قرار, يكون واضحا ومثاليا.
5 ـ تتطلب المحاكمة من القاضي امتلاك مرونة فكرية, ومقدرة على الولوج إلى العمق, ومقدرة على الاستيعاب. ويشير المؤلف إلى وجود متعة في عملية المحاكمة, متعة ممزوجة بحساسية. وممزوجة بخوف وبحذر ووسوسة. أشكال هذه المتعة متعددة: المتعة في الوصول إلى فهم ما هو غير مكتمل في ملف قضية بين يديه. متعة كفاح في حل خصومة معروضة عليه. متعة المحاجة والإقناع. متعة تحرير الملخصات, وتركيب الكلام الموزون, وإصدار الأحكام والقرارات الصائبة.
كما يشير, زيادة على ذلك, إلى بعض الأسس التي يعتبرها بسيطة, مثل: استيعاب ما هو مطروح عليه في كل غامض, وتسوية قضية, والدفاع عن النظام العام. واستيعاب خلفيات القضايا المطلوب النظر فيها ضمن:
ـ الوقت والمدد المحددة, والمراحل المتتابعة. فعلى القاضي تقع دائما ضغوط الوقت.
ـ الالتزام: القاضي ملزم بالنطق بالعدالة, حسب أنظمة معينة, فهو يملك وكالة ( غالبا ما تكون عائمة وغير واضحة تتبع العرف), وقواعد يجب احترامها ( سواء أكانت مكتوبة أم عرفية, تعود للتكتم), والتزامات عليه التقيد بها ( الرقابة الذاتية, والتقيد بالانضباط المهني).
ـ عزلة: المحاكمة تتطلب الانعزال عن العالم الواقعي المحيط به, ليتصرف, ويفكر بترو, وغالبا بطقوس معينة.
ـ يعمل القاضي ما بوسعه, وبضمير, ويمكنه أن يصبح "قاض جيد" يصدر أفضل القرارات, ولكن الواقع يبين أن هناك قضاة ليسوا بالمستوى المطلوب, ضعفاء, محدودي التكوين. ويظهر ذلك عندما لا تكون المحاكمة بقاض منفرد. فالمداولات مع نظرائه في القضايا الصعبة, بما يحدث فيها بالضرورة من توتر ومماحكات , واصطدام حساسيات, وجدل فقهي, وبروز العديد من الأفكار المسبقة. يظهر فيها الوضع الصعب لبعض القضاة من النوع المذكور.
ـ ويشير المؤلف إلى الخطأ الذي قد يحصل في المحاكمات, مثلا:
1ـ خلال التحقيق, وعدم المعرفة الكافية, وعدم المثابرة والاجتهاد في العمل, والرغبة في الوصول للقرار المتعجل. وعدم اخذ الوقت الكافي في البحث و التعمق في التفكير.
2ـ عن عدم القدرة على البناء المتماسك للأشياء, وعدم معرفة الصياغة الجيدة للأحكام والقرارات.
3ـ عن اللجوء للبرهنة المجردة التي لا تتصل بالوقائع, إما للاستعجال, وإما للتقيد بما سبق من أحكام وقرارات.
4ـ عن الافتقاد للنزاهة, والبت بطرق انتهازية. والحساسية تجاه التأثيرات, أو الضغوط, وعدم الأمانة في القيام بالوكالة المسندة إليه كقاض. ويضيف المؤلف: إن النظام الذي اعتمدناه (يقصد به النظام القضائي الفرنسي) يقود بسهولة لبلوغ معدل لا بأس به من الأخطاء التي لا يمكن تجنبها, والآتية من القضاة المكونين بشكل غير كاف, ضيقي التفكير والمعرفة, أو المتسرعين في مهامهم.
ـ عن الطموح غير المؤسس للقاضي, وهو المكلف بمهام معقدة, بان يكون قاض جيد, وهو طموح مشروع , والطموح بالتدرج في المراتب القضائية, وبناء سمعة حميدة وشهرة ثابتة. كما يطمح بالوصول إلى مقدرة عالية في صياغة أحكام و قرارات جيدة, وبناء قانوني رائع, وصولا إلى خلق قواعد جديدة " مبادئ عامة". وأحيانا طموحات سياسية ( برؤية أن العالم العادل يقتضي احتلال القاضي فيه المركز الأول, متقدما حتى على المشرع). هذه الطموحات أو الأحلام, كما يراها المؤلف, متعددة الأشكال, فهي أحيانا ديناميكية, وغالبا ما تكون خطيرة ( إذ يمكن إن تفسد الأحكام المطلوب إصدارها Jugements مما يبعده عن الطريق السليم).