قبل الإسلام:
كان الظلم والجهل والعدوان منتشرا وسائدا في مناحي الحياة كلها في الجزيرة العربية، ولا يوجد نظام حكم منصف في حل المنازعات والخصومات، وكانوا يلجأون إلى حلها عن طريق النظام القبلي والعشائري الذي كان سائدا، متمثلا في شيخ القبيلة الذي كان يتمتع بدعم معنوي ومادي من أبناء قبيلته.
كما كانوا يفزعون في بعض الخصومات إلى الكهان والعرافين، أو إلى الأصنام وسدنتها، وأضحى الوضيع محكوما، والشريف خارجا عن دائرة نظام وسيادة الحكم.
القضاء في عهد النبوة:
أسس النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أصول القضاء في شريعته الخاتمة للناس، وتولى صلوات الله وسلامه عليه هذا العمل الجليل بنفسه، فكان هو المرجع في فصل الخصومات، وفيما يلي أبرز الأسس التي تستوحى من سيرته صلى الله عليه وسلم في القضاء:
* اولاً: الأصل في الحكم والمرجع في القضاء لحكم الشريعة الإسلاميةالعادلة بمدلول قوله عز وجل : (وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط) المائدة 5/42 . وقوله سبحانه : (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) المائدة 5/49 .
* ثانياً: الحكم بين الناس مبناه على إقامة العدل والقسط من غير ميلٍ أو حيف أو هوى . قال جل وعلا : (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) النساء 4/58 . ويقول عز شانه : (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب) سورة ص 38/26 .
* ثالثاً: التحاكم بين الناس واجب إلى شرع الله وحكمه دون غيره من أحكام الطواغيت ،
يقول تعالى : (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً * وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله والى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً * فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً * أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً) النساء 5/60-63
ويقول سبحانه : (ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين * وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون * وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين * أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون * إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون) النور 24/47-51 .
ويقول عز شأنه : (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم أحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فان تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيراً من الناس لفاسقون * أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون) المائدة 5/49-50 .
* رابعاً: التسليم لحكم الله والرضى به والانقياد له أمرحتمي لازم لمن آمن ، والنكوص عن ذلك بأية صورة منافٍ لمقتضى الإيمان وحقيقته ، يقول الرب تعالى وتقدس : (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً) النساء 4/65 .
* خامساً: الحكم والقضاء في سائر الخصومات والمنازعات يقع من الحاكم على ظواهر الحال ودلائل المتخاصمين ، والحكم بموجب ذلك لا يحل الباطن لمن حكم له إذا كان الأمر في ذاته وحقيقته بخلاف ما ظهر وما حكم به ، دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم : "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي على نحو ما أسمع فمن قضيت له بحق أخيه شيئاً فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار" رواه البخاري ومسلم .
* سادساً: المتولي لعمل القضاء ينظر إلى سلامته من توابع حكمه وقضائه برقابة ذاتية لكونه قد أنيط به إقامة الحق والقسط في الحكومة بحكم الشريعة ، ولذا لزمه الاجتهاد والتحري فيما وكل إليه ليحصل له أجر اجتهاده وإصابته وليسلم من تبعة المؤاخذة في التقصير في الآخرة ، روى بريدة – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "القضاة ثلاثة : واحد في الجنة واثنان في النار ، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به ، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار ، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار" رواه أبو داود .
* سابعاً: القاضي في اختصام الناس وشقاقهم يلي أمراً مهماً عظيماً يوجب عليه عناية خاصة فيما يعالج فيتعين خلوه من الشواغل والمؤثرات بحيث يضمن سلامة الحكم وصحته في أعيان الوقائع وفي مثل هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم : "لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان" رواه البخاري ومسلم .
ومقيس على الغضب ما هو من جنسه من الشواغل المؤثرة .
ونتيجة لما سلف من أسس قضائية فريدة أسسها وأرسى دعائمها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وتربى عليها وآمن بها أصحابه – رضوان الله عليهم – كان في الواقع عدل وإنصاف فريد متميّز ، وحظي الناس بحكم مقسط أظهر الحقوق ورد المظالم وقطع شقائق الخلاف والنزاع .
والمتتبع لنصوص السنة النبوية وسيرة النبي في قضائه وأحكامه يجد فيها تقعيدا ضابطا لأصول المحاكمات والمرافعات.
القضاء في عهد الخلافة الراشدة:
القضاء في عهد الخلافة الراشدة يُعد أول تجربة قضائية للمسلمين بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم ولئن تميّز عهد النبوة بالوحي الذي هو مصدر التشريع ، وبوجود النبي صلى الله عليه وسلم قائماً بأمر الحكم بين الناس ومتولياً لهذا الشأن بتسليم ورضى وانقياد منهم تحقيقاً لما أمروا به في مثل قوله تعالى : (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوات إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون) النور 24/51 فان عهد الخلفاء الراشدين هو المرحلة التطبيقية للقضاء تأسيساً على نصوص الشريعة ، وتأصيلاً للأحكام على ما فهم من سنن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في هذا الباب من بعده ، كما يظهر في هذه المرحلة الطريقة الصحيحة للنظر والاجتهاد في أعيان الحوادث المستجدة في واقع الناس ولم يكن لها نص يخص آحادها من المشرّع ، فيتحقق قيام المقتضي لاستخراج العلل وتحقيق المناطات واستجلاء الأقيسة السالمة من العوارض والنواقض ، ولقد كان في عهد الخلفاء النيّر تقعيد وتأصيل وتأسيس للأقضية والأحكام على ما جمعوه من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم وحفظوه عنه فيها ، ومما يُظهر اعتبار عهد الخلافة الراشدة وتميّزه حتماً بمزيد من العناية ما صح به الأثر عن النبي المصطفى – صلوات الله وسلامة عليه – الأمر بالعمل بسنة الخلفاء الراشدين من بعده . فعن العرباض بن سارية – رضي الله عنه – قال : وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب ، وذرفت منها العيون ، فقلنا : يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا ، قال : "أوصيكم بتقوى الله ، والسمع والطاعة ، وإن تأمّر عليكم عبد ، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، عضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة" رواه أبو داود .
قال الحافظ ابن رجب – رحمه الله - : "وفي أمره صلى الله عليه وسلم باتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين بعده وأمره بالسمع والطاعةلولاه الأمور عموماً دليل على أن سنة الخلفاء الراشدين متبعة كاتباع سنته ، بخلاف غيرهم من ولاة الأمور" .
ويمكن أن نستجمع أهم مميزات عهد الخلافة المبارك وسماته في المجال القضائي بما يلي :
* أولاً: المرجع في الأقضية والأحكام في قضاء الخلفاء الراشدين – رضي الله عنهم – إلى وحي الرسالة بما ورد في كتاب الله تعالى وصح من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم بحيث يعد النص من المشرع هو الأساس المعتبر المنتهي إليه في كل حكومة يرام فصلها والقضاء فيها اهتداء بما ورد من نصوص الكتاب والسنة الموجبة لهذا الاعتبار .
* ثانياً: الحرص على تقفّي سنن الرسول صلى الله عليه وسلم في أحكامه واقضيته ، واتباع سبيله فيها ، والعناية بجمعها . وتحقيق صحة وقائعها بالتتبع والسؤال والبحث وتلك أو وهي سمة ظاهرة في عمل الخلفاء الراشدين – رضي الله عنهم – في حكوماتهم واقضيتهم .
* ثالثاً: الأحكام والأقضية تحتاج إلى إعمال نظر وتأمل ومقايسة ، ولذا فقد كان من منهج الخلفاء - رضي الله عنهم - في قضائهم المشاورة وطلب الرأي فيما يعرض لهم من القضاء ابتغاء للحق ، وتطلباً لحكم الله في الوقائع .
* رابعاً: آحاد القضايا وأعيانها تتجدد وتتنوع وقد لا يكون ثمة نص في عين قضية ما فيعمد الخلفاء الراشدون - رضي الله عنهم - إلى إعمال أنظارهم باجتهاد وبحث ونظر ، استخراجا لحكم الواقعة وما يرتبط بها من المناطات والعلل المعتبرة في منظور الشريعة مما يتخرج عليه حكمها .
توسعت أقاليم الدولة الإسلامية في عصر الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - حتى تجاوزت حدود جزيرة العرب نظراً للفتوحات الكثيرة ، وصاحب ذلك إقبال الناس على الدخول في دين الله أفواجاً ، فاقتضى الحال بعث جملة من القضاة يتولون الفصل والحكم في المنازعات والخصومات بين الناس في كل ناحية وإقليم ، وكان لهذا العمل مصالح كثيرة وإيجابيات متعددة في واقع القضاء حيث جرى ترتيب لهذه الإنابة القضائية من وليّ أمر المسلمين إلى من يقيمه لهذا الشأن بتقعيد أصول القضاء وبيان أساليبه ، وإيضاح سبله وطرائقة و من أشهر ما يذكر في هذا المقام كتاب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - في أمر القضاء حيث قال في كتابه : "أما بعد : فإن القضاء فريضة محكمة ، وسنة متبعة ، فافهم إذا أدلي إليك ، فإنه لا ينفع تكلّم بحق لا نفاذ له ، وآس بين الناس في وجهك ومجلسك وقضائك ، حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك ، البينة على من ادعى ، واليمين على من أنكر ، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرّم حلالاً ، ومن ادعى حقاً غائباً أو بينة فاضرب له أمداً ينتهي إليه ، فإن جاء ببينة أعطيته حقه ، فإن أعجزه ذلك استحللت عليه القضية فإن ذلك أبلغ في العذر ، وأجلى للعمى ، ولا يمنعك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه رأيك وهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق ، لأن الحق قديم لا يبطله شيء ، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل ، والمسلمون عدول بعضهم على بعض في الشهادة إلا مجلوداً في حدٍ أو مجرباً عليه شهادة زور ، أو ظنيناً في ولاء أو قرابة ، فإن الله تعالى تولى من العباد السرائر ، وستر عليهم الحدود إلا بالبينات والأيمان ، ثم الفهم الفهم فيما أدلي إليك مما ليس في قرآن ولا سنة ، ثم قايس الأمور عند ذلك ، واعرف الأمثال والأشياء ، ثم اعتمد إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق ، وإياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس عند الخصومة والتنكر ، فأن القضاء في مواطن الحق يوجب الله به الأجر ، ويحسن به الذخر ، فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس ، ومن تزيّن بما ليس في نفسه شانه الله ، فان الله لا يقبل من العباد إلا ما كان خالصاً ، وما ظنك بثواب الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته .. والسلام"
القضاء في عصور ما بعد الخلافة الراشدة:
تتابعت عصور المسلمين ودولهم بعد عهد النبوة والخلافة الراشدة من بعد سنة الأربعين من الهجرة وللعمل القضائي قواسم مشتركة بين عموم الفترات والمراحل الزمنية المتعاقبة ، وإن كان للمتأمل في كل مرحلة وفترة خصائص تميزها عن غيرها إلا أن العناية بالجوامع بين العموم واستخلاصها وإبرازها أولى بالاعتبار والنظر ، كما أن ذلك يعطي تصوراً عاماً لمسيرة القضاء وعمله في تاريخ المسلمين وحضارتهم في الزمن الماضي ، فقد حكمت ديار المسلمين بعد الخلافة الراشدة عدد من الدول والحكومات في مختلف الأنحاء والأقاليم.
ولقد اتسم القضاء في عموم هذه الدول بسمات تدل على تقدم أعماله ورسوم وظيفته حيث ظهرت بحوث ودراسات وترتيبات وتنظيمات لهذا العمل الجليل تفيد بعدد من القواعد والضوابط والأحكام والرسوم لشكله ومضمونه مما أعطي هذا الجانب المزيد من العناية والاعتبار ، وأقام لهذه الولاية الشريفة مقاما يليق بمهمتها ووظيفتها السامية 00 ولعل من أبرز السمات الظاهرة للعمل القضائي في تلك العصور ما يلي :
* أولاً: أن عمل المسلمين في قضائهم عبر عصورهم المتعاقبة ودولهم المتتابعة جار على تحكيم شرع الله المطهر وإعمال أحكامه وإقامة حدوده ولا غرو في ذلك فهو واجب مقطوع به في اصل الدين ، ولم يحصل إخلال به في مجمل أقضية المسلمين عبر تاريخهم إلى حين الزمن المتأخر الذي ظهرت فيه المنابذة لحكم الشريعة واستبداله بحكم الطاغوت
* ثانياً: إن عمل القضاء من وظائف الإمامة العظمى ، وقد كان ولاة الأمة في الصدر الأول يتولونه بأنفسهم ، وبعد توسع الفتوحات وتعدد البلدان والأقاليم ظهرت الحاجة إلى بعث القضاة في سائر النواحي للقيام بمهمة الحكم بين الناس في خصوماتهم ونزاعاتهم .
* ثالثاً: إثراء الجوانب المتعلقة بالدراسات الفقهية والقضائية بنشاط التأليف والتصنيف والبحث والنظر وظهور المدارس العلمية في كثير من بلدان العالم الإسلامي مما كان له الأثر البالغ على تحرير الأحكام ، وتصوير وقائعها ، ومعرفة مآخذ الأحكام من النصوص والدلالات الشرعية ، وقد أنتجت العناية بهذا الشأن للمسلمين في عصورهم المتعاقبة مرجعية علمية ثرية بحيث يندر أن تند نازلة من النوازل عن مجموع هذه البحوث والدراسات في الأصول والفروع ، وشاهد ذلك ما تحفل به المكتبات الإسلامية من مؤلفات ومصنفات متنوعة في هذا الفن بين مطوّلات وشروحات ومجاميع ، ولقد كان لعناية الخلفاء والولاة والحكام في تلك العصور بأهل العلم والنظر والتصنيف وحفزهم وتشجيعهم مزيد إثراء لهذا العمل الجليل القدر ونماء للعطاء فيه .
* رابعاً: حيث تكثر القضايا وتتباين أنواعها ، وتتسع أقاليم الدولة وتتباعد أنحاؤها وأطرافها ، تظهر الحاجة الملحة في الواقع إلى تخصيص العمل القضائي نوعاً ومكاناً ، تحقيقاً لمصلحة المتقاضين وقضاياهم ، وقد كان العمل القضائي المتخصص هو السمة الغالبة على قضاء المسلمين عبر تاريخهم ، ولهذا قرر فقهاء الشريعة بنصوص متظافرة جواز الأخذ بهذا المنهج المتخصص سواء أكان في النوع أو المكان
* .خامساً: تعدد القضاة في المصر الواحد بحيث يتولى كل واحد منهم نوعاً من القضايا ، أو يتولى مجموعة منهم قضاء المصر من الأمور التي ظهرت في تاريخ قضاء المسلمين وعُدَّ سمة من سماته لقيام المقتضي له ، وقد سمي بعض هؤلاء القضاة بعمله كقاضي الجند ، وقاضي السوق ، وقاضي المناكح وهكذا .
* سادساً: ولاية القضاء وعمل الحكم والفصل بين الناس هو جزء مستفاد من الإمامة العظمى المنوطة بولي الأمر العام ، وحين ظهر في عصور المسلمين تخلي الأئمة عن هذا العمل وإناطته بغيرهم ممن تأهّل له كان لابد في ظل ذلك من تحديد هذه الولاية ووظائفها ، ولذلك تظافرت كتب الفقهاء - رحمهم الله - في ذكر وظائف القاضي وبيان ما يرتبط بولايته من الأعمال ، وقد يتباين حديثهم عن هذه الوظائف بحسب مفهومها عند كل فقيه وما عاصره إلا أن هناك قواسم مشتركة في تحديد ذلك من حيث العموم ، حيث جعلوا من وظيفة المتولي لعمل القضاء الفصل في منازعات الناس وشقاقهم ، والقيام على أمر المحبوسين والموقوفين والحكم في شأنهم ، ورعاية الأيتام والقاصرين وأموالهم ، والنظر في شأن الأوقاف والوصايا والغيّب والمجاهيل ، والأخذ على السفهاء بالحجر عليهم وزجرهم حفاظاً لهم وللعموم ، وإقامة الحدود ، وإمامة الجمعة والعيد وغير ذلك .
وقد يكون من شأن القاضي القيام بهذه الأعمال وغيرها مما قد يزاد عليها في عصر من الأعصار ، وقد يحصر عمله في بعضها دون بعض ، ولكن تحديد وظيفة القاضي حال توليته صفة لازمة للعمل القضائي بعامة في زمنه الماضي .
* سابعاً: درج الولاة على كفاية من يولون عمل القضاء بمنحهم ما يقوم بحاجتهم من رزق بيت المال ليكفوهم مؤونة المعاش ، وليتفرغوا لمعالجة الحكومات وما يعرض من أمر القضاء ، وليكون في ذلك بُعْدٌ للقضاة عن الصفق في الأسواق والدخول في معامع الاتجار وطلب المكاسب ، حفاظاً لمقامهم وشريف وظيفتهم ونبذ احتمال استمالتهم بعرض الدنيا من قبل أرباب المصالح في الخصومة ، وقد كان من الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن كتب إلى عماله : "استعملوا صالحيكم على القضاء واكفوهم" وعلى هذا السنن جرى عمل القضاء في سائر أعصار المسلمين .
* ثامناً: حيث كثر عدد القضاة في دول المسلمين عبر تاريخهم كان لابد من ترتيب هذا العدد وتشكيله وإيجاد مرجعية تؤول إليها أمور القضاء والقضاة ويكون لها نوع إشراف على عملهم .
* تاسعاً: تسجيل الأحكام وتدوين وقائعها مفيد إفادة ظاهرة في حفظها وضبطها توثيقاً للحقوق ومقايسة للنظائر مما يقع فيما يستقبل من النوازل ، ولذا عني المعتنون بأمر القضاء فيما سلف برصد وقوعات الأحكام والأقضية وتسجيلها وتدوينها في محفوظات ووثائق وفق ضوابط وقيود توحي بتصور دقيق لهذا العمل ومحرراته وشرائط من يقوم به .
تلك هي أبرز السمات التي اتسم بها قضاء المسلمين في تاريخهم إلى حين بلوغ العصر الحديث الذي صيغ فيه القضاء وفق تشيكلات إدارية وتنظيمية جديدة يراد لها تقديم عطاء أكثر وأدق وأضبط.
منقووووووووووووووووول
كان الظلم والجهل والعدوان منتشرا وسائدا في مناحي الحياة كلها في الجزيرة العربية، ولا يوجد نظام حكم منصف في حل المنازعات والخصومات، وكانوا يلجأون إلى حلها عن طريق النظام القبلي والعشائري الذي كان سائدا، متمثلا في شيخ القبيلة الذي كان يتمتع بدعم معنوي ومادي من أبناء قبيلته.
كما كانوا يفزعون في بعض الخصومات إلى الكهان والعرافين، أو إلى الأصنام وسدنتها، وأضحى الوضيع محكوما، والشريف خارجا عن دائرة نظام وسيادة الحكم.
القضاء في عهد النبوة:
أسس النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أصول القضاء في شريعته الخاتمة للناس، وتولى صلوات الله وسلامه عليه هذا العمل الجليل بنفسه، فكان هو المرجع في فصل الخصومات، وفيما يلي أبرز الأسس التي تستوحى من سيرته صلى الله عليه وسلم في القضاء:
* اولاً: الأصل في الحكم والمرجع في القضاء لحكم الشريعة الإسلاميةالعادلة بمدلول قوله عز وجل : (وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط) المائدة 5/42 . وقوله سبحانه : (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) المائدة 5/49 .
* ثانياً: الحكم بين الناس مبناه على إقامة العدل والقسط من غير ميلٍ أو حيف أو هوى . قال جل وعلا : (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) النساء 4/58 . ويقول عز شانه : (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب) سورة ص 38/26 .
* ثالثاً: التحاكم بين الناس واجب إلى شرع الله وحكمه دون غيره من أحكام الطواغيت ،
يقول تعالى : (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً * وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله والى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً * فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً * أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً) النساء 5/60-63
ويقول سبحانه : (ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين * وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون * وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين * أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون * إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون) النور 24/47-51 .
ويقول عز شأنه : (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم أحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فان تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيراً من الناس لفاسقون * أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون) المائدة 5/49-50 .
* رابعاً: التسليم لحكم الله والرضى به والانقياد له أمرحتمي لازم لمن آمن ، والنكوص عن ذلك بأية صورة منافٍ لمقتضى الإيمان وحقيقته ، يقول الرب تعالى وتقدس : (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً) النساء 4/65 .
* خامساً: الحكم والقضاء في سائر الخصومات والمنازعات يقع من الحاكم على ظواهر الحال ودلائل المتخاصمين ، والحكم بموجب ذلك لا يحل الباطن لمن حكم له إذا كان الأمر في ذاته وحقيقته بخلاف ما ظهر وما حكم به ، دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم : "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي على نحو ما أسمع فمن قضيت له بحق أخيه شيئاً فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار" رواه البخاري ومسلم .
* سادساً: المتولي لعمل القضاء ينظر إلى سلامته من توابع حكمه وقضائه برقابة ذاتية لكونه قد أنيط به إقامة الحق والقسط في الحكومة بحكم الشريعة ، ولذا لزمه الاجتهاد والتحري فيما وكل إليه ليحصل له أجر اجتهاده وإصابته وليسلم من تبعة المؤاخذة في التقصير في الآخرة ، روى بريدة – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "القضاة ثلاثة : واحد في الجنة واثنان في النار ، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به ، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار ، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار" رواه أبو داود .
* سابعاً: القاضي في اختصام الناس وشقاقهم يلي أمراً مهماً عظيماً يوجب عليه عناية خاصة فيما يعالج فيتعين خلوه من الشواغل والمؤثرات بحيث يضمن سلامة الحكم وصحته في أعيان الوقائع وفي مثل هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم : "لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان" رواه البخاري ومسلم .
ومقيس على الغضب ما هو من جنسه من الشواغل المؤثرة .
ونتيجة لما سلف من أسس قضائية فريدة أسسها وأرسى دعائمها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وتربى عليها وآمن بها أصحابه – رضوان الله عليهم – كان في الواقع عدل وإنصاف فريد متميّز ، وحظي الناس بحكم مقسط أظهر الحقوق ورد المظالم وقطع شقائق الخلاف والنزاع .
والمتتبع لنصوص السنة النبوية وسيرة النبي في قضائه وأحكامه يجد فيها تقعيدا ضابطا لأصول المحاكمات والمرافعات.
القضاء في عهد الخلافة الراشدة:
القضاء في عهد الخلافة الراشدة يُعد أول تجربة قضائية للمسلمين بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم ولئن تميّز عهد النبوة بالوحي الذي هو مصدر التشريع ، وبوجود النبي صلى الله عليه وسلم قائماً بأمر الحكم بين الناس ومتولياً لهذا الشأن بتسليم ورضى وانقياد منهم تحقيقاً لما أمروا به في مثل قوله تعالى : (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوات إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون) النور 24/51 فان عهد الخلفاء الراشدين هو المرحلة التطبيقية للقضاء تأسيساً على نصوص الشريعة ، وتأصيلاً للأحكام على ما فهم من سنن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في هذا الباب من بعده ، كما يظهر في هذه المرحلة الطريقة الصحيحة للنظر والاجتهاد في أعيان الحوادث المستجدة في واقع الناس ولم يكن لها نص يخص آحادها من المشرّع ، فيتحقق قيام المقتضي لاستخراج العلل وتحقيق المناطات واستجلاء الأقيسة السالمة من العوارض والنواقض ، ولقد كان في عهد الخلفاء النيّر تقعيد وتأصيل وتأسيس للأقضية والأحكام على ما جمعوه من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم وحفظوه عنه فيها ، ومما يُظهر اعتبار عهد الخلافة الراشدة وتميّزه حتماً بمزيد من العناية ما صح به الأثر عن النبي المصطفى – صلوات الله وسلامة عليه – الأمر بالعمل بسنة الخلفاء الراشدين من بعده . فعن العرباض بن سارية – رضي الله عنه – قال : وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب ، وذرفت منها العيون ، فقلنا : يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا ، قال : "أوصيكم بتقوى الله ، والسمع والطاعة ، وإن تأمّر عليكم عبد ، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، عضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة" رواه أبو داود .
قال الحافظ ابن رجب – رحمه الله - : "وفي أمره صلى الله عليه وسلم باتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين بعده وأمره بالسمع والطاعةلولاه الأمور عموماً دليل على أن سنة الخلفاء الراشدين متبعة كاتباع سنته ، بخلاف غيرهم من ولاة الأمور" .
ويمكن أن نستجمع أهم مميزات عهد الخلافة المبارك وسماته في المجال القضائي بما يلي :
* أولاً: المرجع في الأقضية والأحكام في قضاء الخلفاء الراشدين – رضي الله عنهم – إلى وحي الرسالة بما ورد في كتاب الله تعالى وصح من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم بحيث يعد النص من المشرع هو الأساس المعتبر المنتهي إليه في كل حكومة يرام فصلها والقضاء فيها اهتداء بما ورد من نصوص الكتاب والسنة الموجبة لهذا الاعتبار .
* ثانياً: الحرص على تقفّي سنن الرسول صلى الله عليه وسلم في أحكامه واقضيته ، واتباع سبيله فيها ، والعناية بجمعها . وتحقيق صحة وقائعها بالتتبع والسؤال والبحث وتلك أو وهي سمة ظاهرة في عمل الخلفاء الراشدين – رضي الله عنهم – في حكوماتهم واقضيتهم .
* ثالثاً: الأحكام والأقضية تحتاج إلى إعمال نظر وتأمل ومقايسة ، ولذا فقد كان من منهج الخلفاء - رضي الله عنهم - في قضائهم المشاورة وطلب الرأي فيما يعرض لهم من القضاء ابتغاء للحق ، وتطلباً لحكم الله في الوقائع .
* رابعاً: آحاد القضايا وأعيانها تتجدد وتتنوع وقد لا يكون ثمة نص في عين قضية ما فيعمد الخلفاء الراشدون - رضي الله عنهم - إلى إعمال أنظارهم باجتهاد وبحث ونظر ، استخراجا لحكم الواقعة وما يرتبط بها من المناطات والعلل المعتبرة في منظور الشريعة مما يتخرج عليه حكمها .
توسعت أقاليم الدولة الإسلامية في عصر الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - حتى تجاوزت حدود جزيرة العرب نظراً للفتوحات الكثيرة ، وصاحب ذلك إقبال الناس على الدخول في دين الله أفواجاً ، فاقتضى الحال بعث جملة من القضاة يتولون الفصل والحكم في المنازعات والخصومات بين الناس في كل ناحية وإقليم ، وكان لهذا العمل مصالح كثيرة وإيجابيات متعددة في واقع القضاء حيث جرى ترتيب لهذه الإنابة القضائية من وليّ أمر المسلمين إلى من يقيمه لهذا الشأن بتقعيد أصول القضاء وبيان أساليبه ، وإيضاح سبله وطرائقة و من أشهر ما يذكر في هذا المقام كتاب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - في أمر القضاء حيث قال في كتابه : "أما بعد : فإن القضاء فريضة محكمة ، وسنة متبعة ، فافهم إذا أدلي إليك ، فإنه لا ينفع تكلّم بحق لا نفاذ له ، وآس بين الناس في وجهك ومجلسك وقضائك ، حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك ، البينة على من ادعى ، واليمين على من أنكر ، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرّم حلالاً ، ومن ادعى حقاً غائباً أو بينة فاضرب له أمداً ينتهي إليه ، فإن جاء ببينة أعطيته حقه ، فإن أعجزه ذلك استحللت عليه القضية فإن ذلك أبلغ في العذر ، وأجلى للعمى ، ولا يمنعك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه رأيك وهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق ، لأن الحق قديم لا يبطله شيء ، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل ، والمسلمون عدول بعضهم على بعض في الشهادة إلا مجلوداً في حدٍ أو مجرباً عليه شهادة زور ، أو ظنيناً في ولاء أو قرابة ، فإن الله تعالى تولى من العباد السرائر ، وستر عليهم الحدود إلا بالبينات والأيمان ، ثم الفهم الفهم فيما أدلي إليك مما ليس في قرآن ولا سنة ، ثم قايس الأمور عند ذلك ، واعرف الأمثال والأشياء ، ثم اعتمد إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق ، وإياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس عند الخصومة والتنكر ، فأن القضاء في مواطن الحق يوجب الله به الأجر ، ويحسن به الذخر ، فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس ، ومن تزيّن بما ليس في نفسه شانه الله ، فان الله لا يقبل من العباد إلا ما كان خالصاً ، وما ظنك بثواب الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته .. والسلام"
القضاء في عصور ما بعد الخلافة الراشدة:
تتابعت عصور المسلمين ودولهم بعد عهد النبوة والخلافة الراشدة من بعد سنة الأربعين من الهجرة وللعمل القضائي قواسم مشتركة بين عموم الفترات والمراحل الزمنية المتعاقبة ، وإن كان للمتأمل في كل مرحلة وفترة خصائص تميزها عن غيرها إلا أن العناية بالجوامع بين العموم واستخلاصها وإبرازها أولى بالاعتبار والنظر ، كما أن ذلك يعطي تصوراً عاماً لمسيرة القضاء وعمله في تاريخ المسلمين وحضارتهم في الزمن الماضي ، فقد حكمت ديار المسلمين بعد الخلافة الراشدة عدد من الدول والحكومات في مختلف الأنحاء والأقاليم.
ولقد اتسم القضاء في عموم هذه الدول بسمات تدل على تقدم أعماله ورسوم وظيفته حيث ظهرت بحوث ودراسات وترتيبات وتنظيمات لهذا العمل الجليل تفيد بعدد من القواعد والضوابط والأحكام والرسوم لشكله ومضمونه مما أعطي هذا الجانب المزيد من العناية والاعتبار ، وأقام لهذه الولاية الشريفة مقاما يليق بمهمتها ووظيفتها السامية 00 ولعل من أبرز السمات الظاهرة للعمل القضائي في تلك العصور ما يلي :
* أولاً: أن عمل المسلمين في قضائهم عبر عصورهم المتعاقبة ودولهم المتتابعة جار على تحكيم شرع الله المطهر وإعمال أحكامه وإقامة حدوده ولا غرو في ذلك فهو واجب مقطوع به في اصل الدين ، ولم يحصل إخلال به في مجمل أقضية المسلمين عبر تاريخهم إلى حين الزمن المتأخر الذي ظهرت فيه المنابذة لحكم الشريعة واستبداله بحكم الطاغوت
* ثانياً: إن عمل القضاء من وظائف الإمامة العظمى ، وقد كان ولاة الأمة في الصدر الأول يتولونه بأنفسهم ، وبعد توسع الفتوحات وتعدد البلدان والأقاليم ظهرت الحاجة إلى بعث القضاة في سائر النواحي للقيام بمهمة الحكم بين الناس في خصوماتهم ونزاعاتهم .
* ثالثاً: إثراء الجوانب المتعلقة بالدراسات الفقهية والقضائية بنشاط التأليف والتصنيف والبحث والنظر وظهور المدارس العلمية في كثير من بلدان العالم الإسلامي مما كان له الأثر البالغ على تحرير الأحكام ، وتصوير وقائعها ، ومعرفة مآخذ الأحكام من النصوص والدلالات الشرعية ، وقد أنتجت العناية بهذا الشأن للمسلمين في عصورهم المتعاقبة مرجعية علمية ثرية بحيث يندر أن تند نازلة من النوازل عن مجموع هذه البحوث والدراسات في الأصول والفروع ، وشاهد ذلك ما تحفل به المكتبات الإسلامية من مؤلفات ومصنفات متنوعة في هذا الفن بين مطوّلات وشروحات ومجاميع ، ولقد كان لعناية الخلفاء والولاة والحكام في تلك العصور بأهل العلم والنظر والتصنيف وحفزهم وتشجيعهم مزيد إثراء لهذا العمل الجليل القدر ونماء للعطاء فيه .
* رابعاً: حيث تكثر القضايا وتتباين أنواعها ، وتتسع أقاليم الدولة وتتباعد أنحاؤها وأطرافها ، تظهر الحاجة الملحة في الواقع إلى تخصيص العمل القضائي نوعاً ومكاناً ، تحقيقاً لمصلحة المتقاضين وقضاياهم ، وقد كان العمل القضائي المتخصص هو السمة الغالبة على قضاء المسلمين عبر تاريخهم ، ولهذا قرر فقهاء الشريعة بنصوص متظافرة جواز الأخذ بهذا المنهج المتخصص سواء أكان في النوع أو المكان
* .خامساً: تعدد القضاة في المصر الواحد بحيث يتولى كل واحد منهم نوعاً من القضايا ، أو يتولى مجموعة منهم قضاء المصر من الأمور التي ظهرت في تاريخ قضاء المسلمين وعُدَّ سمة من سماته لقيام المقتضي له ، وقد سمي بعض هؤلاء القضاة بعمله كقاضي الجند ، وقاضي السوق ، وقاضي المناكح وهكذا .
* سادساً: ولاية القضاء وعمل الحكم والفصل بين الناس هو جزء مستفاد من الإمامة العظمى المنوطة بولي الأمر العام ، وحين ظهر في عصور المسلمين تخلي الأئمة عن هذا العمل وإناطته بغيرهم ممن تأهّل له كان لابد في ظل ذلك من تحديد هذه الولاية ووظائفها ، ولذلك تظافرت كتب الفقهاء - رحمهم الله - في ذكر وظائف القاضي وبيان ما يرتبط بولايته من الأعمال ، وقد يتباين حديثهم عن هذه الوظائف بحسب مفهومها عند كل فقيه وما عاصره إلا أن هناك قواسم مشتركة في تحديد ذلك من حيث العموم ، حيث جعلوا من وظيفة المتولي لعمل القضاء الفصل في منازعات الناس وشقاقهم ، والقيام على أمر المحبوسين والموقوفين والحكم في شأنهم ، ورعاية الأيتام والقاصرين وأموالهم ، والنظر في شأن الأوقاف والوصايا والغيّب والمجاهيل ، والأخذ على السفهاء بالحجر عليهم وزجرهم حفاظاً لهم وللعموم ، وإقامة الحدود ، وإمامة الجمعة والعيد وغير ذلك .
وقد يكون من شأن القاضي القيام بهذه الأعمال وغيرها مما قد يزاد عليها في عصر من الأعصار ، وقد يحصر عمله في بعضها دون بعض ، ولكن تحديد وظيفة القاضي حال توليته صفة لازمة للعمل القضائي بعامة في زمنه الماضي .
* سابعاً: درج الولاة على كفاية من يولون عمل القضاء بمنحهم ما يقوم بحاجتهم من رزق بيت المال ليكفوهم مؤونة المعاش ، وليتفرغوا لمعالجة الحكومات وما يعرض من أمر القضاء ، وليكون في ذلك بُعْدٌ للقضاة عن الصفق في الأسواق والدخول في معامع الاتجار وطلب المكاسب ، حفاظاً لمقامهم وشريف وظيفتهم ونبذ احتمال استمالتهم بعرض الدنيا من قبل أرباب المصالح في الخصومة ، وقد كان من الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن كتب إلى عماله : "استعملوا صالحيكم على القضاء واكفوهم" وعلى هذا السنن جرى عمل القضاء في سائر أعصار المسلمين .
* ثامناً: حيث كثر عدد القضاة في دول المسلمين عبر تاريخهم كان لابد من ترتيب هذا العدد وتشكيله وإيجاد مرجعية تؤول إليها أمور القضاء والقضاة ويكون لها نوع إشراف على عملهم .
* تاسعاً: تسجيل الأحكام وتدوين وقائعها مفيد إفادة ظاهرة في حفظها وضبطها توثيقاً للحقوق ومقايسة للنظائر مما يقع فيما يستقبل من النوازل ، ولذا عني المعتنون بأمر القضاء فيما سلف برصد وقوعات الأحكام والأقضية وتسجيلها وتدوينها في محفوظات ووثائق وفق ضوابط وقيود توحي بتصور دقيق لهذا العمل ومحرراته وشرائط من يقوم به .
تلك هي أبرز السمات التي اتسم بها قضاء المسلمين في تاريخهم إلى حين بلوغ العصر الحديث الذي صيغ فيه القضاء وفق تشيكلات إدارية وتنظيمية جديدة يراد لها تقديم عطاء أكثر وأدق وأضبط.
منقووووووووووووووووول