سألت أمس أحد ضباط الخدمة المدنية في وزارة الداخلية : ماتفسيرك لفساد قاعدة البيانات التي سلمت للمرشحين في الإنتخابات ؟.
رد الضابط السؤال بسؤال : ماذا تقصد فساد قاعدة البيانات ؟.
قلت له : إن مجموعة من المرشحين تقدموا أمس الي محكمة القضاء الإداري بدعوي قضائية ، لوقف الإنتخابات في كل الدوائر ، بدعوي إن قاعدة البيانات التي سلمت لهم فاسدة ، وغير دقيقة .
ونقصد هنا بقاعدة بيانات الناخبين طبقا للرقم القومي .
وكشف المدعون إن هذه القاعدة تتضمن أسماءا متكررة حتي الإسم الخامس .
وقالت مذكرة الدعوي : إن المدعيين يقبلون بتكرار الأسماء حتي الإسم الثالث والرابع . لكن تكرار الإسم الي الجد الخامس ، أمر مستحيل . أو شبه مستحيل ..
وقلت للضابط : إن قاعدة البيانات تضم آلاف الحالات ، التي يظهر فيها الإسم متكررا حتي الجد الخامس ..
وإن التكرار ليس مرة أو إثنتين أو ثلاث . بل أربعين مرة . وثلاثين مرة . ونزولا الي عشر مرات ..
الأغرب والأكثر إثارة : إن أصحاب الأسماء المكرره ، يحملون أكثر من رقم قومي . وهم يتجمعون في دائرة واحدة ، أو يتفرقون في عدد من الدوائر المتقاربة ..
هذا التكرار يثير شبهات قوية الي وجود تلاعب متعمد في بيانات الخدمة المدنية التابع . وتوظيف التلاعب لتغليب إحدي القوي السياسية علي غيرها من القوي ..
وهذا ماحدث بالضبط . فقد وظفت الأسماء المتكررة في تغليب الإخوان المسلمين ( مسيلمة الكذاب ) والسلفيين ( الأسود العنسي ) في الإنتخابات الأخيرة . وفوزهما بأغلبية ساحقة ، لا تسمح بأية مساحة للقوي المدنية ..
ويبدو إن الفوز كان مخططا ومستهدفا ومتفق عليه . ووفر للحزبين الفائزين نحو تسعة ملايين صوت مزورة ..
ضحك الضابط قائلا : التفسير بسيط للغاية ، ويستمد شرعيته من عقيدة وزارة الداخلية في الإدارة والسيطرة ..
الوزارة كانت ومازالت جزء من نظام سلطوي ، يعمل علي فرض سيطرته علي التشكيلات الإجتماعية والإقتصادية ، وذلك بإستخدام القوي الظاهرة للوزارة ( الجنود والعساكر والسلاح ) ، والقوي غير الظاهرة ( المخبرين والمرشدين والعناصر الأمنية السرية ) ..
القسم الأول لا يشارك في التصويت طبقا للقانون . بينما يتمتع القسم الثاني بحقوقه السياسية الكاملة . وله الحق في الترشيح للإنتخابات والتصويت للمرشحين ، والمشاركة في تشكيل الأحزاب والجمعيات وغيرها ..
هذا القسم مسجل في قاعدة بيانات وزارة الداخلية . ويمكن تكرار الإسماء . « الرجالة بتوعنا ، وإحنا أحرار في إستخدام الأسماء وتكرارها ، طبقا للهدف المراد تحقيقة »
الوزارة من جانبها إستخدمت القوي غير الظاهرة في كل إنتخابات ماقبل الثورة . وربما إستخدمت في إستفتاء ١٩ مارس .
وأنا علي يقين من إستخدام هذه القوي السرية في إدارة المعركة الإنتخابية الحالية لصالح حزبي الإخوان والسلفيين ..
هذا التفسير أعاد الي ذاكرتي مانشرته مرارا حول المليون مخبر التابعين لوزارة الداخلية ..
قصة المليون مخبر نشرتها للمرة الأولي علي صفحات الفجر ، وفي عهد النظام المخلوع .
ولم يعترض أحد ، لأن القصة صحيحة وموثقة بالوثائق والأحداث .
التفصايل رواها لي اللواء النبوي إسماعيل نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية حتي يناير ١٩٨٢ .
قال لي اللواء النبوي إسماعيل :
إن الرئيس السادات كان منزعجا جدا من رئيس الوزراء عبد العزيز حجازي ١٩٧٥.
كان رئيس الوزراء يقوم آنذاك بزيارة الي الإتحاد السوفيتي عقب إنتهاء حرب أكتوبر . وقد منحه الرئيس السادات كثير من الدعم والمساندة السياسية الي حد إنه أطلق عليه النبي يوسف .. وقال إن هذا الرجل عاش معنا سبع سنوات عجاف . وسوف يتولي الوزارة ليحقق لنا السبع سنوات رخاء ..
تولي حجازي رئاسة الوزارة في ظروف عصيبة ومتشابكة ومعقدة . مصر خرجت من حرب أكتوبر وقد حققت إنتصارا هائلا .
هذا النصر أعاد للمصريين إحساسهم بالكرامة الوطنية ..
كما أعاد اليهم الطموح الي مستوي معيشي متطور بعد سلسلة من الحروب . وبعد سلسلة من التضحيات المتلاحقة ..
لكن الدولة المصرية كانت علي شفا الإفلاس .. لا أرصده مالية أو غذائية . أو أية موارد تساعد علي الحركة ..
جاء في خطاب تكليف حجازي : إنه مسؤول عن إعداد الدولة المصرية من مرحلة الحرب الي مرحلة السلام . وإقتراح السادت أن تكون الفترة ثمانية عشر شهرا ..
وجاء في خطاب التكليف أيضا : إن عليه أن يتخذ كل الإجراءات والترتيبات التي تعيد للمواطن المصري حقه في الرفاهية والسلام الإقتصادي ..
تصور حجازي التكليف جاد . وإنه يجب أن يعمل ويتخذ كل الإجراءات المنعشة للإقتصاد الوطني ، دون العودة الي الرئيس . أو علي الأقل التنسيق مع الرئيس ..
من هذا المنظور إتخذ قراره بالسفر الي موسكو . وعقد سلسلة من الإجتماعات ، إنتهت الي عدد من الإتفاقات منها :
عودة الخبراء المدنيين الروس الي بعض المشروعات الحيوية ومنها السد العالي والكهرباء وكيما ونجع حمادي . وكان السادات قد طرد المستشارين الروس في يوليو ١٩٧٢ ..
زيادة حجم التجارة المتبادلة عن طريق إتفاقيات الحصص المعمول بها في ذلك الوقت .
الحصول علي قرض جديد لإنعاش عدد من القطاعات الحيوية ..
في هذا الوقت كانت وسائل الإتصال الوحيدة المتاحة للدولة هي الشفرة السرية . فلم يكن هناك تيلفونات محمولة . ولم يكن هناك إتصالات دولية بالسهولة واليسر الذي نعرفة الآن . ولم يكن هناك إنترنت ولا شئ بالمرة ..
الذي حدث أن السفير المصري في موسكو نقل عن طريق الشفرة السرية مجموع الإتفاقيات التي وقعها رئيس الوزراء المصري .
وصلت الشفرة قبل أن يغادر حجازي موسكو ..
بمجرد أن إطلع السادات علي مضمون الشفرة شاط غضبا . وإستدعي النبوي إسماعيل .
وقال له بالحرف الواحد : حجازي بيعارضني . حجازي بيحرجني مع الأمريكان . أنا وعدتهم بقطع علاقتي مع السوفيت . وقلت لهم مافيش علاقات معاهم خالص . ولن تكون لنا علاقات معاهم ..
سي حجازي راح إتفق علي عودة المستشارين السوفييت ..
مش عارف أعمل إيه . وأقول للأمريكان إيه ..
قال النبوي بتلقائية : ممكن إقالته يافندم قبل أن يصل الي مصر . وبذلك نحرجة تماما أمام السوفييت . وسوف تصل الرسالة بوضوح الي الأمريكان ..
رد السادت : أنا ماقدرش علي إقالته الان . أنا كلفته برئاسة مجلس الوزراء ١٨ شهرا . ولم يمض منها غير ستة شهور .
صعب . صعب . ماذا أقول للرأي العام المصري . وماذا سيقول الناصريين والشيوعيين ... إنت عارفهم يانبوي ..
رد النبوي : نقدر يافندم ننظم ضده شوية مظاهرات .. وهذه توفر لك التغطية السياسية اللازمة لإتخاذ قرار الإقالة ..
قال السادات باستغراب : الداخلية تعمل مظاهرات ...
أجاب النبوي بإفتخار : نعم . نستطيع أن نحرك مليون بني آدم في طول البلاد وعرضها تنادي بسقوط حجازي ..
إستغرب السادات جدا : وقال له مليون بني آدم ..
أجاب النبوي : نعم يافندم مليون واحد .. إحنا عندنا مليون مخبر . وهذا العدد نستطيع تحريكة في أي مهمة . بما في ذلك ضرب الأحزاب والمظاهرات . إنت مش فاكر سيادتك إحنا عملينا إيه في العيال اللي إجتمعوا في معسكر ناصر الأول والثاني .. إنت شاهد علي ذلك يافاندم ..
قال السادات : أيوة أيوة .. بس المليون إزاي ..
رد النبوي متباهيا : يافندم . إحنا عندنا في القاهرة ٢٠ الف مقهي . هل أترك هذه الأماكن بدون معرفة لما يجري فيها . ومين سرق ومين قتل . ومين بيتاجر في المخدرات . أنا عندي ورديات علي هذه المقاهي .
عندنا يافندم أربعة جامعات : هل أتركها للشيوعيين والناصريين ( لم يكن الإخوان قد عادوا الي الساحة بعد ) . أنا عندي في كل كلية وكل سكشن عيال مخبرين . ومجندين ومدربين لحساب الداخلية .. يعملوا أي حاجة .
أنا عندي يافندم مئات الشركات والبنوك والمصالح الحكومية . هل أتركها بدون عين ساهرة . أنا عندي ناس في كل موقع . ليل ونهار .
أنا عندي أربعة آلاف قرية . وكل القري مليانه حوادث وجرائم . هل أتركها بدون رقابة . أنا عندي في كل قرية علي الأقل خمسين مخبر ..
هؤلاء نستطيع تحريكهم في أي وقت . وفي أي مهمة ..
إنبسط السادات جدا . وقال للنبوي : عفارم .
لكن بلاش يانبوي تحركوا المظاهرات الآن . خلينا نبيع المسألة للأمريكان . إنني أستشعر إنزعاجهم . خليهم منزعجين ، علشان نقدر ناخد منهم حاجة ..
بعد كدة نقدر نحرك المظاهرات ضد حجازي ..
هذه القصة رويتها للدكتور حجازي فيما بعد .. وصدق علي كل التفاصيل ..
والآن أسأل المواطنيين المصريين . كان عدد المخبرين في مصر مليون عام ١٩٧٤ ، فما عددهم الآن ؟ .. إثنين مليون علي الأقل .
والمخبرين في مصر موزعين علي كل المستويات . منهم المخبر العادي الذي يرتدي البالطو الأصفر الذي تعرفونه . ومنهم المخبر البلطجي الذي يعمل في أمن الدولة . ومهمته تأديب من تري أمن الدولة تأديبه . ومنهم أساتذة وعمداء ورؤساء جامعات وطلاب ومعيدين .. ومنهم أعضاء في النقابات ومجالس النقابات . كل النقابات المصرية . ومنهم قيادات عمالية في كل المواقع .
وهناك أيضا مخبرين في كل المواقع الوظيفية . وهناك مخبرين في البنوك وقطاعات الأعمال الخاصة ..
وطبعا هناك مخبرات إناث ..
جزء من جيش المخبرين من السيدات . ويتم إستخدامهم في رمي الجتت ، وتلفيق القضايا . وصياغة الفضائح .. وتنظيم فواصل الردح في الإنتخابات ..
هذا العدد هو الذي يعتمد عليه نظام مبارك في كل مهام الدولة التي أقامها . في الإنتخابات . والنقابات والوظائف وإتحاد العمال . كل الكيانات بما في ذلك عضوية الحزب الوطني . وفي كل عمليات البلطجة ... وقد شهدنا بعضا منها علي إمتداد الإسبوع .
وكان هذا العدد جاهزا لمظاهرات ترشيح مبارك الأب أو مبارك الإبن ... لكن الله شاء وماشاء فعل