هل الإسكندرية مدينة السفاحين ؟ الإسكندرية مدينة غير عادية، فقد تم اختيارها كأفضل مدينة على مر العصور، وكانت قرطبة في المرتبة الثانية، ومدينة نيويورك الأمريكية في المرتبة الثالثة. وذلك ليس غريبا على الإسكندرية مدينة الفن والجمال وصانعة الحضارة،وفى ذلك يقول الأستاذ : أحمد لطفي السيد – أستاذ الجيل – في خطبة له في الإسكندرية ، نشرت في العدد 445 من الجريدة الصادر في 23 أغسطس 1908: الإسكندرية عنوان مصر الجغرافي ، كذلك الإسكندريون هم عنوان المصريين في جميع الحركات الفكرية ، وطليعة رسل التمدن إلى جوف الأمة المصرية ذلك التميز جعل الإسكندرية تفرز الكثير من الفنانين في شتى المجالات، وهذا الحديث معروف ومكرر ولو أوغلنا فيه سيكون من باب الاستطراد والكلام الزائد عن الحاجة. لكن موضوعا لم يأخذ حقه من الحديث، ولم يلتفت إليه الكثيرون ألا وهو هل الإسكندرية – حقا – مدينة السفاحين ؟! ففي خلال فترة وجيزة من السنوات (من 1921 إلى 1960 ) ظهر الكثير من السفاحين, أكثر من أى مدينة مصرية أخرى.وسنعرض لهؤلاء الآن:1 – ريا وسكينة 1921 ظهرت ريا وسكينة في حي اللبان عام1921،وحكايتهما معروفة ، ومشهورة أكثر من حكاية أي سفاح آخر ظهر في مصر ، لدرجة أن الكاتب المعروف مصطفى لطفى المنفلوطى استشهد بهما في الرد على عدلي يكن ، عندما أعلن بأنه يعمل لصالح في مصر ،في الأزمة المقامة وقتها من ينيب عن الشعب المصري في التفاوض مع الإنجليز في مسألة الجلاء ، سعد زغلول أم عدلي يكن ؟، فقال : إن ريا وسكينة أدعيا - أيضا - بأنهما يعملان لصالح مصر ( على أساس أنهما كانا يختاران للقتل ؛ السيدات السيئات لينظفوا البلد منهن ) .وقد كنا نذهب ونحن صبية إلى بيتهما الذي كان مهجورا ومحاطا بجدار قصير يمكن أن نجلس فوقه ، وكميات هائلة من التراب والطوب تغطيه ، وكان الكثيرون يخافون من المرور أمامه ، ولو أخبرت أهلي بأنني عائد من بيت ريا وسكينة – في ذلك الوقت – لكان موقفهم منى موقفا صعبا ، فكيف سيسمحون لي بأن أطأ أرض الحجرات بقدمي اللتين وطأتا بيت ريا وسكينة ؟! لكن أزمة المساكن دفعت الناس إلى تغيير معتقداتهم ، فقد تم رفع الجدار القصير ، ورفعوا التراب والطوب وأقيم بيتا كبيرا مكان بيت ريا وسكينة ، وسكنه الناس غير خائفين . الغريب أن هذا البيت أصبح الآن مزارا سياحيا ، فعربجي الحنطور الذي يأخذ السياح من أمام البحر ، يطوف بهم حول قلعة قايتباى والأحياء المائية وزنقة الستات .ثم يذهب بهم أخيرا إلى بيت ريا وسكينة في حي اللبان ،خاصة بعد الأعمال الدرامية التي حكت حكايتهما ، فكتب كاتبنا نجيب محفوظ بالاشتراك مع مخرج الفيلم (صلاح أبو سيف ) سيناريو الفيلم عام1953 عن تحقيق صحفي لمحرر في الأهرام وكتب الحوار :السيد بدير . وكتب بهجت قمر مسرحية ريا وسكينة ؛فحققت شهرة واسعة خاصة أن الفنانة الكبيرة شادية مثلت فيها ، لكن رؤية بهجت قمر في مسرحيته جنحت كثيرا نحو الفيلم الأمريكي القديم زرنيخ ودانتيلا عام 1939 بطولة كاري جرانت ، وتحول هذا الفيلم إلى الفيلم المصري آخر جنان عام 1966 لأحمد رمزي وعبد المنعم مدبولى ومحمد عوض وثلاثي أضواء المسرح. في الفيلم سيدتان ( آمال زايد وثريا فخري ) تقومان بقتل الرجال المسنين الذين يشتكون من آلامهم لأراحتهم ، ويستخدمان أبن شقيقهما المجنون ( محمد عوض) في حمل الجثث ودفنها في حجرة سفلية، فنقل بهجت قمر ما حدث في الفيلم الأمريكي والفيلم المصري من أحداث كوميدية حول حمل الجثث إلى مسرحيته .2 – حسن قناوى 1947 كانت قضية حسن قناوى مشهورة في عام 1947، جعلت الناس في الإسكندرية ينامون بعد المغرب، والشرطة تبحث، والصحف تكتب عن هؤلاء الرجال الذين يختفون في ظروف غامضة، إلى أن تم إنقاذ آخر ضحية لحسن قناوى من الموت ، واتضحت الحقيقة ،وتم القبض عليه بعد اكتشاف أربع جثث لأشخاص آخرين مدفونين في حدائق الشلالات. لكن القاضي الخازندار لم يقتنع بالأدلة التي تدين قناوى في قتل الأربعة، وحاكمه في قضية الشروع في قتل من تم إنقاذه، فدخل قناوى السجن لمدة سبع سنوات قضاها في سجن الأجانب ثم سجن الحضراء، وخرج من السجن وعاش طويلا، لكن القاضي الخازندار قتل من قبل جماعة الأخوان المسلمين، فكيف يحكم على سفاح معروف بفظائعه بالسجن، بينما حكم على أعضاء من جماعة الأخوان بأحكام أكثر قسوة ؟! . وأدعى حسن قناوى أن كل جرائمه كان وراءها الأمير سليمان داود أحد أفراد أسرة الملك فاروق، فقد كان يستخدمه في التخلص من معارضيه ، ومن الذين يسببون له قلقا أو مشاكل . 3 – سعد اسكندر ( سفاح كرموز ) 1954مازلت أسكن حي راغب باشا الذي كان يعيش فيه سعد اسكندر ،وقد رأيت صورته في الجرائد والمجلات ، شاب وسيم من محافظة أسيوط ،كان على علاقة غير شرعية بامرأة تسكن حي الباب الجديد وكان يزورها في بيتها ( هكذا شهد الجيران بعد القبض عليه ) وانكشفت القضية .استأجر سعد اسكندر شونة غلال على ترعة المحمودية ، ومارس التجارة فيها لسنوات عديدة ،لكن حالته الشديدة إلى المال ،ربما لكي يرضى عشيقته التي تسكن الباب الجديد ، استخدم الشونة في اصطياد ضحاياه من السيدات والتجار الأثرياء ، ويقوم بذبحهم وسرقة ما معهم من أموال ومجوهرات ، ويدفن ضحاياه في شونة الغلال .ويقولون أن آخر ضحاياه استطاع الإفلات منه وهو مصاب بجرح نافذ وجرى،محاولا الهرب إلى الصالة غير المغطاه – خارج الشونة ، فأسرع سعد اسكندر خلفه وأجهز عليه ، لكن تباعا رأى ما حدث وهو راقد فوق الأجولة العالية في سيارة نقل مرت بالصدفة أمام الشونة في ذلك الوقت ، فأبلغ عما رأي وانكشف أمر سعد اسكندر . واستطاع الهرب والاختباء في إسطبل للخيل إلى أن تم القبض عليه.وبلغ عدد ضحاياه حوالي سبعة أفراد من الجنسين .وقد كنا في بداية الشباب نقف في منطقة قريبة من سكننا ، بقصد متابعة الفتيات الواقفات في الشرفات والنوافذ ، خاصة فتاة بيضاء جميلة تقف كثيرا في الشرفة ، فحكى زميلي – في ذلك الوقت – من أنها ابنة واحد من عصابة سعد اسكندر ,ولا أدرى ما حقيقة ما قاله زميلي هذا ، هل سجن والد الفتاة أو شنق مع سعد اسكندر . وقد اشترت الشركة الأهلية للغزل شونة سعد اسكندر هذه وضمتها لمخازنها (أيام كان مقر الشركة في حي كرموز ) ، وكان من الشائع والمعروف والمعلن أن هذا المخزن هو مخزن سعد اسكندر ، وكان العامل يجيبك بكل بساطة بأنه يعمل في مخزن سعد اسكندر . أو يأمر الكومنده عامله بأن يذهب إلى مخزن سعد اسكندر لكي يأتي بكذا وكذا من هناك.وترافع عن سعد اسكندر محامى الإسكندرية المشهور في ذلك الوقت البرت بدار واستطاع أن يعطل تنفيذ الإعدام لوقت طويل .ويقولون أن سعد اسكندر كان يبدو رقيقا ومهذبا ،وأنه عندما نفذ فيه حكم الإعدام كان رابط الجأش ،وقد التقى بالمشنقة وكأنه في حفل عرس .وقد مثلت بعض الأعمال السينمائية عن حياة سعد اسكندر ، لكنها كانت كلها لا ترقى إلى الأعمال التي مثلت عن حياة ريا وسكينة . 4- سفاحا المشتل 1955 محمد عبد العزيز وأحمد على حسن بستانيان يعملان في حدائق محطة قطارات الإسكندرية ،في منطقة يطلقون عليها المشتل ، تقع في منطقة المناورة ، حيث تتوقف القطارات للحظات حتى يسمحون لها بالمرور إلى الرصيف الذي سيقل راكبي القطارات . المنطقة بعيدة عن العمران ، ولا يمكن أن يرى أحد ما يحدث فيها إلا من خلال القطارات التي تتوقف قليلا هناك ، أو ربما من فوق البيوت العالية في الشارع الموازى لقضيب السكة الحديد ؛والمؤدى إلى ملعب البلدية .من النادر أن يمر في منطقة المشتل إنسان ،وإذا مر فهو يريد أن يستقل قطارا من المخزن ليضمن أن يجد مقعدا خاليا فيه ، أو يريد أن يختصر الطريق للوصول إلى بيته . وتخيل من الذي يفعل هذا أو ذاك ، لابد أن يكون بسيطا وفقيرا ولا يمتلك في سترته سوى أموالا قليلة جدا . لكن محمد عبد العزيز وأحمد على حسن قررا أن يقتلا كل من يمر أمامهما ويأخذان ما معه ، ثم يدفنانه في أرض المشتل .وتم القبض عليهما ، وترافع عنهما محامى مشهور في الإسكندرية في ذلك الوقت اسمه وليم اسكاروس ، وكاد أن يظفر لهما بالبراءة ، لولا أن تقدمت امرأة وشهدت ضدهما ، ربما رأتهما المرأة من مسكنها العالي وهما يجهزان على ضحية من ضحاياهما . المهم أن القاضى حكم باعداهمهما ،وقد دخلا حجرة الإعدام محمولين من جنود السجن منهارين وكأنهما ماتا قبل أن يشنقا . وهذان السفاحان أقل شهرة من كل سفاحي الإسكندرية الآخرين ، فالكثيرون يعرفون ريا وسكينة وحسن قناوى وسعد اسكندر ومحمود أمين سليمان – آخر السفاحين – الذي سنتحدث عنه بعد ذلك ، لكن سفاحا المشتل ظلما ولم ينالا الشهرة التي حققها غيرهما من السفاحين . 5 – محمود أمين سليمان 1960 محمود أمين سليمان هذا هو السفاح الوحيد الذي عاصرته ، وأتذكر أيامه ، فقد كنت تلميذا في مدرسة صلاح الدين الابتدائية القريبة من العرضي المخصص لعلاج الحيوانات والذي أصبح الآن مساكن شعبية ، وقريبة من سكن أهل زوجة السفاح التي يريد قتلها . والذي ظهر فجأة وتتحدث عنه الصحف كل يوم، ويقولون أنه هرب من السجن ، حيث كان يقضى عقوبة السرقة ،وقد هدد بقتل زوجته نوال عبد الرءوف ومحاميه بدر الدين أيوب لظنه بأن هناك علاقة آثمة بينهما . ويريد قتل عديله جمال أبو العز لاعتقاده بأنه أبلغ البوليس عنه ، وموظف اسمه محمود سليمان لظن السفاح بأنه على علاقة بأخته . أحس أهلي بالخوف على ّ ، وكان الحديث يدور بيننا في المدرسة عن ذلك السفاح وأحواله ، لم نكن نخافه ، بل امتزج حديثنا بالإعجاب وتمنينا أن نقابله ،وتمنى بعضنا أن يصبح سفاحا يحير الشرطة – كما يحيرها السفاح الآن – عندما يكبر .تحدثت الصحف عن ذهاب السفاح إلى فيللا أم كثوم . حيث كانت ستغني أغنية أروح لمين كلمات عبد المنعم السباعى وتلحين رياض السنباطي في مسرح سينما الهمبرا بالإسكندرية ، وبعد أن اطمئن إلى أنها بدأت الغناء؛ تسلق أسوار الفيللا في الزمالك، لكن الحراس ضبطوه واقتادوه إلى قسم الشرطة، وعندما عات أم كلثوم من الإسكندرية، أرادت أن تخلصه من تهمة السرقة، لكن الشرطة أصرت .وفى رواية أخرى أنه تسلق أسوار الفيللا ، وقابل أم كلثوم وطلب منها أن تغني له أغنية أروح لمين التي كانت مشهورة فى ذلك الوقت .واستوحى الكاتب المسرحى الكبير الفريد فرج هذه الحادثة وكتب مسرحية من فصل واحد ،يحكى فيها عن مطربة مشهورة يزورها السفاح في بيتها .واستوحى نجيب محفوظ رواية اللص والكلاب من حادث سفــاح الإسكندرية محمود أمين سليمان الذى شغل الأذهان يوما وأقام الدنيا وأقعدها قبيل نشر الرواية . وجعلت منه تهويلات الصحافة بطلا , وصورته في صورة الإنسان الخارق القادر على كل شيء . فكانوا يقولون أنه يستطيع القفز من عدة أدوار دون أن يصاب بسوء لأنه خلع عظمتى ركبتيه في عملية جراحية , واقتفت أثره الكلاب البوليسية حتى فر إلى كهف في الجبل كما تفر الضوارى أمام كلاب الصيد . كانت شخصية السفاح – محمود أمين سليمان – في الواقع تافهة لا معنى لها ولا قيمة. لمع صاحبها يوما ثم انطفأ وزال أثره فى الوجود. لكن أسبابا كثيرة تجعل نسبة كثيرة من المصريين تنحاز إلى الذين يخرجون على الشرعية ويواجهون السلطة؛ حتى وإن كانوا على غير الحق. فالعديد من الأبطال الشعبيين أمثال : أدهم الشرقاوى وياسين – حبيب بهية – وغيرهما , كانوا مجرد خارجين على القانون أو قطاع طرق.لكن الظلم المتراكم من السلطة جعل العديد من المصريين ينحازون إلى هؤلاء ويعجبون بهم . يقول الكاتب وأذكر بعد مقتل محمود أمين سليمان , وكنت قريبا من سكنه أننى , قرأت على جدران العرضى في حى محرم بك، عبارة السفاح عاش بطلا , ومات بطلا
الاسكندرية و السفاحين عجائب وغرائب
محمد راضى مسعود- المدير العام
- عدد المساهمات : 7032
نقاط : 15679
السٌّمعَة : 118
تاريخ التسجيل : 26/06/2009
العمل/الترفيه : محامى بالنقض
- مساهمة رقم 1