بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبى بعده.
أما بعد:
فقد أعلنت هيئة الأمم المتحدة أن عام 1399هـ –1979م، عام دولى للطفولة، بدأ بكلمة من الأمين العام عن مكانة الطفولة، ووجوب رعايتها والعناية بها فى كافة المجالات، وعلى الصعيد الدولى باعتبارها أكبر ثروة إنسانية.
ففى السنة الدولية للطفولة، دار الحديث عن حق الطفل فى الحياة والمسكن والعلم والعلاج والوقاية والترويح والغذاء والكساء. وقد نشروا صور أطفال فقراء فى العالم أجمع تستطيع أن تعد ضلوعهم إذا نظرت إلى صدورهم، وقد نشروا صورا لضحايا الفقر والجوع والمرض والجهل، فى حين أن هناك الملايين من النقود تبذل بسخاء على بحوث الهدف الأساسى: منها إبراز السيطرة العلمية بين المعسكرين الكبيرين، فى الوقت الذى حبست فيه مواردها عن أفواه جائعة وأجساد عارية مريضة، وعقول خاوية وأرض مجدبة، فهلا يصدر من الذين يعنون بالطفولة نداء إلى هؤلاء الذين جعلوا من أنفسهم قادة للعالم أن يذكروا أطفالهم، أيظنون أن أطفالهم فى أمن من أى خطر من الأخطار المحدقة بأطفال الآخرين من الفاقة والحاجة والحرمان؟
وإذا كان العالم اليوم يسعى إلى رفع مستوى الطفولة وعلاج مشكلاتها بالأقوال، فإن شريعتنا الغراء قد عنيت بالطفولة أيما اعتناء، وعملت على حمايتها وحل مشكلاتها بالأفعال والأعمال التى ستظل خالدة على مر الزمان.
فقد نال الطفل من الشريعة الإسلامية كل اهتمام، حتى وهو لم يزل فى ضمير الغيب، وما كل ذلك الاهتمام إلا لأنه زهرة اليوم وثمرة الغد وأمل المستقبل، ويقاس بنضجه وتقدمه ونجاحه تقدم الأمم ونجاحها.
فهو الثروة التى تجب مراعاتها والحفاظ عليها، ولا يجوز بحال إهمالها أو التفريط فيها، فإنه بعض الحاضر، وكل المستقبل، وهو إذا ما أحسنت تربيته وتعليمه كان العدة ليوم الشدة.
لذا كان جديرا باهتمام الشريعة الإسلامية ورعايتها قبل الحمل به، وذلك بالحث على اختيار الأم الصالحة حتى تكون أرضا طيبة تنبت نباتا حسنا، كما عنيت الشريعة أيضا باختيار الأب الصالح له، فحثت أولياء المرأة ووجهتهم إلى حسن اختيار الزوج الكفء، لأنه بمثابة ربان السفينة والمسئول عن البيت، فإذا اختيرت له الأم الصالحة وهيأت له الأرض الطيبة، وصار فى بطن أمه نطفة فعلقه فجنينا كاملا، فإننا نرى الشريعة فى كل هذه المراحل تحيطه بسياج من العناية والرعاية وتغار عليه حتى من أمه فضلا عن الآخرين، فليس من حق الأم أن تسقطه قبل تمامه أو تعرضه لشيء من المخاطر، وليس لأحد أن يعتدى عليه بوجه من الوجوه، فإذا ما اعتدى عليه معتد فإن الشريعة توجب عليه الغرة والكفارة إن أدى العدوان إلى إتلافه.
كما أثبتت الشريعة الأهلية للجنين، ولكنها أهلية ناقصة حيث أثبتت له الحق فى الإرث والوصية والوقف.
فإذا تم حمله وخرج إلى الدنيا- بأمر الله - طفلا، فإن الشريعة التى عنيت به وهو جنين فى بطن أمه فرتبت له حقوقا وعملت على حمايته والمحافظة عليه، قد أولته مزيدا من العناية والاهتمام بعد ولادته وخروجه إلى الدنيا، فمنحته حقوقا أخرى كثيرة تتحقق بها مصالحه وتكفل له الحياة الرغدة والعيش الكريم.
وهذه الحقوق تتمثل فى أمور عديدة هى:
1- حقه فى الانتماء إلى شخص يرعاه ويحميه وهو ما يعرف فى الفقه بثبوت النسب.
2- حقه فى الغذاء الذى ينبت اللحم وينشز العظم وهو الرضاع والغذاء.
3- حقه فى اختيار اسم مناسب له يدعى به، ويميزه عن غيره من الناس.
4- حقه فى افتدائه بذبيحة فى اليوم السابع لميلاده، وهو ما يسمى فى الفقه الإسلامى بالعقيقة.
5- حقه فى إزالة الأذى عنه، ويتمثل ذلك فى الختان، وحلق الرأس، والعناية بنظافته.
6- وجوب رعايته وحمايته، ويتمثل ذلك فى الحضانة.
7- حقه فى الإنفاق عليه حتى يبلغ السن التى يكون فيها قادرا على التكسب.
8- حقه فى تربيته وتعليمه وتأديبه.
وسنتناول هذه الحقوق بشيء من التفصيل من خلال ثمانية مباحث.
نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يجعل هذا العمل خالصا متقبلا. إنه سميع مجيب.
تمهيد
تعريف الطفل(1):
الطفل: بكسر الطاء- الصغير من كل شىء عينا كان أو حدثا.. فالصغير من أولاد الناس والدواب طفل. والصغير من السحاب طفلٌ.
* يقال: هو يسعى لى فى أطفال الحوائج أى صغارها.
* ويقال: أتيته والليل طفل أى فى أوله.
* وأطفلت الأنثى: صارت ذات طفل.
والمصدر: الطفل- بفتح الطاء والفاء-، والطفالة والطفولة والطفولية.
* والطفل المولود ما دام ناعما رخصا والولد حتى البلوغ، وهو للمفرد المذكر.
* وفى التنزيل العزيز: (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا ) (2).
وقد يستوى فى المذكر والمؤنث والجمع. قال الله تعالى: ( ثم نخرجكم طفلا ) (3).
وقال الله تعالى: ( أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ) (4).
المبحث الأول
حق الطفل فى النسب
إثبات النسب للطفل ليس حقا له وحده، ولكنه حق للأب والأم وهو أيضا حق لله تبارك وتعالى.
فهو حق للأب.. لأن من حقه صيانة ولده من الضياع، ولأنه يترتب على ثبوت نسبه منه حقوق أخرى، كحقه فى الولاية عليه حال صغره، وكحقه فى إنفاق ابنه عليه إذا كان محتاجا وكان الابن قادرا على الكسب، وكحقه فى الإرث من تركته إذا توفى قبله.
وهو كذلك حق للأم.. لأنه جزء منها، وهى مدفوعة بجبلتها للمحافظة عليه وصونه من الضياع. كما أنه يترتب على ثبوت النسب للأم حقوقا، كثبوت التوارث بينهما وإنفاقه عليها فى حالة عجزها وقدرته على النفقة عليها.
وثبوت النسب فيه كذلك حق لله تعالى- وحق الله هو ما يحقق مصلحة عامة للمجتمع نسب إلى الله تعالى لعظم شأنه وشمول نفعه- فالنسب فى ذاته من الأمور التى ترتبط بالمجتمع، إذ عليه يقوم بناء الأسرة التى هى نواة المجتمع.
أما حق الطفل فى ثبوت النسب هو من أهم الحقوق، إذ أن انتماء الطفل إلى الأب يحفظه من الضياع ويحميه من التشرد، ووجود ولد بلا أب ينتسب إليه يعرض المجتمع إلى أذى كثير، ويؤدى إلى شر مستطير.. كما أنه يكون سببا فى تعيير الطفل بكونه ولد زنا.
لذا فإن من الواجب أن ينسب الطفل إلى أبيه، لأن الحقوق الأخرى من الرضاع والحضانة والنفقة والإرث.. إلخ ، تعتمد فى نشأتها على ثبوت النسب.
طرق إثبات النسب
هناك طرق عديدة يثبت بها النسب وهى:
الفراش- شبهة الفراش- الإقرار- البينة
وفيما يلى بيان هذه الطرق:
أولا: الفراش الصحيح:
المراد بالفراش الصحيح: أن تكون المرأة حلالا للرجل بعقد الزواج، ويثبت النسب بالفراش الصحيح، وشبهته، عند توفر الشروط الآتية:
1- حصول الزواج. فقد اتفق الفقهاء على أن العقد الصحيح هو السبب فى ثبوت النسب لمن يولد حال قيام الزوجية أو فى أثناء العدة.. ولكن هل يكفى مجرد العقد فى إثبات النسب، أو يحتاج إلى إضافة أمر آخر إليه؟
الراجح أنه لابد أن يضاف إلى ذلك شيء آخر وهو تحقق الدخول أو إمكانه.
2- تصور إمكان حدوث الولادة من الزوج، بأن يكون الزوج ممن يولد لمثله وذلك بأن يبلغ السن التى يحتمل معها حصول البلوغ.
3- احتمال حدوث الحمل أثناء قيام الزوجية، وذلك بأن تلد المرأة لستة أشهر فاكثر من تاريخ قيام الزوجية.
فإذا تحققت هذه الشروط ثبت نسب الطفل لأبيه وتحقق انتماؤه إليه ذلك الانتماء الذى يحفظ مصالحه ويصون حقوقه.
ثانيا: شبهة الفراش:
الأصل أن المرأة لا تحل للرجل إلا بعقد زواج صحيح، ولكن ربما توجد أمور ظاهرية تجعلها تشتبه لمن تحل له. فما هى الشبهة؟ الشبهة هى ما يشبه الشىء الثابت وليس بثابت فى نفس الأمر، أو هى وجود المبيح صورة مع عدم وجوده حكما أو حقيقة.
وقد تكون الشبهة فى الفعل، كأن يخالط الرجل امرأة زفت إليه على أنها زوجته وليست هى الزوجة.
وقد تكون الشبهة فى العقد، كأن يكون عقد الزواج غير مستوف لشروط صحته. وشبهة الفراش يثبت بها النسب، لأن الشبهة تعمل عمل الحقيقة فيما هو مبنى على الاحتياط، وأمر النسب مبنى على الاحتياط رعاية لمصلحة الطفل، وحفظا له من الضياع والتشرد.
ثالثا: الإقرار بالنسب:
إذا أقر رجل ببنوة طفل فإنه يثبت نسبه منه- ابنا كان أو بنتا- متى كان الحال لا يدل على كذب الإقرار.. ولذلك اشترط الفقهاء لصحة الإقرار بالنسب الشروط الآتية:
1- أن يكون الولد مجهول النسب.. لأنه إذا كان معلوم النسب لا يصادف الإقرار محلا للتصديق، فيكون المقر كاذبا فى إقراره.
2- أن يكون من الممكن أن يولد مثل هذا الولد لمثل المقر.. بأن يكون فارق السن بينهما يسمح بأن يكون المُقر له ولدا للمقر.
3- ألا يوجد شخص آخر يدعى أبوة الولد.. فإذا جاء الإقرار صحيحا مستوفيا لهذه الشروط ثبت به النسب ووجبت للمقر له جميع حقوق الولد من الصلب (5).
رابعا: البينة:
وكما يثبت النسب بالفراش وبالإقرار، فإنه يثبت بالبينة عليه وحدها، من غير تعرض لإثبات الفراش أو شبهته، ومن غير حاجة إلى الإقرار به.
والبينة فى النسب هى- كالبينة فى سائر الحقوق- شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، بل تزيد البينة فى النسب بأن يكتفى فيها بشهادة امرأة واحدة.
فمتى شهد رجلان أو رجل وامرأتان أو شهدت امرأة واحدة بأن هذا الطفل له، وأنه ولد على فراشه من زوجته، ثبت نسبه منه.
ثبوت النسب من الزنا:
ذهب فريق من فقهاء السلف والخلف (6) ، إلى أنه يثبت نسب الطفل الذى يجئ نتيجة للعلاقة غير الشرعية، شريطة ألا يصرح الرجل بأنه ولده من الزنا (7). وهذا القول كان مخالفا لرأى جمهور الفقهاء إلا أن فيه مصلحة للولد وللمجتمع، فمن الخير أن ينسب الولد إلى أبيه ليقوم بتربيته ويتولى أمره، لأن كونه بلا أب يؤدى إلى تشرده وضياعه واحترافه الإجرام، فيلحق بذلك أذى للمجتمع.
المبحث الثانى
حق الطفل فى الغذاء : الرضاع
بيان معنى الرضاع فى اللغة:
جاء فى المعجم الوسيط: أرضعت الأم: كان لها ولد ترضعه.
والولد جعلته يرضع فهى مرضع ومرضعة، والجمع مراضع. وفى التنزيل العزيز: ( وحرمنا عليه المراضع من قبل ) (.
استرضع الولد: طلب له مرضعة.
وفى التنزيل العزيز: ( وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم ) (9). وجاء فى معجم ألفاظ القرآن الكريم: رضع المولود يرضع، رضعا ورضاعة: امتص لبن الثدى.
تعريف الرضاع فى اصطلاح الفقهاء:
الرضاع: هو مص الطفل اللبن من ثدى المرأة فى العامين الأولين بعد الولادة قال الله تعالى:
( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ( (10).
فالطفل فى بداية حياته بعد ولادته، لا يمكن أن يتغذى الغذاء الذى يحفظ عليه حياته ويجعله يأخذ فى النمو، إلا عن طريق رضاع لبن المرأة.
فإن الله تعالى يفرض للمولود على أمه أن ترضعه حولين كاملين.. لأنه سبحانه وتعالى يعلم أن هذه المدة هى المثلى من جميع الوجوه الصحية والنفسية للطفل ) لمن أراد أن يتم الرضاعة ( .. وتثبت البحوث الطبية اليوم أن مدة عامين ضرورية لنمو الطفل نموا سليما من الناحيتين البدنية والنفسية، ولكن نعمة الله على الجماعة المسلمة لم تنتظر بهم حتى يعلموا هذا من تجاربهم، فالرصيد الإنسانى من ذخيرة الطفولة لم يكن ليترك ضحية للجهل كل هذا الأمد الطويل، والله رحيم بعباده، وبخاصة هؤلاء الصغار الضعاف المحتاجين للعطف والرعاية (11) .
ومما يدل على عناية الشريعة بغذاء الطفل، أن منحت المرضع الحق فى الفطر فى رمضان، كما أوجبت عليها تناول الغذاء الذى يؤدى إلى إدرار اللبن الذى يحفظ حياة الطفل ويحصل به نموه (12).
وعلى هذا.. فقد ذهب فريق من الفقهاء إلى أن الرضاع واجب على الأم ديانة وقضاء. ومعنى وجوبه ديانة، أنها تأثم فيما بينها وبين الله إن تركت إرضاع ولدها من غير عذر مسوغ لذلك، وتجبر الأم على إرضاع ولدها قضاء عند الضرورة، بأن كان الولد لا يقبل إلا ثديها، أو لم توجد مرضع سواها، أو كان الأب والولد فى عسرة لا يستطيعان دفع أجرة امرأة ترضعه.
ففى هذه الأحوال تجبر الأم قضاء على الإرضاع، لأنها إن لم تجبر تعرض الولد للهلاك.
على هذا فهى تجبر على إرضاعه إذا امتنعت عنه لقوله تعالى: ( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ) (13).
فالآية مقصودة بها وإن جاءت بصيغة الخبر.
وإذا كان الله تعالى قد أوجب على الأم إرضاع الطفل، فإنه قد جعل لها فى مقابل ذلك حقا على والده، وهو أن يرزقها ويكسوها بالمعروف. وفى التنزيل العزيز يقول الله جل وعلا: ( وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف ) (14).
وحق الأم المرضع فى النفقة والكسوة ثابت، متى كانت أجنبية عن أب المولود.
أما إذا كانت الزوجية قائمة، فليس لها أجرة على إرضاعه، وكذلك إذا كانت معتدة من طلاق رجعى إذ أن النفقة تثبت لها لقيام الزوجية وبقائها فى مدة العدة، ولا تستحق أجرة أو نفقة بسبب الرضاعة إذ لا يجب للمرأة نفقتان وإن تعددت أسباب الوجوب (15).
وإذا توفى الأب فإن المسئولية تنتقل إلى وارثه ( وعلى الوارث مثل ذلك) (16).
فهو المكلف أن يرزق ممن تقوم بإرضاع الطفل، ويكسوها بالمعروف والحسنى، تحقيقا للتكافل العائلى الذى يتحقق طرفه بالإرث ويتحقق طرفه الآخر بتحمل نفقات المورث.
وهكذا توالى الشريعة عنايتها بالطفل وتعمل على حفظه، فلا يتعرض للضياع
إن مات والده، فحقه وحق من تقوم بإرضاعه مكفول فى جميع الحالات (17)، وإن الشريعة لتضرب المثل الأعلى للعناية بالطفل، والعمل على صيانته وحفظه، وتهيئة الوسائل التى تكفل له العيش الكريم.
فلقد قرر الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، عطاء للأطفال من بيت المال، يبدأ بعد الفطام.. ولما علم أن الأمهات تسارع إلى فطام أطفالهن استعجالا لهذا العطاء، أفزعه ذلك وأقض مضجعه، وحرمه النوم، ولم يكد المصلون يتبينون صوته فى القراءة من شدة تأثره وبكائه، فسارع بعد الصلاة بإصدار قراره بأن العطاء لكل طفل من حين ولادته، وما ذلك إلا للحفاظ على الطفولة وحمايتها وإقناع الأمهات باستمرارهن فى الإرضاع .
المبحث الثالث
حق الطفل فى الاسم
الاسم فى اللغة:
(سما) سموا وسماء، علا وارتفع وتطاول، يقال: سمت همته إلى معالى الأمور طلب العز والشرف. وسما فى الحسب والنسب، وسما بصره إلى الشيء: طمح، والهلال طلع مرتفعا.. وفلانا محمدا.. جعله اسما له وعلما عليه.. (سماه) كذا وبكذا جعل له اسما.
(الاسم) ما يعرف به الشيء ويستدل به عليه و (عند النحاة) ما دل على معنى فى نفسه غير مقترن بزمن كرجل وفرس، والاسم الأعظم: الاسم الجامع لمعانى صفات الله عز وجل، واسم الجلالة: اسمه تعالى ( 18).
وجاء فى معجم ألفاظ القرآن: الاسم: هو علامة الشىء وما يعرف به شخصه، وجمعه أسماء.. وسمى الشخص يسميه تسمية وضع له اسما سماه، محمدا- مثلا- جعل محمدا اسما له (19).
تقرر الشريعة أن من بين حقوق الطفل على والديه حسن اختيار الاسم الذى يدعى به بين الناس، ويميزه عن غيره من الأشخاص. بحيث يكون اسما ذا معنى محمود، أو صفة طيبة يرتاح لها القلب وتطمئن لها النفس، أو اسما يبعث على الأمل والفأل الحسن، أو اسما يدل على الشجاعة والنشاط والهمة.
وقد جاء توجيه الشريعة إلى ذلك فى قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم " (20)، وقال عليه السلام فى بيان ما يستحسن من الأسماء " تسموا بأسماء الأنبياء "
( 21)، " وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن وأصدقها: حارث وهمام، (22)، وعن ابن عمر- رضى الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أحب أسمائكم إلى الله عبد الله وعبد الرحمن (23)، رواه مسلم.
وإذا كانت الشريعة قد عنيت بتسمية الطفل فحثت الآباء على حسن انتقاء الأسماء، فإنها قد منعت التسمى بالأسماء التى تحمل معنى التجبر والبطش والكبرياء والاستعلاء فى الأرض، كالتسمية بملك الملوك، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أخنع اسم عند الله، رجل يسمى ملك الملوك، لا ملك إلا الله " أخرجه البخارى فى كتاب الأدب من حديث أبى هريرة.
ويحرم من الأسماء كل اسم معبد لغير الله: كعبد الكعبة وعبد النبى وعبد الحسين، وقد روى أن جماعة من الناس قد وفدوا على النبى صلى الله عليه وسلم فسمعهم يسمون: عبد الحجر، فقال له:، ما اسمك؟، فقال: عبد الحجر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنما أنت عبد الله ".
وإذا جاء اسم الشخص على خلاف ما دعت إليه الشريعة.. فقد أمرت بتغيير الاسم إلى اسم يحمل معنى ساميا.. فقد ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه غير اسم عاصية، وقال أنت جميلة، (24)، وكان اسم جويرية (برة) فغيره رسول الله صلى الله عليه وسلم "جويرية" (25)، وقالت زينب بنت أم سلمة نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمى بهذا الاسم، فقال "لا تزكوا أنفسكم- الله أعلم بأهل البر منكم (26)، "وغير اسم أصرم بزرعة، وغير اسم أبى الحكم بأبى شريح (27)، وغير اسم حزن- جد سعيد بن المسيب- وجعله: سهلآ، فأبى، وقال: السهل يوطأ ويمتهن " (28).
والحكمة التى دعت الإسلام إلى تحسين الأسماء، وانتقائها من الكلمات التى تبعث البهجة والتفاؤل ألا يشمئز الطفل من اسمه، ولا يشعر بنفور الناس منه، فيدعوه ذلك إلى كراهة المجتمع حوله واعتزاله إياه.
وقت تسمية الطفل:
من حين ولادة الطفل، على الوالدين اختيار اسم له وأمامهم فرصة للتفكير وتبادل الرأى لتحديد الاسم المناسب له، حتى اليوم السابع لميلاده الذى جاءت الشريعة بتوقيته لإعلان اسم المولود.
فقد روى أنس رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "الغلام يعق عنه يوم السابع، ويسمى، ويماط عنه الأذى.." وقد روى عمر بن شعيب عن أبيه عن جده: أمر الرسول صلى الله عليه وسلم حين سابع المولود بتسميته وعقيقته ووضع الأذى عنه (29).
لم تكتف الشريعة بالدعوة إلى تسمية المولود إذا خرج من بطن أمه حيا سويا فحسب.. بل دعت إلى تسمية الجنين إذا خرج ميتا (سقطا).. روى عن النبى صلى الله عليه وسلم قوله: "سموا أسقاطكم فإنهم أسلافكم.." ولعل الحكمة من ذلك ما قاله بعض السلف، من أنهم يسمون ليدعوا يوم القيامة بأسمائهم، !ذا لم يعلم هل السقط ذكرا أو أنثى؟ سمى اسما يصلح لهما جميعا، كسلمة وقتادة، وهند، وعتبة، وهبة الله وغير ذلك.
المبحث الرابع
حق الطفل فى الفدى (30) (العقيقة)
العقيقة: هى شعر المولود الذى نبت فى بطن أمه..
والعقيقة أيضا: اسم للذبيحة التى تذبح عن المولود يوم سبوعه عند حلق شعره (31).
جاء فى الفتح الربانى فى بيان معنى العقيقة وتعريفها: العقيقة مشتقة من العق وهو القطع، وأصلها كما قال الأصمعى وغيره: الشعر الذى يكون على رأس الولد حين يولد، وإنما سميت الشاة التى تذبح عنه فى ذلك الوقت عقيقة، لأنه يحلق عنه ذلك الشعر عند الذبح، ولهذا قال فى الحديث "أميطوا عنه الأذى" ويعنى بالأذى ذلك الشعر الذى يحلق عنه، وهذا من تسمية الشىء باسم ما كان معه أو من سببه.. (قال الأزهرى) وأصل العق الشق، وسمى الشعر المذكور عقيقة، لأنه يحلق ويقطع، وقيل للذبيحة عقيقة، لأنها تذبح أى يشق حلقومها ومريئها وودجاها، كما قيل لها ذبيحة، من الذبح وهو الشق (32).
فالشريعة الإسلامية وهى توالى عنايتها بالطفل تدعو إلى بذل المال تعبيرا عن الابتهاج بمقدم الطفل، فتدعو إلى تقديم الفدى عنه، وتحدده بشاة عن البنت، وبشاتين عن الغلام، وتفضل أن يكون ذلك فى اليوم السابع من تاريخ ولادته.
وقد تضافرت الأدلة على مشروعية العقيقة، فتكاثرت الأحاديث فى تأكيدها والحث عليها، حتى ذهب فريق من الفقهاء إلى القول بأنها واجبة (33).
وفى ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : "كل غلام رهين بعقيقته تذبح عنه يوم السابع ويحلق رأسه ويسمى " (34).
فالأب الذى لا يقدم العقيقة عن ولده.. فإنه لا يستحق شيئا من شفاعته.
وأخرج البخارى فى صحيحه عن سليمان بن عامر الضبى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دما، وأميطوا عنه الأذى، (35).
وعن عائشة رضى الله عنها قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نعق عن الجارية شاة وعن الغلام شاتين.. الحديث (36).
وعنها أيضا أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "عن الغلام شاتين مكافئتان وعن الجارية شاة ".
وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " إن اليهود تعق عن الغلام ولا تعق عن الجارية، فعقوا عن الغلام شاتين وعن الجارية شاة، رواه البيهقى (37).
ولعل الفائدة من العقيقة، أنها قربان يتقرب به عن المولود فى أول أوقات خروجه إلى الدنيا، فالمولود ينتفع بذلك غاية الانتفاع، كما ينتفع بالدعاء له والإحرام عنه فى الحج.
وفى العقيقة أيضا سر بديع موروث عن فداء إسماعيل بالكبش الذى ذبح عنه وفداه الله به، فصار سُنة فى أولاده أن يفدى أحدهم عن ولادته بذبح يذبح عنه وقد يكون هذا حرزا من ضرر الشيطان (38) .
ولما كانت العقيقة بهذه الأهمية بالنسبة للمولود فإن النبى صلى الله عليه وسلم لم يكتف بالحث عليها، بل فعل ذلك بنفسه فى أبنائه، الحسن والحسين.
قالت عائشة رضى الله عنها: عق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين رضى الله عنهما- يوم السابع وسماهما وأمر أن يماط عن رأسيهما الأذى (39).
وقد وجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى طريقة ذبحها، وما يقال عند الذبح فقال:" قولوا بسم الله ، اللهم لك وإليك عقيقة فلان " (40).
والمستحب أن تفضل أعضاؤها ولا تُكسر عظامها، تفاؤلا بسلامة أعضاء المولود.. ويستحب أن تطبخ بحلو تفاؤلا بحلاوة أخلاق المولود واستحباب جعل الحلو مع لحم العقيقة. لأن النبى صلى الله عليه وسلم كان يحب الحلوى، وقد ثبت فى الصحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يحب الحلوى والعسل (41)، ويستحب أن يأكل منها،ويهدى ويتصدق لأنه إراقة دم مستحب… فكان حكمها كالأضحية .
المبحث الخامس
حق الطفل فى النظافة
تولي الشريعة الإسلامية عنايتها بالطفل، فتدعو إلى القيام بالكثير من الواجبات نحوه، مما يترتب عليه حمايته ووقايته وسلامته من الأمراض، فتؤكد على إزالة كل ما من شأنه التأثير على صحته ونموه.
وإذا كانت الشريعة الإسلامية تدعو إلى النظافة، فلا غرو أن توجب هذه الشريعة أمورا تتعلق بإزالة الأذى عن الطفل منها: الختان، وحلق الرأس، وبذل الوسع فى نظافة بدنه وثوبه. وقد جاء فى الأثر"إن الله نظيف يحب النظافة " ( 42).
أولا: الختان:
الختان هو موضع القطع من الذكر والأنثى، وختن الصبى ختنا وختانة، يقال ختن الصبى يختنه بكسر التاء (أو بكسر عين الفعل فى المضارع) أى قطع قلفته، ويقال ختنت الصبية، فهو مختون وهو وهى ختين(43).
والختان، من محاسن الشرائع التى شرعها الله سبحانه وتعالى لعباده، الظاهرة والباطنة، فهو مكمل الفطرة التى فطرهم عليها. وقد ورد الكثير من النصوص التى تحث على الختان، وتبين أهميته.. فيما يرويه أبو هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، ونتف الإبط ، وقص الشارب، وتقليم الأظافر" ( 44).
وقد جاء عن ابن عباس رضى الله عنهما فى تأويل قوله تعالى: ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن) (45)0 أنه ابتلاه بالطهارة، وهى خمس فى الرأس وخمس فى الجسد، فالتى فى الرأس:
1- قص الشارب .
2- المضمضة .
3- الاسشتنشاق.
4- السواك.
5- فرق الرأس.
والتى فى الجسد:
1- تقليم الأظافر.
2- حلق العانة 0
3- الختان.
4- نتف الإبط.
5- غسل أثر الغائط والبول بالماء ( 46).
ولهذا ذهب فريق من الفقهاء إلى القول بأن الختان واجب على كل مسلم. وعندهم أن من لم يختتن ترد شهادته، ولا تؤكل ذبيحته، ولا يكون للناس إماما (47).
وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم : "من أسلم فليختن وإن كان كبيرا " (48).
وروى ابن المنذر، من حديث أبى برزة، عن النبى صلى الله عليه وسلم فى الأقلف (49) "لا يحج بيت الله حتى يختتن ".
وإذا كانت الشريعة قد أوجبت الختان للذكر.. فإنها قد جعلته مستحبا للأنثى. وقد ورد بيان كيفية ختان الأنثى وجانب من قوله فى حديث أم عطية قالت: أمر النبى صلى الله عليه وسلم الخاتنة فقال: " إذا ختنت فلا تنهكى، فإن ذلك أحظى للمرأة وأحب للبعل" (50).
وقد أكد الإسلام على أهمية الختان، لما فيه من الطهارة والنظافة والتزين وتحسين الخلقة، وتعديل الشهوة التى إذا أفرطت ألحقت الإنسان بالحيوان، وإن عدمت بالكلية ألحقته بالجماد.. فالختان يعدلها.
فوائد الختان:
لقد أثبت الطب الحديث فوائد الختان ومنافعه الكبيرة والكثيرة، ومنها:
1- عدم تراكم المفرزات العَرَقية والدهنية بين الحشفة وجلد القضيب التى تؤدى إلى التهابات جلدية أو التهابات تحسسية.
2- عدم تراكم آثار البول، الذى يؤدى إلى احمرار جلدى.
3- عدم تراكم آثار المفرزات المنوية وعودتها من جديد إلى الإحليل، مما يسبب التهابات إحليلية قد تسبب تضييقا فى مجرى البول، أو التهابات تناسلية.
4- يعرى الحشفة فيزيد من حساسية القضيب أثناء الجماع.
5- يمنع انتقال بعض الأمراض الجلدية إلى الأنثى أثناء الجماع (51).
وإذا كان قد ثبت أن للختان فوائد كثيرة للذكور، والتى جاءت ثمرة لأوامر الشريعة، فإنها كذلك فى حق الإناث ومن هذه الفوائد:
أ) اجتناب خطر الإصابة بسرطان عنق الرحم، فقد وجد أن الإصابة بسرطان الرحم تقل بين النساء اللواتى قد ختن أزواجهن، وأظهرت دراسات إحصائية فرقا فى معدل الإصابة بسرطان عنق الرحم بين النساء وفقا لديانات أزواجهن، فإن ظهوره يندر بين النساء اللواتى تم ختان أزواجهن، وفقا لتعاليم الإسلام.
ب) الإصابة بالالتهابات المهبلية: تعتبر الثنايا الجلدية (القلفة) فى القضيب الذى لم يختن جيبا حاضنا للجراثيم التى قد تجد طريقا إلى داخل المهبل أثناء الجماع، فتحدث التهابات خطيرة لاسيما إن كانت جراثيم مرضية.
جـ) ضعف التحسس الجنسى: هناك بعض التقارير تشير إلى أن الحساسية الجنسية تزداد عند المرأة المتزوجة برجل مختتن أكثر من المتزوجة بغير المختتن.
ومما تقدم من فوائد الختان التى قررها الأطباء المختصون، والأضرار الناشئة من إهماله وعدم القيام به، يتبين لنا سمو تعاليم الإسلام إزاء عملية الختان، وأنها جاءت بهذه السنة قبل أن يكتشف الطب ما اكتشف.
وإن الطب ما زال يكتشف المزيد من الفوائد، مما جاء به الإسلام من تعاليم وحسبك أنها تعاليم الحكيم الخبير.
ثانيا: حلق الرأس:
ومن مظاهر عناية الشريعة بالطفل، الاهتمام بنظافته وإزالة كل ما قد علق به فى بطن أمه، ومن أهمها شعر رأسه، حيث أمرت بإزالته، لأن بقاءه يلحق ضررا به، لأنه يغلق مسام الرأس، ويمنع خروج الأبخرة التى تتصاعد من البدن، فبإزالته تقوى أصول الشعر، وتتفتح المسام ويمنع تكون القشور، وبذلك يحدث تنشيط لفروة الرأس.
ولهذا أمر النبى صلى الله عليه وسلم بحلق رأس المولود يوم سابعه، قالت عائشة- رضى الله عنها- "عق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حسن وحسين يوم السابع وسماهما وأمر أن يماط عن رأسيهما الأذى " (52).
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سابع المولود بتسميته وعقيقته ورفع الأذى عنه"(53).
وعن مسرة بن جندب رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل غلام رهين بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويحلق ويسمى" (54).
على أن عناية الشارع لم تكن مقصورة على الطفل فحسب. بل أراد المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يجعل من قدوم المولود فرصة للبذل والعطاء، وإدخال السرور على المساكين والفقراء، حتى لا تكون الفرحة والسرور مقصورة على أسرة الطفل. بل تتعدى إلى من حولهم من المعوزين والمحتاجين، وليكن فى هذا تعبير من الأسرة عن شكرهم وامتنانهم لله تبارك وتعالى، بما رزقهم من الذرية، فتطيب نفوسهم بهذا النوع من البر والإحسان.
ولهذا.. أمرنا الرسول الكريم- بعد حلق شعر المولود- بالتصدق بزنته من الفضة. وفى هذا يقول صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة عندما ولدت الحسن: "يا فاطمة احلقى رأسه وتصدقى بزنة شعره فضة" (55).
وعن أنس بن مالك،أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بحلق رأس الحسن والحسين يوم سابعهما، فحلقا وتصدق بوزنهما فضة (56).
وعن محمد بن على بن الحسين قال: "وزنت فاطمة بنت رسول الله شعر حسن وحسين وزينب وأم كلثوم فتصدقت بزنة ذلك فضة" (57).
فالسنة الثابتة إذن، إنما جاءت بحلق رؤوس المواليد، والتصدق بوزنها من الفضة لا فرق بين الذكور والإناث، ولا يلتفت إلى ما ذهب إليه بعض الفقهاء، من أن المفضل فى التصدق هو الذهب، فإن لم يوجد فيكون التصدق بوزن الشعر من الفضة (58).
ثالثا: نظافة جسم الطفل بوجه عام:
من المبادئ السامية للشريعة الإسلامية مبدأ النظافة التى يتحقق من خلالها حماية الإنسان من الأمراض، لأن الوقاية خير من العلاج.
وإذا كان الإنسان مأمورا بنظافة جسده، وإزالة الأدران والأوساخ منه بوسائل التنظيف المختلفة، فجاء التشريع بوجوب الغسل وتقليم الأظافر، وحلق الشعر، فلا غرابة أن يحث التشريع على العناية بنظافة الطفل الذى هو نواة الإنسان حتى ينشأ نشأة صحية، ويشب قويا موفور العافية سليم البنية.
ولهذا.. كان نبى الرحمة، ورسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم، يشفق على الأطفال ويترفق بهم ويحرص على تنظيفهم... فقد روى عنه، أنه عندما أصيب أسامة بن زيد رضى الله عنه بشجة فى وجهه، أمر عائشة بتنظيفه، فكأنها استقذرت ذلك: فضرب النبى صلى الله عليه وسلم على يدها- وأخذ الطفل منها، وتولى بيده الشريفة تنظيفه وقبله. الحديث ( 59).
المبحث السادس
الحضانة
الحضانة فى اللغة العربية هى: ضم الشىء إلى الحضن وهو الجنب أو الصدر والعضدان وما بينهما.. يقال: حضن الطائر أفراخه واحتضنها: إذا ضمها إلى جناحه.. وحضنت الأم طفلها: ضمته فى جنبها أو صدرها.. ومن معانيه النصرة والإيواء.. يقال: حضنه واحتضنه أى أواه ونصره.. والحضانة فى اصطلاح الفقهاء هى التزام الطفل لتربيته والقيام بحفظه وتدبير شئونه (60).
ولقد عنيت الشريعة الإسلامية بالأسرة ورسمت لها الطريق السوى، كى يدوم الصفاء وتستمر الألفة والمحبة وتسود الرحمة والمودة، حتى يعيش الأولاد فى أحضان الأبوين عيشة كريمة، بعيدة عن النكد والشحناء.. فأمرت برعاية الولد والمحافظة على حياته وصحته وتربيته وتثقيفه بين الأبوين.. وهذا ما يعرف بالحضانة، ولكن عندما تنفصم عرى الزوجية وينفصل الزوجان.. لا تترك الشريعة الأولاد للضياع والتشرد.. وإنما تعمل على تربيتهم وحمايتهم والمحافظة عليهم، حتى يصلوا إلى مرحلة تمكنهم من الاعتماد على أنفسهم وإدراك مصالحهم.
والأوامر والتوجيهات الواردة بهذا الشأن، تكشف عن عناية الإسلام بهذه المرحلة القلقة، واهتمامه برفع العوائق، وإزالة العقبات من طريق الطفل، ليتربى وينشأ نشأة سليمة.
ومرحلة الحضانة هذه قد حافظ فيها الإسلام على مصلحة الولد أولا، وعطف فيها على الأم ثانيا، رعاية لحنانها، وتقديرا لعاطفتها الفياضة التى ترى فى الولد أنه جزء منها حقا.. فجعل للأم ثم لقرابتها الأقرب فالأقرب، حضانة الطفل حتى يبلغ سبع سنين، وبعدها يدخل مرحلة أخرى يصدر فيها حكما، يجعله لأبيه أو لأمه أو يخير بينهما، وذلك عدل ورحمة ووضع للأمور فى مواضعها (61).
أهمية الحضانة ومكانتها ومجال تطبيقها:
للحضانة شأن آخر خلاف الإرضاع، لها أحكام تخالف أحكام الإرضاع، ولكن لا يرد تطبيق أحكام الحضانة غالبا، إلا فى حالة الفرقة بين الزوجين ووجود أولاد دون السن التى يستغنى فيها الصغير عن النساء، وذلك أن الولد يحتاج إلى نوع من الرعاية والحماية والتربية والقيام بما يصلحه وهذا ما يعرف بالولاية. ويثبت على الطفل منذ ولادته ثلاث ولايات.
الولاية الأولى: ولاية التربية والحفظ والرعاية.
الولاية الثانية: وهى الولاية على النفس.
الولاية الثالثة: الولاية على ماله إن كان له مال.
الحضانة وأقسام الولاية:
الحضانة ولاية على الصغير قصد الشارع بها مصلحة الصغير والنظر له، ولكن هل هى حق للصغير، أو حق للحاضن، أو حق لكليهما؟
للإجابة على هذا التساؤل، نقول: إن الفقهاء ذكروا أنواع الولايات الشرعية على الصغير، فقالوا: إن الإنسان منذ مولده تثبت عليه ثلاث ولايات:
الأولى: ولاية التربية والحفظ.. وهى القيام على شئونه منذ نزل من بطن أمه، وهى المسماة بالحضانة. ولا شك أن الأم هنا أحق بقيامها على تربيته، فإنها قد ضمته بين جوانحها وهو جنين، وغذته بدمها من جسمها، ولما نزل من بطنها وعاش فى حجرها، غذته بلبنها وهو فى المهد صبى، وأفاضت عليه من حنانها وحبها، وعملت على حفظه وتربيته.
وفى هذا الدور كان للرجال والنساء أهمية فى تربية الولد، ولكن الأم مقدمة على الأب فى هذا المجال، لكمال شفقتها وما يلقاه الطفل منها من حب وعناية، لما تحمله من أنواع الرقة والعطف. قال النبى عليه الصلاة والسلام: "أنت أحق به ما لم تنكحى " رواه أحمد وأبو داود (62).
الولاية الثانية: الولاية على النفس- وهى التصرف فى شئون الغير جبرا عليه، وذلك بنفاذ الأقوال والتصرفات فى كل أمر يتعلق بنفس الصغير المولى عليه. وبين الولاية الأولى وهى الحضانة، وبين هذه الولاية مشاركة زمنية تنتهى بانتهاء مدة الحضانة.
على أن هذه الولاية قد تكون من القوة بحيث تخول بالمولى إجبار المولى عليه على الزواج أو الاعتراض على سلوكه فيه واختياره له، والحيلولة بينه وبين التصرفات الضارة.
الولاية الثالثة: الولاية على المال- وهى تختص بإدارة أمواله ودفع الزكاة عنه- عند من يرى وجوب الزكاة على الصغير- وصيانته وتنميته إلى أن يبلغ الصغير الرشد عملا بقوله تعالى: ( وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) (63).
ثم ورد النهى عن رفع المال إلى من ليس أهلا لحفظه وصيانته، بل ينتهز الفرصة فى إتلاف المال وإضاعته، وهذا الصنف قد عبر عنه القرآن بقوله:
( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التى جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا) (64).
فقد قسم الله الناس فى هذا المجال ( المولى عليهم) إلى من علم عنه حسن التصرف فى ماله فيدفع الأولياء إليهم أموالهم بعد الاختبار ومعرفة الأهلية للحفظ والصيانة، وإلى صنف آخر لم يبلغ الرشد بعد، بل يتصرف فى المال تصرف السفهاء، ثم حث الأولياء على تنمية الأموال التى تحت أيديهم، لتكون الحاجات من المكسب ويبقى رأس المال سليما، بقوله تعالى: ) وارزقوهم فيها ( ولم يقل منها لئلا تنتهى الأموال بالإنفاق منها.
الولاية من حيث الولى:
نوعان:
- نوع يقدم فيه الأب على الأم ومن فى جهتها، وهى ولاية المال والنكاح.
- ونوع تقدم فيه الأم على الأب، وهى ولاية الحضانة والرضاع.
ويقدم كل من الأبوين فيما جعل له من ذلك لتمام مصلحته، والولد تتوقف مصلحته على من يلى ذلك من أبويه، ويحصل به صلاح أمره.
ولما كانت النساء أعرف بالتربية وأقدر عليها وأصبر وأرأف وأفرغ لها، وأكثر رقة وحنانا وشفقة، قدمت الأم فيها على الأب.
ولما كان الرجال أقوم بتحصيل مصلحة الولد، وأكثر دراية بمعرفة بواطن الأمور، وأبعد نظرا فى جلب المصالح ودفع المضار، والاحتياط له فى اختيار الأفضل، قدم الأب على الأم فى ولاية المال والنكاح.
فتقديم الأم فى الحضانة من محاسن الشريعة والاحتياط للأطفال والنظر لهم.
وتقديم الأب فى ولاية المال والتزويج مما يدل على عناية الشارع بالولد وحمايته، حتى يكتمل نضجه وإدراكه ويستقل بتدبير حياته.
شروط الحضانة:
لما كانت الحضانة من الأهمية بحيث يعتمد عليها الطفل فى مستقبله، ولها شأن فى تكوينه وبناء شخصيته، كان لابد من توفر شروط تؤهل الشخص للحضانة منها:
أولا: ألا تكون الأم متزوجة بأجنبى عن الصغير المحضون، مع أهليتها للتحمل، ونظافة سلوكها وتدينها، وذلك توفيرا للجو الصالح الذى يكفل للطفل نشأة مستقيمة. وغير الأم من النساء، يشترط أيضا ألا تكون متزوجة بأجنبى عن المحضون، لأن الطفل إذا فقد حنان الأبوين باجتماعهما، فلا أقل من أن يكون بعيدا عمن يبغضه، ويكون مظنة لإيذائه فالأجنبى لن يطعمه إلا نزرا ولا ينظر إليه إلا شزرا.
ثانيا: الأمانة: بأن تكون أمينة عليه، فتكون أمينة على نفسه وأدبه وخلقه، فإن كانت فاسقة مستهترة، لا تؤمن على أخلاق الطفل وأدبه، ولا على نفسه، فإنها لا تكون أهلا للحضانة.
ثالثا: العدالة: إذا كانت الحضانة لغير الأبوين، فإذا كان الحاضن معروفا بالانحراف وسوء السلوك بحيث يخشى على الطفل الانحراف إذا ترك عنده، فلا يكون له حق حضانته، أما إذا كان ما هو عليه شئ لا يترتب عليه ضياع الطفل، فإنه يبقى عنده إلى الحد الذى يخشى فيه أن يتأثر بفعله، وحينئذ ينزع منه.
رابعا: القدرة على التربية.. فإذا كان القريب مريضا أو هرما.. فلا حق له فى الحضانة.
خامسا: أن تكون الحاضنة حرة بالغة عاقلة، لأن الأمة لا تفرغ لخدمة الطفل، والصغيرة لا تستطيع القيام بشئون نفسها، فأولى ألا تستطيع القيام بشئون غيرها، والمجنونة كذلك بل أشد (65).
سادسا: ويشترط فى الحاضنة أن تكون ذات رحم محرم للطفل، كأمه وأخته وخالته وعمته، فلا حضانة للقريبة غير المحرم كبنات الأعمام والعمات وبنات الأخوال والخالات.
كما لا يثبت الحق فى الحضانة للمحارم غير الأقارب كالأم والأخت من الرضاعة، ومن باب أولى، إذا لم تكن قريبة أو محرما.
سابعا: يشترط فى الحاضنة ألا تكون مرتدة، لأن المرتدة تفسد المحضون ويخشى عليه منها، ولأن الواجب فى حقها أن تحبس وتستتاب.
وأما الشروط التى يلزم توافرها فى الرجل الذى له حق حضانة الطفل لعدم وجود أهل لحضانته من النساء فهى:
1- الحرية.
2- العقل.
3- البلوغ.
4- القدرة على تربية الطفل ورعايته.
5- الأمانة عليه، فلا حق فى حضانة الصغير والصغيرة للفاسق الماجن الذى لا يبالى بما يصنع وإن كان قريبا محرما لهما.
6- أن يكون عصبة للطفل، يقدم من يكون مقدما فى الميراث.
7- أن يكون ذا رحم محرما إذا كان الطفل أنثى، فليس لابن عمها حق حضانتها.
8- أن يتحد دينهما الاتحاد الذى يثبت به التوارث بينهما، فلا يكون للرجل حق حضانة الطفل ولا ضمه، إذا خالف دينه دين الطفل بالإسلام وغيره.. وجميع الديانات غير الإسلام تعتبر دينا واحدا هنا كما فى الميراث (66).
حكم الحضانة:
الحضانة حق للمحضون، وواجبة (67) على الحاضن، لأنها حق للطفل فتجبر الحاضنة عليها، وليس لها الحق فى التخلى عن هذا الواجب، وهذا الرأى هو الراجح، وقد حفظ عن الإمام أبى حنيفة أنه قال:" لو اختلعت المرأة على أن تترك ولدها عند الزوج فالخلع جائز والشرط باطل، إن هذا حق الولد، أن يكون عند أمه ما كان إليها محتاجا ".
والذى يبدو، أن العلماء متفقون على إجبار الأم على الحضانة إذا لم يوجد للطفل حاضنة أخرى من المحارم.
أما إذا وجد من المحارم غيرها، فلا ينبغى إجبارها، ولعل الحق فى هذه المسألة هو أن يقال: إن الحضانة حق الحاضنة وحق الطفل أيضا.
فالأم لها حق حضانته لا ينازعها فيها أحد متى كانت أهلا لذلك، والطفل له حق أن يكون محضونا عند محرم ترعاه وتشفق عليه، فحقه فى الحضانة غير عينى ، أى أنه لا يتعلق بحاضنة معينة متى كان هناك عدد من المحارم آهلا للحضانة، فإذا كان له أم وجدة وخالة وعمة وكن جميعا أهلا للحضانة، كان حقه الحتمى أن يكون محضونا عند واحدة من هؤلاء، ولا يتعين حقه عند الأم، فلا تجبر حينئذ على حضانته متى أمكن أن تحضنه واحدة من الأخريات. أما إذا امتنعن عن حضانته ولم يكن هناك إلا الأجنبيات أو القريبات غير المحارم، ففى هذه الحالة تجبر الأم على حضانته، ويتعين حقه حينئذ عند الأم حتى لا يضيع، وكذلك إذا كان محارمه غير أهل للحضانة، فإنهن يكن بمنزلة المعدومات، ويتعين حقه على الأم فتجبر عليه.
أدلة ثبوت الحضانة:
أولا: من الكتاب:
قال الله تعالى: ) والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما أتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير( (68).
وهذه الآية يأتى الاستدلال بها لثبوت الحق فى الرضاع، وبيان مدته، وما تستحقه المرضع من النفقة والكسوة، ويستدل بها أيضا على ثبوت الحق فى الحضانة.
ثانيا من السُّنة:
ثبت فى الصحيحين عن البراء بن عازب رضى الله عنه أن ابنة حمزة، اختصم فيها على وجعفر وزيد، فقال على: أنا أحق بها، وهى ابنة عمى، وقال جعفر: ابنة عمى وخالتها تحتى ، وقال زيد: ابنة أخى. فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالتها، وقال "الخالة بمنزلة الأم "(69)
وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو أن امرأة قالت: يا رسول الله.. إن ابنى هذا كان بطنى له وعاء، وثديى له سقاء، وحجرى له حواء، وأن أباه طلقنى، فأراد أن ينزعه منى؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أنت أحق به ما لم تنكحى " (70).
ثالثا: ثبوت الحضانة بالإجماع:
عن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال:" طلق عمر بن الخطاب امرأته الأنصارية- أم ابنه عاصم- ولقيها تحمله بمحسر (71) وقد فطم ومشى، فأخذه بيده لينزعه منها، ونازعها إياه حتى أوجع الغلام وبكى، وقال أنا أحق بابنى منك، فاختصما إلى أبى بكر؟ فقضى لها به، وقال: ريحها وفراشها وحجرها، خير له منك حتى يشب ويختار لنفسه ".
وروى عن أبى بكر رضى الله عنه أنه قال: لما قضى فى عاصم بن عمر: الأم أعطف وألطف وأرحم وأحن وأخير وأرأف، هى أحق بولدها ما لم تتزوج.
وقد رضى عمر بقضاء أبى بكر، وسلم بهذا القضاء، فقد كان فى خلافته يقضى به ويفتى. وقد كان هذا الحكم إجماع، ولم يعرف له مخالف من الصحابة ( 72).
وجاء فى الفقه الحنبلى: (كفالة الطفل وحضانته واجبة، لأنه يهلك بتركه فيجب حفظه من الهلاك، كما يجب الإنفاق عليه وإنجاؤه من المهالك )(73).
وجاء فى الفقه المالكى: (الإجماع قائم على وجوب كفالة الأطفال الصغار، لأنهم خلق ضعيف يفتقر لكافل يربيه ، حتى يقوم بنفسه، فهو فرض كفاية، إن قام به قائم سقط عن الباقي) (74).
ولما كان الطفل عاجزا عن تحقيق مصالحه كان لابد له من تعيين من يقوم عليه برعاية مصالحه ويحفظه حتى لا يضيع، وهذا يتحقق بثبوت الحق له فى الحضانة.
وقت حضانة الطفل:
الزمن من حين ولادة الطفل إلى بلوغه مبلغ الرجال ينقسم إلى مرحلتين:
الأولى: مرحلة الحضانة، وهى التى يحتاج فيها الطفل إلى نوع من الخدمة والرعاية، لا يحسنه فى الغالب إلا النساء، لما يتطلبه من الجلد والصبر وكمال الشفقه ، ولهذا كان الحق الأول فيها للنساء. وتنتهى هذه المرحلة بالنظر إلى الغلام- سواء كانت الحاضنة هى الأم أو غيرها ببلوغه حدا يستقل فيه بخدمة نفسه بعض الاستقلال، وذلك بأن يأكل وحده، ويلبس وحده، وينظف نفسه وحده.. وقدره بعض الفقهاء ذلك بسبع سنين، وقدره بعضهم بتسع سنين.
أما بالنظر إلى البنت، فيفرق بين حضانة الأم والجدة وحضانة غيرهما. فإن كانت الحاضنة الأم أو الجدة بقيت البنت عندها حتى تبلغ مبلغ النساء وإن كانت الحاضنة غيرهما، بقيت عندها إلى سن المراهقة، وهى تسع سنين على المفتى به عند الحنفية ورواية عن الإمام أحمد، وقيل إحدى عشرة سنة.
ولعل سبب التفرقة بين الغلام والبنت فيما تنتهى به حضانتها، أن الغلام بعد حد الاستغناء عن خدمة النساء، يحتاج إلى نوع آخر من التربية والتأديب والتعليم والتخلق بأخلاق الرجال- وهذه هى- مهمة الرجل، يقدر فيها على ما لا تستطيعه المرأة، فينتقل الصبى عند ذلك إلى:
المرحلة الثانية: وهى مرحلة ضمه إلى وليه الذى يرعاه ويقوم على تأديبه بأنواع التربية والتهذيب، أما البنت فهى- بعد حد الاستغناء الذى تشارك فيه - الغلام- فى حاجة إلى تدريبها على ما يلزم المرأة من أنواع تدبير المنزل وتنظيمه، وتعويدها ما يحسن من عادات النساء وآدابهن، فإذا بلغت أو كادت كانت فى حاجة إلى الحفظ والصيانة، ولا شك أن الرجال على ذلك أقدر من النساء، فتنتقل إلى المرحلة الثانية، مرحلة الضم إلى الولى.
والحق فى ذلك للعصبة من الرجال، يقدم الأقوى عصوبة على غيره على الترتيب فى حضانة العصبة. وهو أيضا حق البنت والغلام فيجبر العاصب على ضمها بعد انتهاء حضانتها.
صاحب الحق فى الحضانة:
الأصل فى الحضانة أن تكون للنساء، لأن المرأة أقدر وأصبر من الرجل على تربية الطفل، وأعرف بما يلزمه وأعظم شفقة عليه، وأكثر جلدا وأعظم صبرا على تحمل أعباء الطفل.
ولكن النساء لسن فى مرتبة واحدة فى استحقاق الحضانة، بل بعضهن أحق بها من بعض بسبب تفاوتهن فى الشفقة والرفق بالصغير.
فأولى النساء بحضانة الطفل أمه النسبية، سواء كانت زوجيتها لأبيه قائمة أم لا، متى توافرت فيها الشروط اللازمة للحضانة.
وتقديم الأم أمر متفق عليه لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن امرأة قالت:" يا رسول الله.. إن ابنى هذا، كان بطنى له وعاء، وحجرى له حواء، وثديى له سقاء، وزعم أبوه أنه ينزعه منى. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنت أحق به ما لم تنكحى". رواه أحمد وأبو داود ولكن فى لفظه "وإن أباه طلقنى وزعم أن ينتزعه منى" (75).
وقد أجمع العلماء على أن الزوجين إذا افترقا ولهما ولد طفل: "أن الأم أحق به ما لم تنكح&q
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبى بعده.
أما بعد:
فقد أعلنت هيئة الأمم المتحدة أن عام 1399هـ –1979م، عام دولى للطفولة، بدأ بكلمة من الأمين العام عن مكانة الطفولة، ووجوب رعايتها والعناية بها فى كافة المجالات، وعلى الصعيد الدولى باعتبارها أكبر ثروة إنسانية.
ففى السنة الدولية للطفولة، دار الحديث عن حق الطفل فى الحياة والمسكن والعلم والعلاج والوقاية والترويح والغذاء والكساء. وقد نشروا صور أطفال فقراء فى العالم أجمع تستطيع أن تعد ضلوعهم إذا نظرت إلى صدورهم، وقد نشروا صورا لضحايا الفقر والجوع والمرض والجهل، فى حين أن هناك الملايين من النقود تبذل بسخاء على بحوث الهدف الأساسى: منها إبراز السيطرة العلمية بين المعسكرين الكبيرين، فى الوقت الذى حبست فيه مواردها عن أفواه جائعة وأجساد عارية مريضة، وعقول خاوية وأرض مجدبة، فهلا يصدر من الذين يعنون بالطفولة نداء إلى هؤلاء الذين جعلوا من أنفسهم قادة للعالم أن يذكروا أطفالهم، أيظنون أن أطفالهم فى أمن من أى خطر من الأخطار المحدقة بأطفال الآخرين من الفاقة والحاجة والحرمان؟
وإذا كان العالم اليوم يسعى إلى رفع مستوى الطفولة وعلاج مشكلاتها بالأقوال، فإن شريعتنا الغراء قد عنيت بالطفولة أيما اعتناء، وعملت على حمايتها وحل مشكلاتها بالأفعال والأعمال التى ستظل خالدة على مر الزمان.
فقد نال الطفل من الشريعة الإسلامية كل اهتمام، حتى وهو لم يزل فى ضمير الغيب، وما كل ذلك الاهتمام إلا لأنه زهرة اليوم وثمرة الغد وأمل المستقبل، ويقاس بنضجه وتقدمه ونجاحه تقدم الأمم ونجاحها.
فهو الثروة التى تجب مراعاتها والحفاظ عليها، ولا يجوز بحال إهمالها أو التفريط فيها، فإنه بعض الحاضر، وكل المستقبل، وهو إذا ما أحسنت تربيته وتعليمه كان العدة ليوم الشدة.
لذا كان جديرا باهتمام الشريعة الإسلامية ورعايتها قبل الحمل به، وذلك بالحث على اختيار الأم الصالحة حتى تكون أرضا طيبة تنبت نباتا حسنا، كما عنيت الشريعة أيضا باختيار الأب الصالح له، فحثت أولياء المرأة ووجهتهم إلى حسن اختيار الزوج الكفء، لأنه بمثابة ربان السفينة والمسئول عن البيت، فإذا اختيرت له الأم الصالحة وهيأت له الأرض الطيبة، وصار فى بطن أمه نطفة فعلقه فجنينا كاملا، فإننا نرى الشريعة فى كل هذه المراحل تحيطه بسياج من العناية والرعاية وتغار عليه حتى من أمه فضلا عن الآخرين، فليس من حق الأم أن تسقطه قبل تمامه أو تعرضه لشيء من المخاطر، وليس لأحد أن يعتدى عليه بوجه من الوجوه، فإذا ما اعتدى عليه معتد فإن الشريعة توجب عليه الغرة والكفارة إن أدى العدوان إلى إتلافه.
كما أثبتت الشريعة الأهلية للجنين، ولكنها أهلية ناقصة حيث أثبتت له الحق فى الإرث والوصية والوقف.
فإذا تم حمله وخرج إلى الدنيا- بأمر الله - طفلا، فإن الشريعة التى عنيت به وهو جنين فى بطن أمه فرتبت له حقوقا وعملت على حمايته والمحافظة عليه، قد أولته مزيدا من العناية والاهتمام بعد ولادته وخروجه إلى الدنيا، فمنحته حقوقا أخرى كثيرة تتحقق بها مصالحه وتكفل له الحياة الرغدة والعيش الكريم.
وهذه الحقوق تتمثل فى أمور عديدة هى:
1- حقه فى الانتماء إلى شخص يرعاه ويحميه وهو ما يعرف فى الفقه بثبوت النسب.
2- حقه فى الغذاء الذى ينبت اللحم وينشز العظم وهو الرضاع والغذاء.
3- حقه فى اختيار اسم مناسب له يدعى به، ويميزه عن غيره من الناس.
4- حقه فى افتدائه بذبيحة فى اليوم السابع لميلاده، وهو ما يسمى فى الفقه الإسلامى بالعقيقة.
5- حقه فى إزالة الأذى عنه، ويتمثل ذلك فى الختان، وحلق الرأس، والعناية بنظافته.
6- وجوب رعايته وحمايته، ويتمثل ذلك فى الحضانة.
7- حقه فى الإنفاق عليه حتى يبلغ السن التى يكون فيها قادرا على التكسب.
8- حقه فى تربيته وتعليمه وتأديبه.
وسنتناول هذه الحقوق بشيء من التفصيل من خلال ثمانية مباحث.
نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يجعل هذا العمل خالصا متقبلا. إنه سميع مجيب.
تمهيد
تعريف الطفل(1):
الطفل: بكسر الطاء- الصغير من كل شىء عينا كان أو حدثا.. فالصغير من أولاد الناس والدواب طفل. والصغير من السحاب طفلٌ.
* يقال: هو يسعى لى فى أطفال الحوائج أى صغارها.
* ويقال: أتيته والليل طفل أى فى أوله.
* وأطفلت الأنثى: صارت ذات طفل.
والمصدر: الطفل- بفتح الطاء والفاء-، والطفالة والطفولة والطفولية.
* والطفل المولود ما دام ناعما رخصا والولد حتى البلوغ، وهو للمفرد المذكر.
* وفى التنزيل العزيز: (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا ) (2).
وقد يستوى فى المذكر والمؤنث والجمع. قال الله تعالى: ( ثم نخرجكم طفلا ) (3).
وقال الله تعالى: ( أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ) (4).
المبحث الأول
حق الطفل فى النسب
إثبات النسب للطفل ليس حقا له وحده، ولكنه حق للأب والأم وهو أيضا حق لله تبارك وتعالى.
فهو حق للأب.. لأن من حقه صيانة ولده من الضياع، ولأنه يترتب على ثبوت نسبه منه حقوق أخرى، كحقه فى الولاية عليه حال صغره، وكحقه فى إنفاق ابنه عليه إذا كان محتاجا وكان الابن قادرا على الكسب، وكحقه فى الإرث من تركته إذا توفى قبله.
وهو كذلك حق للأم.. لأنه جزء منها، وهى مدفوعة بجبلتها للمحافظة عليه وصونه من الضياع. كما أنه يترتب على ثبوت النسب للأم حقوقا، كثبوت التوارث بينهما وإنفاقه عليها فى حالة عجزها وقدرته على النفقة عليها.
وثبوت النسب فيه كذلك حق لله تعالى- وحق الله هو ما يحقق مصلحة عامة للمجتمع نسب إلى الله تعالى لعظم شأنه وشمول نفعه- فالنسب فى ذاته من الأمور التى ترتبط بالمجتمع، إذ عليه يقوم بناء الأسرة التى هى نواة المجتمع.
أما حق الطفل فى ثبوت النسب هو من أهم الحقوق، إذ أن انتماء الطفل إلى الأب يحفظه من الضياع ويحميه من التشرد، ووجود ولد بلا أب ينتسب إليه يعرض المجتمع إلى أذى كثير، ويؤدى إلى شر مستطير.. كما أنه يكون سببا فى تعيير الطفل بكونه ولد زنا.
لذا فإن من الواجب أن ينسب الطفل إلى أبيه، لأن الحقوق الأخرى من الرضاع والحضانة والنفقة والإرث.. إلخ ، تعتمد فى نشأتها على ثبوت النسب.
طرق إثبات النسب
هناك طرق عديدة يثبت بها النسب وهى:
الفراش- شبهة الفراش- الإقرار- البينة
وفيما يلى بيان هذه الطرق:
أولا: الفراش الصحيح:
المراد بالفراش الصحيح: أن تكون المرأة حلالا للرجل بعقد الزواج، ويثبت النسب بالفراش الصحيح، وشبهته، عند توفر الشروط الآتية:
1- حصول الزواج. فقد اتفق الفقهاء على أن العقد الصحيح هو السبب فى ثبوت النسب لمن يولد حال قيام الزوجية أو فى أثناء العدة.. ولكن هل يكفى مجرد العقد فى إثبات النسب، أو يحتاج إلى إضافة أمر آخر إليه؟
الراجح أنه لابد أن يضاف إلى ذلك شيء آخر وهو تحقق الدخول أو إمكانه.
2- تصور إمكان حدوث الولادة من الزوج، بأن يكون الزوج ممن يولد لمثله وذلك بأن يبلغ السن التى يحتمل معها حصول البلوغ.
3- احتمال حدوث الحمل أثناء قيام الزوجية، وذلك بأن تلد المرأة لستة أشهر فاكثر من تاريخ قيام الزوجية.
فإذا تحققت هذه الشروط ثبت نسب الطفل لأبيه وتحقق انتماؤه إليه ذلك الانتماء الذى يحفظ مصالحه ويصون حقوقه.
ثانيا: شبهة الفراش:
الأصل أن المرأة لا تحل للرجل إلا بعقد زواج صحيح، ولكن ربما توجد أمور ظاهرية تجعلها تشتبه لمن تحل له. فما هى الشبهة؟ الشبهة هى ما يشبه الشىء الثابت وليس بثابت فى نفس الأمر، أو هى وجود المبيح صورة مع عدم وجوده حكما أو حقيقة.
وقد تكون الشبهة فى الفعل، كأن يخالط الرجل امرأة زفت إليه على أنها زوجته وليست هى الزوجة.
وقد تكون الشبهة فى العقد، كأن يكون عقد الزواج غير مستوف لشروط صحته. وشبهة الفراش يثبت بها النسب، لأن الشبهة تعمل عمل الحقيقة فيما هو مبنى على الاحتياط، وأمر النسب مبنى على الاحتياط رعاية لمصلحة الطفل، وحفظا له من الضياع والتشرد.
ثالثا: الإقرار بالنسب:
إذا أقر رجل ببنوة طفل فإنه يثبت نسبه منه- ابنا كان أو بنتا- متى كان الحال لا يدل على كذب الإقرار.. ولذلك اشترط الفقهاء لصحة الإقرار بالنسب الشروط الآتية:
1- أن يكون الولد مجهول النسب.. لأنه إذا كان معلوم النسب لا يصادف الإقرار محلا للتصديق، فيكون المقر كاذبا فى إقراره.
2- أن يكون من الممكن أن يولد مثل هذا الولد لمثل المقر.. بأن يكون فارق السن بينهما يسمح بأن يكون المُقر له ولدا للمقر.
3- ألا يوجد شخص آخر يدعى أبوة الولد.. فإذا جاء الإقرار صحيحا مستوفيا لهذه الشروط ثبت به النسب ووجبت للمقر له جميع حقوق الولد من الصلب (5).
رابعا: البينة:
وكما يثبت النسب بالفراش وبالإقرار، فإنه يثبت بالبينة عليه وحدها، من غير تعرض لإثبات الفراش أو شبهته، ومن غير حاجة إلى الإقرار به.
والبينة فى النسب هى- كالبينة فى سائر الحقوق- شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، بل تزيد البينة فى النسب بأن يكتفى فيها بشهادة امرأة واحدة.
فمتى شهد رجلان أو رجل وامرأتان أو شهدت امرأة واحدة بأن هذا الطفل له، وأنه ولد على فراشه من زوجته، ثبت نسبه منه.
ثبوت النسب من الزنا:
ذهب فريق من فقهاء السلف والخلف (6) ، إلى أنه يثبت نسب الطفل الذى يجئ نتيجة للعلاقة غير الشرعية، شريطة ألا يصرح الرجل بأنه ولده من الزنا (7). وهذا القول كان مخالفا لرأى جمهور الفقهاء إلا أن فيه مصلحة للولد وللمجتمع، فمن الخير أن ينسب الولد إلى أبيه ليقوم بتربيته ويتولى أمره، لأن كونه بلا أب يؤدى إلى تشرده وضياعه واحترافه الإجرام، فيلحق بذلك أذى للمجتمع.
المبحث الثانى
حق الطفل فى الغذاء : الرضاع
بيان معنى الرضاع فى اللغة:
جاء فى المعجم الوسيط: أرضعت الأم: كان لها ولد ترضعه.
والولد جعلته يرضع فهى مرضع ومرضعة، والجمع مراضع. وفى التنزيل العزيز: ( وحرمنا عليه المراضع من قبل ) (.
استرضع الولد: طلب له مرضعة.
وفى التنزيل العزيز: ( وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم ) (9). وجاء فى معجم ألفاظ القرآن الكريم: رضع المولود يرضع، رضعا ورضاعة: امتص لبن الثدى.
تعريف الرضاع فى اصطلاح الفقهاء:
الرضاع: هو مص الطفل اللبن من ثدى المرأة فى العامين الأولين بعد الولادة قال الله تعالى:
( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ( (10).
فالطفل فى بداية حياته بعد ولادته، لا يمكن أن يتغذى الغذاء الذى يحفظ عليه حياته ويجعله يأخذ فى النمو، إلا عن طريق رضاع لبن المرأة.
فإن الله تعالى يفرض للمولود على أمه أن ترضعه حولين كاملين.. لأنه سبحانه وتعالى يعلم أن هذه المدة هى المثلى من جميع الوجوه الصحية والنفسية للطفل ) لمن أراد أن يتم الرضاعة ( .. وتثبت البحوث الطبية اليوم أن مدة عامين ضرورية لنمو الطفل نموا سليما من الناحيتين البدنية والنفسية، ولكن نعمة الله على الجماعة المسلمة لم تنتظر بهم حتى يعلموا هذا من تجاربهم، فالرصيد الإنسانى من ذخيرة الطفولة لم يكن ليترك ضحية للجهل كل هذا الأمد الطويل، والله رحيم بعباده، وبخاصة هؤلاء الصغار الضعاف المحتاجين للعطف والرعاية (11) .
ومما يدل على عناية الشريعة بغذاء الطفل، أن منحت المرضع الحق فى الفطر فى رمضان، كما أوجبت عليها تناول الغذاء الذى يؤدى إلى إدرار اللبن الذى يحفظ حياة الطفل ويحصل به نموه (12).
وعلى هذا.. فقد ذهب فريق من الفقهاء إلى أن الرضاع واجب على الأم ديانة وقضاء. ومعنى وجوبه ديانة، أنها تأثم فيما بينها وبين الله إن تركت إرضاع ولدها من غير عذر مسوغ لذلك، وتجبر الأم على إرضاع ولدها قضاء عند الضرورة، بأن كان الولد لا يقبل إلا ثديها، أو لم توجد مرضع سواها، أو كان الأب والولد فى عسرة لا يستطيعان دفع أجرة امرأة ترضعه.
ففى هذه الأحوال تجبر الأم قضاء على الإرضاع، لأنها إن لم تجبر تعرض الولد للهلاك.
على هذا فهى تجبر على إرضاعه إذا امتنعت عنه لقوله تعالى: ( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ) (13).
فالآية مقصودة بها وإن جاءت بصيغة الخبر.
وإذا كان الله تعالى قد أوجب على الأم إرضاع الطفل، فإنه قد جعل لها فى مقابل ذلك حقا على والده، وهو أن يرزقها ويكسوها بالمعروف. وفى التنزيل العزيز يقول الله جل وعلا: ( وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف ) (14).
وحق الأم المرضع فى النفقة والكسوة ثابت، متى كانت أجنبية عن أب المولود.
أما إذا كانت الزوجية قائمة، فليس لها أجرة على إرضاعه، وكذلك إذا كانت معتدة من طلاق رجعى إذ أن النفقة تثبت لها لقيام الزوجية وبقائها فى مدة العدة، ولا تستحق أجرة أو نفقة بسبب الرضاعة إذ لا يجب للمرأة نفقتان وإن تعددت أسباب الوجوب (15).
وإذا توفى الأب فإن المسئولية تنتقل إلى وارثه ( وعلى الوارث مثل ذلك) (16).
فهو المكلف أن يرزق ممن تقوم بإرضاع الطفل، ويكسوها بالمعروف والحسنى، تحقيقا للتكافل العائلى الذى يتحقق طرفه بالإرث ويتحقق طرفه الآخر بتحمل نفقات المورث.
وهكذا توالى الشريعة عنايتها بالطفل وتعمل على حفظه، فلا يتعرض للضياع
إن مات والده، فحقه وحق من تقوم بإرضاعه مكفول فى جميع الحالات (17)، وإن الشريعة لتضرب المثل الأعلى للعناية بالطفل، والعمل على صيانته وحفظه، وتهيئة الوسائل التى تكفل له العيش الكريم.
فلقد قرر الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، عطاء للأطفال من بيت المال، يبدأ بعد الفطام.. ولما علم أن الأمهات تسارع إلى فطام أطفالهن استعجالا لهذا العطاء، أفزعه ذلك وأقض مضجعه، وحرمه النوم، ولم يكد المصلون يتبينون صوته فى القراءة من شدة تأثره وبكائه، فسارع بعد الصلاة بإصدار قراره بأن العطاء لكل طفل من حين ولادته، وما ذلك إلا للحفاظ على الطفولة وحمايتها وإقناع الأمهات باستمرارهن فى الإرضاع .
المبحث الثالث
حق الطفل فى الاسم
الاسم فى اللغة:
(سما) سموا وسماء، علا وارتفع وتطاول، يقال: سمت همته إلى معالى الأمور طلب العز والشرف. وسما فى الحسب والنسب، وسما بصره إلى الشيء: طمح، والهلال طلع مرتفعا.. وفلانا محمدا.. جعله اسما له وعلما عليه.. (سماه) كذا وبكذا جعل له اسما.
(الاسم) ما يعرف به الشيء ويستدل به عليه و (عند النحاة) ما دل على معنى فى نفسه غير مقترن بزمن كرجل وفرس، والاسم الأعظم: الاسم الجامع لمعانى صفات الله عز وجل، واسم الجلالة: اسمه تعالى ( 18).
وجاء فى معجم ألفاظ القرآن: الاسم: هو علامة الشىء وما يعرف به شخصه، وجمعه أسماء.. وسمى الشخص يسميه تسمية وضع له اسما سماه، محمدا- مثلا- جعل محمدا اسما له (19).
تقرر الشريعة أن من بين حقوق الطفل على والديه حسن اختيار الاسم الذى يدعى به بين الناس، ويميزه عن غيره من الأشخاص. بحيث يكون اسما ذا معنى محمود، أو صفة طيبة يرتاح لها القلب وتطمئن لها النفس، أو اسما يبعث على الأمل والفأل الحسن، أو اسما يدل على الشجاعة والنشاط والهمة.
وقد جاء توجيه الشريعة إلى ذلك فى قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم " (20)، وقال عليه السلام فى بيان ما يستحسن من الأسماء " تسموا بأسماء الأنبياء "
( 21)، " وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن وأصدقها: حارث وهمام، (22)، وعن ابن عمر- رضى الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أحب أسمائكم إلى الله عبد الله وعبد الرحمن (23)، رواه مسلم.
وإذا كانت الشريعة قد عنيت بتسمية الطفل فحثت الآباء على حسن انتقاء الأسماء، فإنها قد منعت التسمى بالأسماء التى تحمل معنى التجبر والبطش والكبرياء والاستعلاء فى الأرض، كالتسمية بملك الملوك، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أخنع اسم عند الله، رجل يسمى ملك الملوك، لا ملك إلا الله " أخرجه البخارى فى كتاب الأدب من حديث أبى هريرة.
ويحرم من الأسماء كل اسم معبد لغير الله: كعبد الكعبة وعبد النبى وعبد الحسين، وقد روى أن جماعة من الناس قد وفدوا على النبى صلى الله عليه وسلم فسمعهم يسمون: عبد الحجر، فقال له:، ما اسمك؟، فقال: عبد الحجر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنما أنت عبد الله ".
وإذا جاء اسم الشخص على خلاف ما دعت إليه الشريعة.. فقد أمرت بتغيير الاسم إلى اسم يحمل معنى ساميا.. فقد ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه غير اسم عاصية، وقال أنت جميلة، (24)، وكان اسم جويرية (برة) فغيره رسول الله صلى الله عليه وسلم "جويرية" (25)، وقالت زينب بنت أم سلمة نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمى بهذا الاسم، فقال "لا تزكوا أنفسكم- الله أعلم بأهل البر منكم (26)، "وغير اسم أصرم بزرعة، وغير اسم أبى الحكم بأبى شريح (27)، وغير اسم حزن- جد سعيد بن المسيب- وجعله: سهلآ، فأبى، وقال: السهل يوطأ ويمتهن " (28).
والحكمة التى دعت الإسلام إلى تحسين الأسماء، وانتقائها من الكلمات التى تبعث البهجة والتفاؤل ألا يشمئز الطفل من اسمه، ولا يشعر بنفور الناس منه، فيدعوه ذلك إلى كراهة المجتمع حوله واعتزاله إياه.
وقت تسمية الطفل:
من حين ولادة الطفل، على الوالدين اختيار اسم له وأمامهم فرصة للتفكير وتبادل الرأى لتحديد الاسم المناسب له، حتى اليوم السابع لميلاده الذى جاءت الشريعة بتوقيته لإعلان اسم المولود.
فقد روى أنس رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "الغلام يعق عنه يوم السابع، ويسمى، ويماط عنه الأذى.." وقد روى عمر بن شعيب عن أبيه عن جده: أمر الرسول صلى الله عليه وسلم حين سابع المولود بتسميته وعقيقته ووضع الأذى عنه (29).
لم تكتف الشريعة بالدعوة إلى تسمية المولود إذا خرج من بطن أمه حيا سويا فحسب.. بل دعت إلى تسمية الجنين إذا خرج ميتا (سقطا).. روى عن النبى صلى الله عليه وسلم قوله: "سموا أسقاطكم فإنهم أسلافكم.." ولعل الحكمة من ذلك ما قاله بعض السلف، من أنهم يسمون ليدعوا يوم القيامة بأسمائهم، !ذا لم يعلم هل السقط ذكرا أو أنثى؟ سمى اسما يصلح لهما جميعا، كسلمة وقتادة، وهند، وعتبة، وهبة الله وغير ذلك.
المبحث الرابع
حق الطفل فى الفدى (30) (العقيقة)
العقيقة: هى شعر المولود الذى نبت فى بطن أمه..
والعقيقة أيضا: اسم للذبيحة التى تذبح عن المولود يوم سبوعه عند حلق شعره (31).
جاء فى الفتح الربانى فى بيان معنى العقيقة وتعريفها: العقيقة مشتقة من العق وهو القطع، وأصلها كما قال الأصمعى وغيره: الشعر الذى يكون على رأس الولد حين يولد، وإنما سميت الشاة التى تذبح عنه فى ذلك الوقت عقيقة، لأنه يحلق عنه ذلك الشعر عند الذبح، ولهذا قال فى الحديث "أميطوا عنه الأذى" ويعنى بالأذى ذلك الشعر الذى يحلق عنه، وهذا من تسمية الشىء باسم ما كان معه أو من سببه.. (قال الأزهرى) وأصل العق الشق، وسمى الشعر المذكور عقيقة، لأنه يحلق ويقطع، وقيل للذبيحة عقيقة، لأنها تذبح أى يشق حلقومها ومريئها وودجاها، كما قيل لها ذبيحة، من الذبح وهو الشق (32).
فالشريعة الإسلامية وهى توالى عنايتها بالطفل تدعو إلى بذل المال تعبيرا عن الابتهاج بمقدم الطفل، فتدعو إلى تقديم الفدى عنه، وتحدده بشاة عن البنت، وبشاتين عن الغلام، وتفضل أن يكون ذلك فى اليوم السابع من تاريخ ولادته.
وقد تضافرت الأدلة على مشروعية العقيقة، فتكاثرت الأحاديث فى تأكيدها والحث عليها، حتى ذهب فريق من الفقهاء إلى القول بأنها واجبة (33).
وفى ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : "كل غلام رهين بعقيقته تذبح عنه يوم السابع ويحلق رأسه ويسمى " (34).
فالأب الذى لا يقدم العقيقة عن ولده.. فإنه لا يستحق شيئا من شفاعته.
وأخرج البخارى فى صحيحه عن سليمان بن عامر الضبى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دما، وأميطوا عنه الأذى، (35).
وعن عائشة رضى الله عنها قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نعق عن الجارية شاة وعن الغلام شاتين.. الحديث (36).
وعنها أيضا أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "عن الغلام شاتين مكافئتان وعن الجارية شاة ".
وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " إن اليهود تعق عن الغلام ولا تعق عن الجارية، فعقوا عن الغلام شاتين وعن الجارية شاة، رواه البيهقى (37).
ولعل الفائدة من العقيقة، أنها قربان يتقرب به عن المولود فى أول أوقات خروجه إلى الدنيا، فالمولود ينتفع بذلك غاية الانتفاع، كما ينتفع بالدعاء له والإحرام عنه فى الحج.
وفى العقيقة أيضا سر بديع موروث عن فداء إسماعيل بالكبش الذى ذبح عنه وفداه الله به، فصار سُنة فى أولاده أن يفدى أحدهم عن ولادته بذبح يذبح عنه وقد يكون هذا حرزا من ضرر الشيطان (38) .
ولما كانت العقيقة بهذه الأهمية بالنسبة للمولود فإن النبى صلى الله عليه وسلم لم يكتف بالحث عليها، بل فعل ذلك بنفسه فى أبنائه، الحسن والحسين.
قالت عائشة رضى الله عنها: عق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين رضى الله عنهما- يوم السابع وسماهما وأمر أن يماط عن رأسيهما الأذى (39).
وقد وجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى طريقة ذبحها، وما يقال عند الذبح فقال:" قولوا بسم الله ، اللهم لك وإليك عقيقة فلان " (40).
والمستحب أن تفضل أعضاؤها ولا تُكسر عظامها، تفاؤلا بسلامة أعضاء المولود.. ويستحب أن تطبخ بحلو تفاؤلا بحلاوة أخلاق المولود واستحباب جعل الحلو مع لحم العقيقة. لأن النبى صلى الله عليه وسلم كان يحب الحلوى، وقد ثبت فى الصحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يحب الحلوى والعسل (41)، ويستحب أن يأكل منها،ويهدى ويتصدق لأنه إراقة دم مستحب… فكان حكمها كالأضحية .
المبحث الخامس
حق الطفل فى النظافة
تولي الشريعة الإسلامية عنايتها بالطفل، فتدعو إلى القيام بالكثير من الواجبات نحوه، مما يترتب عليه حمايته ووقايته وسلامته من الأمراض، فتؤكد على إزالة كل ما من شأنه التأثير على صحته ونموه.
وإذا كانت الشريعة الإسلامية تدعو إلى النظافة، فلا غرو أن توجب هذه الشريعة أمورا تتعلق بإزالة الأذى عن الطفل منها: الختان، وحلق الرأس، وبذل الوسع فى نظافة بدنه وثوبه. وقد جاء فى الأثر"إن الله نظيف يحب النظافة " ( 42).
أولا: الختان:
الختان هو موضع القطع من الذكر والأنثى، وختن الصبى ختنا وختانة، يقال ختن الصبى يختنه بكسر التاء (أو بكسر عين الفعل فى المضارع) أى قطع قلفته، ويقال ختنت الصبية، فهو مختون وهو وهى ختين(43).
والختان، من محاسن الشرائع التى شرعها الله سبحانه وتعالى لعباده، الظاهرة والباطنة، فهو مكمل الفطرة التى فطرهم عليها. وقد ورد الكثير من النصوص التى تحث على الختان، وتبين أهميته.. فيما يرويه أبو هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، ونتف الإبط ، وقص الشارب، وتقليم الأظافر" ( 44).
وقد جاء عن ابن عباس رضى الله عنهما فى تأويل قوله تعالى: ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن) (45)0 أنه ابتلاه بالطهارة، وهى خمس فى الرأس وخمس فى الجسد، فالتى فى الرأس:
1- قص الشارب .
2- المضمضة .
3- الاسشتنشاق.
4- السواك.
5- فرق الرأس.
والتى فى الجسد:
1- تقليم الأظافر.
2- حلق العانة 0
3- الختان.
4- نتف الإبط.
5- غسل أثر الغائط والبول بالماء ( 46).
ولهذا ذهب فريق من الفقهاء إلى القول بأن الختان واجب على كل مسلم. وعندهم أن من لم يختتن ترد شهادته، ولا تؤكل ذبيحته، ولا يكون للناس إماما (47).
وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم : "من أسلم فليختن وإن كان كبيرا " (48).
وروى ابن المنذر، من حديث أبى برزة، عن النبى صلى الله عليه وسلم فى الأقلف (49) "لا يحج بيت الله حتى يختتن ".
وإذا كانت الشريعة قد أوجبت الختان للذكر.. فإنها قد جعلته مستحبا للأنثى. وقد ورد بيان كيفية ختان الأنثى وجانب من قوله فى حديث أم عطية قالت: أمر النبى صلى الله عليه وسلم الخاتنة فقال: " إذا ختنت فلا تنهكى، فإن ذلك أحظى للمرأة وأحب للبعل" (50).
وقد أكد الإسلام على أهمية الختان، لما فيه من الطهارة والنظافة والتزين وتحسين الخلقة، وتعديل الشهوة التى إذا أفرطت ألحقت الإنسان بالحيوان، وإن عدمت بالكلية ألحقته بالجماد.. فالختان يعدلها.
فوائد الختان:
لقد أثبت الطب الحديث فوائد الختان ومنافعه الكبيرة والكثيرة، ومنها:
1- عدم تراكم المفرزات العَرَقية والدهنية بين الحشفة وجلد القضيب التى تؤدى إلى التهابات جلدية أو التهابات تحسسية.
2- عدم تراكم آثار البول، الذى يؤدى إلى احمرار جلدى.
3- عدم تراكم آثار المفرزات المنوية وعودتها من جديد إلى الإحليل، مما يسبب التهابات إحليلية قد تسبب تضييقا فى مجرى البول، أو التهابات تناسلية.
4- يعرى الحشفة فيزيد من حساسية القضيب أثناء الجماع.
5- يمنع انتقال بعض الأمراض الجلدية إلى الأنثى أثناء الجماع (51).
وإذا كان قد ثبت أن للختان فوائد كثيرة للذكور، والتى جاءت ثمرة لأوامر الشريعة، فإنها كذلك فى حق الإناث ومن هذه الفوائد:
أ) اجتناب خطر الإصابة بسرطان عنق الرحم، فقد وجد أن الإصابة بسرطان الرحم تقل بين النساء اللواتى قد ختن أزواجهن، وأظهرت دراسات إحصائية فرقا فى معدل الإصابة بسرطان عنق الرحم بين النساء وفقا لديانات أزواجهن، فإن ظهوره يندر بين النساء اللواتى تم ختان أزواجهن، وفقا لتعاليم الإسلام.
ب) الإصابة بالالتهابات المهبلية: تعتبر الثنايا الجلدية (القلفة) فى القضيب الذى لم يختن جيبا حاضنا للجراثيم التى قد تجد طريقا إلى داخل المهبل أثناء الجماع، فتحدث التهابات خطيرة لاسيما إن كانت جراثيم مرضية.
جـ) ضعف التحسس الجنسى: هناك بعض التقارير تشير إلى أن الحساسية الجنسية تزداد عند المرأة المتزوجة برجل مختتن أكثر من المتزوجة بغير المختتن.
ومما تقدم من فوائد الختان التى قررها الأطباء المختصون، والأضرار الناشئة من إهماله وعدم القيام به، يتبين لنا سمو تعاليم الإسلام إزاء عملية الختان، وأنها جاءت بهذه السنة قبل أن يكتشف الطب ما اكتشف.
وإن الطب ما زال يكتشف المزيد من الفوائد، مما جاء به الإسلام من تعاليم وحسبك أنها تعاليم الحكيم الخبير.
ثانيا: حلق الرأس:
ومن مظاهر عناية الشريعة بالطفل، الاهتمام بنظافته وإزالة كل ما قد علق به فى بطن أمه، ومن أهمها شعر رأسه، حيث أمرت بإزالته، لأن بقاءه يلحق ضررا به، لأنه يغلق مسام الرأس، ويمنع خروج الأبخرة التى تتصاعد من البدن، فبإزالته تقوى أصول الشعر، وتتفتح المسام ويمنع تكون القشور، وبذلك يحدث تنشيط لفروة الرأس.
ولهذا أمر النبى صلى الله عليه وسلم بحلق رأس المولود يوم سابعه، قالت عائشة- رضى الله عنها- "عق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حسن وحسين يوم السابع وسماهما وأمر أن يماط عن رأسيهما الأذى " (52).
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سابع المولود بتسميته وعقيقته ورفع الأذى عنه"(53).
وعن مسرة بن جندب رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل غلام رهين بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويحلق ويسمى" (54).
على أن عناية الشارع لم تكن مقصورة على الطفل فحسب. بل أراد المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يجعل من قدوم المولود فرصة للبذل والعطاء، وإدخال السرور على المساكين والفقراء، حتى لا تكون الفرحة والسرور مقصورة على أسرة الطفل. بل تتعدى إلى من حولهم من المعوزين والمحتاجين، وليكن فى هذا تعبير من الأسرة عن شكرهم وامتنانهم لله تبارك وتعالى، بما رزقهم من الذرية، فتطيب نفوسهم بهذا النوع من البر والإحسان.
ولهذا.. أمرنا الرسول الكريم- بعد حلق شعر المولود- بالتصدق بزنته من الفضة. وفى هذا يقول صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة عندما ولدت الحسن: "يا فاطمة احلقى رأسه وتصدقى بزنة شعره فضة" (55).
وعن أنس بن مالك،أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بحلق رأس الحسن والحسين يوم سابعهما، فحلقا وتصدق بوزنهما فضة (56).
وعن محمد بن على بن الحسين قال: "وزنت فاطمة بنت رسول الله شعر حسن وحسين وزينب وأم كلثوم فتصدقت بزنة ذلك فضة" (57).
فالسنة الثابتة إذن، إنما جاءت بحلق رؤوس المواليد، والتصدق بوزنها من الفضة لا فرق بين الذكور والإناث، ولا يلتفت إلى ما ذهب إليه بعض الفقهاء، من أن المفضل فى التصدق هو الذهب، فإن لم يوجد فيكون التصدق بوزن الشعر من الفضة (58).
ثالثا: نظافة جسم الطفل بوجه عام:
من المبادئ السامية للشريعة الإسلامية مبدأ النظافة التى يتحقق من خلالها حماية الإنسان من الأمراض، لأن الوقاية خير من العلاج.
وإذا كان الإنسان مأمورا بنظافة جسده، وإزالة الأدران والأوساخ منه بوسائل التنظيف المختلفة، فجاء التشريع بوجوب الغسل وتقليم الأظافر، وحلق الشعر، فلا غرابة أن يحث التشريع على العناية بنظافة الطفل الذى هو نواة الإنسان حتى ينشأ نشأة صحية، ويشب قويا موفور العافية سليم البنية.
ولهذا.. كان نبى الرحمة، ورسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم، يشفق على الأطفال ويترفق بهم ويحرص على تنظيفهم... فقد روى عنه، أنه عندما أصيب أسامة بن زيد رضى الله عنه بشجة فى وجهه، أمر عائشة بتنظيفه، فكأنها استقذرت ذلك: فضرب النبى صلى الله عليه وسلم على يدها- وأخذ الطفل منها، وتولى بيده الشريفة تنظيفه وقبله. الحديث ( 59).
المبحث السادس
الحضانة
الحضانة فى اللغة العربية هى: ضم الشىء إلى الحضن وهو الجنب أو الصدر والعضدان وما بينهما.. يقال: حضن الطائر أفراخه واحتضنها: إذا ضمها إلى جناحه.. وحضنت الأم طفلها: ضمته فى جنبها أو صدرها.. ومن معانيه النصرة والإيواء.. يقال: حضنه واحتضنه أى أواه ونصره.. والحضانة فى اصطلاح الفقهاء هى التزام الطفل لتربيته والقيام بحفظه وتدبير شئونه (60).
ولقد عنيت الشريعة الإسلامية بالأسرة ورسمت لها الطريق السوى، كى يدوم الصفاء وتستمر الألفة والمحبة وتسود الرحمة والمودة، حتى يعيش الأولاد فى أحضان الأبوين عيشة كريمة، بعيدة عن النكد والشحناء.. فأمرت برعاية الولد والمحافظة على حياته وصحته وتربيته وتثقيفه بين الأبوين.. وهذا ما يعرف بالحضانة، ولكن عندما تنفصم عرى الزوجية وينفصل الزوجان.. لا تترك الشريعة الأولاد للضياع والتشرد.. وإنما تعمل على تربيتهم وحمايتهم والمحافظة عليهم، حتى يصلوا إلى مرحلة تمكنهم من الاعتماد على أنفسهم وإدراك مصالحهم.
والأوامر والتوجيهات الواردة بهذا الشأن، تكشف عن عناية الإسلام بهذه المرحلة القلقة، واهتمامه برفع العوائق، وإزالة العقبات من طريق الطفل، ليتربى وينشأ نشأة سليمة.
ومرحلة الحضانة هذه قد حافظ فيها الإسلام على مصلحة الولد أولا، وعطف فيها على الأم ثانيا، رعاية لحنانها، وتقديرا لعاطفتها الفياضة التى ترى فى الولد أنه جزء منها حقا.. فجعل للأم ثم لقرابتها الأقرب فالأقرب، حضانة الطفل حتى يبلغ سبع سنين، وبعدها يدخل مرحلة أخرى يصدر فيها حكما، يجعله لأبيه أو لأمه أو يخير بينهما، وذلك عدل ورحمة ووضع للأمور فى مواضعها (61).
أهمية الحضانة ومكانتها ومجال تطبيقها:
للحضانة شأن آخر خلاف الإرضاع، لها أحكام تخالف أحكام الإرضاع، ولكن لا يرد تطبيق أحكام الحضانة غالبا، إلا فى حالة الفرقة بين الزوجين ووجود أولاد دون السن التى يستغنى فيها الصغير عن النساء، وذلك أن الولد يحتاج إلى نوع من الرعاية والحماية والتربية والقيام بما يصلحه وهذا ما يعرف بالولاية. ويثبت على الطفل منذ ولادته ثلاث ولايات.
الولاية الأولى: ولاية التربية والحفظ والرعاية.
الولاية الثانية: وهى الولاية على النفس.
الولاية الثالثة: الولاية على ماله إن كان له مال.
الحضانة وأقسام الولاية:
الحضانة ولاية على الصغير قصد الشارع بها مصلحة الصغير والنظر له، ولكن هل هى حق للصغير، أو حق للحاضن، أو حق لكليهما؟
للإجابة على هذا التساؤل، نقول: إن الفقهاء ذكروا أنواع الولايات الشرعية على الصغير، فقالوا: إن الإنسان منذ مولده تثبت عليه ثلاث ولايات:
الأولى: ولاية التربية والحفظ.. وهى القيام على شئونه منذ نزل من بطن أمه، وهى المسماة بالحضانة. ولا شك أن الأم هنا أحق بقيامها على تربيته، فإنها قد ضمته بين جوانحها وهو جنين، وغذته بدمها من جسمها، ولما نزل من بطنها وعاش فى حجرها، غذته بلبنها وهو فى المهد صبى، وأفاضت عليه من حنانها وحبها، وعملت على حفظه وتربيته.
وفى هذا الدور كان للرجال والنساء أهمية فى تربية الولد، ولكن الأم مقدمة على الأب فى هذا المجال، لكمال شفقتها وما يلقاه الطفل منها من حب وعناية، لما تحمله من أنواع الرقة والعطف. قال النبى عليه الصلاة والسلام: "أنت أحق به ما لم تنكحى " رواه أحمد وأبو داود (62).
الولاية الثانية: الولاية على النفس- وهى التصرف فى شئون الغير جبرا عليه، وذلك بنفاذ الأقوال والتصرفات فى كل أمر يتعلق بنفس الصغير المولى عليه. وبين الولاية الأولى وهى الحضانة، وبين هذه الولاية مشاركة زمنية تنتهى بانتهاء مدة الحضانة.
على أن هذه الولاية قد تكون من القوة بحيث تخول بالمولى إجبار المولى عليه على الزواج أو الاعتراض على سلوكه فيه واختياره له، والحيلولة بينه وبين التصرفات الضارة.
الولاية الثالثة: الولاية على المال- وهى تختص بإدارة أمواله ودفع الزكاة عنه- عند من يرى وجوب الزكاة على الصغير- وصيانته وتنميته إلى أن يبلغ الصغير الرشد عملا بقوله تعالى: ( وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) (63).
ثم ورد النهى عن رفع المال إلى من ليس أهلا لحفظه وصيانته، بل ينتهز الفرصة فى إتلاف المال وإضاعته، وهذا الصنف قد عبر عنه القرآن بقوله:
( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التى جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا) (64).
فقد قسم الله الناس فى هذا المجال ( المولى عليهم) إلى من علم عنه حسن التصرف فى ماله فيدفع الأولياء إليهم أموالهم بعد الاختبار ومعرفة الأهلية للحفظ والصيانة، وإلى صنف آخر لم يبلغ الرشد بعد، بل يتصرف فى المال تصرف السفهاء، ثم حث الأولياء على تنمية الأموال التى تحت أيديهم، لتكون الحاجات من المكسب ويبقى رأس المال سليما، بقوله تعالى: ) وارزقوهم فيها ( ولم يقل منها لئلا تنتهى الأموال بالإنفاق منها.
الولاية من حيث الولى:
نوعان:
- نوع يقدم فيه الأب على الأم ومن فى جهتها، وهى ولاية المال والنكاح.
- ونوع تقدم فيه الأم على الأب، وهى ولاية الحضانة والرضاع.
ويقدم كل من الأبوين فيما جعل له من ذلك لتمام مصلحته، والولد تتوقف مصلحته على من يلى ذلك من أبويه، ويحصل به صلاح أمره.
ولما كانت النساء أعرف بالتربية وأقدر عليها وأصبر وأرأف وأفرغ لها، وأكثر رقة وحنانا وشفقة، قدمت الأم فيها على الأب.
ولما كان الرجال أقوم بتحصيل مصلحة الولد، وأكثر دراية بمعرفة بواطن الأمور، وأبعد نظرا فى جلب المصالح ودفع المضار، والاحتياط له فى اختيار الأفضل، قدم الأب على الأم فى ولاية المال والنكاح.
فتقديم الأم فى الحضانة من محاسن الشريعة والاحتياط للأطفال والنظر لهم.
وتقديم الأب فى ولاية المال والتزويج مما يدل على عناية الشارع بالولد وحمايته، حتى يكتمل نضجه وإدراكه ويستقل بتدبير حياته.
شروط الحضانة:
لما كانت الحضانة من الأهمية بحيث يعتمد عليها الطفل فى مستقبله، ولها شأن فى تكوينه وبناء شخصيته، كان لابد من توفر شروط تؤهل الشخص للحضانة منها:
أولا: ألا تكون الأم متزوجة بأجنبى عن الصغير المحضون، مع أهليتها للتحمل، ونظافة سلوكها وتدينها، وذلك توفيرا للجو الصالح الذى يكفل للطفل نشأة مستقيمة. وغير الأم من النساء، يشترط أيضا ألا تكون متزوجة بأجنبى عن المحضون، لأن الطفل إذا فقد حنان الأبوين باجتماعهما، فلا أقل من أن يكون بعيدا عمن يبغضه، ويكون مظنة لإيذائه فالأجنبى لن يطعمه إلا نزرا ولا ينظر إليه إلا شزرا.
ثانيا: الأمانة: بأن تكون أمينة عليه، فتكون أمينة على نفسه وأدبه وخلقه، فإن كانت فاسقة مستهترة، لا تؤمن على أخلاق الطفل وأدبه، ولا على نفسه، فإنها لا تكون أهلا للحضانة.
ثالثا: العدالة: إذا كانت الحضانة لغير الأبوين، فإذا كان الحاضن معروفا بالانحراف وسوء السلوك بحيث يخشى على الطفل الانحراف إذا ترك عنده، فلا يكون له حق حضانته، أما إذا كان ما هو عليه شئ لا يترتب عليه ضياع الطفل، فإنه يبقى عنده إلى الحد الذى يخشى فيه أن يتأثر بفعله، وحينئذ ينزع منه.
رابعا: القدرة على التربية.. فإذا كان القريب مريضا أو هرما.. فلا حق له فى الحضانة.
خامسا: أن تكون الحاضنة حرة بالغة عاقلة، لأن الأمة لا تفرغ لخدمة الطفل، والصغيرة لا تستطيع القيام بشئون نفسها، فأولى ألا تستطيع القيام بشئون غيرها، والمجنونة كذلك بل أشد (65).
سادسا: ويشترط فى الحاضنة أن تكون ذات رحم محرم للطفل، كأمه وأخته وخالته وعمته، فلا حضانة للقريبة غير المحرم كبنات الأعمام والعمات وبنات الأخوال والخالات.
كما لا يثبت الحق فى الحضانة للمحارم غير الأقارب كالأم والأخت من الرضاعة، ومن باب أولى، إذا لم تكن قريبة أو محرما.
سابعا: يشترط فى الحاضنة ألا تكون مرتدة، لأن المرتدة تفسد المحضون ويخشى عليه منها، ولأن الواجب فى حقها أن تحبس وتستتاب.
وأما الشروط التى يلزم توافرها فى الرجل الذى له حق حضانة الطفل لعدم وجود أهل لحضانته من النساء فهى:
1- الحرية.
2- العقل.
3- البلوغ.
4- القدرة على تربية الطفل ورعايته.
5- الأمانة عليه، فلا حق فى حضانة الصغير والصغيرة للفاسق الماجن الذى لا يبالى بما يصنع وإن كان قريبا محرما لهما.
6- أن يكون عصبة للطفل، يقدم من يكون مقدما فى الميراث.
7- أن يكون ذا رحم محرما إذا كان الطفل أنثى، فليس لابن عمها حق حضانتها.
8- أن يتحد دينهما الاتحاد الذى يثبت به التوارث بينهما، فلا يكون للرجل حق حضانة الطفل ولا ضمه، إذا خالف دينه دين الطفل بالإسلام وغيره.. وجميع الديانات غير الإسلام تعتبر دينا واحدا هنا كما فى الميراث (66).
حكم الحضانة:
الحضانة حق للمحضون، وواجبة (67) على الحاضن، لأنها حق للطفل فتجبر الحاضنة عليها، وليس لها الحق فى التخلى عن هذا الواجب، وهذا الرأى هو الراجح، وقد حفظ عن الإمام أبى حنيفة أنه قال:" لو اختلعت المرأة على أن تترك ولدها عند الزوج فالخلع جائز والشرط باطل، إن هذا حق الولد، أن يكون عند أمه ما كان إليها محتاجا ".
والذى يبدو، أن العلماء متفقون على إجبار الأم على الحضانة إذا لم يوجد للطفل حاضنة أخرى من المحارم.
أما إذا وجد من المحارم غيرها، فلا ينبغى إجبارها، ولعل الحق فى هذه المسألة هو أن يقال: إن الحضانة حق الحاضنة وحق الطفل أيضا.
فالأم لها حق حضانته لا ينازعها فيها أحد متى كانت أهلا لذلك، والطفل له حق أن يكون محضونا عند محرم ترعاه وتشفق عليه، فحقه فى الحضانة غير عينى ، أى أنه لا يتعلق بحاضنة معينة متى كان هناك عدد من المحارم آهلا للحضانة، فإذا كان له أم وجدة وخالة وعمة وكن جميعا أهلا للحضانة، كان حقه الحتمى أن يكون محضونا عند واحدة من هؤلاء، ولا يتعين حقه عند الأم، فلا تجبر حينئذ على حضانته متى أمكن أن تحضنه واحدة من الأخريات. أما إذا امتنعن عن حضانته ولم يكن هناك إلا الأجنبيات أو القريبات غير المحارم، ففى هذه الحالة تجبر الأم على حضانته، ويتعين حقه حينئذ عند الأم حتى لا يضيع، وكذلك إذا كان محارمه غير أهل للحضانة، فإنهن يكن بمنزلة المعدومات، ويتعين حقه على الأم فتجبر عليه.
أدلة ثبوت الحضانة:
أولا: من الكتاب:
قال الله تعالى: ) والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما أتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير( (68).
وهذه الآية يأتى الاستدلال بها لثبوت الحق فى الرضاع، وبيان مدته، وما تستحقه المرضع من النفقة والكسوة، ويستدل بها أيضا على ثبوت الحق فى الحضانة.
ثانيا من السُّنة:
ثبت فى الصحيحين عن البراء بن عازب رضى الله عنه أن ابنة حمزة، اختصم فيها على وجعفر وزيد، فقال على: أنا أحق بها، وهى ابنة عمى، وقال جعفر: ابنة عمى وخالتها تحتى ، وقال زيد: ابنة أخى. فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالتها، وقال "الخالة بمنزلة الأم "(69)
وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو أن امرأة قالت: يا رسول الله.. إن ابنى هذا كان بطنى له وعاء، وثديى له سقاء، وحجرى له حواء، وأن أباه طلقنى، فأراد أن ينزعه منى؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أنت أحق به ما لم تنكحى " (70).
ثالثا: ثبوت الحضانة بالإجماع:
عن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال:" طلق عمر بن الخطاب امرأته الأنصارية- أم ابنه عاصم- ولقيها تحمله بمحسر (71) وقد فطم ومشى، فأخذه بيده لينزعه منها، ونازعها إياه حتى أوجع الغلام وبكى، وقال أنا أحق بابنى منك، فاختصما إلى أبى بكر؟ فقضى لها به، وقال: ريحها وفراشها وحجرها، خير له منك حتى يشب ويختار لنفسه ".
وروى عن أبى بكر رضى الله عنه أنه قال: لما قضى فى عاصم بن عمر: الأم أعطف وألطف وأرحم وأحن وأخير وأرأف، هى أحق بولدها ما لم تتزوج.
وقد رضى عمر بقضاء أبى بكر، وسلم بهذا القضاء، فقد كان فى خلافته يقضى به ويفتى. وقد كان هذا الحكم إجماع، ولم يعرف له مخالف من الصحابة ( 72).
وجاء فى الفقه الحنبلى: (كفالة الطفل وحضانته واجبة، لأنه يهلك بتركه فيجب حفظه من الهلاك، كما يجب الإنفاق عليه وإنجاؤه من المهالك )(73).
وجاء فى الفقه المالكى: (الإجماع قائم على وجوب كفالة الأطفال الصغار، لأنهم خلق ضعيف يفتقر لكافل يربيه ، حتى يقوم بنفسه، فهو فرض كفاية، إن قام به قائم سقط عن الباقي) (74).
ولما كان الطفل عاجزا عن تحقيق مصالحه كان لابد له من تعيين من يقوم عليه برعاية مصالحه ويحفظه حتى لا يضيع، وهذا يتحقق بثبوت الحق له فى الحضانة.
وقت حضانة الطفل:
الزمن من حين ولادة الطفل إلى بلوغه مبلغ الرجال ينقسم إلى مرحلتين:
الأولى: مرحلة الحضانة، وهى التى يحتاج فيها الطفل إلى نوع من الخدمة والرعاية، لا يحسنه فى الغالب إلا النساء، لما يتطلبه من الجلد والصبر وكمال الشفقه ، ولهذا كان الحق الأول فيها للنساء. وتنتهى هذه المرحلة بالنظر إلى الغلام- سواء كانت الحاضنة هى الأم أو غيرها ببلوغه حدا يستقل فيه بخدمة نفسه بعض الاستقلال، وذلك بأن يأكل وحده، ويلبس وحده، وينظف نفسه وحده.. وقدره بعض الفقهاء ذلك بسبع سنين، وقدره بعضهم بتسع سنين.
أما بالنظر إلى البنت، فيفرق بين حضانة الأم والجدة وحضانة غيرهما. فإن كانت الحاضنة الأم أو الجدة بقيت البنت عندها حتى تبلغ مبلغ النساء وإن كانت الحاضنة غيرهما، بقيت عندها إلى سن المراهقة، وهى تسع سنين على المفتى به عند الحنفية ورواية عن الإمام أحمد، وقيل إحدى عشرة سنة.
ولعل سبب التفرقة بين الغلام والبنت فيما تنتهى به حضانتها، أن الغلام بعد حد الاستغناء عن خدمة النساء، يحتاج إلى نوع آخر من التربية والتأديب والتعليم والتخلق بأخلاق الرجال- وهذه هى- مهمة الرجل، يقدر فيها على ما لا تستطيعه المرأة، فينتقل الصبى عند ذلك إلى:
المرحلة الثانية: وهى مرحلة ضمه إلى وليه الذى يرعاه ويقوم على تأديبه بأنواع التربية والتهذيب، أما البنت فهى- بعد حد الاستغناء الذى تشارك فيه - الغلام- فى حاجة إلى تدريبها على ما يلزم المرأة من أنواع تدبير المنزل وتنظيمه، وتعويدها ما يحسن من عادات النساء وآدابهن، فإذا بلغت أو كادت كانت فى حاجة إلى الحفظ والصيانة، ولا شك أن الرجال على ذلك أقدر من النساء، فتنتقل إلى المرحلة الثانية، مرحلة الضم إلى الولى.
والحق فى ذلك للعصبة من الرجال، يقدم الأقوى عصوبة على غيره على الترتيب فى حضانة العصبة. وهو أيضا حق البنت والغلام فيجبر العاصب على ضمها بعد انتهاء حضانتها.
صاحب الحق فى الحضانة:
الأصل فى الحضانة أن تكون للنساء، لأن المرأة أقدر وأصبر من الرجل على تربية الطفل، وأعرف بما يلزمه وأعظم شفقة عليه، وأكثر جلدا وأعظم صبرا على تحمل أعباء الطفل.
ولكن النساء لسن فى مرتبة واحدة فى استحقاق الحضانة، بل بعضهن أحق بها من بعض بسبب تفاوتهن فى الشفقة والرفق بالصغير.
فأولى النساء بحضانة الطفل أمه النسبية، سواء كانت زوجيتها لأبيه قائمة أم لا، متى توافرت فيها الشروط اللازمة للحضانة.
وتقديم الأم أمر متفق عليه لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن امرأة قالت:" يا رسول الله.. إن ابنى هذا، كان بطنى له وعاء، وحجرى له حواء، وثديى له سقاء، وزعم أبوه أنه ينزعه منى. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنت أحق به ما لم تنكحى". رواه أحمد وأبو داود ولكن فى لفظه "وإن أباه طلقنى وزعم أن ينتزعه منى" (75).
وقد أجمع العلماء على أن الزوجين إذا افترقا ولهما ولد طفل: "أن الأم أحق به ما لم تنكح&q