من طرف محمد راضى مسعود الأحد أكتوبر 10, 2010 12:07 pm
المسئولية الجنائية للشخص المعنوى
المستشار الدكتور / أسامة عبد العزيز
عضو قطاع التشريع بوزارة العدل
تمهيد:
الأصل أن لا يسأل عن الجريمة إلا الإنسان ، إلا أن الفقه الجنائي المعاصر قد خلص إلى إقرار المسئولية الجنائية للشخص المعنوى خروجا على مبدأ شخصية العقوبة الذي هو مفترض أساسي لقاعدة شرعية الجرائم والعقوبات وما تفرع منه من مبادئ كمبدأ شخصية المسئولية الجنائية ومن ثم شخصية العقوبة.
وقد رأينا أن من الطبيعي قبل التعرض للحديث عن الشخص المعنوي في القانون الجنائي أن نعرج ، في مجال مناقشة مسئولية الشخص المعنوى،إلى مبدأ شخصية المسئولية الجنائية ومدى تعارضه مع إقرار المسئولية الجنائية للشخص المعنوى . ثم نتعرض للحديث عن مفهوم الشخص المعنوي في نظر القانون الجنائي ونستهله بالحديث في فرع أول ومفهومه والجدل الفقهي الدائر في شأنه وأسباب الأخذ بمسئوليته الجنائية ، ثم نتعرض للحديث عن شروط مسئولية الشخص المعنوي ، والمتمثلة في اشتراط وقوع الجريمة من أحد اعضاء الشخص المعنوي وان يصدر التصرف في حدود اختصاص من ارتكبه ، وأن يكون التصرف قد تم لمصلحة الشخص المعنوي ، وذلك على النحو الذي سيرد.
مبدأ شخصية المسئولية الجنائية
تعنى شخصية العقوبة إقتصار أذاها على شخص المسؤول عن الجريمة فاعلا كان أو شريكا ، فلا يتجاوز إلى غيره .
ولم تكن العقوبة كذلك في الماضى ، حيث كان أذاها يمتد إلى أقرباء الجانى وكل من تربطه به صلة ، لاسيما في الجرائم السياسية .
وقد سبقت الشريعة الإسلامية الأنظمة الوضعية بعدة قرون في تأكيد مبدأ شخصية العقوبة ، حيث ورد النص عليه في أصل التشريع الإسلامى،وهو القرآن الكريم في قول الله تعالى "ولا تزر وازرة وزر أخرى".
والأصل من خلال هذا المنطلق العادل ، كقاعدة عامة ، أن لا يسأل عن الجريمة إلا الإنسان بحسبانه الشخص الوحيد الذي يتوافر لديه عنصرا المسئولية وهما العلم والإرادة .
ولئن كانت بعض الجرائم التي ظهرت في الآونة الأخيرة لم تكن قد أخذت مكانها في المدونات العقابية القديمة كتلك التي ترتكب ضد البيئة وغيرها يمكن أن تقترف بواسطة مجموعة أو جمعية أو شخص معنوي أو أحد الأشخاص العامة بل وعن طريق الإدارة ، ويظهر ذلك بوضوح في الأنشطة الاقتصـادية والتجـارية التي تباشر علي نطاق واسع بواسطة تلك الشركات والمشروعات والأشخــــــاص وآليات النقل البري والبحري ، فقد ثار جدل محتدم في الفقه الجنائي حول ما إذا كان يمكن إقرار مسئولية الشخص المعنوى لاعتبارات عملية مؤداها أن حماية الحق أولى من عقاب مرتكب الجريمة ، كتلك التي انتصرت للمسئولية الجنائية للشخص المعنوى والحجج التي ركنت إليها على النحو الذي سيرد.
المطلب الأول
مفهوم الشخص المعنوي والجدل الفقهي الدائر بشأنه
الفرع الأول
مفهوم الشخص المعنوي
أثار مفهوم الشخص المعنوي جدلاً عميقاً في الفقه وتعددت في شأنه المذاهب الفكرية والقانونية ، فيذهب البعض إلي أنه " مجموعة من الأشخاص أو الأموال تتمتع بالشخصية القانونية " [1] ، كما يذهب الفقيه الفرنسي " ميشو " إلي أن كلمة " شخص " في نظر القانون تعني " صاحب الحق " ، بمعني أنها تقتضي وجود كائن أهل لتملك حق خاص به ، ثم يورد في تعريف الشخص المعنوي بأنه : "هو صاحب الحق ولكنه ليس كائناًً إنسانياً أي ليس شخصاً طبيعياً" [2] ، والواقع أن هذا التعريف بالرغم من كونه يتسم بالنفي ولا يحدد شيئاً عن طبيعة الشخص المعنوي وعما يتسع له من حقوق وما يلتزم به من واجبات إلا أنه التعريف الوحيد الذي لا يثير خلافاً مع أحد [3].
ولما كان الشخص عند فقهاء القانون هو " الكائن ذو الأهلية " ، فقد استتبع هذا التلازم بين الشخص وصاحب الحق البحث من ناحية في تحديد المراد بالشخص والمقصود بالأهلية من ناحية أخري .أما الأهلية ويراد بها صلاحية الشخص لصدور أمر معين منه أو استحقاقه ، وهو ما يعرف بأهلية الوجوب وأهلية الأداء
أما المقصود بالشخص فهو بدوره موضع خلاف في الفقه ، ذلك أن الشخص ينظر إليه في الفقه بمفهومين ، الأول مفهوم ضيق ، ومؤداه أن الإرادة العاقلة و الواعية هي مناط الشخص القانوني ، وهذا الرأي يذهب إلي نفي الشخصية القانونية عن المجنون أو الصغير غير المميز ، وبالتالي عن الشخص المعنوي .
أما الثاني فيذهب إلي أن الشخص في نظر القانون بالقول أنه إذا كانت الإرادة شرط لمباشرة الحق ، فهي ليست بالضرورة لازمة للتمتع به [4].
الفرع الثاني
الجدل الفقهي في شأن أشخاص المسئولية الجنائية
النظريات الفقهية
كان لتعدد المدارس الجنائية دور هام في مناقشة فكرة مسئولية الشخص المعنوى جنائيا ، حيث شهد القرن التاسع عشر تغيراً في المعتقدات ومناقشات حامية حول القانون والأخلاق ، حيث كان الفقه يدور في ثلاثة نظريات :
الأولي هي النظرية الأخلاقية وهي التي تحصر هدف القانون الجنائي في عقاب المذنب وتبرئة غير المذنب أخلاقياً حيث يتعادل الإثم القانوني في مفهوم هذه النظرية مع اللوم الأخلاقي باعتبار هذا الأخير شرطاً ضرورياً وكافياً للمسئولية .
والحقيقة أن الثورة الفرنسية عندما نادت بالفصل بين الدولة والكنيسة ومن ثم بين القانون والأخلاق وأصبح ليس بالضرورة أن كل ما هو غير أخلاقي أن يكون غير قانوني ، فقد أدي ذلك الفصل إلي نتائج عدة أهمها :
1- الفصل بين الجريمة والخطأ : فقد أصبح الخطأ القانوني و الذي كان يتماثل مع الخطأ الأخلاقي قبل ذلك ( في القانون الكنسي ) مجرد فعل يشير إليه النص القانوني دون حاجة لأن يكون في أساسه شعوراً لدي مرتكبه بالخطأ بعد أن كان في حقيقته ليس سوي انعكاساً للنظرة الدينية للخطيئة التي تستوجب التكفير والتوبة ، أو كما كنا نسميه بالإذناب الذي يعد أكبر معبر عن الخطيئة ، وأصبح من الجرائم التنظيمية أو كما تسمي بالجرائم القانونية المحضة ، delit purement legaux ، ما يتفوق كثيراً علي الجرائم الطبيعية التي تتكون من أفعال تنهي عنها الأخلاق المطلقة السائدة في كل زمان ومكان ، مما ساعد علي محو شعور العامة بالإثم حال ارتكابهم لتلك الجرائم التي لا تمثل قيمة ما في الضمير العام للإنسانية ، علي عكس ما كان الحال في الجرائم الطبيعية ، وهو ذاته ما أودي بعد ذلك إلي خلق جرائم مادية بحتة دون خطأ ، دون ركن معنوي أي دون إذناب.
٢- ثانياً ظهور الشخص المعنوي : فكما انفصل الخطأ عن الجريمة فقد كان من الطبيعي أن تنسب الجرائم إلي أشخاص قد لا يكون من السهل التسليم بخطئها أو بتوافر مفاهيم الإذناب في حقها ، كالشخص المعنوي .
أما الثانية فهي نظرية الشرعية الجامدة : والتي كانت تري عدم مد نطاق قانون العقوبات خارج النص الموضوع ، وإلا ترتب علي ذلك المساس بقانون العقوبات وكانت تذكر الارتباط الحتمي بين الإثم القانوني واللوم الأخلاقي تأسيساً علي أن العقل المذنب شرط ضروري لاحترام مبدأ الشرعية بينما يمثل اللوم الأخلاقي شرطاً غير كاف للمسئولية ، ومن ثم يتعين تفسير قاعدة التجريم وفقاً لقاعدة لزوم الركن المعنوي للجريمة ، وبالتالي فإن استبعاد ذلك الركن حل خاطئ ليس لأنه ينطوي علي عقاب البرئ ولكن لأن ذلك يخالف مبدأ الشرعية لأنه يسمح بالعقاب علي فعل لم يدرك فاعله وقت إتيانه أنه يشكل جريمة .
أما النظرية الثالثة فهي النظرية الوضعية وهي تلك التي كانت تبحث عن غرض المشرع بغض النظر عن أي اعتبار أخلاقي.
ولسوف نستعرض من خلال مناقشة الجدل الدائر حول الشخص المعنوى في مختلف المدارس الفقهية على النحو الآتي ذهب رأي إلي حصرأشخاص المسئولية الجنائية في الأشخاص الآدمية ، فممثل الشخص المعنوي ، في رأيهم ، إذا ارتكب لحساب الأخير جريمة كان مسئولاً عنها وحده ، ووضعه القانوني لا يختلف عما لو كان قد ارتكبها لحسابه الخاص ، ولا يجوز وفقاً لهذا الرأي القول بمسئولية الشخص المعنوي ، فالإرادة عنصر في كل جريمة وهي بطبيعتها قوة إنسانية ، فإذا ثبت أنه ليس للشخص المعنوي إرادة فلا محل لتصور ارتكابه لجريمة ، وإنما تنسب الجريمة لمن توافرت له الإرادة وهـــو الآدمي الذي ارتكبها لحســــــاب الشخص المعنوى [5]. وحجتهم في ذلك :
أولاً : أن الشخص المعنوي هو محض خيال لأنه مجرد من الإرادة التي لا تتوافر إلا للشخص الطبيعي ، وهذه الإرادة شرط لازم للمسئولية .
ثانياً : من حيث إسناد المسئولية للشخص يستحيل من الناحية المعنوية أن تسند لشخص معنوي خطأ شخصي ، حيث لا يتوافر له وجود حقيقي ولا يتمتع بالإرادة .
ثالثاً : هناك عقوبات يستحيل تطبيقها علي الشخص المعنوي كالإعدام والعقوبات السالبة للحرية وإن أمكن توقيع بعض العقوبات عليه فسوف نصيب بلا شك الأشخاص الطبيعيين ( أعضاء الشخص المعنوي ) ، وهؤلاء الأشخاص لا ذنب لهم في وقوع الجريمة ، وبالتالي يؤدي توقيع العقوبة علي الشخص المعنوي إلي التعارض مع مبدأ شخصية العقوبة .
كما يذهب رأي آخر إلي القول برفض هذا الإتجاه والإعتراف بالمسئولية الجنائية للأشخاص المعنوية علي أساس أن ذلك نتيجة حتمية للتحليل الدقيق لطبيعة الشخص المعنوي ، ووسيلة لا غني عنها لحماية مصالح المجتمع [6]. ويسوقون لذلك حجج أهمها :
أولاً : أن الشخص المعنوي حقيقة قانونية Realite juridique ، ليست في حاجة إلي إثبات ، وقد هجر الفقه تماماً النظرية القائلة باعتباره كياناً وهمياً ، فقد أضحت امكانية ارتكاب الشخص المعنوي للجرائم حقيقة مؤكدة في مجال علم الإجرام Une realite criminologique.
ثانياُ : فليس صحيحاً الاحتجاج بأن الشخص المعنوي لا إرادة له ، فالجماعة ذات التركيب أو الهيكل التدريجي هي كائن حقيقي يقرر الشارع وجودها وتنظيم نشاطها ، وهذا النشاط هو وليد إرادة حقيقية منفصلة عن إرادات الأعضاء ، والتي يمكن أن تسند إليها آثار الأفعال المشروعة وغير المشروعة طالما انها ارتكبت باسمها بواسطة الأعضاء الذين يعبرون عن إرادة الشخص المعنوي [7] ، فإرادته تتكون من التقاء إرادات أعضائه المكونين له ، وهذه الإرادة الجماعية تعتبر حقيقة واقعية ، وقادرة علي ارتكاب الجرائم ، فإن ساغ هذا القول عند من يرون في الشخص المعنوي مجرد مجاز ، فهو غير مقبول في منطق نظرية الحقيقة التي تسود الفقه الحديث ، وتري أن للشخص المعنوي وجوداً حقيقياً [8].
فالشخص المعنوي من أشخاص القانون المخاطبين بأحكامه والدليل علي ذلك أن له ذمة مالية مستقلة عن ذمة مستخدميه ، كما أن هذا الشخص يبرم التصرفات القانونية بإسمه وإن كان يوقع عنه ممثلوه ، كما أن القانون المدني قد أقر له بالشـخصـــية القانونيـــة الحقيقية ، فمن التناقض أن ينــــكر القانون الجنائي ذلك [9].
ولما كانت الثوره الفرنسية التي جرت أحداثها 1789 هي التجسيد الحي للفلسفة الفردية التي تنادي بها كتاب القرن الثامن عشر ، فقد كان طبيعياً أن يكون رد الفعل حاسماً في شأن كل المجموعـات أو الجماعات التي تنال أو تؤثر علي الحرية الفردية ، وإزاء التيار الفكري السائد عن الطبيعة الوهمية أو المجازية للأشخاص المعنوية بادرت التشريعات الثورية يإعدام وإنهاء هذه الجماعات [10].
بيد أنه منذ بداية القرن التاسع عشر عادت هذه الأشخاص القانونية لتزدهر بازدهار التحرر الاقتصادي والاجتماعي والسياسي ، حتي يمكن القول أن ظاهرة تكوين الجماعات أو الجمعيات (Associationnisme هي إحدي علامات الحياة المتمدينة ، وعلي الأساس المتقدم اتجه المشرع الفرنسي مع إحساسه بأهمية الشركات ودورها في قطاع المال والتجاره منذ مطلع القرن التاسع عشر ، من هنا بدأت تتوالي التشريعات الخاصة التي تسمح بإنشاء الأشخاص المعنوية ومساءلتها ، ولعل المجال الذي تبدو فيه أهمية الاعتراف بالشخص المعنوي في القانون الفرنسي هو في نطاق الجرائم الاقتصادية وتقرير مسئولية الأشخاص المعنوية عنها .
المطلب الثاني
أسباب الأخذ بالمسئولية الجنائية للأشخاص المعنوية
اتجهت غالبية السياسات الجنائية المعاصرة إلي إقرار مبدأ المسئولية الجنائية للأشخاص المعنوية لمواجهة التغيرات الاجتماعية والاقتصادية ، وظهور أبعاد جديدة ناشئة عن سوء استخدام الأنشطة المؤسسية الأمر الذي يترتب عليه الكثير من الأضرار في صحـــة الأفراد والبيئة ، وبخاصة تلك الناشئة عن التلوث الصناعي والكيماوي [11].
ويعزي ذلك إلي أنه لما برزت أهمية النتيجة الإجرامية ، سيما إن تفاقمت نتيجة الإهمال البشري المرتبط باستخدام الآلة ، فقد أدي ذلك إلي تآكل داخلي للخطأ ، حتي أمكن للبعض القول بأن العقاب علي تلك الجرائم لم يعد يفصل بينه وبين نظرية الخطأ المعروفة في القانون المدني إلا خطوة يسيرة ، علي الرغم من أن ربط العقاب بالضرر ، في مثل تلك الحالات ، قد يخل بميزان العدالة إخلالاً جسيماً ، فمصير الشخص نفسه يختلف في وضع أدي فيه خطؤه إلي نتيجة ذات جسامة معينة عنه في وضع آخر ارتكب فيه ذات الخطأ دون أن يؤدي ذلك إلي وقوع النتيجة الضارة أو مع تغيير في نطاق جسامتها [12].
ولقد كان لهذا الفكر أساس اجتماعي نفعي ، ذلك أن تقرير المسئولية الجنائية للشخص المعنوي هو الحل الحتمي الذي يسد النقص الناتج من الاكتفاء بالمسئوليه الفردية ، بل ويحقق من جهة أخري كفالة تحقيق الدفاع الاجتماعي ، بل والفردي علي السواء .
لذا فقد لجأ الفقه العقابي المعاصر لاستحداث نوع آخر من المسئولية الجنائية لم يكن معروفاً إلي وقت قريب ، متميز في كثير من النواحي عن المسئولية الجنائية التقليدية ، سيما في جرائم تلويث البيئة ، فمن ناحية الفاعل المسئول جنائياً ، قد يكون أفراد المجتمع ، وقد تكون هيئات عامة أو خاصة ، وطنية أو أجنبية ( أو شركات متعددة الجنسية ) ، ذلك أن إسباغ نوع من المسئولية الجنائية ضد الأشخاص المعنوية بات مسألة ضرورية .
ففي الواقع أن الكثير من جرائم البيئة تتم عن طريق هذه الأشخاص ، سواء المصانع أو السفن أو المنشآت التجارية ، وخاصة فيما يتعلق بالتلوث سواء منها تلوث الهواء أم تلوث المياه في البحار والمحيطات أو الأنهار ، لذا فإن تقرير مسئولية وجزاء الشخص المعنوي ذاته مسألة علي جانب كبير من الأهمية حتي يمكن وقف النشاط غير المشروع لهذه المنشآت [13].
ولئن كان إخضاع الأشخاص المعنوية الخاصة للمساءلة الجنائية في الأنظمة القانونية التي تأخذ بمسئولية الأشخاص المعنوية لايثير إشكالية قانونية تذكر ، شأنها شأن الأشخاص الطبيعيين ، فإن الجدل ينصب علي الأشخاص المعنوية العامة Personne Morale de Droit Public ، ومدى إمكانية إخضاعها لهذا النوع من المسئولية نظرا لطبيعة هذه الأشخاص التي تقوم علي فكرة السلطة العامة وتمارس أنشطتها انطلاقا من فكرة المرفق العام ولتقديم خدمات عامة ، الأمر الذي يجب معه إعادة صياغة المشكلة محل البحث لتصبح علي الوجه التالي ، هل يمكن إخضاع الشخص المعنوي العام للمساءلة الجنائية من عدمــــــه ؟ .
أما بالنسبة لعدم كفاية المسئولية الفردية للأشخاص الطبيعيين ، فذلك لأن الدرس المستفاد من التجربة القانونية الفرنسية ، بل والإنجليزية والأمريكية علي السواء تقطع بعدم كفاية العقوبات أوفاعليتها المحدودة حينما تنزل علي المديرين والوكلاء وأعضاء مجالس الإدارة بالنسبة للشركات أو تطبق علي رؤساء الجمعيات أو سكرتيريها أو علي مديري النقابات والذين يعبر عنهم الأستاذ ليفاسير بقوله Des hommes de paille sans moralite et sans solvabilite ، أي ( قوم القشه لا جريرة لهم ولايسار عندهم ) ، وذلك من أجل الجرائم الجماعية المسندة إلي الشخص المعنوي باعتبار أنها تصيب أشخاصاً لمجرد اعتبارهم ممثلين لهذه الجماعات ، وفضلاً عن ذلك ، فإن الغرامات التي يحكم بها مهما كانت ضآلتها تعتبر باهظة بالنسبة إلي الأفراد ، في حين أنها لا تنطوي علي أي أثر موجع بالنسبة للشــــخص المعنوي ، بل إنه قد لا يحس بأي أثر لها لإمكانياته العريضة ، وهذه المبررات هي التي أبرزها العميد مانيول في تعليقه علي مشروع قانون العقوبات الفرنسي 1934 [14].
ولقد أكد المشرع الجنائي في عديد من الأنظمة أهمية تلك المسئولية وضرورتها في بعض الجرائم ذات الطبيعة الخاصة ، كالجرائم الاقتصادية وجرائم تلويث البيئة ، ذلك أن أهميتها تنبع من ثلاث اتجاهات :
الأول : يتعلق بالتطور الاقتصادي والاجتماعي ، وما أدي إليه من تعاظم دور الأشخاص المعنوية في شتي مجالات الحياة الإنسانية ، فلقد أدي التطور الذي أصاب نمط العلاقات الدولية والقوالب التي يفرغ فيها النشاط الصناعي والتعامل التجاري ، والذي برز بصورة هائلة في منتصف القرن المنصرم ، إلي التخفيف من الاتجاهات التي كانت تنادي بعدم الأخذ بتلك المسئولية ، ولعل الأسباب التي يرجع إليها ذلك :
(1)أن النشاط الفردي للأشخاص الطبيعية كان هو الأساس والدعامة الرئيسية للنشاط الاقتصادي ، حيث كانت المؤسسات الفردية تحتل أهم المراكز في هذا النشاط ، أما في العصر الراهن فقد أصبحت الحياة الاقتصادية مرتكزة علي المشروعات الضخمة والمنشآت العملاقة ، الأمر الذي أدي إلي تعاظم دورها في شتي مجالات الحياة الإنسانية .
(2) وأنه إذا كانت المؤسسات الفردية قد أفرزت في جوانبها السلبية بعض الجرائم التقليدية قليلة الأهمية ، فليس من عجب أن تؤدي المشروعات الضخمة والمنشآت العملاقة إلي انتشار حدوث بعض الجرائم الشديدة الخطورة علي المصالح الفردية والجماعية ، سيما وأن تلك الجرائم ترتكب بواسطة أدوات وآلات تمتلكها هذه المؤسسات والشركات والمشروعات ، وهي تتم عادة لحسابها ومصلحتها مثل الجرائم الاقتصادية وجرائم تلويث البيئة ، مما حدا بالبعض إلي القول أن المسئولية الجنائية للأشخاص المعنوية تعد وسيلة دفاع فعالة خاصة في حالة الأضرار الناتجة عن التلوث البيئي ، والذي أصبح واحداً من أهم الموضوعات التي تهم الكافة [15].
والثاني : يجد ركيزته في الآراء الفقهية الحديثة المؤيدة لإقرار هذا النوع من المسئولية .
والثالث : عبرت عنه العديد من المؤتمرات الدولية التي ناقشت مسألة الحماية الجنائية للبيئة ، وأوصت بضرورة الأخذ بتلك المسئولية .واتضح أن جرائم تلويث البيئة ترتكب عادة بواسطة الشخص المعنوي أكثر منها من الأفراد ، وتتم غالباً في سياق الأنشطة الصناعية والحرفية والزراعية المرتبطة بالمشروعات والشركات والتي تتجاوز قدرة الأفراد ووسائلهم ، بل يمكن القول أن أغلب وأخطر جرائم البيئة لا ترتكب إلا بواسطة الأشخاص المعنوية نتيجة ازدياد أعدادها واتساع نشاطها وشموله لمختلف أوجه الحياة وسيطرتها علي الأدوات والأجهزة والمعدات والآلات والمواد المسببة للتلوث [16]
ومن أهم تلك القرارات والمؤتمرات التي ناقشت مسألة المسئولية الجنائية للشخص المعنوي والتوصيات الصادرة عنها ما نذكره علي سبيل المثال علي النحو التالي :
* قرار المجلس الوزاري الأوربي رقم 28/77 بشأن مساهمة القانون الجنائي في حماية البيئة ، وقد تضمنت التوصية الخامسة من قراراته النص علي أنه " في حالة الجرائم التي ترتكب بسبب أنشطة شخص معنوي عام أو خاص ، ودون إخلال بالإجراءات التي تتخذ ضد الفاعل المادي تنعقد مسئولية :
= كل من يحرض الغير عمداً علي ارتكاب الفعل المجرم .
= كل من يترك سهواً أو إهمالاً الغير من الذين يعملون تحت إشرافهم لينتهكون الاشتراطات القانونية أو التنظيمية المعاقب عليها جنائياً .
= الشخص المعنوي ذاته [17].
* مؤتمر هامبورج بشأن الحماية الجنائية للوسط الطبيعي 1979:
وقد تضمنت التوصية السادسة من توصيات هذا المؤتمر ما يلي " وحيث إن الاعتداءات الخطيرة علي الوسط الطبيعي غالباً ما تكون صادرة عن الشخص المعنوي والمشروعات الخاصة أو العامة او الدولة يصير من الضروري تقبل المسئولية الجنائية لهؤلاء أو ان يفرض عليهم احترام الوسط الطبيعي تحتح تهديد الجزاءات المدنية او الإدارية " [18].
* المؤتمر السادس للجمعية المصرية للقانون الجنائي 1993:
وقد أكد المؤتمر علي ضرورة مراجعة قواعد المسئولية الجنائية بما يكفل امتداد نطاقها إلي كل من بسهم بأية صورة كانت بالاعتداء علي البيئة أو تهديدها بالخطر ، كما أكد المؤتمر علي ملاءمة امتداد المسئولية في هذا المجال إلي الأشخاص المعنوية خاصة كانت أو عامة [19].
المطلب الثالث
شروط مسئولية الشخص المعنوي
تمهيد :
تنبغي التفرقة أولاً بين مسئولية الشخص المعنوي ، بصفة عامة ، ومسئولية القائمين علي إدارته أو مالكه ، فمسئولية الشخص المعنوي لا تلغي مسئولية القائم بالفعل [20]. وإذا كان الحديث عن مسئولية ممثل الشخص المعنوي لا يعدو أن يكون مناقشة لمسئولية شخص طبيعي ، وقد تعرضنا من قبل للحديث عن مسئوليته ، وعلي ذلك فلا موضع للحديث عنها في هذا المقام ، ولكننا سنتعرض لمسئولية الشخص المعنوي ذاته وشروط انعقاد تلك المسئولية .
وتنعقد مسئولية الشخص المعنوي بتوافر ثلاثة شروط علي النحو التالي : الأول هو اشتراط وقوع الجريمة من أحد أعضاء الشخص المعنوي ، والثاني صدور هذا التصرف في حدود اختصاص من ارتكبه وفقاً للنظام الأساسي للشخص المعنوي ، والثالث هو ثبوت أن التصرف قد تم لمصلحة الشخص المعنوي ، وسوف نتعرض لكل من الشروط المتقدمة علي النحو التالي :
الفرع الأول
اشتراط وقوع الجريمة من أحد أعضاء الشخص المعنوي
من الطبيعي أن تكون مباشرة الشخص المعنوي لأنشطته بواسطة أشخاص طبيعيين يعملون باسمه ولحسابه ودون أن يســتتبع ذلك القول بأنه شـخص وهمي افتراضي بســـبب عدم قدرته علي القيام بهذا بذاته .
ويعني اشتراط صـــدور الفعل من أحد أعضاء الشخص المعنوي ، أن يكون اقتراف الفعل المؤثم بواسطة شخص يعد عضواً للشخص المعنوي ، وليس مجرد ممثل له فقط أو من باب أولي مجرد تابع ، ولعل السبب في ذلك أن الشخص المعنوي لا يمكنه أن يباشر نشاطه الإجرامي إلا بواسطة الأعضاء الطبيعيين المكونين له ، فهم بمثابة الرأس أو اليد بالنسبة إلي الشخص الطبيعي [21].
بيد أن اشتراط الصفة علي هذا النحو وضرورة صدور الفعل عن أحد أعضاء الشخص المعنوي ، إنما ينهض في شأن الجرائم التي يطلق عليها الجرائم الإيجابية التي تقع بارتكاب سلوك إيجابي معين أما في جرائم الترك أو الامتناع فلا مجال لإعمال هذا الشرط ، إذ أن مجرد القعود عن القيام بالفعل يترتب عليها وقوع الجريمة وصحة إسنادها إليه ، فبينما يشترط لاعتبار الفعل صادراً من الشخص المعنوي أن يكون مرتكبه من الأشخاص الطبيعيين – المحددين علي سبيل الحصر فإنه يعمل هذا الشرط في مجال الجرائم التي ترتكب بطريق الترك ومن ثم تعتبر هذه الجرائم من جرائم الترك الصادرة عن الشخص المعنوي بمجرد القعود عن إتيان العمل المطلوب دون بحث عما إذا كان يتعين عليه إنجازه من اعضائه أو ممثليه أو حتي تابعيه [22].
إلا أنه من ناحية أخري لا يمكن مساءلته جنائياً عن كل فعل مؤثم يقترفه أحد أعضائه الطبيعيين حتي في حالة ارتكابه باسم الشخص المعنوي ولحسابه ، ذلك لأنه يشترط لإسناد أي فعل إليه أن يكون مرتكبه من الأشخاص الطبيعيين المرخص لهم وفقاً لنظامه الأساسي بالتعبير عن إرادته .
* الفرع الثاني كون هذا التصرف في حدود اختصاص من ارتكبه طبقا ًللنظام الأساسي للشخص المعنوي :
ويعني ذلك أن يكون تصرف العضو أو الممثل القانوني في حدود السلطة الممنوحة طبقا للنظام الأساسي للشخص المعنوي ، فتصح مساءلة الشخص المعنوي جنائياً إذا كانت السلطة التي استند إليها الآمر محل المساءلة مردها إلي السلطة العليا التي يترخص بها والتي يستطيع بمقتضاها اتخاذ قرارات خاصة بالشخص المعنوي دون حاجة إلي الرجوع إلي سلطة أعلي ، أي أن يكون اقتراف الفعل المؤثم من العضو صاحب الاختصاص [23] .
أما غيره من العاملين والإداريين فيسألون شخصياً وبمفردهم عما يرتكبون من جرائم [24].
* الفرع الثالث أن يكون التصرف قد تم لمصلحة الشخص المعنوي
*
ويعني ذلك ان الشخص المعنوي لا يسأل إلا عن الجرائم التي ترتكب لحسابه أو لمصلحته ، وعلي الأخص تلك التي تعود عليه بالفائدة بشكل مباشر أو غير مباشر [25].
ومصلحة الشخص المعنوي قد تكون مادية أو معنوية ، حالة أو مستقبلة ، مباشرة أو غير مباشرة ، ومع ذلك فمن الناحية العملية غالباً ما تكون المصلحة الخاصة مختلطة بالمصلحة العامة للشخص المعنوي.
[1] د. محمود نجيب حسني ، شرح قانون العقوبات ، القسم العام ، مرجع سابق ، ص 514.
[2] Michaud, La Theorie de la Personnalite Morale ,Tome I ,P.3-5 Paris 1932.
[3] د. إبراهيم علي صالح ، المسئولية الجنائية للأشخاص المعنوية ، مرجع سابق ، ص29.
[4] أنظر في هذا الخلاف ، د. إبراهيم علي صالح ، المسئولية الجنائية للشخص المعنوي ، المرجع السابق ، ص 32.
وأيا ما كان وجه الرأي فقد اعترف المشرع المصري بالشخص المعنوي ، فقد نظمها الشارع المصري في القانون المدني في المواد 52-80 ، واعترف لها بجميع الحقوق إلا ما كان ملازما لصفة الإنسان الطبيعية ، وذلك في الحدود التي قررها القانون وأقر لها ذمة مالية مستقلة وأهلية قانونية واعترف لها بحق التقاضي ووجود موطن مستقل لها ( م 53 من القانون المدني ) أنظر في ذلك ، د. محمود نجيب حسني ، شرح قانون العقوبات ، القسم العام ، المرجع السابق ، ص514
[5] د.محمود نجيب حسني ،شرح قانون العقوبات ، مرجع سابق ،ص515 .
[6] د.محمود نجيب حسني ، شرح قانون العقوبات ، المرجع السابق ، ص516.
[7] د. إبراهيم علي صالح ، المسئولية الجنائية للشخص المعنوي ، مرجع سابق ، ص126 وهو يشير إلي راي الفقيه "فيتو" Andre Vitu
[8] د. أبو العلا عقيدة ، الاتجاهات الحديثة في قانون العقوبات الفرنسي الجديد ، مرجع سابق ، ص44.
[9] د. أبو العلا عقيدة ، المرجع السابق ، ص45
[10] د. إبراهيم علي صالح ، المرجع السابق ،ص58-62 .
[11] د. فرج صالح الهريش ، جرائم تلويث البيئة ، مرجع سابق ، 381.
[12] د.أحمد عوض بلال ، المذهب الموضوعي وتقلص الركن المعنوي ، مرجع سابق ، ص318 .
[13] د.محمد مؤنس محب الدين ،البيئه في القانون الجنائي ، مرجع سابق ،ص21 .
[14] د. إبراهيم علي صالح ، المسئولية الجنائية للأشخاص المعنوية ، مرجع سابق ، ص65 .
[15] Picard E., La Responsabilite Penale des Personnes Morales de droit Public, Rev . soc.,1993 ,P 270.مشار إليه في د.أحمد عبد الكريم سلامة ، قانون حماية البيئة ، مرجع سابق ، ص 66.
[16] التوصية السادسة من توصيات مؤتمر هامبورج 1979 بشأن الحماية الجنائية للوسط الطبيعي التي تؤكد أن الاعتداءات الجسيمة علي الوسط الطبيعي ، تكون غالباً من الأشخاص المعنوية ).والتوصيات منشورة في :
Revue de Scienses Criminelles et du droit penal compare , 1980 , 1 , p.254.
[17] C.E Comite Europeen Pour Les Problems Criminels , La Contribution du Droit Penal a La Protection de L'environnement, publication de C. , Strasbourg , 1978 , p12.
[18] Revue de Scienses Criminelles et du droit penal compare , op.cit. , p.254 .
[19] أنظر في ذلك ، مجموعة أعمال المؤتمر ، مرجع سابق ، التوصيات .
[20] د.محمد مؤنس محب الدين ، البيئة والقانون الجنائي ، مرجع سابق ، ص112 ،
وأنظر أيضاً د. نور الدين هنداوي ، الحماية الجنائية للبيئة ، مرجع سابق ، ص112
[21] د. إبراهيم علي صالح ، المسئولية الجنائية للأشخاص المعنوية ، مرجع سابق ، ص263 .
[22] د. إبراهيم علي صالح ، المسئولية الجنائية للأشخاص المعنوية ، مرجع سابق ، ص263
[23] د. فرج صالح الهريش ، جرائم تلويث البيئة ، مرجع سابق ، ص 408 .
[24] د. إبراهيم علي صالح ، المرجع سابق ، ص263 .
[25] وقد نصت علي هذا الشرط صراحة المادة 121-2/1 من القانون الفرنسي الحديد الصادر في 22 يوليو 1992 ، ويترتب علي هذا الشرط بمفهوم المخالفة عدم مساءلة الشخص المعنوي عن الجريمة التي تقع من ممثله إذا ارتكبها لحسابه الشخصي أو لحساب شخص آخر ، أو وقعت إضراراً بالشخص المعنوي . ( د. محمد أبو العلا عقيدة ، الاتجاهات الحديثة في قانون العقوبات الفرنسي الجديد ، مرجع سابق ، ص55)