لم تثر جماعة أو حركة أو حزب فى مصر والعالم العربى عموما، جدلا مثل ذلك الذى أثارته جماعة "الإخوان المسلمين" على مدى أكثر من 80 عاما، ومازالت تثيره.
ولم تدخل جماعة أو حركة أو حزب فى صراع ضد عشرات الحكومات المتوالية إلا جماعة "الإخوان المسلمين" التى كان الصدام هو القاعدة والتعاون استثناء فى علاقاتها مع الحكومات التى تولت الحكم فى مصر فى العصر الملكى وخصوصا منذ منتصف ثلاثينات القرن الماضى، ثم على مدى ثلاثة عهود فى إطار النظام الجمهورى منذ عام 1954.
ولم تحظ حركة أو جماعة أو حزب بمثل ما لقيته جماعة "الإخوان المسلمين" من اهتمام أكاديمى وبحثى. فما صدر عنها من كتب ودراسات فى هذا الإطار يفوق غيرها ربما باستثناء حزب الوفد الذى وجد اهتماما مساويا لها. غير أنه فى الوقت الذى انحسر الاهتمام بهذا الحزب فى العقود الأخيرة، مازالت العناية بدراسة جماعة "الإخوان المسلمين" فى ازدياد.
ومع ذلك، فقليلة هى الكتابات التى تجمع المعرفة الصحيحة بها والنظرة الموضوعية إليها وسط فيض لا ينتهى من الكتب والأبحاث والدراسات، فضلا عن المقالات التى لا تُعد ولا تحصى، وخصوصا منذ أن بدأ ما أُطلق عليه "الإحياء الإسلامى" فى منتصف سبعينات القرن الماضى.
فعلى مدى عدة عقود، كان الإسلام السياسى إحدى أكثر الظواهر إثارة للجدل فى عالمنا. وكثر المهتمون به كتابة وبحثا، وتنوعت دوافعهم، وتباينت مقاصدهم، بينما قل المعنيون حقا منهم بفهم هذه الظاهرة وتحليلها ووضعها فى سياقها التاريخى والموضوعى. ولم يكن المتطفلون فى هذا المجال بغير معرفة أقل ضررا من الذين اقتحموه بدون الحد الأدنى من الموضوعية، وبما يفوق الحد الأقصى من الذاتية والانحياز فى كثير من الأحيان.
ويحاول د. وحيد عبد المجيد فى هذا الكتاب استشراف مستقبل جماعة "الإخوان المسلمين" عبر العودة إلى تاريخها وتحليل حاضرها ومناقشة اتجاهاتها والبحث فى دلالات اخطائها التى جعلت تاريخها حافلاً بالمحن، وقراءة مواقفها التى تجعلها مخيفة لدى كثير من الاتجاهات والتيارات الأخرى وقطاعات فى المجتمع. فالأكيد أن الخوف من "الجماعة" لا يعود إلى "فوبيا" أو حالة مرضية، بل يرتبط بصورتها التى تقدمها هى لنفسها عبر مواقفها تجاه المسألة الديمقراطية وقضايا الحرية ومساحة الإبداع، كما بشأن العلاقة بين الدولة والدين، والتوجه إزاء المرأة والأقباط.
فلم يستطع "الإخوان" على سبيل المثال إقناع الخائفين من الدولة الدينية، التى يزعم الحاكم فيها لنفسه سلطانا إلهيا، بأنهم يؤمنون حقا بدولة وطنية تقوم على المواطنة. ولم يتمكنوا من طمأنة الخائفين من أن فوز "الإخوان" بالأغلبية فى انتخابات حرة يتوق إليها المصريون سيجعلها الأولى والأخيرة. وفى إيجاز، يفصَّله الكتاب فى قسميه الرابع والخامس، لم يتقدم "الإخوان" بما يكفى لتجسير فجوة الثقة فيهم واستيعاب دروس تاريخهم المديد الحافل بالمحن.
فهل يمكن أن تكون هذه الدروس معينة لهم على تلمس طريق إلى المستقبل يضع حدا للشكوك العميقة فى نواياهم، ويمكّن الآخرين من بناء الثقة المفقودة فى العلاقات معهم.
السؤال كبير ومعقد. وفى هذا الكتاب محاولة أولى للإجابة عبر زيارة بحثية جديدة إلى تاريخ جماعة "الإخوان المسلمين" سعياً إلى استشراف ما قد يأتى به المستقبل من تطورات وما ينبغى عليها أن تفعله إذا أرادت أن تكون عنصرا من عناصر بناء مستقبل أفضل لوطن ديموقراطى وليس عاملا من عوامل إعاقة الطريق إلى هذا المستقبل.
أولا: نشأة جماعة "الإخوان المسلمين" وتطورها 1928-1954
يتناول هذا الفصل الظروف التى نشأت فيها الجماعة عام 1928، ودور مؤسسها الشيخ حسن البنا الذى تميز بقدرات غير عادية. ويثير هذا الفصل قضيتين أساسيتين:
"الإخوان" بين الدين والسياسة:
يختلف المؤلف مع الاتجاه الشائع الذى يرى أن جماعة "الإخوان" نشأت دينية ثم تحولت إلى العمل السياسى عام 1938. فلا أساس لهذا التقسيم الزمنى فى شخصية حسن البنا وسيرته، ولا فى نظرته إلى الجماعة. فكانت
الدعوة الدينية عنده جزءا لا يتجزأ مما اعتبره مهمته التاريخية، التى كانت سياسية قلبا وقالبا.
كان البنا واحدا من كُثْر صدمهم إلغاء الخلافة الإسلامية، وخلطوا بين هذه الخلافة من حيث كونها نوعا من الحكم ينشأ ويزول ويتغير، والإسلام الثابت المطلق الذى لا دين بعده. واختلط لديه الجزع لإلغاء الخلافة بالفزع مما بدا له خطرا يهدد الإسلام ويفرض العمل لإنقاذه. وتداخل فى ذهنه ما أسماه الانقلاب الكمالى على الخلافة العثمانية وانتشار ما اعتبره (موجة علمانية مضادة للدين عبر الجامعة والأحزاب والجرائد والمجلات).
ولم يكن المؤتمر العام الخامس للجماعة، الذى رأى كثير من مؤرخى "الإخوان المسلمين" أنه نقطة التحول إلى العمل السياسى، إلا إعلاناً بدخول المعترك السياسى، والإفصاح عن الغاية السياسية العليا للجماعة وهى أن (الإخوان المسلمين يتجهون فى جميع خطواتهم وآمالهم نحو الحكومة الإسلامية بعد مضى فترة تنتشر فيها مبادئهم وتسود).
وكان البنا دقيقا فى تحديده عام 1938 بأنه عام بدء الكفاح السياسى، وليس العمل السياسى فى مجمله، وذلك فى افتتاحية العدد الأول من مجلة "النذير" الذى تحدث فيه عن (اتجاه الإخوان المسلمين الوطنى وابتداء اشتراكهم فى الكفاح السياسى).
ولكن البنا مزج بين دعوته الدينية وروُيته السياسية بمهارة، وبساطة فى آن معاً. ويقدم الكتاب أمثلة متنوعة لهذه "الخلطة" التى نجح من خلالها البنا فى بناء تيار إسلامى واسع النطاق يوجد الآن بدرجات مختلفة فى نحو ثمانين دولة.
واعتمد فى ذلك على بساطته الشديدة التى تظهر، مثلا، فى رسائله التى اعتمدت عليها الجماعة فى الاتصال الجماهيرى. فهى رسائل شديدة البساطة فيها من الوعظ والتلقين والتنظيم أكثر بكثير مما فيها من الفكر. فلم يكن البنا مفكرا أو فقيها، ولم يدع هو ذلك. كان يفضل إعداد الرجال بدلاً من تأليف الكتب. ولكنه لم يكن مجرد واعظ متميز شديد التأثير. كان قائدا بالسليقة توفرت لديه منذ البداية موهبة الزعامة قبل أن يصقل قدراته ويراكم خبراته فيها. ولعل أهم آيات قيادته غير العادية (الكاريزماتية) أنه جمع بين التأثير الفائق والتنظيم الدقيق. ولذلك بنى على يديه جماعة ملأت الأرض.
لم يكن فيه أى شئ غير عادى، ولكن تأثيره هو الذى لم يكن عاديا. لم يكن طويل القامة ولا قصيرها، ولكنه كان إلى القصر أقرب. ولم يكن رفيعا ولا سمينا، ولكنه كان ممتلئا. ولم يكن أبيض ناصعا ولا أسمر بيّن أسمرة. كان وسطاً بين هذا وذاك. وكان كثيف اللحية خفيف الشعر واسع العينين حاد النظرات.
وهذا تكوين جسدى عادى. ولذلك لم يكن سحره فى مظهره، بل فى جوهره، وقدراته القيادية. وبهذه القدرات، أقام حسن البنا تنظيما فرض نفسه على السياسة المصرية اعتماداً على المناورة فى كثير من الأحيان. ولذلك كانت سياسة "الإخوان" عملية (براجماتية) فى مجملها ونازعة إلى المساومة مع مختلف أطراف الحياة السياسية فى تلك المرحلة.
من العمل السلمى إلى العنف
كان التحول الرئيسى الذى حدث فى جماعة "الإخوان" فى تلك المرحلة مرتبطا بتأسيس "النظام الخاص" فى نهاية الثلاثينات.
فقد نقل النظام الخاص نشاط "الإخوان المسلمين" إلى مرحلة جديدة وخصوصا فى الفترة من 1944 إلى 1948. اتسمت تلك الفترة بالضعف الذى أصبح سافراً منذ 1947.
وكان عام 1948 هو عام العنف المسلح فى تاريخ "الإخوان المسلمين". ولكن العملية التى أثارت أكبر مقدار من العنف، وأدت إلى بدء العد التنازلى لحل الجماعة، هى اغتيال القاضى أحمد الخازندار فى 22 مارس 1948 انتقاما منه بسبب الحكم الذى أصدره فى إحدى قضايا "الإخوان"، وظلت اعمال العنف تتصاعد حتى إصدار قرار حل الجماعة فى 8 ديسمبر 1948.
ودفع حسن البنا حياته ثمنا لدائرة العنف التى لم يتصور المدى الذى يمكن أن تبلغه عندما قرر انتهاج هذا الطريق وإنشاء النظام الخاص عام 1940. فقد اغتيل البنا فى 12 فبراير 1949 أمام مقر جمعية الشبان المسلمين فى شارع نازلى (رمسيس) بوسط القاهرة، انتقاما لقتل النقراشى، بالرغم من أن المؤشرات كلها تفيد أنه لم يعرف شيئا عن هذه العملية إلا بعد تنفيذها. ولم تكن هذه هى العملية المسلحة الوحيدة التى حدثت بمنأى عنه. فكان البنا قد عجز عن السيطرة على النظام الخاص، بعد أن ترك دوره يتوسع ونفوذ قيادته يستفحل.
وبالرغم من أن الجماعة استعادت وضعها القانونى عام 1951 بحكم قضائى ألغى قرار حلها ، فقد مضت فى اتجاه قادها إلى صدمة جديدة أكثر هولا حين اصطدمت مع ثورة 1952.
وقد أنهى هذا الصدام مرحلة فى تاريخ الجماعة وبدأت مرحلة أخرى نزلت فيها تحت الأرض.
ولذلك كثيرا ما أثير السؤال عما إذا كان ذلك الصدام الذى حدث بين الجماعة والثورة محتوما، أم أنه كانت هناك فرصة لتجنبه وإيجاد صيغة ما لعلاقة غير عدائية بين فريقين اتفقا على ضرورة تغيير الوضع الذى كان قائما فى مطلع خمسينات القرن الماضى، ولكنهما اختلفا على اتجاه هذا التغيير ووجهته.
والأرجح أن الصدام كان كامنا فى طبيعة العلاقة بينهما من حيث جوهرها، وليس فى أحداث وقعت وعكرت صفوها. ويختلف استنتاجنا هذا عن الاتجاه الشائع فى تحليل الصدام الذى حدث بين الثورة والجماعة، سواء من يرجعونه إلى تبدل أولويات كل منهما بعد إنهاء النظام القديم، أو من يعيدونه إلى خلافات محددة على كيفية التعامل مع الاحتلال البريطانى، أو على الإصلاح الزراعى، أو على إشتراك "الإخوان" فى الحكومة، أو حتى على موقع الشريعة الإسلامية فى النظام السياسى الجديد.
لقد كان كل من الطرفين يناور فى علاقته مع الآخر. فمنذ البداية وكان كلاهما يدركان ذلك على نحو خلق توترا من وقت إلى آخر، ولكن لم يكن ثمة خيار أمام أى منهما إلا المحافظة على هذه العلاقة.
غير أنه بعد الثورة، أصبح قادتها فى مركز أقوى. كما بدا عبد الناصر أكثر براعة من "الإخوان" وأوفر قدرة على المناورة فى لحظة تحول عميق شمل أساليب إدارة العلاقة بينها وبين الثورة.
ثانيا: "الإخوان المسلمون" بين "السمع والطاعة" و "الحوار والشورى"
1928- 1954
قامت العلاقة بين أعضاء جماعة "الإخوان المسلمين" وقيادتها ممثلة فى المرشد العام، منذ تأسيسها عام 1928، على مبدأ السمع والطاعة المتضمن فى البيعة وفقا للقسم الذى يقسمه عضو الجماعة.
ولذلك يسود اعتقاد فى أن تنظيم الجماعة يعمل بشكل آلى (أوتوماتيك) لا مجال فيه لنقاش أو حوار أو اختلاف فى الرأى. غير أن هذه الصورة ليست واقعية تماما، ولا يمكن أن تكون كذلك فى أى تنظيم بما فى ذلك التنظيمات التى توصف بأنها حديدية. فأعضاء وكوادر أى تنظيم هم بشر من دم ولحم، وليسوا آلات يمكن تحريكهم كلهم عبر ريموت كونترول".
وقد عرف تنظيم "الإخوان المسلمين" منذ تأسيسه أنواعا شتى من التفاعلات بين قادته وأعضائه، وفى أوساط قيادته. وقد يكون صعبا فهم سلوك هذا التنظيم وآليات عمله بدون الإلمام بالاتجاهات الرئيسية فى التفاعلات التى حدثت داخله فى المرحلة التى تمتع فيها "الإخوان" بالمشروعية فى إطار جمعية مسجلة رسميا وفق القانون المصرى فى الفترة من 1928 إلى 1954 باستثناء السنوات التى تم حل هذه الجمعية فيها من 1948 إلى 1951.
1- عملية اتخاذ القرار فى جماعة "الإخوان المسلمين":
سعى حسن البنا إلى إتباع أسلوب التوافق فى اتخاذ القرارات المهمة، لكى تصدر هذه القرارات بالإجماع وليس بالأغلبية بقدر الامكان. ويفرض هذا الأسلوب، بطابعه، طريقة معينة تقوم على الاتصال الشخصى بالأعضاء لإقناعهم بالقرار المراد إصداره.
وهذا أسلوب يلجأ إليه فى العادة رؤساء التنظيمات والأحزاب الذين يتمتعون بمكانة كبيرة ليس فقط بين الأعضاء، ولكن أيضا على المستوى القيادى فى هذه التنظيمات، وكان كاتب السطور شاهدا على أحد نماذج هذا الأسلوب فى حزب الوفد الجديد، إذ سعى مؤسسه فؤاد سراج الدين إلى اتخاذ القرارات الأساسية عبر التوافق أو على الأقل بدون معارضة تُذكر معتمدا على أسلوب الاتصال الشخصى للضغط على بعض أعضاء الهيئة العليا أو إحراج بعض آخر، فى الوقت الذى كان مجرد قيامه بهذا الاتصال مصدراً لبهجة فريق ثالث من قادة الحزب و حبورهم.
ورغم أن المرشد العام الأول كان يسعى لأن تصدر القرارات بالإجماع، فلم يكن بمقدوره دائما أن يحقق ذلك، وبالتالى كان يضطر لإصدار بعض القرارات ضد موقف الأغلبية. ومن أمثلة ذلك قرار التراجع عن خوض انتخابات مجلس النواب عام 1942.
2- المؤتمرات العامة لجماعة "الإخوان"
بدأت التجربة التنظيمية لجماعة "الإخوان المسلمين" بدور فردى للمرشد العام الأول حسن البنا الذى شكل حوله نخبة أخذت فى تأسيس الجماعة حتى انعقد مؤتمرها العام الأول فى مايو 1932، وتلته خمسة مؤتمرات فى ديسمبر 1932، ومارس 1935، ومارس 1936، ويناير 1939، ويناير 1941(34).
وكانت المشاركة فى هذه المؤتمرات محصورة فى الأعضاء العاملين والمجاهدين الذين يمثلون أعلى مراتب العضوية فى الجماعة، حيث كانت هناك حينئذ مرتبتان آخريان أدنى مستوى هما الأخ المساعد والأخ المنتسب.
وباستكمال تشكيل الهيئة التأسيسية للجماعة عام 1941، حلت محل المؤتمر العام، الذى لم يعد يستوعب جميع "الإخوان" العاملين والمجاهدين، وبالتالى كان من الضرورى الاختيار من بينهم، الأمر الذى كان يفرض اللجوء إلى الانتخاب، وهو ما لم تكن قيادة الجماعة تحبذه إلا فى إطار معين ومحدد كما سبق توضيحه. ولذلك كانت فكرة الهيئة التأسيسية حلا مناسبا يحافظ على الشكل الديموقراطى بدرجة ما، وعلى استمرار قبضة المرشد على الجماعة فى الوقت نفسه. وهذه الهيئة هى التى حل محلها مجلس شورى "الإخوان" بعد ذلك.
3- إدارة الخلافات داخل جماعة "الإخوان المسلمين":
اتسمت عملية إدارة الخلافات داخل الجماعة فى تلك المرحلة بدور مسيطر لزعيمها حسن البنا. ولكن هذه السيطرة لم تكن أمرا فريدا فى الأحزاب والتنظيمات السياسية فى مصر فى ذلك الوقت و حتى الآن. فلم يكن حسن البنا أكثر هيمنة على الجماعة من سعد زغلول ومصطفى النحاس فى حزب الوفد مثلا. ولكن البنا تميز بقدرة على التأثير فى أتباعه فاقت أياً من الزعماء الأخرين. ومع ذلك فقد تعرض إلى خبرة شديدة عندما خرج عليه عدد من شباب الجماعة عام 1938 وافتقدوا ما اعتبروه مجاملة للحكومة والتعامل معها بأساليب ملتوية بدلا من مواجهتها بالحقيقة، وعدم اتخاذ إجراء فى شأن إلزام المرأة بحدود الإسلام، والوقوف عند حد الدعاية فى مساعدة مجاهدى فلسطين، إضافة إلى طريقة استخدام التبرعات التى تجمعها الجماعة بغرض دعمهم والتى كان بعضها يذهب لدعم شُعب الجماعة.
وثمة ما يدل على أن المعارضين للبنا كانوا فى مركز قوة، ولذلك لم يواجههم من خلال الحوار، بل لجأ إلى أسلوب ذى طابع تآمرى يصفه أحد أنصاره ( محمود عبد العليم) تفصيلا، ويتلخص فى انقطاع البنا عن المركز العام وحصر أنصاره الذين احتفظوا بإيمانهم ودعوتهم وقيادتهم وفقا للرواية، والاتفاق معهم على خطة لتكثيف ذهابهم إلى ذلك المركز وتنفيذ مقاطعة تامة لمجموعة المعارضة، مما أدى إلى عزلهم واضطرار الكثيرين من أنصارهم إلى التراجع بحيث لم يبق مع أحمد رفعت غير نفر قليل.
لكن هذه الرواية تختلف فى بعض تفاصيلها مع رواية قيادى آخر من أنصار البنا أيضا (عباس السيسى)، وخاصة فيما يتعلق بنهاية ذلك الخلاف وكيفية حدوث الانشقاق. فتشير هذه الرواية إلى سفر أحمد رفعت فى نهاية الأمر إلى فلسطين للانضمام إلى المجاهدين، ولا تذكر أنه تم التفاهم فى النهاية على انسحاب المعارضين من الجماعة مقابل التنازل لهم عن مجلة "النذير" التى كان صاحب امتيازها محمود أبو زيد المحامى منضما إليهم، وإعطائهم ما بقى من مال فى صندوق الجماعة. وخرجوا بالفعل لتأسيس "جماعة شباب سيدنا محمد".
ومن أهم الصدامات أيضا الصدام الذى حدث فى 1946- 1947، وارتبطت مقدماته بما اعتبره البعض حماية من المرشد العام لصهره عبد الحكيم عابدين السكرتير العام عندما أتُهم بالتحرش الجنسى ببعض نساء الجماعة وزوجات بعض أعضائها. وتداخل ذلك مع التنافس على المناصب الرئيسية فى الجماعة. ويناقش المؤلف فى الكتاب تفاصيل هذين الصراعين، وغيرهما من الصراعات التى أدت إلى انشقاقات مهمة فى الجماعة فى تلك المرحلة، ومن أهمها الخلاف على خلافة حسن البنا وكيفية الاتفاق على حسن الهضيبى مرشدا عاما ثانيا.
ثالثا: انطلاق "الإخوان المسلمين" من مصر إلى الخارج
لم تمض سنوات قليلة على تأسيس جماعة "الإخوان المسلمين" عام 1928 حتى كان طموح مؤسسها المرشد العام حسن البنا فى أن يكون لها امتداد فى بلاد مسلمة أخرى قد دفعه إلى اتخاذ الخطوة الأولى فى هذا الاتجاه وهى إرسال دعاة من أعضاء الجماعة إلى بعض هذه البلاد بدءاً بالأردن.
وكانت هذه هى بداية انتشار دعوة "الإخوان المسلمين"، ومن ثم تنظيمهم، فى البلاد الأقرب إلى مصر جغرافياً والأوثق صلة بها ثقافياً، وهى بلاد المشرق العربى والسودان، ثم بلاد الخليج.
ونظراً لأهمية "التأسيس الدولى" لجماعة "الإخوان المسلمين" فى فهم طابعها ومنطقها والعوامل المنظمة لحركتها، يلقى الكتاب ضوءاً على بداية تجاوزها حدود مصر، ويناقش قضية تدويلها انطلاقا من افتراض أن انتشارها فى العالم لم يحدث أثرا كبيرا فى اتجاه تنظيماتها فى البلاد المختلفة نحو الداخل فى المقام الأول، بما يعنيه ذلك من أن ما يجمع هذه التنظيمات على امتداد العالم العربى خصوصا والعالم فى مجمله عموماً هو أقل بكثير مما يفصل بينها.
فالجامع الرئيسى فى حركة "الإخوان"، هو فكرة عامة وانتماء فضفاض وشعور بالتضامن والتساند وحلم فى رفع الراية المشتركة فى سماء بلاد الأمة على امتدادها.
أما الفاصل الأساسى بين تنظيمات "الإخوان" فهو السياسة بمتغيراتها وتحولاتها وتقلباتها، والمؤثرات الداخلية التى تختلف من بلد إلى آخر، والقضايا التى يتعين التعامل معها على تنوعها وتباينها من حالة إلى غيرها.
ولذلك لم يحدث فى أى وقت أن كانت هناك سياسة عامة ومواقف مشتركة لتنظيمات "الإخوان"، ناهيك عن أن تكون موحدة، تجاه القضايا المختلفة، ربما باستثناء الموقف العام تجاه قضية فلسطين على سبيل الحصر. وهذا استثناء لا يعول عليه، لأن المشتركات فيه جمعت الكثير من القوى والتيارات السياسية والفكرية، وليس فقط تنظيمات "الإخوان".
غير أن التباين بين تنظيمات "الإخوان" لم يقف عند غياب المشتركات السياسية. فقد أدى الاختلاف فى بعض الحالات إلى تناقض فى الاتجاهات، وإلى صدام فى المواقف، وصولا إلى اتهامات متبادلة على نحو يثير التساؤل عن مغزى، وربما جدوى، المشتركات العامة بينها، وعن سلامة الاعتقاد فى أن عبارة ""الإخوان المسلمين"" مازالت تحمل معنى وجود حركة واحدة حتى بأكبر قدر من العمومية.
ويثير ذلك قضية أبعد من التنظيم الدولى لـ "الإخوان المسلمين" الذى "أنشئ رسميا فى يوليو 1982، وإن سبقته أطر أخرى مثل (المكتب التنفيذى للإخوان فى الدول العربية). ولا يمكن فهم حرص التنظيم الدولى على الابتعاد عن القضايا الأكثر إثارة للخلاف بين أعضائه بدون الإلمام بتجربة المكتب التنفيذى للإخوان فى الدول العربية فى ستينات القرن الماضى، والذى لم يستمر سوى لأقل من عقد من الزمن.
وتفيد الروايات المتوفرة عن تلك التجربة أنها شهدت خلافا بين تنظيمات "الإخوان" حول دور المكتب التنفيذى، وهل هو إطار قيادى يتخذ قرارات ملزمة، أم إطار للتنسيق والتعاون فيما يتم الاتفاق عليه فقط.
ولم يتغير هذا الوضع كثيراً بعد ذلك بالرغم من تطورات كثيرة حدثت فى حركة "الإخوان" فى عدد متزايد من البلاد العربية وفى الظروف التى يعملون فيها. ولذلك لم يحاول التنظيم الدولى القيام بدور فاعل فى العلاقة بين أعضائه إلا فى حدود ما يتيسر له. كما لم يتطلع إلى أن تكون له سلطة على تنظيمات "الإخوان" التى تنضوى تحت رايته.
وظل النمط العام للممارسة فى هذا التنظيم الدولى هو الاستماع إلى تقارير عن أوضاع التنظيمات القطرية وتوجيه النصح إلى تنظيم أو آخر، وتقديم مساعدات لتنظيمات أقل قدرة من غيرها.
واستندت هذه الممارسة إلى حرص على تماسك التنظيم الدولى وحذر من أن تؤدى محاولة إلزام هذا التنظيم القطرى أو ذاك بموقف معين أو سياسة محددة إلى تمرده أو تفاقم خلافات فى داخله.
غير أن العامل الأهم وراء اقتصار دور التنظيم العالمى على المتابعة العامة هو غياب منهج شامل ورؤية كلية سواء سياسية أو فقهية تتجاوز الشعارات العامة.
رابعا: مشروع برنامج حزب "الإخوان المسلمين" : بين النوايا و الأفكار
ليس غريبا أن أول مشروع طرحه "الإخوان المسلمون" عام 2007 لبرنامج حزبهم، الذى لم يقرروا تأسيسه بعد، أثار جدلا واسعا.
كان هذا هو أول برنامج يقدمه "الإخوان" منذ العام 1953، عندما بدأوا فى إعداد برنامج مقتضب لم يسعفهم الوقت ولا أتاحت الظروف فرصة استكماله بسبب التدهور السريع الذى حدث فى علاقاتهم مع ثورة 1952 وصولاً إلى إتهامهم بمحاولة اغتيال جمال عبد الناصر وشن حملة أمنية واسعة ضدهم.
ولذلك كان هناك شوق عارم إلى معرفة رؤية "الإخوان" للحاضر والمستقبل فى صورة متكاملة وليس عبر الشذرات التى كانت تتناثر هنا وهناك، وفى وثيقة واحدة وليس فى تصريحات وبيانات لم تخل من تعارض بينها فى بعض الأحيان، وبشكل واضح بمنأى من الغموض الذى ظل يكتنف توجهاتهم تجاه بعض القضايا لفترة طويلة.
وفضلا عن الاهتمام الواسع بالمشروع، شهد الجدل الذى آثاره انتقادات حادة لبعض ما جاء فيه، وهجوما شديدا تجاوزه إلى الطعن فى أهداف الجماعة ونواياها.
ولكن بالرغم من أن بعض ما ورد فى مشروع البرنامج بدا صادماً بالفعل حتى بالنسبة إلى بعض من حاولوا على مدى سنوات طويلة فهم منهج جماعة "الإخوان" وتفهمه وحرصوا على التواصل معها وشاركوا بعض قادتها وكوادرها فى نشاطات مشتركة، تقتضى الموضوعية تسجيل ملاحظتين أوليتين قبل مناقشة المشروع وتحليل الخطاب الذى ينطوى عليه وتحديد أوجه القصور الأساسية فيه.
الملاحظة الأولى أن ما طرحه "الإخوان" كان مشروعا مقترحا لبرنامج وليس برنامجا نهائيا.
أما الملاحظة الثانية فهى أن إقدام "الإخوان" على إعلان برنامجهم كان خطوة إيجابية، بغض النظر عن أى اختلاف أو اتفاق. فأن تكون أفكار "الإخوان" على المائدة لهو أفضل من أن تُخفى تحتها أو بعيداً عنها. وأن تكون هذه الأفكار مطروحة بشكل واضح لهو خير من أن يحجبها الضباب.
وفى ضوء ذلك، يناقش د. وحيد عبد المجيد القضيتين الأكثر إثارة للجدل وللغضب أيضا فى معظم ردود الفعل على مشروع برنامج "الإخوان" لعام 2007، وهما طبيعة الدولة وعلاقتها بالدين، وموقع الأقباط والنساء فيها. وهما بالفعل قضيتان حاكمتان يتوقف عليهما مدى استعداد "الإخوان" للاندماج فى نظام سياسى ديموقراطى يتطلع إليه الكثير من النخب السياسية والثقافية والإعلامية فى مصر، والتوافق مع الأحزاب والقوى الأخرى على مقومات أساسية لهذا النظام الذى يعتبرونه هم هدفا أساسياً، بل وضعوه فى صدارة الفصل الثانى من الباب الأول فى مشروع البرنامج وهو "الأهداف"، وبصيغة يمكن أن تمثل قاسماً مشتركاً بين مختلف دعاة التحول الديموقراطى وهى : (تحقيق الإصلاح السياسى والدستورى وإطلاق الحريات العامة وإقرار مبدأ تداول السلطة طبقا للدستور الذى يقره الشعب بحرية وشفافية واعتبار الأمة مصدر السلطات ..الخ).
1- طبيعة الدولة وقضية المرجعية الدينية :
استأثرت هذه القضية بمقدار كبير من الجدل حول مشروع برنامج "الإخوان"، لأنه دعم الاعتقاد فى سعيهم إلى دولة دينية من خلال المرجعية الدينية التى تحدث عنها بعض قادتهم من قبل ولكنها لم تتبلور إلا فى هذا المشروع فى صورة هيئة من كبار علماء الدين فى الأمة.
فالطريقة التى صيغ بها دور الهيئة الدينية فى الدولة والنظام السياسى لابد أن تثير مخاوف كل من يتطلع إلى مستقبل تستعيد فيه الشعوب فى بلادنا الإسلامية حقها فى أن تكون هى مصدر السلطة.
ولا يفيد كثيراً فى تبديد هذه المخاوف المنهج الذى لجأ إليه بعض أنصار "الإخوان" لتفسير دور هيئة كبار علماء الدين بطريقة تقلل دورها وتجعله استشاريا.
كما أن الدفع بأن المحكمة الدستورية العليا تظل هى الحكم النهائى لا أساس له فى مشروع البرنامج. فقد أشار المشروع إلى هذه المحكمة فى فقرة أخرى غير تلك التى جعلت الهيئة الدينية هى الحكم النهائى فى القضايا التى توجد بشأنها أحكام شرعية قطعية. ولا توجد علاقة مباشرة بين الفقرتين على نحو يجيز مد ولاية المحكمة الدستورية على قرارات الهيئة الدينية التى تمتلك حقاً واضحاً فى إلغاء أى تشريع يريد المجلس النيابى إصداره إذا رأت أنه يتعارض مع ما تعتبره هى أحكاما قطعية.
ففى هذه الحالة لا مجال للحديث عن محكمة دستورية أو غيرها، لأن الهيئة الدينية تعتبر المرجعية الأعلى، وبالتالى السلطة النهائية، فى القضايا التى ترى هى، وليس غيرها، أنها ترتبط بأحكام قطعية. فالطعن أمام المحكمة الدستورية العليا، وفقا للمشروع، يكون على قوانين وقرارات صدرت، فى حين أن دور الهيئة الدينية يشمل منع إصدار قوانين وقرارات يريدها ممثلو الشعب أو الرئيس المنتخب من هذا الشعب، وليس من بضع عشرات من علماء الدين. ثم كيف يمكن تصور أن تتصدى المحكمة الدستورية العليا، فعلياً، لقانون أصرت الهيئة الدينية على إصداره بعد أن عدلت مشروعه الوارد إليها من المجلس النيابى، وأن تصدر حكما يقول إن هذا القانون مخالف لأحكام الشريعة الإسلامية، فى حين أن هيئة كبار علماء الدين هى التى أصدرته من الناحية الفعلية.
ومع ذلك، ينبغى التنبيه إلى أن بعض السياسات العامة المتبعة تساعد على استسهال وضع سلطة دينية فوق مؤسسات الدولة الدستورية. فقد حدث توسع فى استخدام الدين فى دعم بعض السياسات، وفى اللجوء إلى المؤسسة الدينية الرسمية (الأزهر الشريف) مما أدى إلى توسيع دورها وتدخلها فى كل شأن، وازدياد الميل إلى طلب رأيها فيما يصح ولا يصح أن تُستشار فيه.
2- حظر تولى الأقباط والنساء رئاسة الدولة فى النظام الرئاسى ورئاسة الوزراء فى النظام البرلمانى :
استثنى مشروع برنامج حزب "الإخوان المسلمين" رئاسة الدولة فى النظام الرئاسى ورئاسة الحكومة فى النظام البرلمانى من مبدأين عامين أقرهما وأكدهما، وهما مبدأ المواطنة، ومبدأ المساواة وتكافؤ الفرص.
واتسم المشروع بالحسم القاطع فى تعبيره عن هذا الاستبعاد، وبمثله فى تأكيد مبدأى المواطنة، والمساواة. فقد وضع كلاً من القاعدة، والاستثناء منها، بالمقدار نفسه من القوة والصرامة على نحو يوحى بازدواج منهجى، فكأنك أمام ذهنيتين تؤمن كل منهما بفكرة تعارض الأخرى أشد التعارض.
وقد ورد التأكيد على المواطنة والمساواة وتكافؤ الفرص فى الباب الأول من البرنامج والمعنون (مبادئ وتوجهات الحزب).
واتجه مشروع البرنامج فى الباب الثانى (الدولة والنظام السياسى) إلى بلورة هذه القضية بوضوح أكبر وقوة أكثر فى تكييفه لمسألة الدولة وطرحه لموضوع النظام السياسى.
ولكن المشروع، بالرغم من ذلك، استثنى الأقباط والنساء من أحد أهم حقوق المواطنة.
ويعود هذا الاستثناء، الذى لا يتسق مع الإيمان بالمواطنة والمساواة، إلى عجز "الإخوان" عن التحرر من أسر فكرة الوظائف الدينية للدولة بصورتها التقليدية القديمة قابعة فى "العقل الإخوانى"
فالاستثناء القبطى، هنا، مرده إلى أن للدولة وظائف دينية يفهمها "العقل الإخوانى" على النحو الذى كانت عليه قبل أن يعرف البشر مبادئ مثل المواطنة والمساواة وتكافؤ الفرص.
والمشكلة، هنا، ليست فى أن تكون للدولة وظائف دينية من عدمه، وإنما فى تكييف هذه الوظائف وطريقة أدائها. فمن الطبيعى أن يكون لجماعة "الإخوان المسلمين" ما يميزها عن الاتجاهات والقوى السياسية والفكرية الأخرى التى ترى أن الدولة لا تقوم بوظيفة دينية بشكل مباشر، وإنما ترعى الأديان وتمكَّن المؤسسات الدينية من أداء وظائفها على أساس من الحرية والمساواة.
ولكن إذا كانت الدولة فى عالم اليوم تختلف عما كانت عليه فى مراحل سابقة، فمن الطبيعى أيضا أن ينسحب ذلك على وظائفها عامة وعلى أدائها لهذه الوظائف، بما فى ذلك ما هو دينى منها بالنسبة لمن يؤمن بأن للدولة وظيفة أو وظائف دينية.
غير أن غياب هذا المعنى عن "العقل الإخوانى" أدى إلى استثناء ينطوى على تناقض فى بنية مشروع البرنامج. فلما كانت للدولة وظائف دينية، من بينها وظيفة جهادية ينظر إليها "العقل الإخوانى" كما لو أنها محصورة فى شؤون الحرب والقتال، على النحو الذى كانت عليه من قبل، فلا يمكن أن يُعهد بها إلى غير مسلم وفق ما ورد فى البرنامج.
كما استثنى مشروع البرنامج النساء أيضا من رئاسة الدولة. ولذلك فهو ينطوى، هنا، على تناقض فى بنيته مماثل لذلك الذى يظهر فى موقفه تجاه الأقباط ، وبالمخالفة أيضا لما نص عليه صراحة من رفض الإقصاء والاستبعاد.
3- أزمة فكر.. ومشكلة منهج:
وهذا موقف ثابت لجماعة "الإخوان المسلمين" لم يتغير فى أى وقت، بخلاف ما أخذه عليها بعض ناقدى برنامج حزبها هذا ممن اعتقدوا أنها تراجعت عن تقدم كانت قد أحرزته بشأن قضية المرأة. فلم يحقق "الإخوان" تقدما فى هذا الاتجاه بسبب عجزهم عن إدراك أن عصر الأمانة الكبرى انتهى.
إذا أردنا تشخيصا موضوعيا لمشكلة "الإخوان" الأهم والأكبر فى اللحظة الراهنة، انطلاقا مما ورد فى مشروع برنامجهم، فعلينا أن نبحث عنها فى المنهج، وبالتالى فى الفكر. فأزمة "الإخوان" الأهم هى فى عجز فكرهم السياسى وعدم قدرته على أن يسعفهم بما يعبر عن رغبتهم فى التطور. فالمشكلة ليست فى أنهم يضمرون غير ما يعلنون بخلاف ما يعتقده من يظنون فيهم الظنون. المشكلة هى فى أزمة العقل الأصولى السُنى حين يتصدى لمسألة الدولة والنظام السياسى دون أن يمتلك الأدوات اللازمة للتوفيق الخلاّق بين ما لا يستطيع أن يتجاهله وما لا يقدر على تجاوزه. فلا هو قادر على تجاهل ضرورات السياسة العصرية وأسسها الديموقراطية، ولا فى إمكانه أن يتجاوز موروثات دولة (أو بالأحرى دول ودويلات وإمارات) الخلافة فى مرحلة ما قبل الديموقراطية. ويجوز أن نلخص جوهر أزمة "الإخوان" على هذا النحو، وبقدر من الاختزال، فى العجز عن بلورة صيغة توَّفق (ولا تلَّفق) بين سيادة الأمة التى تقوم عليها أى دولة حديثة، وسيادة الشريعة بالمعنى الموروث الذى أصابه الجمود لفترة طويلة بسبب غياب الاجتهاد.
وهذا هو المصدر الأول- الذى سنناقشه بتفصيل أكثر فى الجزء التالى فى هذا الكتاب- لارتباك "الإخوان" فى تعاملهم مع قضية الدولة والسلطة والحكم على مدى نحو ثمانية عقود. فهم مرتبكون بين مبدأ الحكم للشعب ومبدأ الحاكمية لله .. يتقدمون خطوة إلى الأمام ويعودون أخرى إلى الوراء، لأسباب أهمها عدم القدرة على الارتقاء إلى المستوى الذى تتطلبه مواجهة معضلة كبرى على هذا النحو.
فقد تعاملت جماعة "الإخوان" معها بطريقة أقرب إلى التلفيق منها إلى التوفيق الخلاّق الذى ينتج عنه مركب جديد يجمع بين مبدأى الحكم للشعب والحاكمية لله، ولكن انطلاقا من أن السيادة النهائية هى للأمة صاحبة الحق فى اختيار حكامها ومساءلتهم ومحاسبتهم وانتخاب من ينوبون عنها ويستمدون سلطتهم منها وليس من أى هيئة أو جهة غيرها.
كان هذا، ومازال، هو جوهر أزمة الجماعة، ومصدر ارتباكها وعنوان عجزها عن التكيف والاندماج.
ومن هنا كان الخوف الذى أثاره مشروع برنامج "الإخوان" من أن يؤدى ضعف القدرة على الاجتهاد الخلاّق فى قضايا الدولة والسلطة إلى الوقوع فى أسر الدولة الدينية.
ولا مخرج من هذا المأزق الكبير إلا إعطاء أولوية قصوى لبلورة رؤية للعلاقة بين الدولة والدين تقوم على توفيق خلاَّق بين سيادة الأمة وسيادة الشريعة. فما يجعل النظام السياسى ديموقراطيا من عدمه ليس التفاصيل الكثيرة التى حواها المشروع، وإنما المبادىء التى يقوم عليها وفى مقدمتها مبدأ سيادة الأمة. فهذا المبدأ هو الذى يجعل السلطة النهائية هى للهيئات المنتخبة من كل أصحاب حق الاقتراع، وليس فقط من بضع عشرات أو مئات من علماء الدين.
خامسا: نحو المستقبل: "الإخوان المسلمون".. و "العقدة الديموقراطية"
1- عقدة المرجعية الأحادية
كانت المسألة الديموقراطية عقدة أساسية بالنسبة إلى تيار "الإخوان المسلمين" منذ تأسيس تنظيمه الأم فى مصر. وما زالت هذه العقدة مستمرة. وما برح مصدرها الرئيسى، الذى يعود إلى قضية المرجعية، مستعصياً على التفكيك. فالإصرار على مرجعية أحادية للنظام السياسى لا ينسجم مع أحد أهم مقومات الديموقراطية التعددية التنافسية المفتوحة. فأحد الفروق الأساسية بين النظام الديموقراطى والنظام الشمولى هو أن الأول متحرر من المرجعيات إلا ما يتوافق عليه المجتمع بحرية كاملة من مبادئ دستورية عبر حوار وطنى عام يقود إلى صيغة يقبلها جميع الأطراف والفئات السياسية والاجتماعية.
وهذا هو جوهر المعضلة التى تواجه "الإخوان المسلمين" وغيرهم من تيارات الإسلام السياسى حين يحدث تقدم فى موقفها تجاه المسألة الديموقراطية. وقد حدث هذا التقدم فعلاً. فالنظام السياسى عند "الإخوان المسلمين" هو نظام ديموقراطى بالمعنى الإجرائى الذى يفهمه كل من يؤمن بالديموقراطية. نظام يقوم على أن الشعب هو مصدر السلطات، الأمر الذى يجيب بشكل واضح على سؤال طالما أربك حركات أصولية طورت خطابها السياسى باتجاه قبول الديموقراطية ولكن بصورة غامضة وهو: أين، إذن، موضع مفهوم "الحاكمية لله" فى هذا الإطار؟
فالخطاب السياسى لجماعة "الإخوان المسلمين" يقول إن المواطنة، وليس الدين، هى أساس العلاقة بين النظام السياسى والشعب، وانها تؤيد التداول السلمى للسلطة بما يعنى ضمنياً أنها لن تحتكر الحكم إذا فازت فى الانتخابات، بالرغم من أن الكثير من الأحزاب والتيارات الأخرى لديها شك عميق فى ذلك.
فالسيناريو الذى أُطلق عليه فى تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2004 "فخ الانتخابات لمرة واحدة" يخلق خوفاً من وصول حركة إسلامية إلى السلطة فى انتخابات حرة، فتنفرد بالحكم. وعندئذ تصبح هذه الانتخابات هى الأولى والأخيرة.
فالتقدم الذى حدث فى موقف "الإخوان المسلمين" وتيارات إسلامية أخرى باتجاه المسألة الديموقراطية يظل محصورا فى الجوانب الإجرائية فى النظام السياسى، وبمنأى عن الأساس الذى يقوم عليه. فالقول بأن هذا النظام ديموقراطى بمرجعية إسلامية ينطوى على تناقض فى بنيته. وهذا تناقض يخالف الأساس الذى يقوم عليه النظام الديموقراطى، من حيث أنه يستمد وصفه هذا (الديموقراطى) من كونه يقوم على حرية الاختيار بين أحزاب وقوى وحركات لكل منها أو لبعضها مرجعيات، وليس على الارتهان لمرجعية واحدة.
وهذا، كله، فضلا عن أن هذا التكييف للنظام السياسى (نظام ديموقراطى بمرجعية إسلامية) يصطدم بمشكلة ممتدة فى الفكر الإسلامى السُنى عبر الزمن، وهى عدم وضوح مفهوم المرجعية أصلا.
فهذا مفهوم غامض ليس له أصل واضح فى الفكر الإسلامى السُنى، بينما يتعارض مدلوله في الفكر الشيعى تعارضاً مباشراً بل كاملاً مع المفهوم الديموقراطى. فالمرجعية فى الفكر الشيعى تعبر عن معنى شمولى، يُفترض أن يكون بعيداً عما يقصده القائلون بالديموقراطية فى إطار مرجعية إسلامية.
ولمساعدتهم فى السعى إلى بلورة رؤية قد تساعد فى حل العقدة التى ما زالت مستعصية، ربما يكون عليهم أن يبدأوا بالتفكير فى عدد من الأسئلة التى يمكن أن تسهم الإجابة عليها فى إحراز شئ من التقدم، وهى: كيف يمكن تجسيد مفهوم المرجعية فى الواقع عملياً ونظامياً؟ ومن يعبر عنها؟ وكيف..؟ وأية صورة ستكون عليها... وكيف يتم اختيار أعضائها... وهل سيراعى فيهم أن يكونوا متفقين أو متجانسين... وفى صيغة أكثر وضوحاً بافتراض أن هناك أكثر من حزب أصولى، هل يمكن تصور أن يكون لكل حزبمن هذا النوع علماؤه، الذين يمثلون مرجعيته التى تختلف مع مرجعية الحزب الأصولى الآخر، ثم يأتى كل من هذه الأحزاب بعلمائه ليكونوا مرجعة للنظام السياسى فى حال فوزه بالغالبية؟
وفى حال مصر على وجه التحديد كيف ستكون علاقة هذه المرجعية بالأزهر وعلمائه، وهل فكر "الإخوان" وغيرهم من الإسلاميين الدين يطرحون فكرة النظام الديموقراطى ذى المرجعية الدينية فى موقع الأزهر فى الإطار الذى يتصورونه، أم أن هذا الإطار ما زال محض خطوط عامة لم يحدث تفكير فى كيفية تطبيقها، ثم كيف ستسير العلاقة بين المرجعية أياً تكون صورتها والمجلس التشريعى المنتخب، وهل يكون اعتراض المرجعية على تشريع أصدره هذا المجلس نهائيا، وماالذى يبقى من مبدأ السيادة للشعب الذى تمتنع الديموقراطية فى غيابه، ثم ماذا لو اختلفت المرجعية على تشريع ما، فرأى بعض علمائها انه لا يخرج على مبادئ الشريعة فيما رأى بعض آخر أنه يحل حراماً أو يحَّرم حلالاًً؟
وليست هذه إلا عينة من أسئلة كثيرة يثيرها مفهوم النظام الديموقراطى فى إطار مرجعية إسلامية، بما وضح فيه وما غمض. فالواضح فيه يتعارض مع أهم مقومات الديموقراطية التى تمتنع حين تحضر المرجعية الأحادية التى تقترن بالنظام الشمولى. أما الملتبس فيه فهو يعود إلى عدم قدرة أصحابه على تقديمه فى صياغة تنسجم مع مقومات الديموقراطية، أو على الأقل لا تتعارض معها تعارضا جوهريا.
والمعضلة، هنا، هى أنه لا توجد دلالة محددة وواضحة لمفهوم المرجعية فى الفكر السنُى. وقد رأينا المرجعية الشيعية فى التطبيق سلطة دينية عليا تمتلك الحق فى مراجعة كل ما يقوم به غيرها بينما لا تُسأل هى أو تُراجع. فليست هناك صيغة أخرى معروفة للمرجعية التى يقول بعض "الإخوان" إنها لا تعنى سلطة دينية. وليس لديهم اجتهاد محدد يوضح كيفية تجسيد هذه المرجعية بطريقة لا تجعلها سلطة دينية متعالية تراجع كل ما يصدر عن المؤسسات الدستورية فى الدولة والمجتمع لتجيزه أو تهدره.
والحال أن مجرد وجود هيئة ما فوق المؤسسات الدستورية يؤدى إلى دولة دينية حتى إذا كان نظامها السياسى مكتمل الأركان من الناحية الإجرائية، وحتى إذا لم يكن أعضاء هذه الهيئة من رجال الدين. فحكم هؤلاء ليس شرطا للدولة الدينية لأن العبرة بدورهم والصلاحيات المخولة لهم وطبيعة سلطتهم. فالعبرة ليست بمن يحكم، بل بكيف يحكم.
وإلى أن يتمكن "الإخوان المسلمون" من حل هذه العقدة المحورية، ستظل مواقفهم تجاه المسألة الديموقراطية متعثرة بالرغم من حرص قيادتهم على اتخاذ خطوات إلى الأمام بشأنها منذ منتصف العقد الأخير فى القرن الماضى عندما أصدروا الوثيقة المعنونة ( موجز عن الشورى فى الإسلام وتعدد الأحزاب فى المجتمع المسلم عام 1994).
كانت هذه خطوة مهمة إلى الأمام فى موقف "الإخوان" تجاه المسألة الديموقراطية. ولكنها لم تكن مكتملة أو قل أنها تعثرت فى عقدة المرجعية. وأدى ذلك إلى إضعاف مفعول التقدم الذى عبرت عنه الوثيقة تجاه تأكيد القبول بالتعدد الحزبى وتداول السلطة عبر انتخابات دورية.
ويعنى ذلك أن هناك مرجعية عليا لابد أن تلتزم بها الأحزاب والجماعات السياسية كلها، وليست جماعة "الإخوان" فقط، ويتعرض من يخرج عليها "للإجراء الشرعى"، بحيث لا يبقى فى الساحة السياسية غير أحزاب تنتمى إلى مرجعية واحدة هى التى تؤطر التعددية. وهذا نزوع احتكارى يتعارض مع التقاليد الديموقراطية، التى تجعل تحديد المقومات الأساسية للعملية السياسية رهناً باتفاق مختلف الأحزاب والتيارات وتفاهمها، بحيث تكون هذه المقومات حصيلة القواسم المشتركة بينها. وعندئذ يتحقق التراضى العام، الذى لا يمكن الوصول إليه إلا عبر حوار جدى يشارك فيه الجميع، ويلتزمون بنتائجه التى تمثل مقومات العملية السياسية.
2- معضلات العلاقة بين "الإخوان" والتيارات الأخرى
لم يستطع "الإخوان المسلمون" تبديد المخاوف من مشروعهم السياسى أو الحد منها لأنها مخاوف حقيقية وليست فقط من صنع الذين استخدموا الأصولية الإسلامية "فزاعة" من أجل أهداف يتوخونها. وإذا كان "الأقباط" فى مقدمة الخائفين، فهم ليسوا وحدهم. فهو ليس قبطيا فحسب د. ميلاد حنا، الذى نطق فزعاً يوم حصول "الإخوان" على 88 مقعداً فى مجلس الشعب فى الانتخابات البرلمانية عام 2005، حين قال أنه فى اليوم الذى يحصل "الإخوان المسلمون" على الغالبية سيغادر الأقباط الأغنياء مصر ليبقى فقراؤهم فقط، وقد يغير بعضهم دينه، وتمنى أن يموت قبل أن يأتى هذا اليوم. فقائل هذا الكلام هو مثقف علمانى اتجاها ورؤية مثلما هو مسيحى دينا، ويشاركه علمانيون ليبراليون ويساريون وناصريون يدينون بالإسلام خوفه بأشكال مختلفة ودرجات متباينة. ولكنه، وهؤلاء جميعهم، يخافون على مصر كلها.
الخوف يشمل قطاعا يعتد به من النساء، وخصوصا الأجيال الجديدة. ومن الخائفات كثير يرتدين الحجاب. ولكنهن تفعلن ذلك بإرادتهن، وماخوفهن إلا من التدخل فى حياتهن ووضع رقباء عليهن. فالذين يدعون النساء الآن إلى ارتداء الحجاب بالحسنى قد يفعلون ذلك غدا بالإكراه عندما يمتلكون القوة.
ومن الطبيعى أن يكون المثقفون فى صدارة الخائفين على المقدار المتاح الآن من حرية التفكير والتعبير والإبداع، خصوصا وأن تجربتهم مع بعض نواب "الإخوان" فى البرلمان مريرة. فقد مارس بعضهم رقابة على العقل والإبداع أكثر مما راقبوا السلطة التنفيذية وأجهزتها.
ويعنى ذلك أن مساحة الخوف من احتمال صعود "الإخوان" أوسع مما يتصورونه.
وتشمل هذه المساحة أحزابا وتيارات سياسية أخرى يوفر التباس مواقف "الإخوان المسلمين" تجاه المسألة الديموقراطية فرصة لقادة بعضها الذين لا يريدون التعاون معهم لأسباب تتعلق بحساباتهم ومصالحهم فى المقام الأول. كما تدفع آخرين يخافون فعلاً هذا الالتباس وآثاره المستقبلية إلى المحافظة على مسافة بمنأى عنهم.
ولعل هذا يفسر لماذا أصبح متعذراً الآن ما كان ممكنا، بل بدا طبيعياً، حتى سنوات قليلة مضت حين كان "الإخوان المسلمون" طرفا أساسيا فى مختلف أشكال التنسيق والتعاون بين أحزاب وقوى
الجماعة كما يرويها في كتابه وحيد عبد المجيد
ولم تدخل جماعة أو حركة أو حزب فى صراع ضد عشرات الحكومات المتوالية إلا جماعة "الإخوان المسلمين" التى كان الصدام هو القاعدة والتعاون استثناء فى علاقاتها مع الحكومات التى تولت الحكم فى مصر فى العصر الملكى وخصوصا منذ منتصف ثلاثينات القرن الماضى، ثم على مدى ثلاثة عهود فى إطار النظام الجمهورى منذ عام 1954.
ولم تحظ حركة أو جماعة أو حزب بمثل ما لقيته جماعة "الإخوان المسلمين" من اهتمام أكاديمى وبحثى. فما صدر عنها من كتب ودراسات فى هذا الإطار يفوق غيرها ربما باستثناء حزب الوفد الذى وجد اهتماما مساويا لها. غير أنه فى الوقت الذى انحسر الاهتمام بهذا الحزب فى العقود الأخيرة، مازالت العناية بدراسة جماعة "الإخوان المسلمين" فى ازدياد.
ومع ذلك، فقليلة هى الكتابات التى تجمع المعرفة الصحيحة بها والنظرة الموضوعية إليها وسط فيض لا ينتهى من الكتب والأبحاث والدراسات، فضلا عن المقالات التى لا تُعد ولا تحصى، وخصوصا منذ أن بدأ ما أُطلق عليه "الإحياء الإسلامى" فى منتصف سبعينات القرن الماضى.
فعلى مدى عدة عقود، كان الإسلام السياسى إحدى أكثر الظواهر إثارة للجدل فى عالمنا. وكثر المهتمون به كتابة وبحثا، وتنوعت دوافعهم، وتباينت مقاصدهم، بينما قل المعنيون حقا منهم بفهم هذه الظاهرة وتحليلها ووضعها فى سياقها التاريخى والموضوعى. ولم يكن المتطفلون فى هذا المجال بغير معرفة أقل ضررا من الذين اقتحموه بدون الحد الأدنى من الموضوعية، وبما يفوق الحد الأقصى من الذاتية والانحياز فى كثير من الأحيان.
ويحاول د. وحيد عبد المجيد فى هذا الكتاب استشراف مستقبل جماعة "الإخوان المسلمين" عبر العودة إلى تاريخها وتحليل حاضرها ومناقشة اتجاهاتها والبحث فى دلالات اخطائها التى جعلت تاريخها حافلاً بالمحن، وقراءة مواقفها التى تجعلها مخيفة لدى كثير من الاتجاهات والتيارات الأخرى وقطاعات فى المجتمع. فالأكيد أن الخوف من "الجماعة" لا يعود إلى "فوبيا" أو حالة مرضية، بل يرتبط بصورتها التى تقدمها هى لنفسها عبر مواقفها تجاه المسألة الديمقراطية وقضايا الحرية ومساحة الإبداع، كما بشأن العلاقة بين الدولة والدين، والتوجه إزاء المرأة والأقباط.
فلم يستطع "الإخوان" على سبيل المثال إقناع الخائفين من الدولة الدينية، التى يزعم الحاكم فيها لنفسه سلطانا إلهيا، بأنهم يؤمنون حقا بدولة وطنية تقوم على المواطنة. ولم يتمكنوا من طمأنة الخائفين من أن فوز "الإخوان" بالأغلبية فى انتخابات حرة يتوق إليها المصريون سيجعلها الأولى والأخيرة. وفى إيجاز، يفصَّله الكتاب فى قسميه الرابع والخامس، لم يتقدم "الإخوان" بما يكفى لتجسير فجوة الثقة فيهم واستيعاب دروس تاريخهم المديد الحافل بالمحن.
فهل يمكن أن تكون هذه الدروس معينة لهم على تلمس طريق إلى المستقبل يضع حدا للشكوك العميقة فى نواياهم، ويمكّن الآخرين من بناء الثقة المفقودة فى العلاقات معهم.
السؤال كبير ومعقد. وفى هذا الكتاب محاولة أولى للإجابة عبر زيارة بحثية جديدة إلى تاريخ جماعة "الإخوان المسلمين" سعياً إلى استشراف ما قد يأتى به المستقبل من تطورات وما ينبغى عليها أن تفعله إذا أرادت أن تكون عنصرا من عناصر بناء مستقبل أفضل لوطن ديموقراطى وليس عاملا من عوامل إعاقة الطريق إلى هذا المستقبل.
أولا: نشأة جماعة "الإخوان المسلمين" وتطورها 1928-1954
يتناول هذا الفصل الظروف التى نشأت فيها الجماعة عام 1928، ودور مؤسسها الشيخ حسن البنا الذى تميز بقدرات غير عادية. ويثير هذا الفصل قضيتين أساسيتين:
"الإخوان" بين الدين والسياسة:
يختلف المؤلف مع الاتجاه الشائع الذى يرى أن جماعة "الإخوان" نشأت دينية ثم تحولت إلى العمل السياسى عام 1938. فلا أساس لهذا التقسيم الزمنى فى شخصية حسن البنا وسيرته، ولا فى نظرته إلى الجماعة. فكانت
الدعوة الدينية عنده جزءا لا يتجزأ مما اعتبره مهمته التاريخية، التى كانت سياسية قلبا وقالبا.
كان البنا واحدا من كُثْر صدمهم إلغاء الخلافة الإسلامية، وخلطوا بين هذه الخلافة من حيث كونها نوعا من الحكم ينشأ ويزول ويتغير، والإسلام الثابت المطلق الذى لا دين بعده. واختلط لديه الجزع لإلغاء الخلافة بالفزع مما بدا له خطرا يهدد الإسلام ويفرض العمل لإنقاذه. وتداخل فى ذهنه ما أسماه الانقلاب الكمالى على الخلافة العثمانية وانتشار ما اعتبره (موجة علمانية مضادة للدين عبر الجامعة والأحزاب والجرائد والمجلات).
ولم يكن المؤتمر العام الخامس للجماعة، الذى رأى كثير من مؤرخى "الإخوان المسلمين" أنه نقطة التحول إلى العمل السياسى، إلا إعلاناً بدخول المعترك السياسى، والإفصاح عن الغاية السياسية العليا للجماعة وهى أن (الإخوان المسلمين يتجهون فى جميع خطواتهم وآمالهم نحو الحكومة الإسلامية بعد مضى فترة تنتشر فيها مبادئهم وتسود).
وكان البنا دقيقا فى تحديده عام 1938 بأنه عام بدء الكفاح السياسى، وليس العمل السياسى فى مجمله، وذلك فى افتتاحية العدد الأول من مجلة "النذير" الذى تحدث فيه عن (اتجاه الإخوان المسلمين الوطنى وابتداء اشتراكهم فى الكفاح السياسى).
ولكن البنا مزج بين دعوته الدينية وروُيته السياسية بمهارة، وبساطة فى آن معاً. ويقدم الكتاب أمثلة متنوعة لهذه "الخلطة" التى نجح من خلالها البنا فى بناء تيار إسلامى واسع النطاق يوجد الآن بدرجات مختلفة فى نحو ثمانين دولة.
واعتمد فى ذلك على بساطته الشديدة التى تظهر، مثلا، فى رسائله التى اعتمدت عليها الجماعة فى الاتصال الجماهيرى. فهى رسائل شديدة البساطة فيها من الوعظ والتلقين والتنظيم أكثر بكثير مما فيها من الفكر. فلم يكن البنا مفكرا أو فقيها، ولم يدع هو ذلك. كان يفضل إعداد الرجال بدلاً من تأليف الكتب. ولكنه لم يكن مجرد واعظ متميز شديد التأثير. كان قائدا بالسليقة توفرت لديه منذ البداية موهبة الزعامة قبل أن يصقل قدراته ويراكم خبراته فيها. ولعل أهم آيات قيادته غير العادية (الكاريزماتية) أنه جمع بين التأثير الفائق والتنظيم الدقيق. ولذلك بنى على يديه جماعة ملأت الأرض.
لم يكن فيه أى شئ غير عادى، ولكن تأثيره هو الذى لم يكن عاديا. لم يكن طويل القامة ولا قصيرها، ولكنه كان إلى القصر أقرب. ولم يكن رفيعا ولا سمينا، ولكنه كان ممتلئا. ولم يكن أبيض ناصعا ولا أسمر بيّن أسمرة. كان وسطاً بين هذا وذاك. وكان كثيف اللحية خفيف الشعر واسع العينين حاد النظرات.
وهذا تكوين جسدى عادى. ولذلك لم يكن سحره فى مظهره، بل فى جوهره، وقدراته القيادية. وبهذه القدرات، أقام حسن البنا تنظيما فرض نفسه على السياسة المصرية اعتماداً على المناورة فى كثير من الأحيان. ولذلك كانت سياسة "الإخوان" عملية (براجماتية) فى مجملها ونازعة إلى المساومة مع مختلف أطراف الحياة السياسية فى تلك المرحلة.
من العمل السلمى إلى العنف
كان التحول الرئيسى الذى حدث فى جماعة "الإخوان" فى تلك المرحلة مرتبطا بتأسيس "النظام الخاص" فى نهاية الثلاثينات.
فقد نقل النظام الخاص نشاط "الإخوان المسلمين" إلى مرحلة جديدة وخصوصا فى الفترة من 1944 إلى 1948. اتسمت تلك الفترة بالضعف الذى أصبح سافراً منذ 1947.
وكان عام 1948 هو عام العنف المسلح فى تاريخ "الإخوان المسلمين". ولكن العملية التى أثارت أكبر مقدار من العنف، وأدت إلى بدء العد التنازلى لحل الجماعة، هى اغتيال القاضى أحمد الخازندار فى 22 مارس 1948 انتقاما منه بسبب الحكم الذى أصدره فى إحدى قضايا "الإخوان"، وظلت اعمال العنف تتصاعد حتى إصدار قرار حل الجماعة فى 8 ديسمبر 1948.
ودفع حسن البنا حياته ثمنا لدائرة العنف التى لم يتصور المدى الذى يمكن أن تبلغه عندما قرر انتهاج هذا الطريق وإنشاء النظام الخاص عام 1940. فقد اغتيل البنا فى 12 فبراير 1949 أمام مقر جمعية الشبان المسلمين فى شارع نازلى (رمسيس) بوسط القاهرة، انتقاما لقتل النقراشى، بالرغم من أن المؤشرات كلها تفيد أنه لم يعرف شيئا عن هذه العملية إلا بعد تنفيذها. ولم تكن هذه هى العملية المسلحة الوحيدة التى حدثت بمنأى عنه. فكان البنا قد عجز عن السيطرة على النظام الخاص، بعد أن ترك دوره يتوسع ونفوذ قيادته يستفحل.
وبالرغم من أن الجماعة استعادت وضعها القانونى عام 1951 بحكم قضائى ألغى قرار حلها ، فقد مضت فى اتجاه قادها إلى صدمة جديدة أكثر هولا حين اصطدمت مع ثورة 1952.
وقد أنهى هذا الصدام مرحلة فى تاريخ الجماعة وبدأت مرحلة أخرى نزلت فيها تحت الأرض.
ولذلك كثيرا ما أثير السؤال عما إذا كان ذلك الصدام الذى حدث بين الجماعة والثورة محتوما، أم أنه كانت هناك فرصة لتجنبه وإيجاد صيغة ما لعلاقة غير عدائية بين فريقين اتفقا على ضرورة تغيير الوضع الذى كان قائما فى مطلع خمسينات القرن الماضى، ولكنهما اختلفا على اتجاه هذا التغيير ووجهته.
والأرجح أن الصدام كان كامنا فى طبيعة العلاقة بينهما من حيث جوهرها، وليس فى أحداث وقعت وعكرت صفوها. ويختلف استنتاجنا هذا عن الاتجاه الشائع فى تحليل الصدام الذى حدث بين الثورة والجماعة، سواء من يرجعونه إلى تبدل أولويات كل منهما بعد إنهاء النظام القديم، أو من يعيدونه إلى خلافات محددة على كيفية التعامل مع الاحتلال البريطانى، أو على الإصلاح الزراعى، أو على إشتراك "الإخوان" فى الحكومة، أو حتى على موقع الشريعة الإسلامية فى النظام السياسى الجديد.
لقد كان كل من الطرفين يناور فى علاقته مع الآخر. فمنذ البداية وكان كلاهما يدركان ذلك على نحو خلق توترا من وقت إلى آخر، ولكن لم يكن ثمة خيار أمام أى منهما إلا المحافظة على هذه العلاقة.
غير أنه بعد الثورة، أصبح قادتها فى مركز أقوى. كما بدا عبد الناصر أكثر براعة من "الإخوان" وأوفر قدرة على المناورة فى لحظة تحول عميق شمل أساليب إدارة العلاقة بينها وبين الثورة.
ثانيا: "الإخوان المسلمون" بين "السمع والطاعة" و "الحوار والشورى"
1928- 1954
قامت العلاقة بين أعضاء جماعة "الإخوان المسلمين" وقيادتها ممثلة فى المرشد العام، منذ تأسيسها عام 1928، على مبدأ السمع والطاعة المتضمن فى البيعة وفقا للقسم الذى يقسمه عضو الجماعة.
ولذلك يسود اعتقاد فى أن تنظيم الجماعة يعمل بشكل آلى (أوتوماتيك) لا مجال فيه لنقاش أو حوار أو اختلاف فى الرأى. غير أن هذه الصورة ليست واقعية تماما، ولا يمكن أن تكون كذلك فى أى تنظيم بما فى ذلك التنظيمات التى توصف بأنها حديدية. فأعضاء وكوادر أى تنظيم هم بشر من دم ولحم، وليسوا آلات يمكن تحريكهم كلهم عبر ريموت كونترول".
وقد عرف تنظيم "الإخوان المسلمين" منذ تأسيسه أنواعا شتى من التفاعلات بين قادته وأعضائه، وفى أوساط قيادته. وقد يكون صعبا فهم سلوك هذا التنظيم وآليات عمله بدون الإلمام بالاتجاهات الرئيسية فى التفاعلات التى حدثت داخله فى المرحلة التى تمتع فيها "الإخوان" بالمشروعية فى إطار جمعية مسجلة رسميا وفق القانون المصرى فى الفترة من 1928 إلى 1954 باستثناء السنوات التى تم حل هذه الجمعية فيها من 1948 إلى 1951.
1- عملية اتخاذ القرار فى جماعة "الإخوان المسلمين":
سعى حسن البنا إلى إتباع أسلوب التوافق فى اتخاذ القرارات المهمة، لكى تصدر هذه القرارات بالإجماع وليس بالأغلبية بقدر الامكان. ويفرض هذا الأسلوب، بطابعه، طريقة معينة تقوم على الاتصال الشخصى بالأعضاء لإقناعهم بالقرار المراد إصداره.
وهذا أسلوب يلجأ إليه فى العادة رؤساء التنظيمات والأحزاب الذين يتمتعون بمكانة كبيرة ليس فقط بين الأعضاء، ولكن أيضا على المستوى القيادى فى هذه التنظيمات، وكان كاتب السطور شاهدا على أحد نماذج هذا الأسلوب فى حزب الوفد الجديد، إذ سعى مؤسسه فؤاد سراج الدين إلى اتخاذ القرارات الأساسية عبر التوافق أو على الأقل بدون معارضة تُذكر معتمدا على أسلوب الاتصال الشخصى للضغط على بعض أعضاء الهيئة العليا أو إحراج بعض آخر، فى الوقت الذى كان مجرد قيامه بهذا الاتصال مصدراً لبهجة فريق ثالث من قادة الحزب و حبورهم.
ورغم أن المرشد العام الأول كان يسعى لأن تصدر القرارات بالإجماع، فلم يكن بمقدوره دائما أن يحقق ذلك، وبالتالى كان يضطر لإصدار بعض القرارات ضد موقف الأغلبية. ومن أمثلة ذلك قرار التراجع عن خوض انتخابات مجلس النواب عام 1942.
2- المؤتمرات العامة لجماعة "الإخوان"
بدأت التجربة التنظيمية لجماعة "الإخوان المسلمين" بدور فردى للمرشد العام الأول حسن البنا الذى شكل حوله نخبة أخذت فى تأسيس الجماعة حتى انعقد مؤتمرها العام الأول فى مايو 1932، وتلته خمسة مؤتمرات فى ديسمبر 1932، ومارس 1935، ومارس 1936، ويناير 1939، ويناير 1941(34).
وكانت المشاركة فى هذه المؤتمرات محصورة فى الأعضاء العاملين والمجاهدين الذين يمثلون أعلى مراتب العضوية فى الجماعة، حيث كانت هناك حينئذ مرتبتان آخريان أدنى مستوى هما الأخ المساعد والأخ المنتسب.
وباستكمال تشكيل الهيئة التأسيسية للجماعة عام 1941، حلت محل المؤتمر العام، الذى لم يعد يستوعب جميع "الإخوان" العاملين والمجاهدين، وبالتالى كان من الضرورى الاختيار من بينهم، الأمر الذى كان يفرض اللجوء إلى الانتخاب، وهو ما لم تكن قيادة الجماعة تحبذه إلا فى إطار معين ومحدد كما سبق توضيحه. ولذلك كانت فكرة الهيئة التأسيسية حلا مناسبا يحافظ على الشكل الديموقراطى بدرجة ما، وعلى استمرار قبضة المرشد على الجماعة فى الوقت نفسه. وهذه الهيئة هى التى حل محلها مجلس شورى "الإخوان" بعد ذلك.
3- إدارة الخلافات داخل جماعة "الإخوان المسلمين":
اتسمت عملية إدارة الخلافات داخل الجماعة فى تلك المرحلة بدور مسيطر لزعيمها حسن البنا. ولكن هذه السيطرة لم تكن أمرا فريدا فى الأحزاب والتنظيمات السياسية فى مصر فى ذلك الوقت و حتى الآن. فلم يكن حسن البنا أكثر هيمنة على الجماعة من سعد زغلول ومصطفى النحاس فى حزب الوفد مثلا. ولكن البنا تميز بقدرة على التأثير فى أتباعه فاقت أياً من الزعماء الأخرين. ومع ذلك فقد تعرض إلى خبرة شديدة عندما خرج عليه عدد من شباب الجماعة عام 1938 وافتقدوا ما اعتبروه مجاملة للحكومة والتعامل معها بأساليب ملتوية بدلا من مواجهتها بالحقيقة، وعدم اتخاذ إجراء فى شأن إلزام المرأة بحدود الإسلام، والوقوف عند حد الدعاية فى مساعدة مجاهدى فلسطين، إضافة إلى طريقة استخدام التبرعات التى تجمعها الجماعة بغرض دعمهم والتى كان بعضها يذهب لدعم شُعب الجماعة.
وثمة ما يدل على أن المعارضين للبنا كانوا فى مركز قوة، ولذلك لم يواجههم من خلال الحوار، بل لجأ إلى أسلوب ذى طابع تآمرى يصفه أحد أنصاره ( محمود عبد العليم) تفصيلا، ويتلخص فى انقطاع البنا عن المركز العام وحصر أنصاره الذين احتفظوا بإيمانهم ودعوتهم وقيادتهم وفقا للرواية، والاتفاق معهم على خطة لتكثيف ذهابهم إلى ذلك المركز وتنفيذ مقاطعة تامة لمجموعة المعارضة، مما أدى إلى عزلهم واضطرار الكثيرين من أنصارهم إلى التراجع بحيث لم يبق مع أحمد رفعت غير نفر قليل.
لكن هذه الرواية تختلف فى بعض تفاصيلها مع رواية قيادى آخر من أنصار البنا أيضا (عباس السيسى)، وخاصة فيما يتعلق بنهاية ذلك الخلاف وكيفية حدوث الانشقاق. فتشير هذه الرواية إلى سفر أحمد رفعت فى نهاية الأمر إلى فلسطين للانضمام إلى المجاهدين، ولا تذكر أنه تم التفاهم فى النهاية على انسحاب المعارضين من الجماعة مقابل التنازل لهم عن مجلة "النذير" التى كان صاحب امتيازها محمود أبو زيد المحامى منضما إليهم، وإعطائهم ما بقى من مال فى صندوق الجماعة. وخرجوا بالفعل لتأسيس "جماعة شباب سيدنا محمد".
ومن أهم الصدامات أيضا الصدام الذى حدث فى 1946- 1947، وارتبطت مقدماته بما اعتبره البعض حماية من المرشد العام لصهره عبد الحكيم عابدين السكرتير العام عندما أتُهم بالتحرش الجنسى ببعض نساء الجماعة وزوجات بعض أعضائها. وتداخل ذلك مع التنافس على المناصب الرئيسية فى الجماعة. ويناقش المؤلف فى الكتاب تفاصيل هذين الصراعين، وغيرهما من الصراعات التى أدت إلى انشقاقات مهمة فى الجماعة فى تلك المرحلة، ومن أهمها الخلاف على خلافة حسن البنا وكيفية الاتفاق على حسن الهضيبى مرشدا عاما ثانيا.
ثالثا: انطلاق "الإخوان المسلمين" من مصر إلى الخارج
لم تمض سنوات قليلة على تأسيس جماعة "الإخوان المسلمين" عام 1928 حتى كان طموح مؤسسها المرشد العام حسن البنا فى أن يكون لها امتداد فى بلاد مسلمة أخرى قد دفعه إلى اتخاذ الخطوة الأولى فى هذا الاتجاه وهى إرسال دعاة من أعضاء الجماعة إلى بعض هذه البلاد بدءاً بالأردن.
وكانت هذه هى بداية انتشار دعوة "الإخوان المسلمين"، ومن ثم تنظيمهم، فى البلاد الأقرب إلى مصر جغرافياً والأوثق صلة بها ثقافياً، وهى بلاد المشرق العربى والسودان، ثم بلاد الخليج.
ونظراً لأهمية "التأسيس الدولى" لجماعة "الإخوان المسلمين" فى فهم طابعها ومنطقها والعوامل المنظمة لحركتها، يلقى الكتاب ضوءاً على بداية تجاوزها حدود مصر، ويناقش قضية تدويلها انطلاقا من افتراض أن انتشارها فى العالم لم يحدث أثرا كبيرا فى اتجاه تنظيماتها فى البلاد المختلفة نحو الداخل فى المقام الأول، بما يعنيه ذلك من أن ما يجمع هذه التنظيمات على امتداد العالم العربى خصوصا والعالم فى مجمله عموماً هو أقل بكثير مما يفصل بينها.
فالجامع الرئيسى فى حركة "الإخوان"، هو فكرة عامة وانتماء فضفاض وشعور بالتضامن والتساند وحلم فى رفع الراية المشتركة فى سماء بلاد الأمة على امتدادها.
أما الفاصل الأساسى بين تنظيمات "الإخوان" فهو السياسة بمتغيراتها وتحولاتها وتقلباتها، والمؤثرات الداخلية التى تختلف من بلد إلى آخر، والقضايا التى يتعين التعامل معها على تنوعها وتباينها من حالة إلى غيرها.
ولذلك لم يحدث فى أى وقت أن كانت هناك سياسة عامة ومواقف مشتركة لتنظيمات "الإخوان"، ناهيك عن أن تكون موحدة، تجاه القضايا المختلفة، ربما باستثناء الموقف العام تجاه قضية فلسطين على سبيل الحصر. وهذا استثناء لا يعول عليه، لأن المشتركات فيه جمعت الكثير من القوى والتيارات السياسية والفكرية، وليس فقط تنظيمات "الإخوان".
غير أن التباين بين تنظيمات "الإخوان" لم يقف عند غياب المشتركات السياسية. فقد أدى الاختلاف فى بعض الحالات إلى تناقض فى الاتجاهات، وإلى صدام فى المواقف، وصولا إلى اتهامات متبادلة على نحو يثير التساؤل عن مغزى، وربما جدوى، المشتركات العامة بينها، وعن سلامة الاعتقاد فى أن عبارة ""الإخوان المسلمين"" مازالت تحمل معنى وجود حركة واحدة حتى بأكبر قدر من العمومية.
ويثير ذلك قضية أبعد من التنظيم الدولى لـ "الإخوان المسلمين" الذى "أنشئ رسميا فى يوليو 1982، وإن سبقته أطر أخرى مثل (المكتب التنفيذى للإخوان فى الدول العربية). ولا يمكن فهم حرص التنظيم الدولى على الابتعاد عن القضايا الأكثر إثارة للخلاف بين أعضائه بدون الإلمام بتجربة المكتب التنفيذى للإخوان فى الدول العربية فى ستينات القرن الماضى، والذى لم يستمر سوى لأقل من عقد من الزمن.
وتفيد الروايات المتوفرة عن تلك التجربة أنها شهدت خلافا بين تنظيمات "الإخوان" حول دور المكتب التنفيذى، وهل هو إطار قيادى يتخذ قرارات ملزمة، أم إطار للتنسيق والتعاون فيما يتم الاتفاق عليه فقط.
ولم يتغير هذا الوضع كثيراً بعد ذلك بالرغم من تطورات كثيرة حدثت فى حركة "الإخوان" فى عدد متزايد من البلاد العربية وفى الظروف التى يعملون فيها. ولذلك لم يحاول التنظيم الدولى القيام بدور فاعل فى العلاقة بين أعضائه إلا فى حدود ما يتيسر له. كما لم يتطلع إلى أن تكون له سلطة على تنظيمات "الإخوان" التى تنضوى تحت رايته.
وظل النمط العام للممارسة فى هذا التنظيم الدولى هو الاستماع إلى تقارير عن أوضاع التنظيمات القطرية وتوجيه النصح إلى تنظيم أو آخر، وتقديم مساعدات لتنظيمات أقل قدرة من غيرها.
واستندت هذه الممارسة إلى حرص على تماسك التنظيم الدولى وحذر من أن تؤدى محاولة إلزام هذا التنظيم القطرى أو ذاك بموقف معين أو سياسة محددة إلى تمرده أو تفاقم خلافات فى داخله.
غير أن العامل الأهم وراء اقتصار دور التنظيم العالمى على المتابعة العامة هو غياب منهج شامل ورؤية كلية سواء سياسية أو فقهية تتجاوز الشعارات العامة.
رابعا: مشروع برنامج حزب "الإخوان المسلمين" : بين النوايا و الأفكار
ليس غريبا أن أول مشروع طرحه "الإخوان المسلمون" عام 2007 لبرنامج حزبهم، الذى لم يقرروا تأسيسه بعد، أثار جدلا واسعا.
كان هذا هو أول برنامج يقدمه "الإخوان" منذ العام 1953، عندما بدأوا فى إعداد برنامج مقتضب لم يسعفهم الوقت ولا أتاحت الظروف فرصة استكماله بسبب التدهور السريع الذى حدث فى علاقاتهم مع ثورة 1952 وصولاً إلى إتهامهم بمحاولة اغتيال جمال عبد الناصر وشن حملة أمنية واسعة ضدهم.
ولذلك كان هناك شوق عارم إلى معرفة رؤية "الإخوان" للحاضر والمستقبل فى صورة متكاملة وليس عبر الشذرات التى كانت تتناثر هنا وهناك، وفى وثيقة واحدة وليس فى تصريحات وبيانات لم تخل من تعارض بينها فى بعض الأحيان، وبشكل واضح بمنأى من الغموض الذى ظل يكتنف توجهاتهم تجاه بعض القضايا لفترة طويلة.
وفضلا عن الاهتمام الواسع بالمشروع، شهد الجدل الذى آثاره انتقادات حادة لبعض ما جاء فيه، وهجوما شديدا تجاوزه إلى الطعن فى أهداف الجماعة ونواياها.
ولكن بالرغم من أن بعض ما ورد فى مشروع البرنامج بدا صادماً بالفعل حتى بالنسبة إلى بعض من حاولوا على مدى سنوات طويلة فهم منهج جماعة "الإخوان" وتفهمه وحرصوا على التواصل معها وشاركوا بعض قادتها وكوادرها فى نشاطات مشتركة، تقتضى الموضوعية تسجيل ملاحظتين أوليتين قبل مناقشة المشروع وتحليل الخطاب الذى ينطوى عليه وتحديد أوجه القصور الأساسية فيه.
الملاحظة الأولى أن ما طرحه "الإخوان" كان مشروعا مقترحا لبرنامج وليس برنامجا نهائيا.
أما الملاحظة الثانية فهى أن إقدام "الإخوان" على إعلان برنامجهم كان خطوة إيجابية، بغض النظر عن أى اختلاف أو اتفاق. فأن تكون أفكار "الإخوان" على المائدة لهو أفضل من أن تُخفى تحتها أو بعيداً عنها. وأن تكون هذه الأفكار مطروحة بشكل واضح لهو خير من أن يحجبها الضباب.
وفى ضوء ذلك، يناقش د. وحيد عبد المجيد القضيتين الأكثر إثارة للجدل وللغضب أيضا فى معظم ردود الفعل على مشروع برنامج "الإخوان" لعام 2007، وهما طبيعة الدولة وعلاقتها بالدين، وموقع الأقباط والنساء فيها. وهما بالفعل قضيتان حاكمتان يتوقف عليهما مدى استعداد "الإخوان" للاندماج فى نظام سياسى ديموقراطى يتطلع إليه الكثير من النخب السياسية والثقافية والإعلامية فى مصر، والتوافق مع الأحزاب والقوى الأخرى على مقومات أساسية لهذا النظام الذى يعتبرونه هم هدفا أساسياً، بل وضعوه فى صدارة الفصل الثانى من الباب الأول فى مشروع البرنامج وهو "الأهداف"، وبصيغة يمكن أن تمثل قاسماً مشتركاً بين مختلف دعاة التحول الديموقراطى وهى : (تحقيق الإصلاح السياسى والدستورى وإطلاق الحريات العامة وإقرار مبدأ تداول السلطة طبقا للدستور الذى يقره الشعب بحرية وشفافية واعتبار الأمة مصدر السلطات ..الخ).
1- طبيعة الدولة وقضية المرجعية الدينية :
استأثرت هذه القضية بمقدار كبير من الجدل حول مشروع برنامج "الإخوان"، لأنه دعم الاعتقاد فى سعيهم إلى دولة دينية من خلال المرجعية الدينية التى تحدث عنها بعض قادتهم من قبل ولكنها لم تتبلور إلا فى هذا المشروع فى صورة هيئة من كبار علماء الدين فى الأمة.
فالطريقة التى صيغ بها دور الهيئة الدينية فى الدولة والنظام السياسى لابد أن تثير مخاوف كل من يتطلع إلى مستقبل تستعيد فيه الشعوب فى بلادنا الإسلامية حقها فى أن تكون هى مصدر السلطة.
ولا يفيد كثيراً فى تبديد هذه المخاوف المنهج الذى لجأ إليه بعض أنصار "الإخوان" لتفسير دور هيئة كبار علماء الدين بطريقة تقلل دورها وتجعله استشاريا.
كما أن الدفع بأن المحكمة الدستورية العليا تظل هى الحكم النهائى لا أساس له فى مشروع البرنامج. فقد أشار المشروع إلى هذه المحكمة فى فقرة أخرى غير تلك التى جعلت الهيئة الدينية هى الحكم النهائى فى القضايا التى توجد بشأنها أحكام شرعية قطعية. ولا توجد علاقة مباشرة بين الفقرتين على نحو يجيز مد ولاية المحكمة الدستورية على قرارات الهيئة الدينية التى تمتلك حقاً واضحاً فى إلغاء أى تشريع يريد المجلس النيابى إصداره إذا رأت أنه يتعارض مع ما تعتبره هى أحكاما قطعية.
ففى هذه الحالة لا مجال للحديث عن محكمة دستورية أو غيرها، لأن الهيئة الدينية تعتبر المرجعية الأعلى، وبالتالى السلطة النهائية، فى القضايا التى ترى هى، وليس غيرها، أنها ترتبط بأحكام قطعية. فالطعن أمام المحكمة الدستورية العليا، وفقا للمشروع، يكون على قوانين وقرارات صدرت، فى حين أن دور الهيئة الدينية يشمل منع إصدار قوانين وقرارات يريدها ممثلو الشعب أو الرئيس المنتخب من هذا الشعب، وليس من بضع عشرات من علماء الدين. ثم كيف يمكن تصور أن تتصدى المحكمة الدستورية العليا، فعلياً، لقانون أصرت الهيئة الدينية على إصداره بعد أن عدلت مشروعه الوارد إليها من المجلس النيابى، وأن تصدر حكما يقول إن هذا القانون مخالف لأحكام الشريعة الإسلامية، فى حين أن هيئة كبار علماء الدين هى التى أصدرته من الناحية الفعلية.
ومع ذلك، ينبغى التنبيه إلى أن بعض السياسات العامة المتبعة تساعد على استسهال وضع سلطة دينية فوق مؤسسات الدولة الدستورية. فقد حدث توسع فى استخدام الدين فى دعم بعض السياسات، وفى اللجوء إلى المؤسسة الدينية الرسمية (الأزهر الشريف) مما أدى إلى توسيع دورها وتدخلها فى كل شأن، وازدياد الميل إلى طلب رأيها فيما يصح ولا يصح أن تُستشار فيه.
2- حظر تولى الأقباط والنساء رئاسة الدولة فى النظام الرئاسى ورئاسة الوزراء فى النظام البرلمانى :
استثنى مشروع برنامج حزب "الإخوان المسلمين" رئاسة الدولة فى النظام الرئاسى ورئاسة الحكومة فى النظام البرلمانى من مبدأين عامين أقرهما وأكدهما، وهما مبدأ المواطنة، ومبدأ المساواة وتكافؤ الفرص.
واتسم المشروع بالحسم القاطع فى تعبيره عن هذا الاستبعاد، وبمثله فى تأكيد مبدأى المواطنة، والمساواة. فقد وضع كلاً من القاعدة، والاستثناء منها، بالمقدار نفسه من القوة والصرامة على نحو يوحى بازدواج منهجى، فكأنك أمام ذهنيتين تؤمن كل منهما بفكرة تعارض الأخرى أشد التعارض.
وقد ورد التأكيد على المواطنة والمساواة وتكافؤ الفرص فى الباب الأول من البرنامج والمعنون (مبادئ وتوجهات الحزب).
واتجه مشروع البرنامج فى الباب الثانى (الدولة والنظام السياسى) إلى بلورة هذه القضية بوضوح أكبر وقوة أكثر فى تكييفه لمسألة الدولة وطرحه لموضوع النظام السياسى.
ولكن المشروع، بالرغم من ذلك، استثنى الأقباط والنساء من أحد أهم حقوق المواطنة.
ويعود هذا الاستثناء، الذى لا يتسق مع الإيمان بالمواطنة والمساواة، إلى عجز "الإخوان" عن التحرر من أسر فكرة الوظائف الدينية للدولة بصورتها التقليدية القديمة قابعة فى "العقل الإخوانى"
فالاستثناء القبطى، هنا، مرده إلى أن للدولة وظائف دينية يفهمها "العقل الإخوانى" على النحو الذى كانت عليه قبل أن يعرف البشر مبادئ مثل المواطنة والمساواة وتكافؤ الفرص.
والمشكلة، هنا، ليست فى أن تكون للدولة وظائف دينية من عدمه، وإنما فى تكييف هذه الوظائف وطريقة أدائها. فمن الطبيعى أن يكون لجماعة "الإخوان المسلمين" ما يميزها عن الاتجاهات والقوى السياسية والفكرية الأخرى التى ترى أن الدولة لا تقوم بوظيفة دينية بشكل مباشر، وإنما ترعى الأديان وتمكَّن المؤسسات الدينية من أداء وظائفها على أساس من الحرية والمساواة.
ولكن إذا كانت الدولة فى عالم اليوم تختلف عما كانت عليه فى مراحل سابقة، فمن الطبيعى أيضا أن ينسحب ذلك على وظائفها عامة وعلى أدائها لهذه الوظائف، بما فى ذلك ما هو دينى منها بالنسبة لمن يؤمن بأن للدولة وظيفة أو وظائف دينية.
غير أن غياب هذا المعنى عن "العقل الإخوانى" أدى إلى استثناء ينطوى على تناقض فى بنية مشروع البرنامج. فلما كانت للدولة وظائف دينية، من بينها وظيفة جهادية ينظر إليها "العقل الإخوانى" كما لو أنها محصورة فى شؤون الحرب والقتال، على النحو الذى كانت عليه من قبل، فلا يمكن أن يُعهد بها إلى غير مسلم وفق ما ورد فى البرنامج.
كما استثنى مشروع البرنامج النساء أيضا من رئاسة الدولة. ولذلك فهو ينطوى، هنا، على تناقض فى بنيته مماثل لذلك الذى يظهر فى موقفه تجاه الأقباط ، وبالمخالفة أيضا لما نص عليه صراحة من رفض الإقصاء والاستبعاد.
3- أزمة فكر.. ومشكلة منهج:
وهذا موقف ثابت لجماعة "الإخوان المسلمين" لم يتغير فى أى وقت، بخلاف ما أخذه عليها بعض ناقدى برنامج حزبها هذا ممن اعتقدوا أنها تراجعت عن تقدم كانت قد أحرزته بشأن قضية المرأة. فلم يحقق "الإخوان" تقدما فى هذا الاتجاه بسبب عجزهم عن إدراك أن عصر الأمانة الكبرى انتهى.
إذا أردنا تشخيصا موضوعيا لمشكلة "الإخوان" الأهم والأكبر فى اللحظة الراهنة، انطلاقا مما ورد فى مشروع برنامجهم، فعلينا أن نبحث عنها فى المنهج، وبالتالى فى الفكر. فأزمة "الإخوان" الأهم هى فى عجز فكرهم السياسى وعدم قدرته على أن يسعفهم بما يعبر عن رغبتهم فى التطور. فالمشكلة ليست فى أنهم يضمرون غير ما يعلنون بخلاف ما يعتقده من يظنون فيهم الظنون. المشكلة هى فى أزمة العقل الأصولى السُنى حين يتصدى لمسألة الدولة والنظام السياسى دون أن يمتلك الأدوات اللازمة للتوفيق الخلاّق بين ما لا يستطيع أن يتجاهله وما لا يقدر على تجاوزه. فلا هو قادر على تجاهل ضرورات السياسة العصرية وأسسها الديموقراطية، ولا فى إمكانه أن يتجاوز موروثات دولة (أو بالأحرى دول ودويلات وإمارات) الخلافة فى مرحلة ما قبل الديموقراطية. ويجوز أن نلخص جوهر أزمة "الإخوان" على هذا النحو، وبقدر من الاختزال، فى العجز عن بلورة صيغة توَّفق (ولا تلَّفق) بين سيادة الأمة التى تقوم عليها أى دولة حديثة، وسيادة الشريعة بالمعنى الموروث الذى أصابه الجمود لفترة طويلة بسبب غياب الاجتهاد.
وهذا هو المصدر الأول- الذى سنناقشه بتفصيل أكثر فى الجزء التالى فى هذا الكتاب- لارتباك "الإخوان" فى تعاملهم مع قضية الدولة والسلطة والحكم على مدى نحو ثمانية عقود. فهم مرتبكون بين مبدأ الحكم للشعب ومبدأ الحاكمية لله .. يتقدمون خطوة إلى الأمام ويعودون أخرى إلى الوراء، لأسباب أهمها عدم القدرة على الارتقاء إلى المستوى الذى تتطلبه مواجهة معضلة كبرى على هذا النحو.
فقد تعاملت جماعة "الإخوان" معها بطريقة أقرب إلى التلفيق منها إلى التوفيق الخلاّق الذى ينتج عنه مركب جديد يجمع بين مبدأى الحكم للشعب والحاكمية لله، ولكن انطلاقا من أن السيادة النهائية هى للأمة صاحبة الحق فى اختيار حكامها ومساءلتهم ومحاسبتهم وانتخاب من ينوبون عنها ويستمدون سلطتهم منها وليس من أى هيئة أو جهة غيرها.
كان هذا، ومازال، هو جوهر أزمة الجماعة، ومصدر ارتباكها وعنوان عجزها عن التكيف والاندماج.
ومن هنا كان الخوف الذى أثاره مشروع برنامج "الإخوان" من أن يؤدى ضعف القدرة على الاجتهاد الخلاّق فى قضايا الدولة والسلطة إلى الوقوع فى أسر الدولة الدينية.
ولا مخرج من هذا المأزق الكبير إلا إعطاء أولوية قصوى لبلورة رؤية للعلاقة بين الدولة والدين تقوم على توفيق خلاَّق بين سيادة الأمة وسيادة الشريعة. فما يجعل النظام السياسى ديموقراطيا من عدمه ليس التفاصيل الكثيرة التى حواها المشروع، وإنما المبادىء التى يقوم عليها وفى مقدمتها مبدأ سيادة الأمة. فهذا المبدأ هو الذى يجعل السلطة النهائية هى للهيئات المنتخبة من كل أصحاب حق الاقتراع، وليس فقط من بضع عشرات أو مئات من علماء الدين.
خامسا: نحو المستقبل: "الإخوان المسلمون".. و "العقدة الديموقراطية"
1- عقدة المرجعية الأحادية
كانت المسألة الديموقراطية عقدة أساسية بالنسبة إلى تيار "الإخوان المسلمين" منذ تأسيس تنظيمه الأم فى مصر. وما زالت هذه العقدة مستمرة. وما برح مصدرها الرئيسى، الذى يعود إلى قضية المرجعية، مستعصياً على التفكيك. فالإصرار على مرجعية أحادية للنظام السياسى لا ينسجم مع أحد أهم مقومات الديموقراطية التعددية التنافسية المفتوحة. فأحد الفروق الأساسية بين النظام الديموقراطى والنظام الشمولى هو أن الأول متحرر من المرجعيات إلا ما يتوافق عليه المجتمع بحرية كاملة من مبادئ دستورية عبر حوار وطنى عام يقود إلى صيغة يقبلها جميع الأطراف والفئات السياسية والاجتماعية.
وهذا هو جوهر المعضلة التى تواجه "الإخوان المسلمين" وغيرهم من تيارات الإسلام السياسى حين يحدث تقدم فى موقفها تجاه المسألة الديموقراطية. وقد حدث هذا التقدم فعلاً. فالنظام السياسى عند "الإخوان المسلمين" هو نظام ديموقراطى بالمعنى الإجرائى الذى يفهمه كل من يؤمن بالديموقراطية. نظام يقوم على أن الشعب هو مصدر السلطات، الأمر الذى يجيب بشكل واضح على سؤال طالما أربك حركات أصولية طورت خطابها السياسى باتجاه قبول الديموقراطية ولكن بصورة غامضة وهو: أين، إذن، موضع مفهوم "الحاكمية لله" فى هذا الإطار؟
فالخطاب السياسى لجماعة "الإخوان المسلمين" يقول إن المواطنة، وليس الدين، هى أساس العلاقة بين النظام السياسى والشعب، وانها تؤيد التداول السلمى للسلطة بما يعنى ضمنياً أنها لن تحتكر الحكم إذا فازت فى الانتخابات، بالرغم من أن الكثير من الأحزاب والتيارات الأخرى لديها شك عميق فى ذلك.
فالسيناريو الذى أُطلق عليه فى تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2004 "فخ الانتخابات لمرة واحدة" يخلق خوفاً من وصول حركة إسلامية إلى السلطة فى انتخابات حرة، فتنفرد بالحكم. وعندئذ تصبح هذه الانتخابات هى الأولى والأخيرة.
فالتقدم الذى حدث فى موقف "الإخوان المسلمين" وتيارات إسلامية أخرى باتجاه المسألة الديموقراطية يظل محصورا فى الجوانب الإجرائية فى النظام السياسى، وبمنأى عن الأساس الذى يقوم عليه. فالقول بأن هذا النظام ديموقراطى بمرجعية إسلامية ينطوى على تناقض فى بنيته. وهذا تناقض يخالف الأساس الذى يقوم عليه النظام الديموقراطى، من حيث أنه يستمد وصفه هذا (الديموقراطى) من كونه يقوم على حرية الاختيار بين أحزاب وقوى وحركات لكل منها أو لبعضها مرجعيات، وليس على الارتهان لمرجعية واحدة.
وهذا، كله، فضلا عن أن هذا التكييف للنظام السياسى (نظام ديموقراطى بمرجعية إسلامية) يصطدم بمشكلة ممتدة فى الفكر الإسلامى السُنى عبر الزمن، وهى عدم وضوح مفهوم المرجعية أصلا.
فهذا مفهوم غامض ليس له أصل واضح فى الفكر الإسلامى السُنى، بينما يتعارض مدلوله في الفكر الشيعى تعارضاً مباشراً بل كاملاً مع المفهوم الديموقراطى. فالمرجعية فى الفكر الشيعى تعبر عن معنى شمولى، يُفترض أن يكون بعيداً عما يقصده القائلون بالديموقراطية فى إطار مرجعية إسلامية.
ولمساعدتهم فى السعى إلى بلورة رؤية قد تساعد فى حل العقدة التى ما زالت مستعصية، ربما يكون عليهم أن يبدأوا بالتفكير فى عدد من الأسئلة التى يمكن أن تسهم الإجابة عليها فى إحراز شئ من التقدم، وهى: كيف يمكن تجسيد مفهوم المرجعية فى الواقع عملياً ونظامياً؟ ومن يعبر عنها؟ وكيف..؟ وأية صورة ستكون عليها... وكيف يتم اختيار أعضائها... وهل سيراعى فيهم أن يكونوا متفقين أو متجانسين... وفى صيغة أكثر وضوحاً بافتراض أن هناك أكثر من حزب أصولى، هل يمكن تصور أن يكون لكل حزبمن هذا النوع علماؤه، الذين يمثلون مرجعيته التى تختلف مع مرجعية الحزب الأصولى الآخر، ثم يأتى كل من هذه الأحزاب بعلمائه ليكونوا مرجعة للنظام السياسى فى حال فوزه بالغالبية؟
وفى حال مصر على وجه التحديد كيف ستكون علاقة هذه المرجعية بالأزهر وعلمائه، وهل فكر "الإخوان" وغيرهم من الإسلاميين الدين يطرحون فكرة النظام الديموقراطى ذى المرجعية الدينية فى موقع الأزهر فى الإطار الذى يتصورونه، أم أن هذا الإطار ما زال محض خطوط عامة لم يحدث تفكير فى كيفية تطبيقها، ثم كيف ستسير العلاقة بين المرجعية أياً تكون صورتها والمجلس التشريعى المنتخب، وهل يكون اعتراض المرجعية على تشريع أصدره هذا المجلس نهائيا، وماالذى يبقى من مبدأ السيادة للشعب الذى تمتنع الديموقراطية فى غيابه، ثم ماذا لو اختلفت المرجعية على تشريع ما، فرأى بعض علمائها انه لا يخرج على مبادئ الشريعة فيما رأى بعض آخر أنه يحل حراماً أو يحَّرم حلالاًً؟
وليست هذه إلا عينة من أسئلة كثيرة يثيرها مفهوم النظام الديموقراطى فى إطار مرجعية إسلامية، بما وضح فيه وما غمض. فالواضح فيه يتعارض مع أهم مقومات الديموقراطية التى تمتنع حين تحضر المرجعية الأحادية التى تقترن بالنظام الشمولى. أما الملتبس فيه فهو يعود إلى عدم قدرة أصحابه على تقديمه فى صياغة تنسجم مع مقومات الديموقراطية، أو على الأقل لا تتعارض معها تعارضا جوهريا.
والمعضلة، هنا، هى أنه لا توجد دلالة محددة وواضحة لمفهوم المرجعية فى الفكر السنُى. وقد رأينا المرجعية الشيعية فى التطبيق سلطة دينية عليا تمتلك الحق فى مراجعة كل ما يقوم به غيرها بينما لا تُسأل هى أو تُراجع. فليست هناك صيغة أخرى معروفة للمرجعية التى يقول بعض "الإخوان" إنها لا تعنى سلطة دينية. وليس لديهم اجتهاد محدد يوضح كيفية تجسيد هذه المرجعية بطريقة لا تجعلها سلطة دينية متعالية تراجع كل ما يصدر عن المؤسسات الدستورية فى الدولة والمجتمع لتجيزه أو تهدره.
والحال أن مجرد وجود هيئة ما فوق المؤسسات الدستورية يؤدى إلى دولة دينية حتى إذا كان نظامها السياسى مكتمل الأركان من الناحية الإجرائية، وحتى إذا لم يكن أعضاء هذه الهيئة من رجال الدين. فحكم هؤلاء ليس شرطا للدولة الدينية لأن العبرة بدورهم والصلاحيات المخولة لهم وطبيعة سلطتهم. فالعبرة ليست بمن يحكم، بل بكيف يحكم.
وإلى أن يتمكن "الإخوان المسلمون" من حل هذه العقدة المحورية، ستظل مواقفهم تجاه المسألة الديموقراطية متعثرة بالرغم من حرص قيادتهم على اتخاذ خطوات إلى الأمام بشأنها منذ منتصف العقد الأخير فى القرن الماضى عندما أصدروا الوثيقة المعنونة ( موجز عن الشورى فى الإسلام وتعدد الأحزاب فى المجتمع المسلم عام 1994).
كانت هذه خطوة مهمة إلى الأمام فى موقف "الإخوان" تجاه المسألة الديموقراطية. ولكنها لم تكن مكتملة أو قل أنها تعثرت فى عقدة المرجعية. وأدى ذلك إلى إضعاف مفعول التقدم الذى عبرت عنه الوثيقة تجاه تأكيد القبول بالتعدد الحزبى وتداول السلطة عبر انتخابات دورية.
ويعنى ذلك أن هناك مرجعية عليا لابد أن تلتزم بها الأحزاب والجماعات السياسية كلها، وليست جماعة "الإخوان" فقط، ويتعرض من يخرج عليها "للإجراء الشرعى"، بحيث لا يبقى فى الساحة السياسية غير أحزاب تنتمى إلى مرجعية واحدة هى التى تؤطر التعددية. وهذا نزوع احتكارى يتعارض مع التقاليد الديموقراطية، التى تجعل تحديد المقومات الأساسية للعملية السياسية رهناً باتفاق مختلف الأحزاب والتيارات وتفاهمها، بحيث تكون هذه المقومات حصيلة القواسم المشتركة بينها. وعندئذ يتحقق التراضى العام، الذى لا يمكن الوصول إليه إلا عبر حوار جدى يشارك فيه الجميع، ويلتزمون بنتائجه التى تمثل مقومات العملية السياسية.
2- معضلات العلاقة بين "الإخوان" والتيارات الأخرى
لم يستطع "الإخوان المسلمون" تبديد المخاوف من مشروعهم السياسى أو الحد منها لأنها مخاوف حقيقية وليست فقط من صنع الذين استخدموا الأصولية الإسلامية "فزاعة" من أجل أهداف يتوخونها. وإذا كان "الأقباط" فى مقدمة الخائفين، فهم ليسوا وحدهم. فهو ليس قبطيا فحسب د. ميلاد حنا، الذى نطق فزعاً يوم حصول "الإخوان" على 88 مقعداً فى مجلس الشعب فى الانتخابات البرلمانية عام 2005، حين قال أنه فى اليوم الذى يحصل "الإخوان المسلمون" على الغالبية سيغادر الأقباط الأغنياء مصر ليبقى فقراؤهم فقط، وقد يغير بعضهم دينه، وتمنى أن يموت قبل أن يأتى هذا اليوم. فقائل هذا الكلام هو مثقف علمانى اتجاها ورؤية مثلما هو مسيحى دينا، ويشاركه علمانيون ليبراليون ويساريون وناصريون يدينون بالإسلام خوفه بأشكال مختلفة ودرجات متباينة. ولكنه، وهؤلاء جميعهم، يخافون على مصر كلها.
الخوف يشمل قطاعا يعتد به من النساء، وخصوصا الأجيال الجديدة. ومن الخائفات كثير يرتدين الحجاب. ولكنهن تفعلن ذلك بإرادتهن، وماخوفهن إلا من التدخل فى حياتهن ووضع رقباء عليهن. فالذين يدعون النساء الآن إلى ارتداء الحجاب بالحسنى قد يفعلون ذلك غدا بالإكراه عندما يمتلكون القوة.
ومن الطبيعى أن يكون المثقفون فى صدارة الخائفين على المقدار المتاح الآن من حرية التفكير والتعبير والإبداع، خصوصا وأن تجربتهم مع بعض نواب "الإخوان" فى البرلمان مريرة. فقد مارس بعضهم رقابة على العقل والإبداع أكثر مما راقبوا السلطة التنفيذية وأجهزتها.
ويعنى ذلك أن مساحة الخوف من احتمال صعود "الإخوان" أوسع مما يتصورونه.
وتشمل هذه المساحة أحزابا وتيارات سياسية أخرى يوفر التباس مواقف "الإخوان المسلمين" تجاه المسألة الديموقراطية فرصة لقادة بعضها الذين لا يريدون التعاون معهم لأسباب تتعلق بحساباتهم ومصالحهم فى المقام الأول. كما تدفع آخرين يخافون فعلاً هذا الالتباس وآثاره المستقبلية إلى المحافظة على مسافة بمنأى عنهم.
ولعل هذا يفسر لماذا أصبح متعذراً الآن ما كان ممكنا، بل بدا طبيعياً، حتى سنوات قليلة مضت حين كان "الإخوان المسلمون" طرفا أساسيا فى مختلف أشكال التنسيق والتعاون بين أحزاب وقوى
الجماعة كما يرويها في كتابه وحيد عبد المجيد