المحاماة ــ بغض النظر عن المسمي الإصطلاحي ــ هي نيابة عن الغير في حمايته أو الدفاع عنه, قوامها الحجة والبيان والإقناع, لدي متلق ما أو متلقين, في دائرة ما.. في مكان وزمان ما.. وهي بذلك فرع علي أصل عام عرفته البشرية منذ كانت.. نجد هذه النيابة في أقاصيص وروايات وحكاوي البشر, ونجدها في صفحات التاريخ مثلما نجدها في كتب ومدونات الأديان.. هذه النيابة الإنسانية فيما بين الناس بعضهم وبعضا, تؤدي بقدرات خاصة في المختار لهذه النيابة, تؤهله للإختيار من ناحية, وترشحه للنجاح في مهمته من ناحية أخري..
لذلك كان معني الغير حاضرا علي الدوام في المحاماة وفي كل نيابة صادقة ينوب بها الآدمي عن سواه, إلا الأنبياء وأصحاب الرسالات فإن معني الغير هو كل الموجود في صفحة وعيهم حيث تذوب ذواتهم ذوبانا كاملا وتتلاشي في المعني الكلي وفي إتجاههم التام إلي الله!
الكلمة هي روح وعدة ومهجة وسلاح المحاماة.. هذه الكلمة ليست محض حروف أو صيغ أو تراكيب, وإنما هي حجة وبرهان وبيان.. ريادة الكلمة قاسم مشترك في رسائل الرسل ودعوات الأنبياء, وفي مؤلفات الحكماء والمفكرين والعلماء, وفي ممارسات الصحافة وكتابات الصحفيين, وفي كتابة المقالات والبحوث, وفي قرض الشعر وصياغة الأعمال الأدبية, وفي مدونات أحكام القضاء, وفي مصنفات الإذاعة والتليفزيون والمسرح والسينما, وفيما يتغني به المغنون والشعراء والمنشدون, وفيما يلقيه الخطباء والدعاة, بل فيما يتحدث به الناس في حواراتهم وشئون معاشهم وحياتهم, كلنا شركاء في إستعمال الكلمة, تختلف درجات إتقانها وصناعتها وسبكها وصياغتها, وتصل إلي أوجها السامق حين تتغيا الإرتفاع بالتعبير بها لتؤدي وظيفتها في التواصل الإنساني وإنارة الألباب والعقول.
ويحق لأي آدمي يتقن صناعة الكلمة, ويربطها بالفعل والسلوك ــ أن يفاخر بأنه أديب أو شاعر أو صحفي أو كاتب أو مؤلف أو حكيم أو روائي, وأن يباهي الدنيا بأنه من صناع الكلمة الموهوبين في نحتها وتراكبيها ومعرفة أسرار معانيها وإيماءاتها وجرسها ومعمارها, المتمكنين في التوليف وسبك مترادفاتها في صياغة تجلي المعني وتحفظ الجرس وتستقر شحنتها في وجدان المتلقي.. بيد أن فروسية الكلمة تجاوز ذلك كله وتتخطاه, وتستوجب تحلي صانع الكلمة ــ فوق ذلك ــ بشمائل وخصال وسجايا الفروسية.. والفروسية ليست محض إمتطاء جواد, ولكنها شجاعة, وبسالة, وإقدام, ومروءة, وشهامة, ونجدة, وصدق, وعزم, ومضاء, وبذل, وفداء.. قالوا في الأمثال ليس كل من ركب الحصان خيال.. كذلك الكلمة, فهي ليست محض ظاهرة صوتيه أو قدرة بيانية, وإنما هي موصولة ويجب أن تكون موصولة بغاية وهدف, لا تتردد أو تحجم عن إبداء ما يستوجبه تخوفا أو توجسا أو جبنا أو أحتياطا أو اتقاء أو طلبا للأمان الشخصي!!.. لذلك كانت خاصية الفروسية ميزة لا تتحقق لصانع الكلمة ما لم يتحل بأخلاق الفروسية وتقترن كلمته وحجته بهذه الباقة التي يخلق بها الفرسان..
لذلك فإن فروسية الكلمة لا تتحقق مالم تكن التزاما بقضية ومبدأ, ومالم تكن تعبيرا عن حاصل واقع وقائم في وجدان وحنايا ملقيها, مقرونا باستعداد للبذل والنضال والكفاح من أجل تحقيق معانيها: في عالم الواقع لا في عالم الخيال, في عالم الفعل لا في عالم التفاخر والتباهي والتيه بالكلمات بغض النظر عن قيمتها وما تترجم عنه في عالم الواقع والفعل والعمل والسلوك.. لم يكن الانبياء والرسل فرسانا للكلمة لمجرد ان حملوا بها الأمانة وألقوها للناس, وإنما لانهم صدقوا وكابدوا في حمل ما حملوه من أمانات.. ولم يكن نبي القرآن فارسا للكلمة ـ لمجرد انه قال: انا النبي لاكذب, أنا ابن عبد المطلب ـ ولا لمجرد انه قال لعمه ابي طالب في شأن كبار قريش الذين جاءوا يساومونه علي دينه ويعرضون عليه العروض ليصرف النظر عما يدعو اليه, فقال: والله ياعم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري علي أن أترك هذا الامر حتي يظهره الله أو أهلك دونه ـ ماتركته!.. ولم يكن عليه السلام فارسا للكلمة لمجرد ان ختم دعاءه الشهير بالطائف قائلا في مناجاته لربه: إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي!.. وإنما كان نبي القرآن فارسا للكلمة لانه كان يعني ما يقول, ولأنه ترجم الكلمات الي واقع احتمل فيه العذاب والتنكيل والإساءة والإهانة والايذاء.. جاهد ما وسعته وفوق ما تسعه طاقة أشداء المجاهدين, واحتمل جمرات قذائف وطعنات الكفار والمشركين, ولم يضق بما كان فيه من مكابدة ونصب, بل مضي لاداء رسالته يحول الكلمات الي واقع غير وجه الحياة وحمل النور والضياء الي الانسانية عبر المكان والزمان!! لا تفترق المحاماة عن أداتها وهي الكلمة, في انها يمكن ان تعلو وأن تهبط, تصيب وتخيب, تستقيم وتجنح, تطفو وتغرق.. كانت الكلمة هي أداة الرسالات والنبوات ومادة الكتب السماوية, مثلما هي عدة المؤلفات والمصنفات والكتب والاسفار, وصائغة الفكر الانساني منذ فجر التاريخ الي ما شاء الله.. لم يزر احد بالكلمة ولا بدورها الهائل العظيم لمجرد هبوط او جنوح في استخدام الكلمة في غير اغراضها السامية.. لم تفقد الكلمة قيمتها لانها اداة الشاتم او القاذف او المسف, ولا لانها عدة التزييف والمزيفين والمضلين والمرائين, ولا لكونها مجالا للخداع والغش والمخاتلة والنصب والضلال والتدليس.. هذه كلها وغيرها عيوب استعمال وممارسة وليست عيبا في الكلمة ذاتها.. ستبقي الكلمة هي هي حاملة أغلي أفكار الانسانية, وهي هي مادة الكتب السماوية والبيان المعجز في آيات القرآن المجيد!
والمحاماة التي تتغياها هذه الكلمات, هي المحاماة كما هي وكما يجب ان تكون! فليست المحاماة جنوح جانح أو خطأ مخالف أو شرود شارد, وإنما هي رسالة الحق ونصيره وصوته.. ترتفع بالكلمة لتكون حياة تدافع وتدرأ بها الشرور والمظالم, وتصد التغول والجبروت والطغيان!
( للحديث بقية)
عدل سابقا من قبل محمد راضى مسعود في الإثنين أغسطس 03, 2009 8:18 pm عدل 1 مرات