روح القانون

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
الأستشارات القانونيه نقدمها مجانا لجمهور الزائرين في قسم الاستشارات ونرد عليها في الحال من نخبه محامين المنتدي .. او الأتصال بنا مباشره موبايل : 01001553651 _ 01144457144 _  01288112251

    رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية السلسله كاملة جمعها محمد راضى

    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    09عال9 رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية السلسله كاملة جمعها محمد راضى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الإثنين أغسطس 03, 2009 7:04 pm

    رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية السلسله كاملة جمعها محمد راضى Ragei2
    المحاماة ــ بغض النظر عن المسمي الإصطلاحي ــ هي نيابة عن الغير في حمايته أو الدفاع عنه‏,‏ قوامها الحجة والبيان والإقناع‏,‏ لدي متلق ما أو متلقين‏,‏ في دائرة ما‏..‏ في مكان وزمان ما‏..‏ وهي بذلك فرع علي أصل عام عرفته البشرية منذ كانت‏..‏ نجد هذه النيابة في أقاصيص وروايات وحكاوي البشر‏,‏ ونجدها في صفحات التاريخ مثلما نجدها في كتب ومدونات الأديان‏..‏ هذه النيابة الإنسانية فيما بين الناس بعضهم وبعضا‏,‏ تؤدي بقدرات خاصة في المختار لهذه النيابة‏,‏ تؤهله للإختيار من ناحية‏,‏ وترشحه للنجاح في مهمته من ناحية أخري‏..‏
    لذلك كان معني الغير حاضرا علي الدوام في المحاماة وفي كل نيابة صادقة ينوب بها الآدمي عن سواه‏,‏ إلا الأنبياء وأصحاب الرسالات فإن معني الغير هو كل الموجود في صفحة وعيهم حيث تذوب ذواتهم ذوبانا كاملا وتتلاشي في المعني الكلي وفي إتجاههم التام إلي الله‏!‏

    الكلمة هي روح وعدة ومهجة وسلاح المحاماة‏..‏ هذه الكلمة ليست محض حروف أو صيغ أو تراكيب‏,‏ وإنما هي حجة وبرهان وبيان‏..‏ ريادة الكلمة قاسم مشترك في رسائل الرسل ودعوات الأنبياء‏,‏ وفي مؤلفات الحكماء والمفكرين والعلماء‏,‏ وفي ممارسات الصحافة وكتابات الصحفيين‏,‏ وفي كتابة المقالات والبحوث‏,‏ وفي قرض الشعر وصياغة الأعمال الأدبية‏,‏ وفي مدونات أحكام القضاء‏,‏ وفي مصنفات الإذاعة والتليفزيون والمسرح والسينما‏,‏ وفيما يتغني به المغنون والشعراء والمنشدون‏,‏ وفيما يلقيه الخطباء والدعاة‏,‏ بل فيما يتحدث به الناس في حواراتهم وشئون معاشهم وحياتهم‏,‏ كلنا شركاء في إستعمال الكلمة‏,‏ تختلف درجات إتقانها وصناعتها وسبكها وصياغتها‏,‏ وتصل إلي أوجها السامق حين تتغيا الإرتفاع بالتعبير بها لتؤدي وظيفتها في التواصل الإنساني وإنارة الألباب والعقول‏.‏
    ويحق لأي آدمي يتقن صناعة الكلمة‏,‏ ويربطها بالفعل والسلوك ــ أن يفاخر بأنه أديب أو شاعر أو صحفي أو كاتب أو مؤلف أو حكيم أو روائي‏,‏ وأن يباهي الدنيا بأنه من صناع الكلمة الموهوبين في نحتها وتراكبيها ومعرفة أسرار معانيها وإيماءاتها وجرسها ومعمارها‏,‏ المتمكنين في التوليف وسبك مترادفاتها في صياغة تجلي المعني وتحفظ الجرس وتستقر شحنتها في وجدان المتلقي‏..‏ بيد أن فروسية الكلمة تجاوز ذلك كله وتتخطاه‏,‏ وتستوجب تحلي صانع الكلمة ــ فوق ذلك ــ بشمائل وخصال وسجايا الفروسية‏..‏ والفروسية ليست محض إمتطاء جواد‏,‏ ولكنها شجاعة‏,‏ وبسالة‏,‏ وإقدام‏,‏ ومروءة‏,‏ وشهامة‏,‏ ونجدة‏,‏ وصدق‏,‏ وعزم‏,‏ ومضاء‏,‏ وبذل‏,‏ وفداء‏..‏ قالوا في الأمثال ليس كل من ركب الحصان خيال‏..‏ كذلك الكلمة‏,‏ فهي ليست محض ظاهرة صوتيه أو قدرة بيانية‏,‏ وإنما هي موصولة ويجب أن تكون موصولة بغاية وهدف‏,‏ لا تتردد أو تحجم عن إبداء ما يستوجبه تخوفا أو توجسا أو جبنا أو أحتياطا أو اتقاء أو طلبا للأمان الشخصي‏!!..‏ لذلك كانت خاصية الفروسية ميزة لا تتحقق لصانع الكلمة ما لم يتحل بأخلاق الفروسية وتقترن كلمته وحجته بهذه الباقة التي يخلق بها الفرسان‏..‏

    لذلك فإن فروسية الكلمة لا تتحقق مالم تكن التزاما بقضية ومبدأ‏,‏ ومالم تكن تعبيرا عن حاصل واقع وقائم في وجدان وحنايا ملقيها‏,‏ مقرونا باستعداد للبذل والنضال والكفاح من أجل تحقيق معانيها‏:‏ في عالم الواقع لا في عالم الخيال‏,‏ في عالم الفعل لا في عالم التفاخر والتباهي والتيه بالكلمات بغض النظر عن قيمتها وما تترجم عنه في عالم الواقع والفعل والعمل والسلوك‏..‏ لم يكن الانبياء والرسل فرسانا للكلمة لمجرد ان حملوا بها الأمانة وألقوها للناس‏,‏ وإنما لانهم صدقوا وكابدوا في حمل ما حملوه من أمانات‏..‏ ولم يكن نبي القرآن فارسا للكلمة ـ لمجرد انه قال‏:‏ انا النبي لاكذب‏,‏ أنا ابن عبد المطلب ـ ولا لمجرد انه قال لعمه ابي طالب في شأن كبار قريش الذين جاءوا يساومونه علي دينه ويعرضون عليه العروض ليصرف النظر عما يدعو اليه‏,‏ فقال‏:‏ والله ياعم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري علي أن أترك هذا الامر حتي يظهره الله أو أهلك دونه ـ ماتركته‏!..‏ ولم يكن عليه السلام فارسا للكلمة لمجرد ان ختم دعاءه الشهير بالطائف قائلا في مناجاته لربه‏:‏ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي‏!..‏ وإنما كان نبي القرآن فارسا للكلمة لانه كان يعني ما يقول‏,‏ ولأنه ترجم الكلمات الي واقع احتمل فيه العذاب والتنكيل والإساءة والإهانة والايذاء‏..‏ جاهد ما وسعته وفوق ما تسعه طاقة أشداء المجاهدين‏,‏ واحتمل جمرات قذائف وطعنات الكفار والمشركين‏,‏ ولم يضق بما كان فيه من مكابدة ونصب‏,‏ بل مضي لاداء رسالته يحول الكلمات الي واقع غير وجه الحياة وحمل النور والضياء الي الانسانية عبر المكان والزمان‏!!‏ لا تفترق المحاماة عن أداتها وهي الكلمة‏,‏ في انها يمكن ان تعلو وأن تهبط‏,‏ تصيب وتخيب‏,‏ تستقيم وتجنح‏,‏ تطفو وتغرق‏..‏ كانت الكلمة هي أداة الرسالات والنبوات ومادة الكتب السماوية‏,‏ مثلما هي عدة المؤلفات والمصنفات والكتب والاسفار‏,‏ وصائغة الفكر الانساني منذ فجر التاريخ الي ما شاء الله‏..‏ لم يزر احد بالكلمة ولا بدورها الهائل العظيم لمجرد هبوط او جنوح في استخدام الكلمة في غير اغراضها السامية‏..‏ لم تفقد الكلمة قيمتها لانها اداة الشاتم او القاذف او المسف‏,‏ ولا لانها عدة التزييف والمزيفين والمضلين والمرائين‏,‏ ولا لكونها مجالا للخداع والغش والمخاتلة والنصب والضلال والتدليس‏..‏ هذه كلها وغيرها عيوب استعمال وممارسة وليست عيبا في الكلمة ذاتها‏..‏ ستبقي الكلمة هي هي حاملة أغلي أفكار الانسانية‏,‏ وهي هي مادة الكتب السماوية والبيان المعجز في آيات القرآن المجيد‏!‏

    والمحاماة التي تتغياها هذه الكلمات‏,‏ هي المحاماة كما هي وكما يجب ان تكون‏!‏ فليست المحاماة جنوح جانح أو خطأ مخالف أو شرود شارد‏,‏ وإنما هي رسالة الحق ونصيره وصوته‏..‏ ترتفع بالكلمة لتكون حياة تدافع وتدرأ بها الشرور والمظالم‏,‏ وتصد التغول والجبروت والطغيان‏!‏
    ‏(‏ للحديث بقية‏)‏


    عدل سابقا من قبل محمد راضى مسعود في الإثنين أغسطس 03, 2009 8:18 pm عدل 1 مرات
    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    09عال9 رد: رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية السلسله كاملة جمعها محمد راضى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الإثنين أغسطس 03, 2009 7:09 pm

    رسالة المحاماة‏(2)‏
    بقلم‏ :‏ رجائي عطية
    لم يكن صدفة ان تعانقت الكلمة والمحاماة‏,‏ فبينهما علاقة حميمة وتأثير متبادل يصل إلي حد الإندماج‏,‏ كلاهما يأخذ من الاخر ويصب فيه‏.‏
    لذلك ظلت المحاماة علي صلة دائمة لم تنقطع أبدا بالأدب والفكر والثقافة‏,‏

    وارتفع الي قمة الأدب قمم في المحاماة‏,‏ وسطر عمالقة في المحاماة صفحات رائعة في الآداب والفكر والثقافة‏,‏ حتي بات عسيرا أن ترد أحدهم إلي هذه دون تلك‏..‏ عرف الأدب والفكر الدكتور محمد حسين هيكل في زينب أول رواية مصرية وفي حياة محمد والفاروق عمر ومنزل الوحي وجان جاك روسو وغيرهم‏,‏ مثلما عرفته ساحات المحاكم محاميا لامعا ووزيرا بارعا ورئيسا شامخا لمجلس الشيوخ المصري‏..‏ وعرفت الحياة الأدبية توفيق الحكيم الذي كانت أولي الهاماته في عالم الأدب مستوحاة من تجربته في ساحة القضاء برائعته‏:‏ يوميات نائب في الأرياف‏,‏ وكتابه‏:‏ عدالة وفن‏,‏ الي آخر العنقود الذي مثل به الحكيم أحد أضلاع التنوير في القرن العشرين‏..‏ وعرفت الحياة الأدبية يحيي حقي خريج ذات دفعة توفيق الحكيم سنة‏1925‏ بمدرسة الحقوق الملكية آنذاك‏,‏ وعاينت دوره الذي امتزجت فيه رؤيته بالمحاماة وتجربته كمعاون إدارة‏,‏ مع تراب مصر‏,‏ وعبق تاريخها‏,‏ ورحلاته بالخارجية‏,‏ وسياحاته في الفكر والأدب الإنساني‏,‏ ليقدم مزيجا رائعا لأديب مفكر قد إلتقت فيه هذه الروافد في عطاء متبادل‏..‏ عشق الكلمة‏,‏ خليها علي الله‏,‏ صح النوم‏,‏ قنديل أم هاشم‏,‏ دماء وطين‏,‏ أم العواجز‏,‏ وباقة من أميز ما قدم الي المكتبة العربية في القرن العشرين‏..‏ قليلون من يعرفون أن الدكتور محمد مندور أستاذ النقد والنقاد وصاحب كتاب النقد المنهجي عند العرب وتصانيف نقد الشعر والمسرح والأدب‏,‏ خريج حقوق القاهرة دفعة‏1930‏ التي كان أولها المحامي الأشهر والمفكر والأديب والشاعر الفذ الدكتور محمد عبدالله محمد‏..‏ لا أحسب أحدا بلغ القمة التي ارتقاها محمد عبدالله محمد في صمت جليل وتواضع لافت وقليلون من اطلعوا علي عالم هذا الرجل الذي قدم سوامق الفكر وروائع الأدب والأشعار‏..‏ كتابة‏:‏ في جرائم النشر شد انتباه الجميع فلم يعد أحد يدرك أن لهذا المحامي العلم الأديب ـ الي جوار جرائم النشر وبسائط علم العقاب ـ كتابا فذا في معالم التقريب‏,‏ وأشعار بالغة الاتقان والجزالة والعمق قمت بجمعها له بعد لأي في ديوانيه العارف و الطريق‏..‏ وقليلون ـ بعد مضي الزمن‏:‏ ـ من بقوا يتذكرون كيف أجتمع الأدب والمحاماة في الأفذاذ ابراهيم الهلباوي وعبدالعزيز فهمي ومكرم عبيد وأحمد لطفي السيد استاذ الجيل وصاحب كتاب أرسطو ورئيس تحرير الجريدة وأول رئيس لمجمع اللغة العربية‏,‏ وقاسم أمين صاحب كتابي‏:‏ تحرير المرأة والمرأة الجديدة‏:‏ ومصطفي مرعي وغيرهم من حبات هذا العقد الذين ازدانت بهم صفحات الفكر والأدب مثلما ازدانت صفحات المحاماة‏.‏

    يبدو أن فنون المرافعات‏,‏ الشفوية والمكتوبة‏,‏ هي التي أقامت صلة متينة بين الأدب والمحاماة فجوهر المحاماة أنها رسالة إقناع‏..‏ شحنة من الحجج والبراهين‏,‏ يعرضها المحامي علي قضاته‏..‏ شفاهة في الأصل‏,‏ وكتابة اذا لزم الأمر‏..‏ دور المحامي فيها أشبه بدور الداعية‏,‏ ولعله أعوص‏,‏ ثم هو مناوأ بالنيابة العامة من ناحية‏,‏ وبطرف الخصومة الاخر من ناحية أخري‏..‏ وهو مطالب وسط هذه الظروف بالغة العسر أن يصل بحديثه وبيانه وحججه الي وجدان وعقيدة المحكمة‏..‏ أن يشكل لديها رؤية قد تستلزم أن يزيل لديها رؤية سبقت‏..‏ وأداة المحامي في هذه الرسالة الرفيعة ـ فضلا عن علمه ودراسته ـ لغته وبيانه وحجته‏..‏ ولذلك لم تكن المصنفات الأدبية الصرفة هي المظهر الوحيد لالتحام أدب الكلمة بالمحاماة وإنما راجت أصداء هذا الالتحام في المرافعات والمذكرات والمقالات‏,‏ مثلما راجت في خطب من اشتغل منهم ـ وهم كثر ـ بالعمل الوطني والسياسي‏..‏ لاتزال خطب مصطفي كامل وسعد زغلول التي أيقظت وألهبت الشعور الوطني ـ قطعا أدبية تدرس للآن كنموذج للخطب الوطنية‏,‏ ولا تزال أجيال الي الآن تستشهد بمكرميات مكرم عبيد وتشدو بقطع من مرافعاته البليغة‏,‏ يذكرون فيما يذكرون له مقالته حين وقف يدافع عن حسن النحاس‏:‏ إن السياسة والعدالة ضدان لا يجتمعان‏,‏ وإذا اجتمعنا لا يتمازجان والواقع أنهما مختلفان في الطبيعة والوسيلة والغرض‏.‏ العدالة من روح الله والسياسة من صنع الناس‏,‏ والسياسة توازن والعدالة تزن بالقسطاس‏,‏ وكذلك يختلف الغرض منهما‏:‏ فالعدالة تطلب حقا والسياسة تبغي مصلحة‏!..‏ ويذكرون فيما يذكرون من روائعه‏,‏ مرافعته المجيدة عن مصطفي النحاس وويصا واصف اللذين سولت السياسة الزج بهما متهمين أمام مجلس تأديب المحامين‏!!‏

    فيما يبدو معه أن هناك مصاهرة موصولة بين المحاماة والصحافة‏,‏ فإلي جوار هيكل ولطفي السيد والحكيم وحقي ـ خاض غمار الصحافة محمد التابعي مؤسس الصحافة المصرية الحديثة‏,‏ وفكري أباظة‏,‏ وإحسان عبدالقدوس الذي جمع في منظومة رائعة بين الكتابة الأدبية والروائية وبين الكتابة السياسية‏,‏ وعبدالقادر حمزة‏,‏ وأحمد بهاء الدين‏,‏ وثروت أباظة‏,‏ وإبراهيم نافع‏,‏ وأحمد رجب‏,‏ فضلا عن الكاتب المؤرخ عبدالرحمن الرافعي الذي كان نقيبا للمحامين‏.‏
    ‏(‏للحديث بقية‏)‏
    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    09عال9 رد: رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية السلسله كاملة جمعها محمد راضى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الإثنين أغسطس 03, 2009 7:12 pm

    رسالة المحاماة والأديان‏(3)‏
    بقلم‏:‏ رجائي عطية
    معني الرسالة في المحاماة‏,‏ مستمد من طبيعتها وغايتها ونهجها في أدائها‏,‏ لأنها حماية ومحاماة عن الغير‏,‏ ومكابدة ومجاهدة ومناضلة من أجل الغير يتلاشي أمامها ـ ويجب أن يتلاشي ـ إحساس المحامي بذاته‏,‏ أو انحيازه لذاته أو مصالحها أو رغابها‏,‏ فيكرس كل علمه وفكره ومعارفه وثقافته وقدراته وأدبه وموهبته لينهض بأمانة وضعها الغير في عنقه‏..‏ هذا الاهتمام العميق بالغير‏,‏ الذي تتلاشي أو تكاد تتلاشي إزاءه الذات‏,‏ يقترب من معاني الرسالات التي تتجه أولا وأخيرا إلي الأغيار‏,‏ يقدمهم أصحاب الرسالات علي ذواتهم فلا يعنون إلا بحمل الدعوة‏,‏ وبث ما بها إلي الناس‏,‏ دون أن يطلبوا مجدا ولا هيلمانا‏,‏ أو يتغيوا سلطة أو سلطانا‏,‏ لاهم لهم بأنفسهم ولا بذريتهم من بعدهم‏,‏ ياء الملكية معدومة لا وجود لها لديهم‏,‏ عبر عن ذلك نبي القرآن فقال‏:‏ نحن الأنبياء لا نورث‏,‏ ما تركناه صدقة‏.‏
    المحاماة كنيابة إقناعية عن الغير‏,‏ عرفت ـ بغض النظر عن المسميات‏,‏ من قديم‏,‏ وصاحبت دعوات النبوات مثلا لازمت ما يفصل فيه من أقضيات‏..‏ عن قوة الحجة وأثرها في المتلقي‏,‏ أومأ نبي القرآن حين قال لمتخاصمين لجآ إليه في قضية مواريث قدم العهد بها‏:‏ إنكم تختصمون إلي‏,‏ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض‏(‏ أي أقدر علي الاقناع بها‏)‏ فأقضي له علي نحو مما اسمع‏!..‏ لذلك فإن هذه القدرة لا ينبغي ولا يجوز أن تنفصل عن الحق ومناصرته أو تشايع الباطل وتمالئه‏.‏

    يروي لنا القرآن المجيد صورا من هذه النيابة الإقناعية‏,‏ لجأ إليها النبي موسي كليم الله‏,‏ فدعا ربه أن يحلل عقدة لسانه‏,‏ وأن ييسر له أمره‏,‏ وأن يعينه بأخيه هارون‏..‏ قال رب أشرح لي صدري‏,‏ ويسري لي أمري‏,‏ وأحلل عقدة من لساني‏,‏ يفقهوا قولي‏,‏ وأجعل لي وزيرا من أهلي‏,‏ هارون أخي‏,‏ اشدد به أزري‏,‏ وأشركه في أمري‏(‏ طه‏25‏ ـ‏32)..‏ لا يتحرج موسي عليه السلام أن يبدي لربه تعالي أنه يخاف إزاء تكذيب المخاطبين ألا ينطلق لسانه‏,‏ ويسأله سبحانه أن يرسل إليه هارون أخاه‏..‏ قال رب إني أخاف أن يكذبون‏,‏ ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلي هارون‏(‏ الشعراء‏12‏ ـ‏13)..‏ ولا يتحرج موسي‏:‏ كليم الله‏,‏ من الإقرار بأن أخاه هارون أفصح منه لسانا وأقوي بيانا‏,‏ وأنه كفيل بذلك أن يشد أزره‏..‏ وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون‏,‏ قال سنشد عضدك بأخيك‏(‏ القصص‏35,34).‏ وأصداء قيمة الكلمة ـ وهي حجة المحاماة ـ في البيان والاقناع‏,‏ وفي حمل دعوة الحق‏,‏ موجودة أيضا في الأناجيل المسيحية‏,‏ في صدر إنجيل يوحنا‏(1/1):‏ في البدء كان الكلمة‏..‏ وفي إنجيل مرقس أن الزارع كلمة الله‏..‏ وأن الذين تزرع أو توجه إليهم الكلمة في الأرض الجيدة هم الذين يثمرون‏.(‏ مرقس‏14/4)‏ ـ لذلك كانت الكلمة هي أداة المسيح‏,‏ فجاء بإنجيل مرقس‏(33/4):‏ كان يسوع يكلمه الجمع بالكلمة‏..‏ بل كان السيد المسيح ـ عليه السلام ـ هو المحامي الذي دافع عن مريم المجدلية حين رأي الشر مستشريا في الناس‏,‏ والعقل غائبا‏,‏ فوقف يدافع عن البائسة ويقول للمجمهرين المتعطشين للإيذاء من كان منكم بلا خطيئة فليرمها أولا بحجر‏,‏ فنكلوا وانصرفوا عنها‏!..‏ ويروي إنجيل يوحنا دفاع السيد المسيح عن هذه المرأة التي اتهمها جمهور الناس‏,‏ ومعلمو الشريعة والفريسيون بالزنا‏,‏ وذهبوا إليه ليحرجوه علي جبل الزيتون قائلين له يا معلم‏,‏ هذه المرأة ضبطت وهي تزني‏,‏ وقد أوصانا موسي في شريعته بإعدام أمثالها رجما بالحجارة‏,‏ فما قولك أنت؟‏(‏ يوحنا‏5,4/Cool‏ ـ فلما لم يجبهم عليه السلام إلي ما يريدونه‏,‏ وقد أرادوا إحراجه‏,‏ عادوا يلحون بالسؤال‏,‏ فاعتدل عليه السلام وقال لهم‏:‏ من كان منكم بلا خطيئة فليرمها أولا بحجر‏,‏ فلما سمعوا هذا الكلام انسحبوا جميعا واحدا تلو الآخر‏!!!.(‏ يوحنا‏5/8‏ ـ‏9).‏

    وصف السيد المسيح عليه السلام ـ القاضي الظالم الذي لا يخاف الله وأحجم ردحا عن إنصاف أرملة من خصمها‏,‏ ثم قبل أخيرا لا لشئ إلا تحاشي أن تصدع رأسه‏!!,‏ هذا القاضي وصفه السيد المسيح نقلا عن الرب‏:‏ اسمعوا ما يقوله القاضي الظالم‏:‏ أفلا ينصف الله مختاريه الذين يصرخون إليها نهارا وليلا؟ ـ أما يسرع في الاستجابة لهم ـ أقول لكم إنه ـ أي يسوع ـ ينصفهم سريعا ـ ولكن عندما يعود دين الإنسان‏,‏ أيجد إيمانا علي الأرض؟‏!!.(‏ لوقا‏6/18‏ ـ‏Cool.‏ وفي سيرة نبي القرآن عليه السلام‏,‏ العديد من المواقف والمشاهد التي ناب فيها للدفاع عن أصحاب الحق‏,‏ وجاوز الدفاع بالكلمات إلي الدفاع بالأعمال‏,‏ والمواقف‏,‏ لم يصرفه عن ذلك صارف أو يحجزه عن القيام بهذه الرسالة حاجز‏,‏ ولم ترده أو تخيفه بطشات الطغاة الذين اعتادوا الظلم ولا يرضيهم أن ينتصر أحد للحق والعدل ورد المظالم‏..‏ هذا الطغيان وعدم سواء الموازين هو الذي جعل المحاماة فرض كفاية‏,‏ وهو الذي صدر عنه رسول القرآن حين تصدي للدفاع عن الأراشي وانتصر له من أبي جهل زعيم الطغيان والطغاة واستخلص له حقه منه‏..‏ فقد ذهب الأراشي إلي منتدي قريش يستعين بكبارها علي أبي جهل الذي ابتاع منه إبلا ويماطله في الوفاء بثمنها‏,‏ فهزأ طواغيت قريش بالرجل‏,‏ وانتصف له النبي عليه السلام‏,‏ وذهب به إلي أبي جهل واستخلص للرجل حقه منه وأجبره راغما علي الوفاء به إليه‏.‏

    إن المحاماة ـ حتي بتعبيرها المعاصر ـ فرض كفاية ينتسب في الإسلام إلي شجرة وارفة هي مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏,‏ الذي فيه يقول الحق تبارك وتعالي‏:‏ ولتكن منكم أمة يدعون إلي الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون‏(‏ آل عمران‏/104).‏
    ‏(‏للحديث بقية‏).‏
    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    09عال9 رد: رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية السلسله كاملة جمعها محمد راضى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الإثنين أغسطس 03, 2009 7:13 pm

    رسالة المحاماة والأديان‏(4)‏
    بقلم ‏:‏ رجائي عطية
    ليس يكفي في بيان مرجعية المحاماة في الإسلام أن تنسب إلي قاعدة أن الأصل في الأشياء الإباحة‏,‏ وهي قاعدة أصولية مستمدة من مبدأ أن كل ما لم يقم دليل شرعي علي نقضه أو تغييره يبقي علي حكم الأصل‏,‏ إباحة أو حظرا‏,‏ ولا أن تعزي إلي الاستصحاب كمصدر من مصادر الشرع الإسلامي الذي سن أن الأصل في الأشياء الإباحة مالم ينهض دليل ينقضها‏.‏

    ذلك أن مرجعية المحاماة في الإسلام تتجاوز مجرد الإباحة إلي الواجب الذي يجعل منها فرض كفاية ينتسب في الإسلام إلي شجرة وارفة عميقة الجذور ممدودة الفرع هي مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏..‏

    وهو مبدأ مستمد من نصوص صريحة بالقرآن والسنة‏,‏ ومستمد أيضا من جوهر الإسلام الذي أراده الله دينا موجبا للعالمين يتغيا صالح الحياة والأحياء‏,‏ ويحض كل حي ـ بمنظومة قيمه ومبادئه وأحكامه ـ أن يكون قوة فاعلة‏,‏ موجبة ومعطاءة‏,‏ تنشد بقصاري مستطاعها تجميل الحياة بسيادة الحق ونصره ومقاومة الباطل ودرئه‏!!‏ التنافس بين الناس حقيقة أبدية تذهب بهم أشتاتا قد تصل إلي حد التناحر والتصارع‏,‏ وضرب الناس بعضهم ببعضهم‏,‏ واختلاف مصالحهم ونوازعهم‏,‏ يجعل من الجنوح واقعا حادثا لا مناص من التسليم بحصوله‏,‏ ولا مندوحة ايضا عن السعي الواجب إلي مقاومته‏..‏ فليس كل آدمي يحتكم في منافسته أو مصالحه او اعراضه أو رغابه أو امانيه إلي سنن الحق والعدل والانصاف‏,‏ وليس كل آدمي يلتزم في تحقيق مراده بمنظومة القيم والاخلاق‏,‏ أو يتوسل إلي هدفه بالوسائل القويمة‏..‏ نعم قد لا يتبع الكل مقولة إن الغاية تبرر الوسيلة‏,‏ وقد يستنكفها البعض‏,‏ ولكن الأثرة حاكمة لطبائع البشر‏,‏ متحكمة في الكثير من نوازع وخطط وسلوك الناس‏..‏ ومالم تردع هذه النوازع قوة من دين‏,‏ وزاجر من سلطان‏,‏ فإن جنوح الجانحين أو المستقربين له لا يقف عند حد‏,‏ ويودي بحياة الكل إلي اضطراب وفساد وشرور ومظالم‏!!‏

    هذا الرادع أو الوازع‏,‏ ليس موفورا في كل الأحوال‏,‏ فليس كل الناس علي هداية واحدة أو نصفة واحدة‏,‏ ولست عيون أو أدوات السلطان قادرة في كل الأحوال علي تتبع جموحات وانفلاتات وشطحات وغرور ومفاسد الجانحين‏,‏ فكان مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ركنا واجبا لرتق وجبر الثغرات التي ينفذ منها ذوو النفوس الضعيفة والوسائل الملتوية‏..‏ يلاحق هذا المبدأ جنوح الجانح الذي لم يوقفه وازع من دينه ونفسه‏,‏ وخطيئة الجامح الذي يستتر بخطيئته وجرمه عن عيون السلطة‏!‏ هذه القاعدة التي يقول الإمام الغزالي إنها القطب الأعظم في الدين‏,‏ أوردها القرآن المجيد في آيات صريحة آمرة دلت علي وجوب ومكانة وجدوي وثمار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في إصلاح حياة الناس‏..‏ في وجوبها يورد القرآن المجيد‏:‏ ولتكن منكم أمة يدعون إلي الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون‏.(‏ آل عمران‏104)..‏ والايجاب ظاهر في قوله تعالي‏:‏ ولتكن‏..‏ وظاهر أيضا في الحديث النبوي الذي فيه يقول نبي القرآن‏:‏ والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده ثم لتدعن فلا يستجيب لكم‏.‏ أو في حديث‏:‏ الساكت عن الحق شيطان آخرس‏!!‏ والأفضلية أو الخيرية غير معقودة في القرآن لجنس أو عرق أو جاه‏,‏ وإنما هي بفضيلة الايمان الذي إليه مناط العناية بالاستباق إلي الخيرات واعتناق المعروف والدعوة إليه ومقاومة المنكرات‏..‏ يقول العليم الحكيم‏:‏ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر‏..(‏ آل عمران‏110)‏ ـ ووصف المؤمنين بأنهم الذين‏:‏ يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين‏.(‏ آل عمران‏114)..‏ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر‏...(‏ التوبة‏71)..‏ والمؤمنون مأمورون بأن يتساندوا في البر والتقوي دون الإثم والعدوان‏:‏ وتعاونوا علي البر والتقوي ولا تعاونوا علي الإثم والعدوان‏.(‏ المائدة‏2).‏

    واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية‏,‏ ينهض به الأكفاء ويسقط بقيامهم به عن الآخرين‏,‏ والكفاية في المحاماة كفاية مفترضة من معني المحاماة ذاتها‏,‏ لأنها نيابة تختار الأقدر والأعلم والأبلغ والأصلح للدفاع عن الأصيل‏,‏ ولولا هذه الكفاية والمقدرة لما كانت المحاماة‏..‏ قديما وقت بساطة الحياة وبساطة الأقضيات ويسر الإلمام بالحقائق واستيجاد حلول المنازعات أو تعقب الجناة ـ كان اللجوء للمحاماة أو لفكرة النيابة في الدفاع ـ لجوءا محدودا‏,‏ ثم أخذت محدوديته تكسر الطوق وتتحول إلي ما يكاد أن يكون ضرورة لمواجهة تعقيدات الحياة وصعوبة القضايا وهبوط الخامة البشرية وصعوبة الاهتداء إلي الحقيقة وسط غابة من الأشواك الساعية لطمسها أو محاصرتها أو تغييبها أو المخادعة عنها‏,‏ وما يستتبعه ذلك ويستلزمه من إحاطة بمنظومة واسعة من العلوم والمعارف لا يستغني عنها المبحر في هذا العالم المخيف ليستخلص الحقيقة ويضيء شمعة تهدي العدالة إلي الغاية التي تنشدها‏..‏ هذا السعي الذي تسعاه ويجب أن تسعاه المحاماة‏,‏ هو سعي للإصلاح المأمور به في القرآن‏:‏ لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو اصلاح بين الناس‏.(‏ النساء‏114)..‏ هذا الاصلاح مهجته العدل الذي اليه يسعي المحامي مع القاضي وعليه أقام الله السموات والأرض ووضع الميزان‏(‏ الرحمن‏7‏ ـ‏9),‏ وأرسل به سبحانه وتعالي الأنبياء والرسالات ليقوم الناس بالقسط‏(‏ الحديد‏25)..‏ إقامة صرح العدل الذي يسعي ويجب ان يسعي اليه المحامي ـ هو إقامة للحياة ذاتها علي أسس آمنة صحيحة تستقيم وتستوي بها وعليها حياة الناس ليحيوا في طمأنينة وأمن وسلام‏,‏ لا يتغول أحد علي آخر ولا يفتات عليه أو يجور علي حقوقه‏!(‏ للحديث بقية‏)‏
    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    09عال9 رد: رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية السلسله كاملة جمعها محمد راضى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الإثنين أغسطس 03, 2009 7:15 pm

    رسالة المحاماة ـ لماذا؟‏(5)‏
    بقلم ‏:‏ رجائي عطية
    رب سائل يسأل‏,‏ لماذا المحاماة والقاضي مؤهل بذات المؤهل الذي يحمله المحامي‏,‏ ثم هو محايد جامع بحكم طبيعة عمله ومايمر عليه كل يوم لخبرات عديدة متنوعة‏,‏ يصادفها وتصادفه منذ يبدأ عمله من أول السلم القضائي‏.‏
    وتضيف إليه كل يوم جديدا يتنوع بتنوع الحياة والمشاكل والأقضيات‏,‏

    وبتنوع المواقع التي يتقلب عليها بين النيابة والقضاء‏,‏ وما يعرض فيها من منازعات لاتقع بمتغيراتها تحت حصر‏,‏ ثم إن القاضي ممسك بالميزان لاينحاز إلي خصم ولا يمالي أحدا أو يميل إلي غير الحق والعدل الذي ينشده في تجرد وحياد تام دون مأرب أو غرض أو هوي‏!‏ هذه الحقائق لاتغني عن المحاماة‏,‏ ولا يغني عنها انصراف القاضي التام إلي عمله‏,‏ وأخلاصه فيه‏,‏ وسعة صدره في الاستماع إلي حجج وبراهين وطلبات الخصوم‏,‏ ذلك أن المحاماة لاتنبع الحاجة إليها من تشكك أو افتراض لعدم اكتمال منظومة عدل القاضي وحياده وسعة صدره‏,‏ فذات هذه المفترضات توجب المحاماة ولاتستغني عنها‏,‏ فالقاضي بمبدأ الحيدة محكوم مقيد بحدود لايجيز القانون له أن يتخطاها وإلا فقد الصلاحية لنظر الدعوي‏,‏ فهو لايقضي بعلمه‏,‏ بل يتوجب عليه التنحي عن نظر الدعوي إن سبق إلي علمه ما يتصل بها إيجابا أو سلبا‏,‏ والقاضي مقيد بإطار الخصومة المعروضة عليه‏,‏ ليس متاحا له أن يعرف ما قد يدور حولها وفيها مما ليس معروضا عليه‏,‏ وغير متاح له أن يتجاوز المعروض للتنقيب والبحث وسبر وكشف أغوار ما هو مطروح أمامه‏,‏ وإنما هو إلي منصته يمسك بالميزان وقد يتحرج ـ توكيدا لحياده ـ من أن يفتش عما عساه يكون محجوبا وراء الأستار‏,‏ أو أن يتدارك قصور خصم في بيان حجته ودليلها رغم أنه صاحب حق قد يستشعره القاضي ولكنه لايملك أن يحل نفسه محله إتباعا لمبدأ الحياد والمساواة في مجلس قضائه‏,‏ وقد يحول زحام القضايا دون الالتفات إلي الفروع والجذور والأعماق وما يستوجبه من بحث وتنقيب وتفتيش وتحقيق‏!‏ لزوم المحاماة ينبع ـ فضلا عن شجرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ من أن المحامي محلق متخفف مما يتقيد به القاضي‏,‏ فعلم المحامي ـ حتي بدقائق وخلفيات النزاع ـ هو زاد المحامي وسند وجوب المحاماة‏,‏ وليس داعيا لعدم الصلاحية الذي يعرض للقاضي إن كان عالما بما هو معروض عليه‏..‏

    من هذا الزاد يغترف المحامي ليضفره مع منظومة علمه وثقافته ومعارفه وموهبته وقدرته الاقناعية وليجدل من هذا كله ما يجلي الحقيقة إلي القاضي ويعينه علي بلوغ غايته‏,‏ كذلك فإن المحامي يتاح له بحكم عكوفه علي قضية واحدة ـ وليس مئات القضايا‏!‏ ـ أن يتفرغ تفرغ عبادة إلي واقع القضية وخلفياتها وجذورها وأعماقها ووقائعها ودوافعها وبيناتها وشهودها وأهواء ومشارب أصحاب الكلمة فيها ـ شهادة أو خبرة ـ ليكشف للقاضي المقاصد والنوايا‏,‏ والأغراض والأهواء‏..‏ لا يستطيع القاضي بموقف الحياد الذي يلتزمه أن يحل نفسه محل الخصم ليرتب له دفاعه أو يصنف ما من مصلحته إبداؤه أو حجبه أو إغفاله‏,‏ فتقارع الحقوق أو المواقف في ساحة العدالة يوجب علي كل طرف في الخصومة أن يرتب دفاعه بما يجلي حقه‏,‏ وأن يتلافي ما قد يستغله خصمه لطمس الحقائق أو التشويش عليها‏,‏ من أجل ذلك كان حق الصمت من وسائل دفاع المتهم‏,‏ دون أن يحسب قرينة علي ضعف موقفه‏,‏ وكان تعليق إستجواب المتهم أمام المحكمة رهينا بموافقته وموافقة محاميه‏,‏ لأنه الأقدر علي حساب مصلحته في معترك التقاضي وهجوم الأطراف الأخري التي قد تتحين الفرصة لتمسك بمهنة أو أخري قد لا يدرك الاصيل كنهها او احتمالاتها وذلك كله وغيره مما يدور في فلك الخصومة لايملكه القاضي ولا يبيح لنفسه أو يبيح له القانون أن يحل نفسه محل هذا أو ذاك من أطراف الخصومة أو ينوب عنه في تستيف وعرض دفاعه‏,‏ ففضلا عن أن هذه النيابة غير قائمة‏,‏ فإن الفضالة فيها ربما تأتي بنقيض مقصودها فتضر ولاتنفع‏,‏ ثم هي تفقد القاضي الحياد الذي يلتزم به وربما ساقت دون أن يقصد إلي زعزعة طمأنينة الطرف الآخر إلي حياده أو دعت إلي الظن في ميله‏!‏ وهنا تتجلي رسالة المحاماة التي تتحرك بغير حواجز أو حوائل‏,‏ وتستخرج كنوز الحقيقة وتبسطها واضحة جلية فتساعد علي أرساء العدل‏..‏ هذا السعي المتاح للمحامي المحلق ـ إذا إستقام قصده وعمله ـ لايتاح للقاضي ولايملك ظروفه أو أدواته‏!‏ فليس في مكنة القاضي أن ينقب حول كل شاهد ليتعرف علي عدالة ومعادن وخلفيات الشهود ليستوثق من أنهم يصدق عليهم ما أمر به القرآن المجيد‏:‏ وأشهدوا ذوي عدل منكم‏(‏ الطلاق‏/2)..‏ المحامي المحلق يستطيع أن يجمع المعلومات الصحيحة وأن ينشدها في مظانها‏,‏ ومن أي موطن يريد‏,‏ وأن يلملم أطرافها ليقدمها إلي قاضي الدعوي لتنير له طريقه‏,‏ والمحامي يعوض بعلمه ومعارفه وخبرته ـ قصور الأصيل الموكل الذي قد لاتتيح له معارفه أو وقته وشواغله الالمام بجوانب النزاع‏,‏ والامساك بدقائقه وبراهينه وأدواته ـ وكلها عوالم مفتوحة لعلم المحامي وخبرته‏,‏ ومفتوحة لموهبته وحجته وقدرته علي الاقناع من واقع هذا كله بما يتغياه‏!‏
    هذه القدرة والأستاذية هي أساس مشروعية ولزوم ووجوب المحاماة‏,‏ فهي علة لجوء الأصيل إلي المحامي الوكيل‏,‏ ولو استطاع أن يحل محله ما وكله‏!‏ فلايستوي الناس في مثل هذه القدرات‏..‏ يقول القرآن المجيد‏:‏ وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لايقدر علي شيء وهو كل علي مولاه أينما يوجهه لايأت بخير هلي يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو علي صراط مستقيم‏(‏ النحل‏/76)‏ هذه القدرة هي أيضا حكمة دور المحاماة أمام القضاء‏,‏ فلم تفرض التشريعات دور المحاماة ترفا ولاعبثا‏,‏ وإنما صدرت في ذلك عن إقتناع موضوعي بأن المحاماة تضيف وتكشف وتضيء‏,‏ وأن هذه الاضافة والكشف والاثارة لا تتأتي إلا لذوي الكفاية والقدرة والأستاذية‏,‏ ويفقد المحامي سند رسالته حين يفرط في هذا المعني أو يقعد عن جمع العلم والمعارف والخبرات التي تجعله أستاذا بحق قادرا بأستاذيته علي هذه الاثارة والاضافة‏!‏ للحديث بقية
    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    09عال9 رد: رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية السلسله كاملة جمعها محمد راضى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الإثنين أغسطس 03, 2009 7:16 pm

    رسالة المحاماة‏(6)‏
    بقلم ‏:‏ رجائي عطية
    ماكانت رسالة المحاماة إذن‏,‏ ولاينبغي أن تكون‏,‏ تزيينا للباطل أو دفاعا عن ظلم أو مناصرة في غرض‏,‏ وإنما هي وسيلة للهداية إلي الحق والصواب والإنصاف‏,‏ لايخرجها عن ذلك جنوح جانح لا يعي أو لايلتزم بعميق رسالتها‏,‏ وأنها طاقة نور ترشد وتهدي وتسعي إلي الحق فيمن قال القرآن فيهم‏:‏ وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون‏.(‏ الأعراف‏181)..‏ كان هذا هو دور المحاماة كنيابة في الدفاع عن الغير قبل نحت اللفظ الحالي‏,‏ وهو هو دور المحاماة في زماننا وفي الزمن القابل‏...‏ تري صورة من هذه النيابة للدفاع عن الغير في قصة الرجل الصالح الذي تصدي للراغبين في قتل موسي عليه السلام‏,‏ فوقف يقول لهم فيما روي القرآن المجيد‏:‏ أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم‏....‏؟‏!(‏ غافر‏/28)‏ ـ ثم يمضي في دفاعه مقرعا الظالمين فيقول لهم ما يردعهم ويثنيهم به‏:‏ ياقوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا؟‏!(‏ غافر‏/29)...‏ ونري هذه النجدة التي تنبع منها المحاماة في وقفة الصديق أبي بكر رضي الله عنه‏,‏ حين وقف لكفار وطواغيت قريش يردهم ويصد أذاهم عن رسول الله عليه السلام‏....‏ فقد انتهز الطغاة والسفهاء موت أبي طالب ثم خديجة‏...‏ ونكول أبي لهب عن الحماية المدفوعة بالنعرة القبلية‏.‏ واجتمعوا علي النبي عليه السلام بالكعبة وهو يصلي إلي ربه‏...‏ هذا يجأه وهذا يدفعه بعنف‏.‏ والبعض يقول له ساخرا‏:‏ أنت الذي جعلت الآله إلها واحدا؟‏!...‏ ويتجرأ عليه عقبة بن أبي معيط فيحاول خنقه بثوبه‏!...‏ فما إن يري أبو بكر هذا المشهد المفزع حتي يطير إلي الرسول ولا يبالي بتجمهر الطغاة‏,‏ ويدفعهم دفعا شديدا عن رسول الله وهو ينتهر المعتدين بمقولة القرآن‏:‏ أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات؟‏!‏

    من قديم أيضا اقترنت النيابة عن الغير بالعقل والحجة‏,‏ مثلما اقترنت بالمروءة والنجدة‏.‏ ففي قصة يوسف مع امرأة العزيز آية علي نباهة النيابة وفصاحة الحجة وبراعة الاستدلال‏...‏ وكلها الأدوات اللازمة للمحاماة بتعيير العصر‏..‏ يروي لنا القرآن المجيد كيف احتالت امراة العزيز بعد أن خاب سعيها وجفل يوسف من دعوتها له وإقبالها عليه حين رأي برهان ربه‏,‏ فاستبقت إلي زوجها العزيز تتشكي كاذبة مضللة تريد أن تستعديه علي من اعتصم بربه وعصي رغبتها‏,‏ فتفتري عليه ـ وهي الجانيه‏!‏ ـ أنه أراد بها سوءا‏,‏ وتحرض زوجها أن يسجنه ويذيقه العذاب الأليم‏,‏ وقد كان يمكن لهذا البهتان أن يصل إلي مآربه لولا قيض ليوسف حكيم من أهلها كان من المؤمنين بالنجدة الهادين بالحق‏,‏ القادرين علي الاستخلاص والاستنباط والاستدلال بالدليل المادي ليشهد علي صدق أو كذب الادعاء القولي‏:‏ هل يوسف ـ كما تقول ـ هو الذي أراد بها سوءا‏,‏ أم أنها هي التي راودته عن نفسه كما يقول يوسف؟‏!..‏ فإذا بالحكيم يحل للعزيز هذه المعضلة المعقدة إزاء قولين متناقضين‏,‏ فيشير عليه فيما رواه القرآن المجيد أن ينظر في قميص يوسف إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين‏,‏ وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين‏...(‏ يوسف‏27,26)...‏ هذا الاستدلال هو الذي أتاح للعزيز الترجيج بين القولين‏,‏ وأبرأ ساحة يوسف الصديق من تهمة المرأة الباطلة‏.‏

    لم يكن يوسف هو صاحب الحجة التي برهنت علي براءته‏,‏ وإنما هيأت له المقادير من يبدي عنه حجة درأت عنه اتهاما باطلا‏...‏ هذه النيابة عن الفرد والدفاع عنه‏,‏ قد تتسع فتكون دفاعا عن المجموع‏,‏ فتصل إلي غاية الغايات في التعبير عن شجرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ

    النيابة للدفاع الغير بعامه‏,‏ ليست تحديا لعلم الوالي أو القاضي‏,‏ وإنما هي عون له علي الاهتداء إلي الحق الذي يبغيه وينشده‏...‏ فلا يستغني عاقل ـ واليا أو قاضيا ـ عن المشورة الصادقة‏,‏ فلم يكن الفاروق عمر علي نباهته وفطنته وعدله‏,‏ يستغني عن الرأي والمشورة‏,‏ وهل القائل في سداد فتاوي الإمام علي‏:‏ لولا علي لهلك عمر‏...‏ أتته وهو أمير للمؤمنين امرأة مدفوعة بخشية علي دينها وخوف من الوقوع في الإثم أو الفتنة لعلة في زوجها‏,‏ فبدأت عرض قضيتها بالثناء علي عفة زوجها ودينه وكرمه وتقواه‏,‏ ثم حال الحياء بينها وبين الإفصاح عن علة شكواها فأحجمت وانصرفت وهي مودعة بثناء الفاروق علي تنويهها بكريم خصال زوجها‏,‏ بيد أن محاميا أريبا بتعبير العصر‏,‏ هو كعب بن سور الأزدي ـ كان بمجلس أمير المؤمنين‏,‏ فلم يغب عنه ماغاب عن الفاروق‏,‏ فراجعه قائلا‏:‏ يا أمير المؤمنين‏,‏ لقد أبلغت في الشكوي إليك‏...‏ فسأله عمر‏:‏ ومااشتكت؟‏...‏ فأجابه‏:‏ زوجها‏!...‏ وأمام حجة كعب وماألمح إليه‏,‏ نادي عمر أن يردوا عليه المرأة‏,‏ فلما عادت واستنطقها مشجعا‏,‏ باحت بما منعها الحياء من البوح به إنها شابة تبتغي ماتبتغي النساء‏!‏

    هذا المشهد لايوري فقط ببراعة الاستنباط وعراضة الاستدلال ـ وهما مجال ابداع المحامي فيما يعرضه علي القضاء‏,‏ وإنما يوري أيضا بمصدر آخر من مصادر وجوب المحاماة‏,‏ حين تحول الحواجز الشخصية بين الأصيل وبين الافصاح عما يريد‏:‏ ناهيك بالافصاح عنه بكفاءة واقتدار وإقناع‏,‏ وذلك جعل ولايزال يجعل من المحاماة رسالة ينبغي أن تبذل بمعانيها السامية وبأستاذيتها الواجبة لتعين علي سواء الموازين بين الأحياء‏.‏ للحديث بقية
    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    09عال9 رد: رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية السلسله كاملة جمعها محمد راضى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الإثنين أغسطس 03, 2009 7:17 pm

    رسالة المحاماة‏:‏ الأخطار والضمان‏!(7)‏
    بقلم ‏:‏ رجائي عطية
    فيما عدا رجال الجيوش وقوات الأمن‏,‏ في حالة الاشتباك‏,‏ لا تجد أبناء مهنة يتعرضون لما يتعرض له فرسان المحاماة من محاذير وأخطار تأتيهم في مباشرتهم لرسالتهم من كل جانب‏,‏ ما بين خصم يناويء وينتظر فلتة لسان‏,‏ ونيابة تنظر بغير عين الرضا وتحشد إمكانياتها لمحاصرة ودرء ما يسعي المحامي إليه‏:‏ وما بين موازين عديدة يعملها القاضي يغدو إزاءها المحامي كالقافز فوق الأشواك أو الباحث عن موطيء أمان في حقل ألغام‏!!..‏

    ويجري المحامي حسابات هذا كله علي عجل في صفحة وجدانه‏,‏ محتملا فيه مخاطر وضغوطا وفلتات الارتجال‏,‏ وهو قوام المرافعات الشفوية التي يحشد فيها حصاد فكره ودراسته للقضية ومداخل وطرق الاقتراب منها والاقناع بها‏,‏ مراقبا في الجلسة من محيط موزع المشارب تحتشد بهم ساحات الجلسات ما بين راض وكاره وضيق ورافض ومتربص‏,‏ مطالبا وسط هذه الأعاصير بأن يحسن تقديم مسرحيته الاقناعية ـ إن جاز التعبيرـ والتي ينهض وحده بأدوارها الثلاثة‏:‏ فهو مؤلف النص والمخرج‏,‏ والمؤدي أيضا‏..‏ وكثيرا ما ينزل أداؤه علي آخرين منازل الصاعقة محدثا الرفض وربما الكره والعداوة‏,‏ بل كثيرا ما يدفع المحامي ثمن مناضلته لأداء رسالته من مصالحه وحريته وأحيانا حياته نفسها‏!!.‏
    في عام‏1793/1792‏ ـ ومقصلة الثورة الفرنسية تحصد الرقاب والأرواح‏,‏ لا تفرق أو لا تفرق كثيرا بين مذنب وبريء‏,‏ وتتلوث بالدماء صفحتها مع الحرية التي انفجرت من أجلها‏,‏ لا تتهيب المحاماة من أن تقف مؤدية رسالتها في الدفاع حتي عن الملك لويس السادس عشر الذي أجمعت الثورة علي إستئصاله في محاكمة أرادت أن تكون شكلية وتمسك فرسان المحاماة بأداء واجبهم العظيم فيها أيا كانت المخاطر‏.‏

    وقف برييه الكبير يصرخ في وجه محكمة الثورة الفرنسية والمقصلة في عنفوان عملها تحصد عشرات الرءوس كل يوم ليقول للمحكمة عبارته الشهيرة‏:‏ إنني أتقدم إليكم بالحقيقة‏,‏ وبرأسي أيضا‏..‏ فتصرفوا في إحداهما بعد أن تستمعوا للأخري‏!!..‏ بينما ماليزيرب العظيم وقد جاوز السبعين يتقدم من تلقاء نفسه إلي رئيس الجمعية العمومية التي اعتزمت محاكمة لويس السادس عشر ـ بخطاب يقول فيه‏:‏ لا أدري هل المجلس سيعين للويس السادس عشر محاميا يدافع عنه؟ أم أنه سيترك له حرية الاختيار‏.‏ فإن كانت الثانية‏,‏ فإنني أحب أن يصل إلي علم لويس السادس عشر أنه إذا وقع إختياره علي لأداء هذه المهمة فإنني علي إستعداد لأن أبذل في أدائها كامل جهدي‏.‏ لقد دعاني مرتين لأكون وزيرا وقت أن كان ذلك المركز مطمع أنظار الطامعين‏,‏ لذلك أعتقد أنني مدين بالوقوف إلي جواره في الوقت الذي يري الكثيرون ما ينطوي عليه ذلك من تضحية ومجازفة‏!!.‏
    لم يكن ماليزيرب العظيم من أنصار ما كان يجري إبان الملكية الآفلة‏,‏ فهو حبيب للشعب محب للعلم مغرم بالأدب‏,‏ ورفض في المرتين دعوته للاشتراك في مجلس الحكم‏,‏ وتخلي عن المنصب مرتين أخريين‏,‏ وكان من أشد المهاجمين لاساءة إستخدام السلطة‏,‏ المنتصرين لكرامة وإستقلال المحاماة وعلي رأس المطالبين بإلغاء خطابات السجن بغير محاكمة‏..‏ وإلي ذات هذا النظر السامق في إحترام حق الانسان في الدفاع عن نفسه ـ صدر ماليزيرب في إقدامه ومعه مساعده علي الدفاع عن الملك المخلوع‏!!.‏

    لم تمنعه ظروف المحاكمة‏,‏ ولا القاعة الغاصة بأعداء الملك والملكية‏,‏ والجماهير الصاخبة‏,‏ ولا شبح المقصلة المخيم‏,‏ ولا سطوة هيئة المحكمة ـ من أن يخاطب الملك المخلوع بالأدب اللائق بمنصبه الذي كان‏,‏ فعيل صبر المحكمة فقال له رئيسها في غلظة وجفاء‏:‏ من أين لك تلك السلطة التي تخولك أن تدعو لويس كأبيه باللقب الذي ألغيناه؟‏!..‏ لم يهب ماليزيرب أن يقول‏:‏ من ازدرائي لما يجري هنا‏,‏ ومن حياتي كلها‏!‏ إلي جواره وقف دي سيز يقول لمن نصبوا من أنفسهم قضاة ـ خارج الشرعية ـ لمحاكمة لويس السادس عشر‏:‏ إنني أجول ببصري أبحث عن قضاة فلا أجد إلا خصوما‏!!..‏ لم ترهب فارسي المحاماة المقاصل المنصوبة في كل مكان‏,‏ ولا أنهار الدماء الجارية بغير عقل‏,‏ فوقف دي سيز ينادي بأعلي صوته إن الخصم لايجوز أن يكون حكما‏,‏ وإن القاضي إذا أبدي نظره في القضية المعروضة أمامه لم يعد جائزا له أن ينظرها أو يحكم فيها‏!!..‏ كان الفارسان يعلمان النتيجة المحتومة لهذه الجرأة في أداء رسالة الدفاع‏,‏ ولايستبعدان أن تحصد المقصلة رأسيهما كما حصدت رءوس غيرهما‏,‏ وقد ـ للأسف ـ كان‏!!!‏ فلم يمض عام علي إعدام لويس السادس عشر حتي أعدم ماليزيرب وأفراد أسرته‏,‏ ولحق به دي سيز جزاء القيام بواجب المحاماة وقربانا لحريتها واستقلالها وفروسيتها‏!‏

    بغض النظر ـ وهو لا يغض‏!‏ ـ عن سقطة الهلباوي في دنشواي التي ظل يدفع ثمنها ما بقي من عمره‏,‏ وبعد رحيله‏,‏ وسقطه بطرس باشا غالي وفتحي بك زغلول اللذين قبلا رئاسة وعضوية المحكمة المخصوصة التي أحالوا إليها‏59‏ متهما‏,‏ وحكمت حكما ظالما نص فيه علي أنه لا يقبل الطعن ـ قضت فيه بإعدام أربعة‏,‏ وبالأشغال الشاقة المؤبدة علي اثنين‏,‏ وبالأشغال الشاقة‏15‏ سنة علي واحد‏,‏ وبالأشغال الشاقة سبع سنين علي ستة‏,‏ وبالحبس سنة مع الشغل علي ثلاثة مع جلدهم خمسين جلدة‏,‏ وبجلد خمسة خمسين جلدة‏,‏ علي أن يتم الاعدام والجلد علي الملأ بقرية دنشواي مقابل ضابط لم يقتله أحد وإنما قتلته ضربة شمس‏!!..‏ يومها وقفت مصر كلها دامعة محزونة إزاء بطش وجبروت الاحتلال‏,‏ بينما نهض أربعة من فرسان المحاماة فلفتوا بدفاعهم أنظار العالم وهزوا الدنيا وأدموا الضمائر‏!!Sad‏ للحديث بقية‏)‏
    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    09عال9 رد: رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية السلسله كاملة جمعها محمد راضى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الإثنين أغسطس 03, 2009 7:18 pm

    رسالة المحاماة ـ المخاطر والضمان‏(Cool!‏
    بقلم‏ :‏ رجائي عطية
    لاتصل الحقيقة إلي القاضي سهلة ميسورة‏,‏ بل قد لاتصل اليه علي الإطلاق‏,‏ وقد يقيض لها من طلاب الزيف والبهتان أن يحجبوها حجبا كثيفا‏,‏ وأن يطمسوا عليها ويطمسوا أدلتها‏,‏ وقد يصطنعون أدلة كاذبة للإيحاء بغير الحقيقة‏,‏ بينما القاضي علي منصته العالية ـ مع تقيده بحدود الخصومة ـ غير متاح له أن يطلع علي ماجري ويجري وراء أستار الخفاء‏!‏

    حجب الخفاء لطمس الحقيقة وإدخال الزيف عليها ـ تصاحب الخصومة ربما من منبتها ـ فيحتال رجل الضبط لإهدار الشرعية الإجرائية‏,‏ والافتئات بغير سند مشروع علي حريات ومستودعات أسرار الناس‏,‏ وكثيرا ما يلازم ذلك قبض وتفتيش باطلان‏,‏ أو انتزاع اعتراف بالقسر والضغط والتعذيب والارغام‏,‏ وهي وسائل من المحال معها ان تطمئن عدالة عادل إلي صدق الاعتراف ومطابقته للواقع‏,‏ سيما وهو كريه إلي النفس لاتقبل عليه ـ إن أقبلت‏!‏ ـ إلا مضطرة وتغدو صعوبة إثبات الإكراه للحمل علي الاعتراف في أنه قد يقف عند حد الإكراه المعنوي ولايتعداه إلي إكراه مادي يمكن ان يترك علامات وقد تعددت فنون الاكراه المادي وابتدعت فيه اساليب شيطانية يتأبي ان تترك أثرا يدل عليها فتغدو مهمة القاضي في جميع هذه الاحوال مهمة بالغة العسر بل والاستحالة لأن التعذيب فضلا عن فنونه المستحدثة ـ يجري علي ملعب فاعليه محدودا بحدود يتحكون فيها مكانا وزمانا وشهودا حتي ليكاد القاضي يحسه ويلمسه ولكنه لايمسك دليلا عليه‏!!‏ هناك تبدو ويتحكمون ابداعات المحاماة التي تستطيع ان تهدي إلي الحقيقة بجمع الأدلة من مظانها واستخراج الدلالات والقرائن واستنباط المجهول من واقع معلوم يدل عليه ـ علي أن هذه المهمة التي يجاهد المحامي مجاهدة صعبة فيها محفوفة باخطار الوقوع فيما قد يمسكه عليه رجل الضبط الذي من مصلحته ان يتصيد زلة لسان أو جموح عبارة أو سخونة وصف ـ ليدمغه بالسب والقذف أو البلاغ الكاذب‏!!‏ ومن ثم يعرض المحامي الباذل في اخلاص لمغبة المساءلة الجنائية عما عساه يمسكه عليه في سعيه الدءوب لكشف الحقيقة للقاضي‏!!‏ وليس حال شهود الدعوي بأيسر حالا أو أهون مكابدة في المعالجة من إجراءات الضبط فليس كل الشهود علي شاكلة واحدة أو من معدن واحد منهم الصادق والكاذب ومنهم المستقيم والملتوي ومنهم المتجرد والمغرض ومنهم المحايد والمنحاز ومنهم الأمين والخائن ومنهم البرئ والخبيث وهم علي أشكال شتي واغراض شتي ومعادن شتي بل إن أكثر الناس للحق والانصاف كارهون ولذلك وصفهم القرآن المجيد فقال‏:‏ وأكثرهم للحق كارهون‏(‏ المؤمنون‏70)..‏ ولكن أكثرهم للحق كارهون‏(‏ الزخرف‏78)‏ ومنهم كثمود يستحبون العمي علي الهدي‏(‏ فصلت‏17)‏ ومنهم من يجادل في الباطل ولايستحيي من الحق كالذين وصفهم القرآن الحكيم فقال‏:‏ يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلي الموت وهم ينظرون‏(‏ الأنفال‏6)‏ ومنهم من لايريد إلا خداعا‏(‏ البقرة‏9‏ والأنفال‏62)‏ ومنهم من يجترئون علي الكذب والزور ولايقولون إلا منكرا من القول وزورا‏(‏ الحج‏30,‏ الفرقان‏72,‏ المجادلة‏2)‏ فماذا يفعل القاضي ازاء هذه النوعيات بينما اوصاه القرآن ألا يقبل إلا شهادة ذوي العدل والصدق والاستقامة والامانة فقال عز من قائل‏:‏ وأشهدوا ذوي عدل منكم‏(‏ الطلاق‏2)‏ علي أن حرص القاضي علي الاستشهاد بذوي العدل تقابله ظلال كثيفة علي المحامي بحكم تخففه وتحليقه بعيدا عن القيود الشكلية أن يجليها وجلاؤها يمض ويوجع من يكشف الدفاع ستر كذبه أو خداعه أو ميله أو هواه أو بهتانه أو تزييفه أو تزويره أو انحيازه أو حنثه بيمينه‏,‏ وازاحة الستار عن هذا وذاك محفوفة هي الأخري بالمخاطر يغدو أمامها المحامي كالقافز فوق الأشواك سواء فيما يجب أن يستقصيه ويحصله ويفسره ويكيفه أم فيما يلقيه أمام النيابة أو القضاء من قول وحجة وبرهان لاثبات مايمسكه علي الشاهد ويعريه به‏..‏ وهذا بدوره باب ملئ بالمخاطر والألغام فلن يرضي الشاهد ان ينعته المحامي بما كشفه من ستره ولن يوافقه أن يفضح أمره ويعري كذبه وزوره والتواءه وما أيسر أن ينازل المحامي أو ينازله دفاعه بالنيابة عنه بأنه وقع في وهدة السب أو القذف أو البلاغ الكاذب فيغدو سيف الخطر مشهرا عليه في جميع أحواله محققا أو مستقصيا أو باحثا أو مترافعا‏!!‏

    بل إن خطاب المحامي للنيابة أو للمحكمة لايخلو من مخاطر زلل اللفظ أو تجاوز العبارة التي ربما عرضته للمسئولية ـ لأنه وهو يسعي للاقناع بما اقتنع به ووقر في خلده لايتحدث حديث المحاضر الهادئ وإنما يتكلم بحماس وتأثر وانفعال المدافع المندمج في قضيته المتفاعل معها الشاعر بأوجاع موكله وبالمخاطر التي يمكن ان تحدق به والحانق أيضا علي تراكمات الزيف والزور والحجب والطمس والالتواء التي يسلكها اعداء الحق الرامون لتزييف الحقيقة والافتئات علي الأبرياء أو الكيل لهم بمكاييل بعيدة عن سنن العدل والانصاف هذه المهمة الدقيقة لايؤديها المحامي ساكن النفس هادئ الخاطر أو متبلد الفؤاد وإنما هي شحنة من المشاعر تموج في صفحة وجدانه وتصاحبه فيما يقول ويوميء ويفعل وليس يدرك هذه المكابدة إلا من يعانيها وهي مكابدة تفتح علي المحامي أبوابا هائلة من المحاذير والاخطار
    ‏(‏للحديث بقية‏)‏
    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    09عال9 رد: رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية السلسله كاملة جمعها محمد راضى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الإثنين أغسطس 03, 2009 7:19 pm

    رسالة المحاماة‏:‏ المخاطر والضمان‏(9)!‏
    بقلم ‏:‏ رجائي عطية
    يتفق الدستور المصري الحالي‏,‏ والدساتير المصرية السابقة‏,‏ مع دساتير العالم المتحضر‏,‏ في إعلاء كفالة حق الدفاع‏,‏ فتجري نصوص الدساتير‏,‏ ومواثيق حقوق الانسان‏,‏ علي اختلاف يسير في الصياغات‏,‏ علي أن حق الدفاع بالأصالة والوكالة مكفول‏,‏ ويجري بذلك نص المادة‏69‏ من دستورنا الحالي‏1971‏ فيقول‏:‏ حق الدفاع أصالة أو بالوكالة مكفول وهذه الكفالة ترتفع إلي التزام علي عاتق الدولة لاترخص فيه‏,‏ يوجب ان يكون لكل متهم بجناية محام يدافع عنه م‏/67‏ من الدستور‏,‏ فإن ضاقت امكاناته المادية عن توكيل محام التزمت الدولة بانتداب محام علي نفقتها للدفاع عنه‏..‏ وهذا الإيجاب لوجود المحامي للدفاع عن المتهمين في جنايات‏,‏ يصدر عن إقرار بحقيقتين‏:‏ الأولي‏:‏ خطر الاتهام بجناية ومايستوجبه هذا الخطر من وجوب الارتفاع بكفالة حق الدفاع إلي درجة الالزام‏,‏ والثانية‏,‏ التسليم بأهمية وجلال رسالة المحاماة‏,‏ وبأن المحامي حامل هذه الرسالة يملك من العلم والمعرفة والمقدرة مالايملكه سواه حتي قدمه الدستور علي الأصيل فلم يبح للأصيل أن ينفرد بالدفاع عن نفسه في جناية‏,‏ بل ولم يجز القانون للأصيل أن ينفرد بقبول استجوابه أمام المحكمة‏,‏ فحظر استجوابه
    إلا بشرط موافقة محاميه ومهما وافق الأصيل‏!!..‏ يملك المحامي بمفرده‏,‏ بل ورغم رغبة موكله المتهم‏,‏ أن يعترض علي استجوابه وأن يقول للمحكمة لا فلا تملك إلا النزول علي اعتراضه والامتناع عن استجواب المتهم‏!‏ وهذا الحق الخطير المعطي للمحامي يصدر عن تسليم والتفات بما لدور المحامي وقدراته من أهمية بالغة تجعل وجوده في قضايا الجنايات لازما لزوم وجوب‏,‏ وتجعل موافقته شرطا لجواز استجواب المتهم في القضايا الجنائية بعامة‏..‏ هذا الوجود الملزم ضمانة قدرها الدستور ومن ورائه القانون لحماية المتهم من مخاطر ومزالق الاتهام واحتمالات ما قد يرد عليه من اصطناع أو تجديف أو إرجاف أو تزييف‏,‏ ومن ثم فتح ابواب الافتئات والظلم والجور والحكم بغير الحق‏!‏

    هذا التقديس الدستوري للدفاع بالوكالة عن طريق المحامين سدنة العدالة وحملة راية الحق‏,‏ لم يتحقق بيسر أو بين يوم وليلة‏,‏ وانما جاء عبر طريق طويل طويل محفوف بالأخطار والمظالم‏,‏ وعبر واقعات هزت ضمير الانسانية لاخطاء جسيمة حصدت فيها أرواح بريئة من أي ذنب أو جريرة‏!!‏ ربما لم تكن تحدث أو بذات البشاعة لو قدر للمظاليم محامون ـ أو محامون جادون أكفاء ـ يدرأون عنهم الالتباس الذي أصاب الحقيقة في أقضيات ضاعت فيها أرواح بريئة‏!‏

    إبان القرن القرن السابع عشر‏,‏ ادان القضاء الانجليزي وحكم باعدام جون وريتشارد ـ بيري ـ ووالدتهما جوان بيري بتهمة أنهم قتلوا من يدعي وليم هاريسون عمدا مع سبق الإصرار والترصد‏,‏ وبعد أكثر من سنتين من تنفيذ حكم الاعدام شنقا ـ ظهر المجني عليه حيا يرزق لم يمسسه سوء‏!!‏

    وفي إيطاليا روع الرأي العام بأنه بعد تسع سنوات من الحكم بالاعدام الذي تخفف لحسن الحظ إلي الاشغال الشاقة المؤبدة ـ روع بظهور القتيل حيا يرزق بعد أن ادين اخوة المتهم بقتله من تسع سنوات‏!‏

    وفي فرنسا‏,‏ وفي قضية غريبة صاحبتها ملابسات خادعة‏,‏ عرفت بقضية مدام بولين‏,‏ روعت الأمة الفرنسية في أواخر القرن قبل الماضي بأنه استبان بعد عشر سنوات ان زوج وشقيق المرأة المسكينة التي حكم عليها بالأشغال الشاقة المؤبدة لم يموتا قتلا بالسم كما اعتقدت المحكمة‏,‏ انما توفيا متأثرين بغاز أول أكسيد الكربون السام المتسرب‏,‏ عفوا الي داخل الدار من قمينة جير حي كانت موقدة بالخلف يوم الوفاة‏,‏ يومها أعيد التحقيق في القضية‏,‏ وتكشفت الحقائق تباعا‏,‏ ووقف لوفافريه‏LEFAVERAIS‏ الافوكاتوا العمومي يدافع بنفسه عن هذه المسكينة التي أمضت بالسجن عشر سنوات ظلما ويطلب لها البراءة تكفيرا عن الخطأ الجسيم الذي وقع في حقها نتيجة عدم إقساط دفاعها حقه‏..‏ بيد ان المحامي الحاضر في إعادة المحاكمة مع الظليمة البائسة لم يشأ أن يترك منصة الدفاع قبل أن يشير الي ان ابنتها التي تركتها في مهد طفولتها قد ظلت هذه السنوات العشر تعتقد أن أمها آثمة بقتل ابيها وخالها‏.‏

    مثل هذه الحادثات التي أقضت ضمير الانسانية‏,‏ كانت وراء رفع وإعلاء وتقديس حق الدفاع والإيمان برسالة المحاماة‏..‏ هذه الرسالة لاينهض بها الخائفون ولا المرتعدون ولا المرتجفون أو المهددون في حرياتهم ومصائرهم‏..‏ من أجل ذلك‏,‏ ورعاية للانسانية والعدالة ذاتها‏,‏ كانت الضمانات التي قررتها الدساتير والقوانين للمحامين كفالة لاداء حق الدفاع اداء جديا يحقق الغاية المعقودة عليه والمنشودة منه‏!‏
    للحديث باقية
    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    09عال9 رد: رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية السلسله كاملة جمعها محمد راضى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الإثنين أغسطس 03, 2009 7:21 pm

    رسالة المحاماة‏!‏ المخاطر والضمان‏!(10)‏
    بقلم‏ :‏ رجائي عطية
    لا تنطوي الحصانة المطلوبة للمحامين في أدائهم لأعمالهم علي أدني مبالغة‏,‏ بل هي ضمانة حقيقية ولازمة وواجبة لحمايتهم حماية تحمي العدالة ذاتها‏,‏ لأن فروسية المحاماة وشجاعتها ونجدتها وقدرتها علي المناضلة من أجل الحق الذي تسعي إليه أو لدرء الخطر الذي تتحاشاه ــ رهينة بما يتوفر للمحامي من سعة الأداء وحماية تسبغ عليه فيها‏,‏ لأن المرتجف الخائف المتوجس لا يقدر علي الأداء ناهيك بأن يقدر علي خوض الصعب‏,‏ ويدل تاريخ المحاماة وما تعرض ويتعرض له المحامون قديما وحديثا‏,‏ علي أن هذه الحصانة لازمة لزوما يجاوز في ضرورته الحصانة المسبغة علي القاضي‏..‏ فالقاضي متحصن علي منصته العالية‏,‏ متوج الهامة بمنصبه المرموق‏,‏ آمن بالاستقلال المتوفر له‏,‏ وبالسلطة التي تؤمنه وتردع كل من تسول له نفسه أن يتطاول علي مقامه أو علي قدسية رسالته‏!‏

    المحامي في مناضلته أعزل‏,‏ إلا من علمه وثقافته وملكاته وموهبته وقدرته ورغبته الصادقة في أداء رسالته‏,‏ بيد أن ذات هذه السمات والقدرات هي هي التي يمكن أن تجر علي المحامي المشاكل وتجلب إليه الأخطار وتعرضه في حريته ومصيره بل وحياته إلي ما لا تحمد عقباه‏!!‏ وأخطر مما يحل بالمحامي إذ اغتيل دوره وتعرض للخطر أو أصابه الأذي وهو يؤدي رسالته‏,‏ إن ذلك ينعكس بالضرورة وحتما علي موكله الذي ينهض بعبئه‏,‏ ومن هنا يغدو التجني علي المحامي تجنيا علي العدالة ذاتها‏!‏

    كان فوكيه المدعي العام الفرنسي يمثل الإتهام في محاكمة ماري أنطوانيت إبان الثورة الفرنسية قبل أن تلتهمه هو ذاته مقصلة الثورة‏!..‏ في المحاكمة كان يصب جام غضبه علي القصر وأهله‏,‏ وعلي الملكة التي أخذ يتهمها بنهر سيال من المخازي‏,‏ بيد أنه فوجيء بمحاميها لاغارد يبدي مرافعة رائعة‏,‏ تفند وتدحض كل المزاعم والإفتراءات‏,‏ ولم يكتف بذلك وإنما ختم مرافعته بمآثر آخذ يحصيها للملكة في حصول الشعب علي حريته‏..‏ لم يطق فوكيه الصبر‏,‏ ولم يستطع التحكم في أعصابه أو الإلتفات إلي الإحترام الواجب للدفاع‏,‏ فنهض محموما ليأمر الحرس بإلقاء القبض علي المحامي الذي ترافع وأجاد ولم ترهبه يد الثورة الباطشة‏!‏ قد كان ذلك كفيلا بأن يردع ترونسون المحامي التالي للدفاع عن الملكة‏,‏ وأن يستمد الحذر والحكمة من رأس الذئب الطائر‏,‏ إلا أن رسالة المحاماة المالئة لصفحة وجدانه المتغلغلة في أعماق ضميره‏,‏ قد دعته لأن يبذل ويبدي ولا يجفل أو يخاف‏,‏ فمضي في مرافعته يرد إتهامات فوكيه بقوة وعنف‏,‏ فما إن انتهي حتي كان الحرس يطبق عليه بأمر فوكيه أسوة بزميله الذي سبق‏!!‏ معظم حادثات التجني علي المحامين‏,‏ تحدث كما رأينا في المحاكم الاستثنائية التي لا يباشرها قضاة ولا يحدها دستور أو قانون‏,‏ ومع ذلك فليس يندر أن تحدث في سواها من المحاكم العادية‏,‏ لأن ظروف الدعاوي والمرافعات وما يلابسها من سخونة واحتدام فضلا عن بشرية رجل السلطة أو النيابة أو القضاء‏,‏ واعتياده ــ وهو بشر‏!‏ ــ علي ممارسة السلطة اعتيادا قد يقلل في صفحة وجدانه إحساسه بوطأتها علي الآخرين‏!..‏ أما في المحاكم الاستثنائية فإن شوكة السلطة تغدو هي كل وجدان قاضيها المتحكمة في سلوكه وتعامله مع الخصوم ومع دفاعهم‏..‏ لا يكاد ينجو أحد من رذاذ هذه الممارسة بصورة أو بأخري‏!!‏

    في محاكمة إبراهيم عبدالهادي‏,‏ الذي قضي بإعدامه مرتين ونجا منهما‏..‏ الأولي خلال ثورة‏1919‏ بتهمة قتله ضباط وجنود الإحتلال ــ والثانية في محاكمته في سبتمبر‏1953‏ أمام محكمة الثورة برئاسة قائد الجناح آنذاك عبداللطيف البغدادي‏..‏حضر معه الأستاذان الكبيران الجليلان مصطفي مرعي وعلي أيوب‏..‏ بيد أن رئيس المحكمة فاجأ المتهم ــ رغم جسامة التهم المسندة إليه‏,‏ بأنه لا يجوز أن يحضر معه إلا محام واحد‏,‏ ويصد الأستاذ علي أيوب صدا عنيفا غليظا حين حاول أن يبدي وجهة نظره‏,‏ فيضطر إبراهيم عبدالهادي اضطرارا إلي الإكتفاء بالإستاذ مصطفي مرعي‏,‏ وتصرف المحكمة الأستاذ علي أيوب رغم اعتراضه واعتراض زميله مصطفي مرعي ورغبة المتهم الذي بدا بلا حول ولا قوة أمام ما يجري‏!!‏

    ذهب المحامي الجليل علي أيوب‏,‏ ولكنه لم يتردد في أن يرسل إلي محكمة الثورة برقية نصها‏:‏ أرجو أن ينال إبراهيم عبدالهادي في محاكمته أمام محكمة الثورة نفس العدالة التي لقيها من المحكمة العسكرية البريطانية عندما حاكمته في ثورة‏1919!!‏

    بيد أن مفاجآت المحكمة لم تتوقف عند صرف أحد المحامين‏,‏ فتعنتت تعنتا لافتا مع الأستاذ مصطفي مرعي وأفسحت المجال علي الواسع لاعتراض سقيم واضح التهافت علي وكالته وحضوره مع المتهم‏..‏ وتتصاعد المناوآت فيوجه رئيس المحكمة نظر مصطفي مرعي فارس المحاماة حين أثار أن الدعوي أحيلت بلا أي تحقيق ــ إلي أنه يبدو أنه غائب عن ذهنه أنه أمام محكمة ثورة‏,‏ ثم يقف فيقول له في جفاء وغلظة‏:‏ اختصر وأوجز في كلامك‏,‏ لابد أن تفهم أن هذه هي محكمة ثورة ولابد أن نبسط الإجراءات والمسألة مش مسألة مماطلة‏!!..‏ وأنه سوف يعقد الجلسة السرية‏,‏ وعبثا تذهب كل محاولات مصطفي مرعي لإيضاح أن الدعاوي لاتحال الي المحكمة بغير تحقيق‏,‏ فيمضي رئيس الجلسة في تعنته حتي أضطر مصطفي مرعي للتنحي مقرونا بعبارات بليغة أبان فيها وهو يلمح إلي علم الثورة المرفرف علي المحكمة‏,‏ أنه قد صار عاجزا تماما عن تأدية واجبه وعمله‏,‏ وأنه مضطر للتنحي والأسي يمزق قلبه‏,‏ فلا يتمهل رئيس الجلسة لحظة‏,‏ ويبادره فورا دون أن يتداول مع عضويه‏:‏ قررت المحكمة قبول تنحي الأستاذ مصطفي مرعي وللمتهم أن يختار من يري للدفاع عنه‏!!‏ ـ ولكن لم يتح للمتهم قط من يدافع عنه‏!!‏
    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    09عال9 رد: رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية السلسله كاملة جمعها محمد راضى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الإثنين أغسطس 03, 2009 7:22 pm

    رسالة المحاماة‏:‏ المخاطر والضمان‏!(11)‏
    بقلم ‏:‏ رجائي عطية
    لم يكن مقصودي‏,‏ ولا كان هدف المقال السابق ـ تقييم الثورة الفرنسية‏,‏ أو تقييم الثورة المصرية ـ ولارواية أحداث قضية محاكمة ماري انطوانيت‏,‏ أو محاكمة إبراهيم عبد الهادي ـ فموضوع المقال محدود بحدوده‏,‏ وهي المكابدات والمخاطرات التي يتعرض لها المحامون‏,‏ أما المحاكمة ذاتها ونتيجتها ومآلها فشيء آخر يخرج عن حدود البحث‏..‏ ومن المعروف أن حكم المحكمة صدر بإعدام إبراهيم عبد الهادي‏,‏ ولكن قائد الثورة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر وقف بشدة وقوة وإصرار وتصميم ضد هذه العقوبة‏,‏ وتمكن حين عرض الحكم من كسر الإجماع المطلوب للمصادقة علي الإعدام‏,‏ فصوت ضد حكم الإعدام وكسر الإجماع اللازم وحمي الرجل من الإعدام‏,‏ وذكر للرجل سابقة بلائه والحكم بإعدامه في ثورة‏1919,‏ بل إن الرئيس السادات الذي كان عضو يمين ذات المحكمة التي قضت بالإعدام‏,‏ عاد بعد ربع قرن وإبان فترة رئاسته فكرم إبراهيم عبد الهادي تكريما خاصا طيره إلي مصر والعالم‏..‏ أعود فأقول إن هذا خارج نطاق ما أنقب فيه حول رسالة المحاماة والمخاطر التي يتعرض لها المحامون‏,‏ والمكابدات التي يكابدونها‏,‏ فليس مرامي هنا ولايتسع المجال لتقييم نظم حكم أو تقييم ثورات أو حتي رواية تفاصيل وتضاعيف المحاكمات‏!‏

    يروي عبد العزيز باشا فهمي شيخ المحامين والقضاة‏,‏ وأول رئيس لمحكمة‏-‏ النقض المصرية عام‏1931‏ ـ يروي في هذه حياتي فصلا عن صداقته الحميمة وزمالة عمره لأحمد لطفي السيد أستاذ الجيل‏,‏ ويروي فيما يرويه وقد تزاملا معا بمكتب واحد في المحاماة ـ لماذا ترك أحمد لطفي السيد المحاماة كارها‏,‏ واشتغل بالسياسة والصحافة راغبا‏..‏ وكيف شكا إليه أنه يسمع من بعض المحتكين بالعمل فحش القول وهجره‏,‏ وأنه يجد من بعض القضاة غلظة‏!!‏

    في ذلك الزمن بمصر ـ في أواخر القرن‏19‏ وأوائل القرن العشرين‏,‏ كانت الهوة واسعة بين المحامين والقضاة‏,‏ أو قل بين بعض المحامين وبعض القضاة‏,‏ فلم يكن كل المحامين علي شاكلة واحدة وتأهيل واحد‏,‏ ولا كان القضاة كذلك‏..‏ فحين أنشئت المحاكم الأهلية سنة‏1884‏ التي وافقت أحكام قوانينها في مجملها أحكام القوانين بالمحاكم المختلطة التي أنشئت سنة‏1875‏ ـ لم يكن الفقه القانوني قد بلغ مبلغا ملائما في مصر‏,‏ إذ لم يكن فيها من متخرجي الحقوق مايكفي لمناصب القضاء والنيابة ناهيك بالمحاماة‏.‏ ولهذا قضت الضرورة بأخذ كثير من القضاة بطريق الإستثناء‏,‏ كما أن المحامين أمام المحاكم الأهلية كانوا في جملتهم من النبهاء الذين لم يدرسوا القوانين الحديثة‏,‏ بل إن إبراهيم الهلباوي أشهر المحامين طرا لم يكن حاملا لإجازة الحقوق‏..‏ وبقي الأمر علي ذلك حتي صدر قانون المحاماة الذي اشترط فيه أن يكون المحامي حاصلا علي ليسانس الحقوق أو شهادة عالية معادلة من مدرسة أجنبية‏!..‏ منذ ذلك الحين بدأ تيار ذوي الشهادات القانونية يغمر القضاء والمحاماة‏,‏ مما ترتب عليه تقارب العقليات بين القضاة والمحامين‏!‏

    علي أن هذا التقارب‏,‏ والإنتماء إلي معهد واحد‏,‏ لم يحل دون سخونة مواجهات وقعت‏,‏ تتناقلها الألسن والروايات‏,‏ وأوردتها بعض المدونات‏..‏ يصب معظمها فيما يمكن أن يتعرض له المحامي من مكابدة وخطر وهو يؤدي رسالته‏,‏ عبر عن ذلك فارس المحاماة الأستاذ الجليل مصطفي مرعي في عبارته الشهيرة‏:‏ غصص هي المحاماة‏!!..‏ كان ذلك إثر موقف محتدم بينه وبين المستشار الجليل محمود عبد اللطيف رئيس إستئناف القاهرة فيما بعد‏,‏ ويفصل بينهما في التخرج عامان‏..‏ فمصطفي مرعي خريج‏1923‏ ومحمود عبد اللطيف خريج‏..1925‏ فلما أن أعيدت الجلسة إلي الإنعقاد ـ بعد هدوء النفوس ـ أبي مصطفي مرعي إلا أن يبدأ حديثه بقوله‏:‏ غصص هي المحاماة‏!!‏

    قد بلغ الجموح أحيانا مايوري بنذير شؤم لوجود المحاماة ذاتها‏,‏ وتدخلت الحكمة في أحيان أخري لإحتواء مايمكن أن يحدث من تداعيات توثر سلبا علي العدالة نفسها‏..‏ ففي واقعة شهيرة تداعت في سبتمبر‏1946,‏ حدث إعتداء من جانب الأستاذ رئيس محكمة مصر الإبتدائية علي الأساتذة المحامين‏:'‏ أحمد حسين‏,‏ وعزيز فهمي‏,‏ وعبد الحميد عبد المقصود‏,‏ فتفجر الموقف في نقابة المحامين وإجتمعت الجمعية العمومية في إجتماع حاشد‏,‏ بيد أن الأستاذ رئيس المحكمة ومعه كبار رجال القضاء والنيابة بادروا إلي دار نقابة المحامين حيث أظهر الأستاذ رئيس المحكمة أسفه وإعرابه عن تقديره وإحترامه لحضرات الزملاء المحامين‏..‏ وفي قرار الجمعية العمومية أوردت أن المحاماة عنصر أساسي في النظام القضائي‏,‏ وأن العدالة لايمكن أن تتحقق تماما إلا بتعاون عناصر النظام القضائي كله وتبادل الإحترام والتقدير بين القضاء والمحاماة‏,‏ وأن كل إعتداء علي كرامة المحامين أو حقوقهم وكل حد من قيامهم بواجب الدفاع فيه إخلال خطير بالعدالة لن تقبله الجمعية العمومية‏!‏

    إزاء المخاطر التي يتعرض لها المحامون‏,‏ وما يمكن أن يصيب العدالة ذاتها إذا قعدت المحاماة ـ خوفا أو إتقاء ـ عن أداء واجب الدفاع بالجدية والذمة والشجاعة والأمانة‏,‏ عنيت المدونات التشريعية تباعا‏,‏ سواء في قوانين المحاماة المتعاقبة‏,‏ أو في قوانين المرافعات والإجراءات الجنائية والعقوبات‏,‏ علي إقامة حواجز صد تقي المحامين من غائلة أي تجاوز أو جموح في ممارسة السلطة‏,‏ وتوفر لهم الأمان اللازم لأداء رسالة المحاماة التي هي أحد أضلاع العدالة وأركانها الركنية‏!.‏
    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    09عال9 رد: رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية السلسله كاملة جمعها محمد راضى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الإثنين أغسطس 03, 2009 7:23 pm

    رسالة المحاماة‏:‏ المخاطر والضمان‏![12]‏
    بقلم‏:‏ رجائي عطية
    تضافرت تشريعات عديدة في سعيها لتوفير الضمانة الواجبة للمحامين‏,‏ حتي يستطيعوا أن يؤدوا رسالتهم في أمان‏,‏ ويسهموا في ارساء العدالة علي موازينها الصحيحة‏...‏ هذه الضمانة ليست محاباة لمهنة دون مهنة‏,‏ وانما هي ضرورة لا محيص عنها‏,‏ وهي رعاية وحماية للعدالة ذاتها‏..‏

    ومع ذلك فإن الباحث عن الضمانات المقررة في القانون للمحاماة‏,‏ مضطر للبحث والتفتيش في كثير من المدونات التشريعية لجمع ما تفرق في هذه التشريعات المختلفة‏..‏ هذا التفرق أو الشتات يوري بأن المشرع لم يصدر في هذه القضية الخطيرة عن نظرة كلية شاملة‏,‏ وانما صدرت النصوص فرادي‏,‏ وبعضها ربما صدر في ولادة عسرة لان الوعي بقيمة واثر المحاماة علي العدالة ذاتها لم يصل بعد الي النضج الكافي‏,‏ وربما قاومته عقول قصيرة النظر تحسب الأمر محض مكاسب تعطي لفئة فيغلب من ثم علي هذا النظر القصير منطق المنح دون ان يعي أو يدرك الأخطار الهائلة التي تحيط بالعدالة اذا ما افتقد المحامي سياجا يحميه لينهض برسالته ويؤدي امانته الثقيلة بلا وجل ولا خوف‏!‏

    في تاريخ طويل بدأه الأسلاف‏,‏ حملت قوانين المحاماة المتعاقبة ما يلفت الانتباه الي ما توجبه مساهمة المحاماة في تحقيق العدالة‏,‏ وأورد نص المادة‏(1)‏ من قانون المحاماة الحالي‏1983/17‏ ـ ان المحاماة مهنة حرة تشارك السلطة القضائية في تحقيق العدالة‏,‏ وفي تأكيد سيادة القانون وفي كفالة حق الدفاع عن حقوق المواطنين وحرياتهم‏,‏ واوردت ذات المادة‏,‏ ان مهنة المحاماة يمارسها المحامون وحدهم في استقلال لا سلطان عليهم في ذلك إلا ضمائرهم وأحكام القانون‏.‏

    فماذا أوردت المدونة التشريعية المصرية ضمانا لذلك؟‏!‏
    نصت المادة‏/49‏ من قانون المحاماة الحالي‏1983/17‏ علي أن يعامل المحامي من المحاكم وسائر الجهات التي يحضر أمامها بالاحترام الواجب للمهنة‏.‏

    وهذا الاحترام الواجب‏,‏ لا يصل الي غايته ما لم تتضافر معه حماية تسبغ علي المحامي حال قيامه بواجبه وأمانته‏,‏ فلا جدوي من ترك واجب الاحترام للآخرين يبذلونه متي شاءوا أو يضنون به متي ارادوا‏..‏ يزيد هذه المخاطر احتمالا‏,‏ ان المحامي يتعامل مع سلطات درج شاغلوها علي ممارسة السلطة بما تعطيه هذه الممارسة من اعتياد الخلود والارتياح إليها وحب ممارستها‏,‏ بما قد يؤدي الي تجاوزات ينبغي أن يؤمن المحامي من غائلتها اذا تجاوزت أو اشتطت‏!‏

    لذلك نصت الفقرة الثانية من المادة‏/49‏ سالفة الذكر‏,‏ علي أنه واستثناء من الأحكام الخاصة بنظام الجلسات والجرائم التي تقع فيها المنصوص عليها في قانون المرافعات والاجراءات الجنائية اذا وقع من المحامي في اثناء وجوده بالجلسة لأداء واجبه أو بسببه اخلال بنظام الجلسة أو أي أمر يستدعي محاسبته نقابيا أو جنائيا‏,‏ يأمر رئيس الجلسة بتحرير مذكرة بما حدث ويحيلها الي النيابة العامة ويخطر النقابة الفرعية المختصة بذلك‏.‏

    فلا تجيز هذه المادة ـ ونقلتها بنصها المادة‏/49‏ من تعليمات النيابة العامة‏(‏ الكتاب الأول‏)‏ ـ لا تجيز للقاضي أن يعامل المحامي الحاضر أمامه بما قد تعامل به جرائم الجلسات‏,‏ وكل ما له هو أن يحرر مذكرة تحال الي النيابة العامة مع اخطار نقابة المحامين الفرعية بذلك‏.‏

    ويقتضينا الإنصاف أن نشير الي أن قانون الاجراءات الجنائية رقم‏1950/150‏ لم يهمل هذه الحصانة‏,‏ فبعد أن تحدثت المادتان‏243‏ و‏244‏ عن جرائم الجلسات والسلطات المعطاة للمحاكم فيها برفع الدعوي والحكم فيها فورا في الجلسة‏,‏ استثناء من مبدأ عدم جواز الجمع بين سلطة الاتهام وسلطة الحكم‏,‏ اوردت المادة‏/245‏ من ذلك القانون انه‏:‏ استثناء من الأحكام المنصوص عليها في المادتين السابقتين اذا وقع من المحامي في اثناء قيامه بواجبه في الجلسة وبسببه ما يجوز اعتباره تشويشا مخلا بالنظام‏,‏ أو ما يستدعي مؤاخذته جنائيا يحرر رئيس الجلسة محضرا بما حدث‏,‏ وللمحكمة أن تقرر احالة المحامي الي النيابة العامة لاجراء التحقيق اذا كان ما وقع منه يستدعي مؤاخذته جنائيا والي رئيس المحكمة اذا كان ما وقع منه يستدعي مؤاخذته تأديبيا‏,‏ وفي الحالتين لا يجوز ان يكون رئيس الجلسة التي وقع فيها الحادث أو أحد اعضائها عضوا في الهيئة التي تنظر الدعوي‏.‏

    وتأمينا للمحامي من أي جنوح في معاملته‏,‏ نصت المادة‏/50‏ من قانون المحاماة علي أنه‏:‏ في الحالات المبينة بالمادة السابقة‏(‏ المادة‏49‏ محاماة‏)‏ لا يجوز القبض علي المحامي أو حبسه احتياطيا‏,‏ ولا ترفع الدعوي الجنائية فيها إلا بأمر من النائب العام أو من ينوب عنه من المحامين العامين الأول‏.‏

    بهذه النصوص أخرج المشرع ما عساه يصدر من المحامي مخالفا لقانون وتقاليد المحاماة أو المدونة الجنائية ـ من عداد الاختصاص المقرر للمحاكم في جرائم الجلسات‏.‏

    وجوهر هذا الاستثناء الذي قرره الشارع في شأن جرائم الجلسة‏,‏ التي قد تقع أو تنسب الي محام ـ أنه لم يخول المحكمة سلطة التحقيق أو الحكم فيها‏,‏ وانما قصر سلطتها علي مجرد الاحالة الي النيابة العامة لاجراء التحقيق‏,‏ فلا يجوز للمحكمة أن تحقق مع المحامي الحاضر أمامها أو تتخذ ازاءه أي اجراء من الاجراءات التحفظية‏,‏ وغاية هذا واضحة هي توفير مظلة الأمان الواجب للمحامي وهو ينهض برسالته بالجلسة‏,‏ ومع ذلك فإنه رغم وضوح وصراحة النصوص لاتزال بعض النفوس قاصرة عن بلوغ الغاية واعطاء هذه النصوص حقها الواجب من الاحترام والإعمال‏,‏ فتنفجر من وقت لآخر تصرفات شاردة تخلخل العدالة ذاتها وتصيب الأداء في محرابها بما يستوجب أن تقرن القاعدة التي أوردتها النصوص بجزاء واجب الإعمال علي مخالفتها‏.‏

    ‏[‏للحديث بقية‏]‏
    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    09عال9 رد: رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية السلسله كاملة جمعها محمد راضى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الإثنين أغسطس 03, 2009 7:24 pm

    رسالة المحاماة‏:‏ المخاطر والضمان‏(13)‏
    بقلم‏:‏ رجائي عطية
    حصانة المحامي التي بدأنا في المقال السابق تتبع خيوطها في المدونات التشريعية المصرية‏,‏ هي حصانة تتغي كفالة حق الدفاع ورعاية العدالة قبل أن تكون مزية شخصية‏..‏ لذلك فوجوبها وجوب عام ينهض علي اعتبارات موضوعية لا فئوية‏!..‏

    فالمحامي يحتل في النظام القضائي مركزا قانونيا‏,‏ وهو يعين ممثل العدالة علي الفهم الصحيح لواقع الدعوي أو النزاع‏,‏ وينير امامه السبيل لانزال احكام القانون وتطبيقه التطبيق السليم علي الوقائع‏,‏ ومن مصلحة العدالة أن تتاح الظروف الملائمة للمحامي ليتمكن من أداء واجبه في سعة وحرية ودون أن يخشي اجراء تعسفيا أو عقوبة فورية‏!!‏

    وفيما يبدو أنه استجابة واجبة لهذه القاعدة المقررة بقانون المحاماة وقانون الاجراءات الجنائية وتعليمات النيابة العامة ـ نصت المادة‏/592‏ من تعليمات النيابة العامة علي أنه‏:‏ـ

    لايجوز القبض علي محام أوحبسه احتياطيا لما نسب اليه في الجلسة من جرائم القذف والسب والاهانة بسبب اقوال أو كتابات صدرت منه اثناء او بسبب ممارسته المهنة‏,‏ وعلي عضو النيابة تحرير محضر بما حدث في هذه الحالة وإبلاغ صورته عن طريق المحامي العام أو رئيس النيابة الكلية إلي مجلس النقابة‏.‏ وذلك دون إخلال بسلطة النيابة في تحقيق هذه الجرائم‏.‏

    هذه الحماية المقررة للمحامي‏,‏ اقتضت لاعتباراتها الموضوعية التي تصب في العدالة ذاتها‏,‏ أن يصان مقام المحامي والمحاماة وأن يحمي المحامي من أي تجاوزات قد تمسه أو تمس إاعتباره أثناء نهوضه بأمانة الدفاع‏.‏ لذلك فإن قانون المحاماة لم يكتف بسياج الحماية المقرر في القانون العام إزاء ما يقع من جرائم السب أو القذف أو التعدي أو الاساءة للاعتبار‏,‏ فخص المحامي وهو يحمل رسالته المقدسة بحماية خاصة تتناسب مع ثقل الامانة التي يحملها من ناحية‏,‏ وتعبر في ذات الوقت عن مركزه القانوني في النظام القضائي ذاته‏.‏ فنصت المادة‏/54‏ من قانون المحاماة‏1983/17‏ علي أنه‏:‏ يعاقب كل من تعدي علي محام أو أهانه بالاشارة أو القول أو التهديد أثناء قيامه بأعمال مهنته أو بسببها بالعقوبة المقررة لمن يرتكب هذه الجريمة ضد أحد أعضاء هيئة المحكمة‏.‏ هذا بينما تعاقب الفقرة الثانية من المادة‏/133‏ عقوبات ـ تعاقب علي إهانة هيئة قضائية بعقوبة الحبس مدة لاتزيد علي سنة أو بغرامة لاتتجاوز خمسمائة جنيه‏.‏

    ومن يعرف المحاماة يعرف أن مهمة الدفاع واسعة المنابع‏,‏ متنوعة المصادر‏,‏ يعد المحامي عدته لها في مكتبه الذي يحوي بالضرورة ملفات القضايا بما تشمله من أسرار الناس وتضاعيف ومصادر وأسانيد الدفاع‏,‏ مما يشكل في جملته منظومة متكاملة أساسية ومكملة لمهمة الدفاع وتعد كفالتها وصيانتها جزءا لايتجزأ من حماية المحاماة وحصانة المحامي‏.‏ لذلك فرضت قيود صارمة علي تفتيش مكاتب المحامين‏,‏ فنصت المادة‏/51‏ من قانون المحاماة علي أن‏:‏

    لايجوز التحقيق مع محام أوتفتيش مكتبه إلا بمعرفة أحد أعضاء النيابة العامة وأوجبت ذات المادة علي النيابة العامة أن تخطر مجلس النقابة أو مجلس النقابة الفرعية قبل الشروع في تحقيق أية شكوي ضد محام بوقت مناسب‏,‏ وللنقيب أو رئيس النقابة الفرعية إذا كان المحامي متهما بجناية أو جنحة خاصة بعمله أن يحضر هو أو من ينيبه من المحامين‏,‏ التحقيق‏.‏ وإلتقت تعليمات النيابة العامة‏(‏ الكتاب الأول‏)‏ مع هذه المنظومة فأكدت هذه القاعدة وزادت عليها ضوابط اضافية في المواد‏5989,588,587..‏ وأعادت المادة‏/593‏ من تعليمات النيابة التأكيد علي ذلك فنصت علي أنه‏:‏ لايجوز التحقيق مع محام أو تفتيش مكتبه إلا بمعرفة أحد أعضاء النيابة ويجب علي عضو النيابة أن يخطر مجلس نقابة المحامين أو مجلس النقابة الفرعية قبل الشروع في تحقيق أي شكوي ضد أحد المحامين بوقت مناسب‏.‏

    ـ واشتراط ألا يكون تفتيش مكتب المحامي إلا بمعرفة أحد اعضاء النيابة‏,‏ تعني أن الانابة في ذلك غير جائزة‏,‏ ويتعين أن يتم بحضوره هو وبمعرفته وهذه ضمانة بالغة الأهمية‏,‏ تتبدي أهميتها في إغلاق أي أبواب للاختلاق أو التلفيق‏,‏ وتكفل في الوقت ذاته الا يتخطي التفتيش غرضه‏,‏ وأن يبقي محصورا فيه لايتعداه‏..‏ فالتجاوز هنا لايقتصر أثره علي المحامي او شخصه او ممتلكاته‏,‏ وانما يمس حقوق ومستودعات اسرار اغيارهم ارباب القضايا ولايجوز او يتطرق التفتيش الي ملفاتهم مادامت خارج نطاق وهدف التفتيش‏,‏ وهذه الجزئية بالذات لايكلفها ولايضمنها الا وجود عضو النيابة شخصيا اثناء التفتيش واشرافه علي الالتزام في تنفيذه بحدوده وغايته‏.‏

    فتقييد تفتيش مكتب المحامي هو فرع علي مايجب توفيره له من ظروف وضمانات لتوفير الحماية الواجبة له ليستطيع ان ينهض بمهامه ويؤدي رسالته في حرية وطمأنينة وأمان‏,‏ يفرض هذا ايضا أن المحامي عرضة بالادوار التي يؤديها في الخصومات ان يكون هدفا لانتقام هذا أو ذاك من اطراف الخصومة ببلاغ كيدي أو بعمل ثأري‏,‏ فضلا عما يجب أن يتوفر للمكتب وأوراقه ومستنداته من سياج تأمن به من أي عبث أو تهديد قد يتستر شكلا بشكاوي واجراءات ظاهرها بريء وباطنها الرغبة في الكيد للمحامي أو الوصول الي النيل منه أو مما لديه من مستندات وأوراق تتعلق بها أسرار ومصالح الخصوم الذين يتولي قضاياهم‏.‏
    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    09عال9 رد: رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية السلسله كاملة جمعها محمد راضى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الإثنين أغسطس 03, 2009 7:25 pm

    رسالة المحاماة‏:‏ المخاطر والضمان‏(14)‏
    بقلم ‏:‏ رجائي عطية
    عن نصب ومكابدة المحامين‏,‏ عبرالمرحوم الأستاذ مرقص فهمي أصدق تعبير حين وقف يدافع قائلا‏:‏ نحن المحامين نعالج آلام الناس ونرافقهم في شقائهم‏.‏ ولذلك نرتدي الثوب الأسود ونقف في هذا المكان المنخفض‏..‏ فإذا ما أعيانا التعب جلسنا علي هذا الخشب‏.‏ فنحن حقيقة بؤساء رفقاء بؤساء‏!‏ ولكن رغم هذه المظاهر الخداعة فإن الذي في قلبه إيمان بالحق يرتفع من هذا المركز إلي السمو الذي لا حد له‏.‏ لأن عماده كله الحق‏,‏ ولأن مأمورية المحامي تمثل حق الدفاع المقدس‏,‏ والقداسة لا تحتاج لسلطة ولا تحتاج لمظهر قوة بل هي جميلة‏..‏

    روي تاريخ المحاماة ان أسلافها العظام لم ينتظروا ضمانة أو حصانة لأداء رسالتهم التي كثيرا ما جرت عليهم المتاعب‏,‏ وأغضبت منهم قضاة وأعضاء نيابة‏,‏ ودفع بعضهم ثمنا لهذا الغضب‏,‏ لكنهم لم يتراجعوا عن إبداء ما آمنوا به أن الصواب واجب الإبداء لاظهار الحق‏!‏ وضع النقيب الكبير دي بوي حدود العلاقة بين النيابة والمحاماة في رده علي الاتهام الذي اقامته النيابة ضده بأنه تجاوز الحدود المسموح بها‏!‏ يومها وقف دي بوي مترافعا يقول‏:‏ لقد شكا المحامي العام من حدة الكلام الذي وجهته إليه‏,‏ بل أضاف أن ما أبديته جزء من ترتيبات موكلي المسيو بونتو كما لو كان من واجباتي أن أخضع لترتيبات وتنظيمات موكلي؟‏!‏ ليس مطلوبا مني أن أبرر حدتي في المرافعة‏,‏ فإنني اعتقد أنها كانت في الحدود الضيقة لواجبي وحقي كمحام‏,‏ ومع ذلك فلا بأس وقد أساء المحامي العام فهم عواطفي ـ أن أقدم له تفسيرا أرجو أن يرضيه‏:‏ إنني احترم وظيفة النيابة احتراما أصيلا عميقا‏,‏ وأفضل أنواع الاحترام ذلك الذي يصدر حرا ومن تلقاء ضميري للرسالة السامية التي نؤديها ولضرورتها للهيئة الاجتماعية‏,‏ وإذا كان لي أن أضيف شيئا فإنني أقول إن تقديري لأخلاقه وكفاءته كبير‏,‏ وان كان السيد
    المحامي العام لا يطلب مني ذلك وقد لا يأبه له أما وقد قلت ذلك فهو لا يستطيع أن يطلب مني احترامي وتقديري إلي مرافعته وحججه‏.‏ فلست مطالبا بالنسبة إليها لا بالاحترام ولا بالتقدير بل ولا بالرعاية‏!‏ إنما جئت إلي هنا لاحاربها وأهاجمها وأقضي عليها ما استطعت إلي ذلك سبيلا‏,‏ ولا استبعد من بينها الحدة إن كانت لازمة لتوضيح بياني ونجاح قضيتي‏!‏ إن المتهمين إنما جاءوا إلي هنا ليدافعوا عن أنفسهم‏(‏ لا ليصادقوا علي ما يقال عنهم‏)‏ إن شرفهم وحريتهم في خطر يجب إزاءه التساهل مع من يتكلم باسمهم حتي ولو تخطي الحدود جدلا‏..‏ فيجب أن يكون عندكم من الكرم والسماحة ما يجعلكم تغضون النظر عن ذلك‏!‏

    في ذلك الزمن الجميل‏,‏ اتسعت حجج المحامين‏,‏ ولازمها الأدب الرفيع‏,‏ والمنطق النافذ‏,‏ وقابلتها سماحة نيابة وسماحة قضاء لم يصادر علي هذا الاحترام المتبادل تحوصل في السلطة أو تلويح أو استعمال لشوكتها أثناء محاكمة الأديب الأشهر إميل زولا عن مقال مشهور كتبه في قضية دريفوس تحت عنوان إني أتهم‏!‏ وقف المحامي العام يلمز علي محاميه النقيب الشهير‏:‏ لابوري فقال للمحكمة ساخرا‏:‏ إن الذين يسبون الجيش جاءوا أمامكم يشيدون به‏!‏ وفي غضب جريح لم يفقد جمال واتقان العبارة وقف لا بوري معاتبا في أدب لم يفقد فصاحة ونفاذ سهم الحجة إنني لم اتعود أن أتلقي في حرم العدالة طعنات شخصية من هذا النوع‏!‏ لست ممن يتوارون وراء أي إنسان ولست ممن يقبلون مثل هذا الهجوم ولو صدر من مقعد الاتهام‏,‏ أو يقبلون هجوما وغمزا لا يمكن أن يصعد إلي برغم ارتفاع المنصة التي صدر عنها‏!‏ ثم يستأنف لابوري عاتبا ومقرعا إن المحامي العام قد أثرت فيه علي مايبدو مظاهر السلطة التي جاء بعضهم يتظاهر بها هنا‏,‏ وتصور أن من حقه أن يلقي علينا دروسا؟‏!‏ لكنني أرفض الدرس بإباء وشمم‏,‏ وأضيف أنني أعرف لماذا اختار كلمات رنانة طنانة لينطق بها‏..‏ إنها قصيرة لا يمكن أن تحدث أث
    را بذاتها‏!‏ ولكنه أعدها وألقاها ليثير بها مظاهرة ـ كان واجبا عليه أن يتوقعها ـ من قاعة حشدت وأعدت خصيصا ضدنا‏!‏ ثم يتجه لابوري إلي المحلفين قائلا‏:‏ إن صيحات هؤلاء الذين لا يدركون الاحترام الواجب للعدالة يجب أن تملي عليكم الصلابة المطلوبة منكم‏..‏ إنكم سادة فقولوا ـ إن استطعتم‏!!‏ هذا الرجل مذنب لأنه اجترأ علي الجهاد ضد الشهوات والاحقاد‏,‏ ولأنه غضب غضبته من أجل العدالة ومن أجل الحق والحرية‏!.‏

    اتسع صدر النائب العام شيه دي ستانج للمحاماة ومقتضياتها‏,‏ فوضع في قضية الأستاذ أوليفييه المشهورة ـ تحديدا دقيقا لحرية المحامي واستقلاله وحدود علاقته بالنيابة العامة‏,‏ فطفق يقول‏:‏ لا أحد ينكر حرية المحاماة‏,‏ إن هذه الحرية حق للمحاماة‏,‏ ويجب أن تبقي لها حقوقها‏,‏ إنها ليست مكسبا للمحاماة‏,‏ وهي ملك لها‏.‏ فإن المحاماة لا تتمتع بها من أجل المحامين‏,‏ ولكن من أجل الصالح العام‏:‏ صالح المتقاضين وصالح جميع المحامين‏..‏ من حق المحامي حين يهاجم الدعوي العمومية ـ أن يهاجم نظرياتها‏,‏ ويقول ويكشف فسادها‏,‏ ويهاجم الأساس الذي أقيمت عليه تلك النظريات ويعري خطأها ويهاجم الوقائع التي أسست عليها‏,‏ وان يثبت عكسها‏,‏ من حقه أن يبدي مايريد في اندفاع وحرارة لا يخلوان من الحماسة‏,‏ فإن الارتجال موهبة يعلم موهوبوها أكثر من سواهم أنها تتطلب حماسة واندفاعا‏,‏قد تشوبه أغلاط لغوية أو نحوية أو غيرها ـ ولكنها تدل كلها علي جريان ماء الحياة في شرايين المحامي المترافع‏!‏

    قد حمل المحامون علي مدار التاريخ نصيبهم من المسئولية عن مخاطر الارتجال وهو عدة المرافعات‏,‏ فلم تستطع العدالة أن تنظر إلي ذلك بعين الإشاحة أو الإهمال‏,‏ فكان ما أوردته التشريعات عن حصانة المحامي في مرافعته الشفوية والمكتوبة‏!‏
    ‏(‏للحديث بقية‏)‏
    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    09عال9 رد: رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية السلسله كاملة جمعها محمد راضى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الإثنين أغسطس 03, 2009 7:26 pm

    رسالة المحاماة‏:‏ المخاطر والضمان‏!(15)‏
    بقلم‏:‏ رجائي عطية
    الصعوبة التي يلقاها المحامي في النهوض برسالته‏,‏ أنه في مشيه فوق الأشواك لدحض أو تجريح شهادة الشهود أو تقارير الخبراء أو الخصوم أو اجراءات الشرطة أو تحقيقات النيابة وقراراتها‏,‏ يواجه صعوبة مضاعفة‏,‏ لأن القضاء الجنائي يقوم أساسا علي المرافعة الشفوية قبل المكتوبة‏,‏ وللإرتجال مخاطره ومحاذيره‏,‏ لأن عباراته تأتي عفو الخاطر‏,‏ ولا تتاح لقائلها الفرصة الزمنية الكافية لإعمال التأمل والفحص والموازنة فيها‏,‏ وإنما تنساب من عقله الي لسانه إنسيابا فوريا‏,‏ وإلا صارت مطالعة يملها السامعون‏,‏

    ولا تحمل ذات السخونة التي تصاحب المرافعة النابعة من وجدان منفعل مشحون بما يقول‏..‏ إذا فقدت المرافعة هذه الحياة الدافقة‏,‏ وتحولت الي تلاوة ـ فقدت شحنتها التأثيرية في وجدانات المتلقين‏.‏ من أجل هذا كانت المحاماة موهبة تنمي بالدربة والممارسة‏,‏ ولا يصلح لأدائها ـ في المجال الجنائي علي التخصيص ـ إلا من امتلك هذه المقدرة التي تقترب منها مواهب الخطباء‏,‏ ولكن تزيد عليها أنها لا يمكن أن تكتفي بما يثير المشاعر أو العواطف والأحاسيس‏,‏ وإنما يجب أن تكون مجدولة بالحجج والبراهين العقلية التي تجعل من العبارة قوة تأثيرية حقيقية قادرة علي تغيير الفكر أو الاقتناع أو العقيدة‏.‏

    ومع احتياج المرافعة المرتجلة الي هذه الملكات‏,‏ فإنها تحتاج من المتلقين الي سعة صدر في السماع‏,‏ والي سعة صدر في السماح‏..‏ إذ بدون السماع والسماح تفقد المرافعات وهجها ويعقد لسان الخوف انطلاقها‏,‏ فتتعثر الكلمات مخافة تسقط أخطاء الارتجال أو تصيد لفظ أو عبارة لعل القائل نفسه لم يقصد بها إساءة بقدر ماقصد تجلية معني أو ايضاح حجة أو التأثير بفكرة‏..‏ هذا من ناحية‏,‏ ومن ناحية أخري فإن أمان مخاطر الارتجال لا يغني المترافع ـ شفاهة أو كتابة ـ

    عن تجريح الأدلة قولية أو فنية أو شرطية أو تحقيقية‏,‏ وهذا التجريح قد يمس ـ بل هو يمس ـ الأشخاص المنسوب اليهم القول أو الدليل أو الإجراء‏..‏ هذا المساس لابد حادث مهما اجتهد المحامي في صرف كلامه الي العمل دون الشخص‏,‏ فلن يعدم صاحب العمل أن يقول إن المساس بعمله يمس شخصه مهما تأدبت العبارات ومهما التزمت الموضوعية‏,‏ وإغفال تحرير المحاماة من هذه المخاوف لا يقتصر فقط علي فلتات المرافعة الشفوية أو المكتوبة‏,‏ وإنما يجب أن يمتد الي مضمون حججه وبراهينه وانتقاده‏,‏ ليتسع الدفاع لإبداء مايجب أن يقال انصافا للعدل والحق دون مخاوف أو محاذير‏.‏ فقد يتضمن الت جريح اللازم للتدليل أو الإجراء مساسا بالتبعية لصاحبه أو مصدره‏,‏ وقد يحسب هذا المساس في باب القذف أو السب أو اساءة الاعتبار‏,‏ وهي جميعا محل للتجريم والعقاب‏,‏ لذلك كان حكيما وعادلا‏,‏ وسياجا للعدالة ذاتها‏,‏ أن تميل التشريعات الي اعفاء دفاع الخصوم ـ شفويا أو مكتوبا ـ من مخاطر العقاب عن السب أو القذف أو إساءة الاعتبار‏.‏ لذلك فقد نصت المادة‏309‏ من قانون العقوبات المصري علي أنه‏:‏

    لا تسري أحكام المواد‏308,306,305,303,302(‏ وهي تعاقب علي السب والقذف والبلاغ الكاذب والإهانة وخدش الاعتبار‏)‏ علي مايسنده أحد الخصوم في الدفاع الشفوي أو الكتابي أمام المحاكم فإن ذلك لا يترتب عليه إلا المقاضاة المدنية أو المحاكمة التأديبية‏.‏ ونصت المادة‏47‏ من قانون المحاماة‏1983/17(‏ المادتان‏134,91‏ من قانون المحاماة‏68/61)‏ علي انه‏:‏ للمحامي أن يسلك الطريقة التي يراها ناجحة طبقا لأصول المهنة في الدفاع عن موكله ولا يكون مسئولا عما يورده في مرافعته الشفوية أو في مذكراته المكتوبة مما يستلزمه حق الدفاع‏.‏

    وعبرت محكمة النقض المصرية في الكثرة الكثيرة من أحكامها‏,‏ عن أن حكم المادة‏309‏ عقوبات ومايجري مجراها ـ ليس إلا تطبيقا‏(‏ واجبا‏)‏ لمبدأ حرية الدفاع بالقدر الذي يستلزمه‏,‏ سواء صدرت عبارات الدفاع أمام المحاكم أو سلطات التحقيق أو في محاضر الشرطة‏,‏ وأن هذا الحق في الدفاع أشد ما يكون ارتباطا بالضرورة الداعية إليه‏,‏ فقضت محكمة النقض‏:‏ بأن حكم المادة‏309‏ ع ليس إلا تطبيقا لمبدأ عام هو حرية الدفاع بالقدر الذي يستلزمه وانه يستوي أن تصدر العبارات أمام المحاكم أو أمام سلطات التحقيق أو في محاضر البوليس‏,‏ ذلك بأن هذا الحق أشد مايكون ارتباطا بالضرورة الداعية إليه‏,‏ حتي انه قضي بدخول إنكار بنوة الطفل وإتهام أمه بانها حملته سفاحا في دائرة أفعال القذف المباحة لأنها من مستلزمات الدفاع‏,‏ ونسبة الاختلاس والارتشاء الي الموظف لإثبات مبررات فصله‏,‏ أو نسبة اختلاس ريع الوقف الي ناظر الوقف في دعوي عزله من النظارة‏,‏ أو نسبة الإقراض بالربا الفاحش الي الخصم في معرض بيان مقدرته المالية ـ تعتبر متعلقة بدعوي النفقة المرفوعة عليه‏,‏ وقضت في أحكام كثيرة بأنه من المباح ـ لأنه من مستلزمات الدفاع

    ـ إسناد المتهم شهادة الزور والرشوة الي رجل البوليس الذي حرر ضده محضر جمع الاستدلالات‏.‏ فقد توسعت محكمة النقض المصرية توسعا محمودا فيما يبيحه حق الدفاع طالما التزم بالضرورة الداعية إليه‏,‏ وبسلامة وأدب العبارة‏,‏ ولم يتخذ سبيلا للإساءة المقصودة لذاتها دون أن تستلزمها ضرورة الدفاع‏,‏ هذا الدفاع المتمتع بهذه الإباحة إما يبديه الخصوم بأنفسهم‏,‏ وإما من خلال وكلائهم المحامين‏.‏ فالمحامي يحمل أمانة وهموم موكله‏,‏ وينوب عنه في الدفاع‏,‏ ويستلزم منه هذا الدفاع مايستلزمه من الأصيل ذاته‏,‏ بل ويستلزم من المحامي ـ بحكم علمه وخبرته ـ ماقد لا يعرفه أو يجيده الأصيل‏.‏

    هذه الحماية هي روح المحاماة‏,‏ وروح الدفاع والعدالة أيضا‏..‏ بغيرها تموت المحاماة وتتعثر العدالة في نشدانها لغايتها‏..‏ فلن يصل الحق الي منصة القضاء بكلمات تتوقف في الحلوق‏,‏ أو تتعثر خوفا وتوجسا علي الشفاه‏.‏ المحاماة فارسة الحق‏,‏ وفرسان الحق والعدل والحرية لا ينبغي أن يروعوا أو يرهبوا أو يخافوا‏,‏ مادام الحق نصيرهم‏,‏ والعدالة المثلي غايتهم‏.‏

    ‏rattia@ragai-attia.com
    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    09عال9 رد: رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية السلسله كاملة جمعها محمد راضى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الإثنين أغسطس 03, 2009 7:27 pm

    رسالة المحاماة‏:‏ المخاطر والضمان‏!(16)‏
    بقلم‏ :‏ رجائي عطية
    لم يخلد فرسان المحاماة إلي الضمانة أو الحصانة التي نصت عليها المادة‏/309‏ من قانون العقوبات‏,‏ ففيها ثغرة يمكن الدلوف إلي المحامين منها‏,‏ فاستعاضوا بأب المحاماة الرفيع‏,‏ وفكرها الراقي‏,‏ ومنطقها الناصع‏,‏ علي إيراد ما يشاءون من حجج وبراهين في موضوعية تقيهم ثأر أو انتقام من يضايقهم منطق الحق‏,‏ ويضيقون بالعدل والانصاف‏!‏

    للمحامين علي مدار تاريخ المحاماة‏,‏ مواقف مبهرة‏,‏ منها ما حفظته المدونات‏,‏ ومنها ما عاش في ذاكرة المحامين‏,‏ يتناقلونه بالرواية جيلا بعد جيل‏..‏ صادف المرحوم الأستاذ مكرم عبيد ــ فيما تتناقله الروايات ــ موقفا بالغ الصعوبة إزاء مدعية إدعت علي موكله أنه إعتدي عليها‏,‏ واغتصبها كرها‏,‏ ومحاذير السقوط في وهدة القذف شديدة وخطيرة إذا انفلت الدفاع إلي إبداء أن الواقعة كانت بكامل إرادتها ورضاها‏,‏ فإطلاق ذلك سوف يعوزه الدليل‏,‏ ولم تكن الواقعة إلا بين اثنين لا ثالث لهما‏,‏ المدعية التي انتصرت النيابة لقولها‏,‏ وحجتها ــ حسب المجري العادي للأمور ــ غالبة‏,‏ لأن بنت حواء لن تنزلق إلي مثل ذلك مع ما يصاحبه من مساس بسمعتها‏,‏ والمتهم الذي لم تسمع النيابة لدفاعه‏,‏ ولم تصدقه‏,‏ وأخذته بقول المدعية‏,‏ وقدمته إلي محكمة الجنايات بهذه التهمة الخطيرة التي يمكن أن تصل عقوبتها إلي الأشغال الشاقة المؤبدة‏!!‏ ماذا يفعل فارس المحاماة مكرم عبيد إزاء هذا الخطر الداهم‏,‏ ومحاذير السقوط في هاوية جريمة القذف إن بني دفاعه بغير دليل علي رضاء المدعية؟‏!‏ هنا تجلت ألمعية وفراسة وبديهة المحامي الفذ‏..‏ فجأ المدعية ومعها هيئة المحكمة بطلب غ
    ريب إستهل به حديثه هو مطالبة المدعية بتعويض ما أتلفته من الفراش بصعودها إليه محتذية حذاءها‏,‏ ومع المفاجأة إنفلت لسان المدعية بالحقيقة‏,‏ فتعجلت قائلة ــ دون أن تتنبه ــ إنها خلعت حذاءها قبل أن تصعد إلي الفراش‏!!‏ كانت سقطة المدعية مدوية‏,‏ وأثرها مفجرا فاضحا لزيف وكذب إدعائها‏!!‏؟؟ كان يسيرا علي الأديب المفوه مكرم عبيد أن ينهي مرافعته بالقرآن‏,‏ وكان علي مسيحيته من الحافظين له كثير الإستشهاد به‏..‏ مضي يروي للمحكمة قصة إمرأة العزيز مع يوسف الصديق‏,‏ حين اتهمته كذبا بأنه أراد بها سوءا‏,‏ وقالت لزوجها العزيز فيما رواه القرآن المجيد‏:‏ واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدي الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم‏.‏ قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين‏.‏ وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين‏.‏ فلما رأي قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم‏.‏ يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين‏(‏ يوسف‏25‏ ــ‏29)‏ ومع الجلال الذي شمل الموقف‏,‏ والإنبهار بذكاء وحيلة مكرم‏,‏ صدر حكم البراءة الذي كان في الواقع ثمرة لعظمة المحامي‏!‏

    يقول الكارهون للمحاماة‏,‏ أو المتجنون عليها أو الجاهلون بحقيقة دورها ورسالتها إن المحامي‏:‏ أجير صناعته الكلام‏..‏ يتساوي لديه أن يدافع عن الحق أو الباطل مادام يتلقي أجرا‏!!‏

    ويقول العارفون المنصفون‏,‏ إن المحامي هو حامل الشعلة التي تبدد غياهب الشك‏,‏ وتنير الطريق إلي الحق والعدل والإنصاف‏..‏ الذين يتوقفون عند مدافعة المحامي عن متهم أو متهمين يرونهم أو يراهم المجتمع مذنبين‏,‏ لا يدركون كم من مظالم يهتز لها عرش السموات لو ساء ظن هؤلاء وأدين بريء علي ذنب لم تقترفه يداه‏!!‏

    لو لا حرية وبراعة الدفاع لضاعت الحقيقة‏,‏ وفشي الظلم بين الناس‏,‏ ولولا براعة المحاماة لما استطاع المحامون أن يكسروا حاجز الخوف من أن يساءلوا عن القذف أو إساءة الاعتبار لو ساقوا دفاعهم كما يجب أن يبدي ويقال‏!.‏

    أنظر إلي براعة شيه دي استانج حين وقف يترافع عن زميله فيليكس دي لامارتنيير محامي جريدة لوبوفوار أمام المجلس الوطني‏,‏ وكأنه يفتش عما قاله المتنبي لسيف الدولة‏:‏ يا أعدل الناس إلا في معاملتي‏..‏ فيك الخصام وأنت الخصم والحكم‏..‏ كيف يلقي المحامي بهذا المعني إلي المحكمة دون أن تعدها إهانة أو تطاولا علي مقامها الرفيع‏,‏ فيقع بدوره في وهدة جاء يقيل زميله فيها‏..‏ لقد وقف المحامي الأديب يقول للمحكمة في منطق ناصع وأدب رفيع‏:‏ إنني مطالب بأن أثبت لكم ـ أنتم الذين اعتقدتم أن إهانة لحقت بكم أنتم القضاة والخصوم في هذه الدعوي ـ أن الكاتب حين هاجمكم لم يتجاوز الدفاع المشروع

    في براعة لافتة للمحامي الفرنسي الشهير دورانتو كسر النظام الذي كان معمولا به أمام برلمان باريس‏..‏ هذا النظام الذي يفرض أن الأفوكاتو العمومي‏(‏ المحامي العام‏)‏ هو آخر من يتكلم باعتباره ممثل الملك‏.‏ ولكن مرافعة الأفوكاتو العمومي تضمنت ـ في ذلك اليوم‏!‏ ـ ما يستوجب عدالة أن يعقب عليها الدفاع وإلا اختل السواء والميزان‏,‏ فوقف المحامي دورانتو يريد التعقيب ولكن المحامي العام انطلق بحدة متغطرسة يقول‏:‏ لا يجوز لأحد أن يتكلم بعد ممثل الملك‏!‏

    المحامي الأريب لا تنفد حيله‏,‏ ولا تنضب قريحته‏,‏ ولا ينعقد لسانه‏..‏ وقف لحظتها دورانتو يرد علي الحدة بحدة‏,‏ وعلي المنطق المتغطرس بمنطق العدل والإنصاف‏,‏ فطفق يقول‏:‏ إنما يتكلم بعد ممثل الملك إذا شوه الحقيقة المعروضة للحكم‏.‏ إنما يتكلم بعد رجال الملك إذا أرادوا تحويل قضية مدنية إلي قضية جنائية‏.‏ إنما يترافع بعد ممثلي الملك عندما يحاولون تسوئ سمعة إبن سامحه ابوه‏.‏ لم يتهوب المحامي العجوز أن قول للمحامي العام في أبوة حانية مهذبة‏:‏ أنت لا تزال شابا يا سيدي المحامي العام‏,‏ فاجلس واستمع لما سأقوله‏.‏

    يومها جلس المحامي العام‏,‏ واستمر دورانتو في تعقيبه‏,‏ وانتهت المرافعة ولكن لم تنته التداعيات التي اتخذت من هذه الواقعة معولا ساعد علي سن قاعدة أن المتهم ـ أو المدعي عليه ـ هو آخر من يتكلم‏..‏ هذه القاعدة التي تسود الآن جميع تشريعات المعمورة‏!‏
    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    09عال9 رد: رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية السلسله كاملة جمعها محمد راضى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الإثنين أغسطس 03, 2009 7:28 pm

    رسالة المحاماة‏:‏ المخاطر والضمان‏!(17)‏
    بقلم‏:‏ رجائي عطية
    من أقوي الضمانات القضائية للخصوم‏,‏ بعامة‏,‏ وللمحاماة بخاصة ـ محاضر الجلسات‏,‏ سواء كانت محاضر لتحقيقات النيابة العامة‏,‏ أو محاضر لجلسات المحاكمات أمام المحاكم المختلفة‏..‏ هذه المحاضر جعلت لتكون مرآة ناقلة وبالنص والحرف واللفظ ـ لما يجري في جلسات التحقيقات أو المحاكمات‏,‏ وما يبدي فيها من أقوال أو دفوع أو طلبات‏,‏ وما يجري بالجلسات من سماع شهود أو خبراء أو اتخاذ قرارات أو تصرفات‏..‏ إفراغ هذا كله في محضر الجلسة‏,‏ بتفاصيله ودقائقه‏,‏ وبلفظه وحرفه ومعناه ينطوي علي ضمانة بالغة الأهمية هذه الضمانة لم يقررها القانون للنيابة أو للقاضي بعامة‏,‏ وإنما قررها للخصوم ووكلائهم‏..‏ فالقاضي متترس باستقلاله وحصانته‏,‏ ثم هو علي منصته يمارس سلطته‏.‏ أقصي ما يرجوه القاضي من محضر الجلسة أن يذكره ـ محض تذكير أمين ـ بما حصل ودار‏,‏ أما الضمانة المستمدة من المحضر فهي للخصوم ووكلائهم الذين تتعلق حقوقهم ـ

    بضماناتها ـ بما يثبت أو لا يثبت في المحضر‏.‏ فالمحضر هو الضمان الوحيد لهم‏,‏ وهو الدليل القوي الذي منحهم إياه القانون لإثبات ما أبدوه من دفاع‏,‏ وما سجلوه من طلبات‏,‏ وما عساه قد وقع عليهم أو في حقهم من مساس أو تجاوز عن حقوقهم التي فرضهما لهم القانون‏.‏

    فحكمة وعلة وغاية تدوين الإجراءات في محاضر‏,‏ هي إثبات حصولها كيما يمكن لكل ذي مصلحة أن يحتج بذلك‏,‏ فضلا عن إثبات كيفية حصولها‏,‏ كما يمكن التحقق سواء للخصوم أو لجهة الطعن ـ من مدي مطابقتها للواقع والقانون ـ ويعني هذا أن هذه المحاضر تتعلق بها حقوق عديدة بالغة التنوع والأهمية‏,‏ حق عضو النيابة أو القاضي في الرجوع إليها للتذكرة أو للتساند علي ماهو مسجل فيها‏,‏ وحق أطراف الخصومة في إثبات ما أبدوه أو سجلوه من دفاع أو طلبات أو ما قد يقع مخالفا للإجراءات‏,‏ سواء في حقم أو حقوق الأغيار أو حق القانون نفسه في الاحترام الواجب له وتنفيذه وتطبيقه تطبيقا صحيحا يوافق نصه وروحه‏,‏ ثم حق جهة الطعن في معرفة الحقيقة‏,‏ سواء كانت نيابة أعلي إذا كان الطعن في تصرف أو قرار نيابة أدني‏,‏ أم كانت محكمة أعلي‏,‏ إذا كان الطعن في حكم محكمة أقل درجة أم كان حق الجمهور أو الدارسين في المتابعة أو المراقبة أو الدراسة من خلال محضر افترض القانون أنه عنوان الحقيقة فيما حمله وسجل فيه‏.‏

    هذه القيمة والأهمية التي لمحاضر جلسات المحاكمات أو التحقيقات‏,‏ حدت بالمشرع إلي التعامل معها باحترام بالغ يكاد يصل حد القداسة التي تفرض لها حجية قوية يصعب التصادم بها أو الالتفاف حولها أو المساس بقدرها‏,‏

    فلم يجعل القانون سبيلا لأحد لإثبات عكس أو غير أو خلاف ما دون بها إلا بطريق الطعن عليها بالتزوير‏,‏ بل بلغت هذه الحماية حد الافتراض الذي يؤمن المحاضر ويقيم لها سياجا عاليا يحميها‏,‏ فنصت المادة‏/30‏ من قانون حالات وإجراءات الطعن أمام محكمة النقض علي أنه إذا ذكر في الحكم أو محضر الجلسة أن الإجراءات قد اتبعت‏,‏ فلا يجوز إثبات عدم اتباعها إلا بطريق الطعن بالتزوير فإذا دون مثلا في محضر الجلسة أنه قد تمت تلاوة أقوال الشهود بالتحقيقات‏,‏ فإنه لا يجوز ـ مهما كان الواقع الحاصل أمام الجميع وعلي رؤوس الاشهاد ـ إثبات أن التلاوة لم تتم إلا بالطعن علي المحضر بالتزوير‏..‏ وهذا الطريق بالغ الصعوبة يكاد يصطدم باستحالة مطلقة تكاد ترد علي المشرع قصده الذي تغياه من القداسة التي فرضها لمحاضر الجلسات تأمينا وحماية لحقوق المتخاصمين ودفاعهم‏..‏ فهذا هو الأصل والأساس في حكمة وغاية محاضر الجلسات والتحقيقات‏,‏

    لأن غيرها من الغايات ـ كتذكير المحقق أو القاضي بما حدث‏,‏ يمكن أن يعتمد فيه علي ملاحظاته الشخصية التي يدونها لنفسه‏,‏ ولكن هذه الملاحظات ليست في متناول الخصوم‏,‏ ولا يمكن أن تكون حجة أو ضمانا لهم‏,‏ وليس يغنيهم في تحقيق الضمان أو الحماية إلا المحاضر التي يدونها كاتب الجلسة الذي أوجب القانون حضوره وأوكل إليه مهمة كتابة كل ما يحدث أو يبدي أو يقال في الجلسة‏.‏

    معظم الالتباسات التي تحدث في ساحة القضاء بين المنصة وبين المحامين‏,‏ ترجع إلي اختلاف مفاهيم التعامل في التطبيق مع المحاضر التي لاينازع أحد في أنها تدون تحت إشراف المحقق أو القاضي‏,‏ بيد أن الإشراف هو اشراف علي التدوين و ليس سلطة علي التدوين ذاته تباشر المنح أو المنع‏.‏

    والا تبددت وضاعت الغاية من تحرير المحاضر وتاهت الضمانة التي يلوذ بها الحضور وأصحاب الحقوق ووكلاؤهم من المحامين‏,‏ فاختلاف الرؤي والتوجهات وارد واحتمالات التجاوز لايعز عليها أحد مهما كان مقامه‏..‏ فجميع أطراف الخصومة بشر‏,‏ يرد عليهم مايرد علي كل بشر من خطأ أو صواب وكلاهما ـ ومهما كانت رغاب الآخر ـ واجب الإثبات في المحضر الذي يتعين أن يكون مرآة حقيقية لما يجري‏,‏ وهذه البديهية لا تجري ميسورة في جميع الأحوال‏,‏ فقد يضيق عن تدوينها الصدر‏,‏ ولا يجد صاحب المصلحة مندوحة عن التمسك بالإثبات‏,‏ وقد يصطدم تمسكه المشروع بإصرار المنصة علي المنع أو المصادرة فتتهدد الضمانة‏,‏

    ويتعذر وربما استحال إثابت ما صودر عليه‏,‏ فتضيع الحقوق‏.‏ هذا المحظور الوارد حصوله قد دعا الدول المتقدمة إلي التسجيل الآلي لما يجري في الجلسات حفاظا علي حقوق الأطراف‏,‏ لكن ذلك لا يتأتي لكل الدول‏,‏ فيركن الاعتماد كله علي سواء الميزان في يد القاضي ذاته الذي يعطي الحق من نفسه‏..‏ أذكر هذا وأذكر معه موقفا عظيما للمستشار الجليل عاصم الجوهري حينما أحس جفاف عبارة أفلتت منه إلي زميل‏,‏ فبادر من تلقاء نفسه إلي التنحي ولاستشعاره حرجا دعاه لاستشعاره ضميرا مرهف وعزما صادقا وعدلا يقاس بموازين الذهب‏!‏

    ‏(‏للحديث بقية‏)‏
    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    09عال9 رد: رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية السلسله كاملة جمعها محمد راضى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الإثنين أغسطس 03, 2009 7:30 pm

    رسالة المحاماه‏:‏ أسرار وواجبات الوكالة‏!(18)‏
    بقلم‏ :‏ رجائي عطية
    علاقة المحامي بموكله علاقة بالغة الخصوصية شديدة العمق والعراضة فيها يفضي الموكل إلي وكيله المحامي بخلجات نفسه وبأدق أسرار حياته وبأمور ربما ضن بها علي أقرب المقربين إليه وربما احتبسها عن الناس كافة ولا يعلم سرها ومكنونها إلا الله سبحانه وتعالي الذي وحده يعلم السر وما يخفي‏.‏ علي قدر ما يتخفف الأصيل من أحماله وأثقاله حين يفضي بهمومه وأسراره إلي محاميه علي قدر ما تبدأ مع المحامي رحلة من المعاناة تملأ صفحة وجدانه وضميره ووعيه وتشغله في نهاره وليله ويحمل همها في ذهابه وإيابه حريصا مع كل ما يبذله في القيام بأمانته أن يكون حفيظا علي السر الذي أفضي به إليه موكله راعيا لواجب صيانته وعدم البوح به مدركا أن إفشاءه إخلال بالأمانة التي يحملها وإخلال بالثقة التي توسمها فيه موكله حين أفشي إليه ما جبل الإنسان بفطرته علي احتباسه وعدم البوح به إلا لمن وثق به واطمأن إليه وارتضاه حافظا أمينا علي أسراره‏!‏

    يكاد ما يحمله المحامي من أسرار موكله أن يكون شبيها بما يتلقاه رجل الدين من اعتراف لايمكن له أن يفشيه أو يبوح به أو يطلع أحدا عليه‏!!..‏ هذا الإلتزام الخلقي ـ والمهني بالنسبة للمحاماة وبعض أصحاب المهن الأخري الذين يطلعون بحكم عملهم علي أسرار الناس ـ هو إلتزام أصيل نابع من قيم أخلاقية وسلوكية وقائم أيضا علي إلتزامات قانونية‏..‏ لأن العلاقة التي أسلست إلي الإفضاء بالسر دينية كانت أو مهنية أو حرفية تنطوي علي مراكز قانونية تلقي بواجبات علي متلقي السر لايتجاهلها القانون وماكان له أن يتجاهلها وهي نتاج هذا المركز القانوني الذي ينبغي أن يواكبه القانون بما يستحقه من رعاية وأحكام تكفل قمع أي جنوح ورده إلي الجادة والمساءلة عنه إن وقع الإفشاء‏!!..‏ إن القانون يعاقب علي خيانة الأمانة المادية ويجرم كل فعل يؤدي إلي اختلاس الأمانة أو خيانتها أو تبديدها والأمانة المعنوية أعز وأخطر من الأمانة المادية‏..‏ الخسارة في المال تجبر أو تكون قابلة للجبر أما الخسارة المعنوية ـ بإفشاء السر ـ فأثرها أبعد وأمضي ولعلها تستعصي علي الجبر وتورد المفشي سره في مهالك ربما أخفق في النجاة منها أو أمضي باقي عمره في التخفيف من وطأتها وتداعياتها‏!!‏

    كان هذا في عين المشرع المصري حينما نص علي قاعدة عامة في المادة‏/310‏ عقوبات التي جرت علي أنه‏:'‏ كل من كان من الأطباء أو الجراحين أو الصيادلة أو القوابل أو غيرهم مودعا لديه بمقتضي صناعته أو وظيفته سر خصوصي أؤتمن عليه فأفشاه في غير الأحوال التي يلزمه القانون فيها بتبليغ ذلك يعاقب بالحبس مدة لا تزيد علي ستة أشهر أو بغرامة لا تتجاوز خمسمائة جنيه مصري‏'.‏

    '‏ ولا تسري أحكام هذه المادة في الأحوال التي لم يرخص فيها قانونا بإفشاء أمور معينة كالمقرر في المواد‏205204203202‏ من قانون المرافعات في المواد المدنية والتجارية‏'.‏

    وواضح أن النص وإن تمثل في حظر الإفشاء بالأطباء والجراحين والصيادلة والقوابل فإنه عني بإطلاق القاعدة بصريح اللفظ لتمتد إلي غيرهم ممن تقتضي مهنهم الإطلاع علي الأسرار وفي مقدمتهم المحامون وعلي ذلك جري قضاء محكمة النقض وفي ذات المعني نصت المادة‏/66‏ من قانون الإثبات في المواد المدنية والتجارية علي أنه‏:'‏ لا يجوز لمن علم من المحامين أو الوكلاء أو الأطباء أو غيرهم عن طـريق مهنته أو صنعته بواقعــة أو معلومــات أن يفشيهــا ولو بعد إنتهاء خدمته أو زوال صفته ما لم يكن ذكرها مقصودا به ارتكاب جناية أو جنحة‏'.‏

    وكان من الطبيعي أن يواكب قانون المحاماة هذا النظر فنصت المادة‏/65‏ من القانون‏17/1983‏ علي أنه‏:'‏ علي المحامي أن يمتنع عن أداء الشهادة عن الوقائع أو المعلومات التي علم بها عن طريق مهنته إذا طلب منه ذلك من أبلغها إليه إلا إذا كان ذكرها له بقصد إرتكاب جناية او جنحة‏'‏

    احترام علاقة المحامي بموكله وقدسية حق الدفاع وما يقتضيه اقتضت ألا يكتفي القانون بفرض الواجب علي المحامي بحفظ سر موكله فأمنه أولا بقاعدة عدم جواز الإفشاء‏(‏ م‏/66‏ إثبات‏)‏ وزاد الأمان وكادة وحصانة بأن سوغ للمحامي الإمتناع عن أداء الشهادة عن الوقائع والمعلومات التي أسر بها إليه موكله إلا إذا طلب هو ذلك‏.‏

    فرع علي هذه الحرمة حماية مراسلات المحامي مع موكله والمحادثات الهاتفية التي تجري بينهما فالمراسلات المتبادلة بين المحامي وموكله والأوراق والمستندات التي يسلمها أو يودعها الموكل لدي محاميه تتضمن بطبيعة الحال أسرارا لا يجوز إجبار المحامي علي إفشائها أوإطلاع الغير عليها أو تسليمها إليهم حتي ولو كانت صورا ضوئية منها‏.‏ ولذلك فقد نصت م‏/96‏ من قانون الإجراءات الجنائية والمادة‏328‏ من التعليمات العامة للنيابات علي أنه‏:'‏ لا يجوز لقاضي التحقيق أن يضبط لدي المدافع عن المتهم أو الخبير الإستشاري الأوراق والمستندات التي سلمها المتهم لهما لأداء المهمة التي عهد إليهما بها ولا المراسلات المتبادلة بينهما في القضية‏.'‏ ويتسق ذلك مع المبدأ الذي قررته المادة‏/141‏ من قانون الإجراءات الجنائية من حيث‏'‏ عدم جواز الاخلال بحق المتهم في الاتصال دائما بالمدافع عنه بدون حضور أحد‏':‏ فإذا كان من حق المتهم أن يتحدث شفويا مع المدافع عنه بدون أن يستمع المحقق لحديثه فإنه يرتبط بذلك حقه في أن يراسله دون أن يطلع المحقق علي رسائله إذ الرسالة حديث مكتوب‏.‏ والعلة العامة التي تجمع بين هذه المبادئ هي الحاجة إلي تمكين المتهم والمدافع عنه من أن ي
    ضعا خطة الدفاع معا دون أن يفسد تدبيرهما اطلاع المحقق علي ما يدور بينهما ومن مصلحة المجتمع أن توضع خطة الدفاع التي تكفل اطلاع القضاء علي وجهة نظر المتهم الذي لايرضي الشرع والقانون أن يحرم من حقه الدستوري والمقدس في الدفاع عن نفسه أو أن يحيق به ظلم وجور نتيجة التعجل والحكم في حقه بغير تبصر‏!‏
    ‏(‏ وللحديث بقية‏)‏
    ‏rattia@ragai-attia.Com‏
    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    09عال9 رد: رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية السلسله كاملة جمعها محمد راضى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الإثنين أغسطس 03, 2009 7:31 pm

    رسالة المحاماة‏:‏ وأمانة الوكالة‏(19)‏
    بقلم‏ :‏ رجائي عطية
    عناية قوانين المحاماة‏,‏ ومدونات القوانين بعامة‏,‏ بإسباغ مظلة من الأمان علي علاقة المحامي بموكله‏,‏ وحفظ ما يتلقاه المحامي من أسرار في إطار هذه الرسالة‏,‏ وحمايته من ألا يجبر علي إفشاء ما لديه‏,‏ بل وتقرير عقوبة علي هذا الإفشاء يستطيع المحامي أن يستند إليها في درء أي سعي يستهدف‏'‏ اجباره‏'‏ علي إفشاء ما ائتمن عليه‏!!‏ ـ هذه العناية الملموسة في تشريعات الدول‏,‏ قد انتقلت إلي المواثيق الدولية‏,‏ فجاء فيما جاء بقرارات الأمم المتحدة‏166/45‏ الصادرة في ديسمبر‏1990,‏ أنه يجب أن تكفل الدول الأعضاء احترام‏'‏ سرية‏'‏ جميع الاتصالات والمشاورات التي بين المحامين وموكليهم في إطار علاقتهم المهنية‏.‏

    علي أن الكفالة الحقيقية لاحترام السر‏,‏ إنما تنبع ويجب أن تنبع من ضمير ووجدان المحامي‏,‏ ومن إيمانه بأنه حامل رسالة‏,‏ وأن هذه الرسالة هي التي أفسحت له ـ ضمن غاياتها السامقة ـ أن يلم بمكنون أسرار موكله التي باح بها إليه‏,‏ وأنه من لحظة تلقيها قد قبل بإرادته أن يحمل‏'‏ أمانة‏'‏ تلزمه بها تقاليد وأعراف وشرف مهنته‏,‏ قبل أن تدعوه إليها ـ أو تحميه في حملها ـ مدونات القوانين والتشريعات أو نصوص المواثيق الدولية‏.‏ هذه الأمانة التي يحملها المحامي عن موكله‏,‏ أمانة ثقيلة‏,‏ يضاعف ثقلها أن القانون قد أوكل إليه هو مطلق اختيار خطة الدفاع التي يراها في مصلحة موكله‏,‏ وجري قضاء محكمة النقض المصرية علي أن وجود محام بجانب المتهم في المواد الجنائية للدفاع عنه ـ لا يقتضي أن يلتزم المحامي خطة الدفاع التي يرسمها المتهم لنفسه‏,‏ وأن خطة الدفاع متروكة لرأي المحامي وتقديره وحده‏,‏ وله أن يرتب الدفاع كما يراه هو في مصلحة المتهم‏,‏ بل وقضت بأن للمحامي إذا رأي التهمة ثابتة علي المتهم سواء باعترافه أو بقيام أدلة أخري ـ فإن له أن يبني دفاعه علي التسليم بصحة نسبة الواقعة إليه مكتفيا ببيان أوجه الرأفة التي يطلبها له‏,‏ وفي بيان حكمة ذلك
    تقول محكمة النقض إن القانون لم يشأ أن يوجب علي المحامي أن يسلك في كل ظرف خطة مرسومة‏,‏ بل ترك له ـ اعتمادا علي شرف مهنة المحاماة وتقاليدها واطمئنانا إلي نبل أغراضها ـ أمر الدفاع يتصرف فيه بما يرضي ضميره وعلي حسب ما تهديه خبرته‏,‏ بل وله أن يبني دفاعه علي طلب الرأفة فقط‏.‏ قال نبي القرآن عليه السلام‏:‏ إنه لا إيمان لمن لا أمانة له‏,‏ وحذر من كونها يوم القيامة خزيا وندامة إلا لمن أخذها بحقها وأدي الذي عليه فيها‏..‏ هذه الأمانة أثقل حملا وأشد رزءا حينما يحمل الإنسان علي كتفيه حياة أو حرية أو مصير إنسان‏!!..‏ وإدراكا من القضاء لثقل هذا الحمل‏,‏ علق الاستناد في الأحكام مما يبديه المحامي‏,‏ علي ما يكون في جانب الدفاع عن موكله‏,‏ فتستطيع الأحكام أن تستند إلي ما تشاء مما يبديه المحامي ما دامت لا تتخذ مما قاله سندا تأخذ أو تؤاخذ أو تدين به المتهم‏..‏ فإذا طلب المحامي استعمال الرأفة‏,‏ فإن المحكمة وشأنها فيما تقبله أو ترفضه من دواعي أو مبررات الرأفة‏,‏ ولكنها لا تستطيع أن تبني قضاء الإدانة علي اعتراف المتهم بلسان محاميه بقالة إنه طلب الرأفة وأن هذا الطلب ينطوي ضمنا علي تسليم بارتكاب الجريمة‏..‏ فالمحامي لايعترف ولا يجوز أن يعترف بالتهمة بدلا من موكله‏,‏ ولا يجوز أن يؤخذ المتهم في مقام الدليل إلا بما يصدر منه هو‏..‏ وقدر القضاء في هذا النظر الحكيم أن حرية المحامي في رسم خطته إنما هي لغاية‏'‏ الدفاع‏',‏ واستهدافا لعلته وحكمته‏,‏ وأنه لذلك لايجوز للمحكمة أن تستند إلي شئ من أقوال المحامي لإدانة المتهم‏,‏ وفي ذلك تقول محكمة النقض إنه لايصح في مقام الإدانة أن يؤخذ المتهم بأقوال محاميه‏!‏ وإدراك مقتضيات أمانة الدفاع‏,‏ إدراك واسع عميق‏,‏ يشغل علي الدوام صفحة وجدان المحامي‏,‏ تري هذا ناصعا لافتا في عبقرية وعراضة أفق فارس المحاماة مصطفي مرعي عندما وقف إلي جوار الأديبة‏'‏ مي زيادة‏'‏ حين أطبق عليها جحود أقارب استغلوا مرضها وعزلتها في شتاء الأحزان الذي أحاطها برحيل الأب ثم الأم‏,‏ فسولت لهم أنفسهم أن يحجروا عليها‏,‏ واستدرجها أحدهم للسفر إلي لبنان حيث أودعوها ـ بقالة الجنون‏!‏ ـ مستشفي‏'‏ العصفورية‏',‏ ولم تخرج إلا بنجدة إحدي العائلات اللبنانية‏,‏ لتعود إلي مصر محملة بجراح نفسية غائرة ظلت تطاردها مع دعوي الحجر التي لاحقتها في مصر‏!.‏ ـ يومها وقد انفض السامر الذي كان علي الدوام من حولها من كبار الأدباء والمفكرين‏,‏ وقف إلي جوارها فارس
    المحاماة مصطفي مرعي‏..‏ لايقيد نفسه بالأداء التقليدي ولا بالحدود الضيقة‏,‏ وإنما ينطلق إلي الميدان الرحب‏,‏ ويتفتق ذهن الفارس الحامل للأمانة المدرك لمقتضياتها‏,‏ عن حيلة عبقرية لم تتقيد بحدود المحكمة وقاعتها‏,‏ فأشار علي المتحدثين معه باسم الكاتبة الجريحة‏,‏ بأن تلقي محاضرة بقاعة‏'‏ إيوارت‏'‏ التذكارية بالجامعة الأمريكية‏..‏ ودون أن تعرف الآنسة‏'‏ مي‏'‏ خلفية التدبير الذي غلف بدعوة وجهت إليها من الجامعة لالقاء المحاضرة‏,‏ اختارت الأديبة موضوعا لها من أعقد وأعوص موضوعات فلسفة‏'‏ نيتشة‏',‏ فبهرت الحاضرين‏,‏ وانتشر نبؤها علي صفحات الصحف مشفوعا بمؤلفاتها‏:‏ باحثة البادية ـ وعائشة التيمورية ـ وسوانح فتاة ـ والصحائف ـ وابتسامات ودموع المترجمة عن شارل وماريلام ـ وأزهار الحلم بالفرنسية‏,‏ وتصادف أن سمع أحد شيوخ القضاء هذه المحاضرة التي تسامعت بها مصر‏,‏ فحملت أثرها ودلالتها إلي ساحة العدالة‏,‏ وجاء في أسباب قضاء المجلس الحسبي الأعلي برفع الحجر‏:‏ أنها أعقل من أكبر العقلاء‏..‏ هذه القضية كسبها مصطفي مرعي قبل أن يدخل بأوراقه إلي ساحة المحكمة‏,‏ لأنه أدرك موجبات الأمانة التي يحملها‏,‏ وعرف بثقافته العريضة أن السهم الذي
    يدق به نعش هذا‏'‏ الحجر‏'‏ أن يعيد صورة الأديبة المفكرة‏'‏ مي زيادة‏'‏ إلي أذهان الناس‏,‏ وقد كان‏!.(‏ للحديث بقية‏)‏
    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    09عال9 رد: رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية السلسله كاملة جمعها محمد راضى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الإثنين أغسطس 03, 2009 7:33 pm

    رسالة المحاماة‏:‏ في محراب العدالة‏(20)‏
    بقلم‏:‏ رجائي عطية
    مهمة العدالة مهمة بالغة السمو‏,‏ بالغة الخطر أيضا‏..‏ الي اقامتها تعزي استقامة الأحوال‏,‏ والي غيابها يرتد كل جنوح وانحراف‏,‏ وكل غضب وانفعال‏,‏ وجموح وثورة‏..‏ لن يخطئك حين تراجع سيرة فرد‏,‏ أو جماعة‏,‏ أو دراسة حدث‏,‏ ان تدرك ان الانفعال الذي قدم له أو أسلس اليه‏,‏ هو غياب عدل‏,‏ قد يرده البعض الي قصور القانون‏,‏ أو الي غلبة القوة والأقوياء‏,‏ أو الي اختلال الميزان أو الموازين‏,‏ أو الي ضياع البوصلة‏,‏ أو الي قصور رسالة العدالة عن القيام بواجباتها وتحقيق غاياتها‏,‏ وقد يرد البعض هذا القصور الي قصور أفراد أو جماعات أو فئات‏,‏ وقد يرده آخرون الي اختلاف الحظوظ والمقادير وهي الي العشوائية أقرب‏,‏

    وقد يجمح آخرون كأنهم ـ في جموحهم ـ يعاتبون السماء علي عدالة غائبة تركت الانسان نهبا لجنوح الجانحين وطغيان الشر والأشرار‏,‏ وغلبة الأثرة علي الايثار‏,‏ وانعدام أو تواضع الحظوظ ازاء أخري مفتوحة علي الواسع‏,‏ أو الي نازلات لايفهم عجز الإنسان لها حكمة وغاية فيسوقه هذا وذاك الي مضاضة وضيق ثم إلي اعتراض وشرود‏,‏

    ثم الي جنوح وغضب‏,‏ ثم الي التهاب وثورة وجموح‏!‏ هذه كلها مظاهر يلمسها المراقب المتأمل المتدبر‏,‏ ويلمس معها تفاوتا صعودا وهبوطا‏,‏ كما وكيفا تبعا لأسباب الاعتراض من ناحية‏,‏ وتكوين نسيج الجانح من ناحية أخري ـ لذلك فغياب العدل هو مقدمة لتداعيات بالغة الجسامة بالغة الخطر لايعلم متي وكيف تتراجع وتنحسر الا أن يدركها الله عز وجل بلطفه ورحمته‏!‏

    وخطير علي العدالة‏,‏ ليس فقط أن تضيع موازينها بين الناس‏,‏ وانما أيضا أن تهتز بوصلتها بين اركان الثلاثي القائم علي تحقيقها ورعايتها والعناية بها وبذل قصاري المستطاع للنهوض برسالتها‏..‏ تختلف الأدوار في محاريب القضاء ـ نعم‏,‏ تنشد النيابة غير ماتنشده المحاماة‏,‏ وتفترق بكليهما السبل بين سعي الي الاثبات‏,‏ وسعي آخر الي الدرء والابراء‏,‏ وبين هذه وتلك يقف القضاء ممسكا الميزان‏,‏ ساعيا الي العدل الذي يرمز اليه بفتاة معصوبة العينين‏,‏ لاتميز ولاتفرق ولاتستهدف الا غايتها الكبري في احقاق الحق‏..‏ هذه الغاية لايسع النيابة ولايسع المحاماة‏,‏ الا أن تقرا بأنها هي هي غايتهما أو غاية كل منهما‏,‏ وأن الاختلاف الواسع أحيانا ـ فيما بين أدائهما‏,‏ هو اختلاف في النظر والرؤية‏,‏ وفي الطريق والوسيلة‏,‏ ولكنهما يجتمعان في النهاية علي طلب الحق‏..‏ هذا الذي ينشده القضاء ويسعي الي اقراره‏!‏

    تضيع البوصلة من المحامي اذا ضاق بالنيابة ودورها‏,‏ أو سارع اليه سوء الظن أو سوء الفهم‏,‏ فيحسبها ضده ولايدرك أن مهمتها لاتتعلق بشخصه‏,‏ ولاتترصده عنية‏,‏ وانما هي تدافع ـ وبوجهة نظرها ـ عن حق المجتمع في أن يصان له أمانه‏,‏ وفي أن تكون جادة أمينة علي فاعليات منتجة لمحاصرة الجريمة واثبات أدائها والوصول الي معاقبة الجاني أو الجناة فيها‏!‏

    وتضيع البوصلة من النيابة‏,‏ اذا عدت المحاماة تطفلا علي الدعوي أو عليها‏,‏ أو صنفتها علي أنها مجرد تسويغ للباطل وانكار للحق ومن ثم حماية أو تشجيع علي الانحراف والفساد‏..‏ وتضيع البوصلة من النيابة أكثر‏..‏ حين تصرفها السلطة التي تملك مقاليدها عن تقدير المحامي كزميل معهد وحامل رسالة وصاحب دور علينا أن ننظر اليه باحترام‏,‏ وأن نعينه علي القيام بمهمته الثقيلة وهو يقف الي جوار متهم أحاطت به وحاصرته ظروف صعبة لاقدرة له علي مواجهتها بغير متخصص عالم عارف بعلمه جامع لخبراته مالك لنواصيه مخلص لرسالته‏..‏ وأن ندرك أن هذه الملكات الواجبة في المحامي ـ ليست تحديا للنيابة ولا لقدرات النيابة أو القضاء‏,‏ وانما هي أقدار ومهام وأنصبة موزعة في محراب العدالة علي كل أن ينهض بنصيبه منها دون أن يتبرم بأداء وسعي الآخرين‏!‏

    وتضيع البوصلة من القضاء اذا لم يستوعب بسعة صدر وتمام ثقة وقوة يقين‏.‏ أنه فوق هذه وتلك بالمنصة العالية التي يرتقبها وبالعدالة السامقة التي يتغياها ويسعي اليها ولايصرفها عنه صارف‏..‏ فاذا كانت الندية هي قوام تقارع الحجج بين النيابة والمحاماة‏,‏ باعتبارهما يمثلان الاتهام والدفاع‏,‏ فان السمو السامق هو عدة ومهمة القاضي والقضاء باعتباره القمة الموكول اليها الموازنة العاقلة الواعية الفاهمة المعتدلة المتجردة المنصفة بين هؤلاء وأولاء‏..‏ وأنها تفقد دورها السامق اذا صنفت نفسها بين الأخصام‏,‏ ولم تدرك أنها عالية علي القمة هناك‏..‏ اليها الحكم والفصل ـ وأن هذا لم يجعل لها الا لكونها أسمق وأعلي وأكثر تجردا وآمن حرصا علي العدل ممن قد يصرفهم تقارع الحجج وزهو النجاح عن ادراك غاية ومكنون وجوهر العدالة‏..‏ لايستطيع القاضي ـ وهو الأعلي مقاما بحكم موقعه الموكول اليه ـ أن يسير بدعواه الي مرساها اذا ضاق صدره مهما اشتط أو طال الأداء‏,‏ أو اذا ضاق صبره عن الاستماع

    أو اذا ظن أنه يستغني بعلمه عن الانصات‏,‏ أو اذا سمح بترك أي انطباع يسري ـ خطأ أو صوابا ـ بأنه صاحب ميل أو أنه طرف من أطراف الخصومة‏,‏ أو أنه يعتبر سعي النيابة أو اجتهاد المحاماة انتقاصا من وقته أو من قدرته علي الفهم والتقدير والموازنة‏..‏ هذه قدرات مفترضة فيه‏,‏ والا ما ولي المنصة العالية‏,‏ ودورها آت لاريب فيه حين ينطق حكمه فاصلا بالعدل بين ماسمعه من حجج وأدلة وبراهين الخصوم‏..‏ هذا هو فصل الخطاب الذي انعقد وينعقد للقضاء‏,‏ أما ميزان الذهب في بيان وتقدير دور ومكانة كل ضلع من اضلاع هذا المثلث الذهبي‏,‏ فدعونا نلتق واياه في حديثنا القادم مع عبد العزيز باشا فهمي شيخ القضاة والمحامين‏,‏ في كلمته الضافية التي افتتح بها حفل انشاء محكمة النقض والابرام المصرية في‏5/‏ نوفمبر‏1921.‏

    ‏(‏ للحديث بقية‏)‏
    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    09عال9 رد: رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية السلسله كاملة جمعها محمد راضى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الإثنين أغسطس 03, 2009 7:34 pm

    رسالة المحاماة‏:‏ في محراب العدالة‏(21)‏
    بقلم‏:‏ رجائي عطية
    في تأبينه للراحل العظيم عبدالعزيز باشا فهمي‏,‏ قطب المحاماة‏,‏ وقطب القضاء‏,‏ وقطب السياسة والوطنية‏,‏ وقطب الفكر والأدب والثقافة‏,‏ وقطب الإصلاح‏,‏ وقطب مجمع اللغة العربية‏,‏ وقف الأستاذ الكبير عبدالرزاق السنهوري يقول‏:‏ إن الرجل الذي نؤبنه كان يمثل جيلا كاملا‏,‏ بما ينطوي عليه هذا الجيل من علم ووطنية وأدب وثقافة وتفكير‏!‏

    هذا الاتساع الذي جعل عبدالعزيز فهمي ممثلا لجيل بأكمله‏,‏ مرده إ لي تعددية وموسوعية في نسيجه بوأته الصدارة في كل ما تولاه أو اضطلع به‏,‏ تقلب حياته بين المحاماة فعرفته محاميا جليلا‏,‏ وثانيا للنقباء العظام في زمن العلم والجلال والوقار‏,‏ وبين القضاء فصار أول رئيس لمحكمة النقض لدي إنشائها عام‏1931,‏ وبين السياسة والوطنية فرأته مصر أحد ثلاثة يقابلون المعتمد البريطاني يطالبون باستقلال مصر ويفجرون ثورة‏1919,‏ وفي الوزارة والسلطة التشريعية ومجمع الخالدين‏,‏ فعرفته مصر والعالم مناضلا لإلغاء الامتيازات الأجنبية‏,‏ وعضوا بارزا في لجنة وضع الدستور‏,‏ وقاضيا عظيما لم يجاره أحد في صياغته الرائعة للأحكام والمبادئ‏,‏ ونصيرا للحرية فقدم استقالته كوزير للحقانية انتصارا لحق علي عبد الرزاق في التعبير عما يراه في كتابه الإسلام وأصول الحكم‏,‏ ومساهما لافتا في مجمع اللغة العربية لا يثنيه شيء عن إبداء ما يراه كفيلا بالتحديث أو التجديد مهما اختلف معه الناس‏!‏

    هذه التعددية مع توحد الشخصية‏,‏ ومع الثقافة العريضة‏,‏ والأفق الأعرض‏,‏ هي التي تحدث بها عبدالعزيز فهمي يوم افتتاح أعمال محكمة النقض في نوفمبر‏1931,‏ فجمع فيها جمع العارف المقدر لكل من المحاماة والنيابة والقضاء‏,‏ في عمق فكر واتساع أفق لا انحياز فيه‏,‏ حتي استطاع وهو يتبوأ موقع قاضي القضاة‏,‏ ويترأس أول رئاسة لمحكمة النقض أن يطري المحاماة بأكثر مما أطراها به أعظم المحامين‏,‏ ويبدأ كلمته بدرس للقضاة لا يتصدي لإلقائه إلا مثل هذا الأب الموسوعي العريض‏,‏ لا يستنكف من الإشارة إلي أن الخطأ في القضاء وارد‏,‏ لا يعز عليه بشر‏,‏ فيقول للسامعين من كبار رجال القضاء‏:‏

    هذه المحكمة التي أنشئت لتلافي الأخطاء القانونية في الأحكام النهائية‏,‏ كان وجودها أمرا ضروريا جدا‏,‏ فإنه لا يوجد أي قاض يستطيع أن يدعي لنفسه العصمة من الخطأ‏,‏ ولقد حاول الشارع المصري أن يتلافي بعض ما قد كان يقع من الخطأ في المسائل القانونية فأنشأ نظام الدوائر المجتمعة‏,‏ لكنه كما تعلمون حضراتكم‏,‏ كان قاصرا جدا‏,‏ لا يتعرض للأحكام النهائية بشيء‏,‏ ولا يمسها أدني مساس‏,‏ بل كان مقصورا علي ناحية من نواحي التقويم والإرشاد في المبادئ القانونية دون أن يصلح من الأحكام نفسها‏,‏ وقد سارت محكمة استئناف مصر الأهلية زمنا طويلا علي هذا النظام‏,‏ حتي أنشئت محكمة استئناف أسيوط فأصبح غير واف بالغرض وأصبح من الضرورات القصوي إيجاد نظام النقض والإبرام الذي هو وحده الكفيل بتحري أوجه الصواب فيما يتعلق بالأحكام النهائية وإصلاح الخطأ فيها‏,‏ لأنه يؤثر في تلك الأحكام ويبين ما بها من الأغلاط القانونية‏,‏ ويدعو إلي إعادة الإجراءات في القضايا الصادرة فيها‏,‏ فنحن مغتبطون بهذا النظام‏,‏ ونحمد الله تعالي علي أنه أنشئ الآن‏.‏

    ثم لا ينسي هذا الموسوعي العريض‏,‏ وهو يبدي فخره بعظماء القضاء‏,‏ أن يقرن قوله بتأكيد عظمة المحاماة وإجلاله واحترامه العميق للمحامين‏,‏ فيقول‏:‏ وإن سروري ياحضرات القضاة وافتخاري بكم ليس يعدله إلا إعجابي وافتخاري بحضرات إخواتي المحامين الذين أعتبرهم كما تعتبرونهم أنتم عماد القضاء وسناده‏,‏ أليس عملهم هو غذاء القضاء الذي يحييه؟ ولئن كان علي القضاة مشقة في البحث للمقارنة والمفاضلة والترجيح فإن علي المحامين مشقة كبري في البحث للإبداع والتأسيس‏,‏ وليت شعري أية المشقتين أبلغ عناء وأشد نصبا؟ لاشك أن عناء المحامين في عملهم عناء بالغ جدا لا يقل البتة عن عناء القضاة في عملهم‏,‏ بل اسمحوا لي أن أقول إن عناء المحامي ـ ولا ينبئك مثل خبير ـ أشد في أحوال كثيرة من عناء القاضي‏,‏ لأن المبدع غير المرجح‏!‏

    لا يترك الموسوعي العريض هذا التكريم للمحاماة مجدولا بتكريم القضاء‏,‏ إلا ويركز علي أواصر العلاقة والتعاون الذي ينبغي أن يكون بينهم فيقول‏:‏ هذا يا إخواني المحامين نظرنا إليكم‏,‏ ورجاؤنا فيكم أن تكونوا دائما عند حسن الظن بكم‏,‏ وإن تقديرنا لمجهوداتكم الشاقة جعلنا جميعا‏,‏ نحن القضاة‏,‏ نأخذ علي أنفسنا أن نيسر عليكم سبيل السير في عملكم‏,‏ وإن أية فرصة تمكننا من تيسير السير عليكم لا نتركها إلا انتهزناها في حدود القانون ومصلحة المتقاضين‏,‏ ذلك بأن هذا التيسير عليكم تيسير علي القضاة أيضا‏,‏ إذ القاضي قد تشغله الفكرة القانونية‏,‏ فيبيت لها ليالي موخوزا مؤرقا مثل شوك القتاد‏,‏ يتمني لو يجد من يعينه علي حل مشكلها‏,‏ وإن له لخير معين في المحامي المكمل الذي لا يخلط بين واجب مهنته الشريفة وبين نزوات الهوي ونزعاته‏,‏ ولا يشوب عمله بما ليس من شأنه ـ إذا كان هذا ظننا بكم ورجاءنا فيكم فأرجو أن تكونوا دائما عند حسن الظن بكم‏,‏ وتقدروا تلك المسئولية التي عليكم‏,‏ كما يقدر القضاة مسئوليتهم‏!‏ وأظنني إذ ذكرت إخواني القضاة والإعجاب بهم‏,‏ أني أدمج مع القضاة حضرات إخواني وزملائي النائب العمومي ورجاله‏,‏ فإنهم هم أيضا سيكون لهم إن
    شاء الله القدح المعلي فيما يتعلق بإحقاق الحق في المبادئ القانونية‏,‏ نحن إذن نفتخر بالمحامين وبالنيابة وبالقضاة جميعا‏!‏

    هذه الكلمات العميقة المضيئة ظلت تعبر دهورا عن العلاقة المتينة القائمة علي الاحترام والتقدير المتبادل لأضلاع المثلث الذهبي في أداء كل لدوره الواجب في محراب العدالة‏..‏ هذه العدالة التي أنيطت برسل القضاء الذين في كنفهم وكنف عدلهم وسعة صدرهم وعقلهم تسعي النيابة وتسعي المحاماة‏..‏ وفي رحابهم ترجو العدالة أن يأتي الانتصار لها بكلمة الحق التي بها تنطق ألسنة القضاة ومهجهم وضمائرهم‏!‏

    لقد كان عبدالعزيز فهمي تعبيرا حيا نابضا صادقا عن جيله في عصر جميل مضي‏..‏ فهل نتقدم إليه؟‏!‏
    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    09عال9 رد: رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية السلسله كاملة جمعها محمد راضى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الإثنين أغسطس 03, 2009 7:35 pm

    رسالة المحاماة‏:‏ في محراب العدالة‏(22)‏
    بقلم‏:‏ رجائي عطية
    لا يملك المطلع علي الكتاب الذهبي للمحاكم الأهلية من عام‏1883‏ حتي‏1933‏ والمطبوع بمجلديه الكبيرين سنة‏1937,‏ لا يملك أن يفارقه إعجابه بهذا العمل العظيم اللافت‏,‏ بدءا بالطباعة الفاخرة علي الورق المصقول الفاخر‏,‏ وفنون الخط العربي البديعة‏,‏ وانتهاء بكل ما حواه وحفظه للأجيال بتسجيله المميز الدقيق والمشفوع بالصور النفيسة لصفحات وأعلام القضاء المصري في ذلك الزمان‏..‏ هؤلاء الذين تسلموا الأمانة من زمن مثخن بآفات كثيرة‏,‏ ليضعوا لبنات أساس عريض ويثابروا في جد وإخلاص علي استكمال البناء ليسلموا للأجيال التالية راية القضاء جديرة به وبمصر في تطلعها إلي مستقبل مزهر‏.‏

    فلا يكاد المطالع للكتاب يمضي مع آيات عديدة جديرة فيه بالإعجاب‏,‏ حتي يلفته بقوة ما كانت عليه العلاقة القائمة علي التقدير المتبادل البالغ بين القضاء والمحاماة‏..‏ كلاهما متجاوران‏,‏ سواء في الاحتفال بافتتاح محكمة استئناف أسيوط في‏1926/3/10‏ الذي خطب فيه من رجال المحاماة حضرة صاحب العزة الأستاذ إبراهيم الهلباوي المحامي الكبير‏,‏ وحضرة الأستاذ ناشد حنا نقيب محامي أسيوط‏,‏ وحضره المحامون مع القضاة‏,‏ أم في الاحتفال بإنشاء محكمة النقض في‏1931/11/5‏ الذي فيه أطري قاضي القضاة عبدالعزيز باشا فهمي المحاماة إطراء العارف المقدر الحفيظ علي هذه الصلة القائمة علي التقدير المتبادل‏.‏

    ثم لا يكاد يفرغ المتأمل من الالتفات إلي هذه الملحوظة حتي يدرك أن الأمر لم ينحصر في مجاملات أو تشارك في احتفالات‏,‏ وإنما صارا فيه ـ القضاء والمحاماة ـ شريكين قسيمين أو يكادا في تدبيج الكتاب الذهبي نفسه عن المحاكم الأهلية‏.‏ فيكتب ـ إلي جوار القضاة ـ صاحب العزة عزيز خانكي بك المحامي عن التشريع والقضاء قبل وبعد إنشاء المحاكم الأهلية‏,‏ مثلما يكتب عن المحاماة قبل إنشاء المحاكم الأهلية‏,‏ ويكتب عنها بعد إنشائها صاحب العزة توفيق درس باشا المحامي‏,‏ ثم يكتب صاحب العزة إبراهيم الهلباوي المحامي عن أعلام القضاء الأستاذ الإمام محمد عبده الذي أمضي في القضاء سبع سنوات من عام‏1888‏ حتي عين مفتيا للديار المصرية في‏1899/6/5,‏ وعن الأستاذين القاضيين الكبيرين حسن باشا عاصم وقاسم أمين صاحب تحرير المرأة والمرأة الجديد‏,‏ وكما يكتب صاحب العزة مصطفي بك محمد عن المجالس الحسبية‏,‏

    وصاحب السعادة أمين أنيس باشا عن محكمة النقض والإبرام‏,‏ وصاحب العزة كامل مرسي بك‏(‏ باشا فيما بعد‏)‏ عميد كلية الحقوق عن الكلية‏,‏ وصاحب العزة صليب سامي بك‏(‏ باشا فيما بعد‏)‏ عن إدارة قضايا الحكومة التي يرأسها‏,‏ نري الأستاذ زكي عريبي المحامي يكتب عن لغة الأحكام ـ نعم الأحكام ـ إلي جوار كتابته عن لغة المرافعات‏.‏

    هذا التجاور يحس القارئ بمنابعه ورسوخه حين يري كثيرا من رجال القانون قد تقلبوا ذهابا وإيابا بين القضاء والمحاماة كسعد زغلول‏,‏ ومحمد لبيب عطية‏,‏ وحامد فهمي‏,‏ وسيد مصطفي‏,‏ وسليمان حافظ‏,‏ وأحمد نشأت‏,‏ ومصطفي مرعي وغيرهم‏,‏ وحين يري أن منصب وزير العدل لم يكن قصرا علي رجال القضاء‏,‏ فشغله محامون قضاة وقضاة محامون قبل كثير من تعيين الرئيس عبدالناصر للمحامي فتحي الشرقاوي وزيرا للعدل في الستينيات‏..‏ لم يكن ذلك التعانق رضوخا أو استجابة لنص ـ قائم الآن لكنه معطل ـ يخصص نسبة للمحامين في تعيينات القضاء‏,‏ وإنما صدي لاقتناع عميق متغلغل في نسيج رجال ذلك الزمان الذين آمنوا بأن رسالة العدالة تضم الجميع في حناياها بتآخ وتقدير متبادل‏.‏إذن لم يكن حديث عبدالعزيز باشا فهمي في حفل إنشاء محكمة النقض‏,‏ مجرد كلمات طلية لزوم الاحتفال والمجاملات‏,‏

    وإنما كان تعبيرا صادقا عن حالة حقيقية نجح بها هؤلاء الأسلاف العظام في الخروج من زقاق الانحياز الفئوي إلي باحة الرؤية الشاملة التي تدرك أن رسالة العدالة جديرة بأن تؤلف بين الساعين في محرابها وأن تجمعهم ـ مهما اختلفت مواقفهم وأطروحاتهم ـ علي غاية واحدة‏,‏ وألا يخل اختلاف المواقع أو الأدوار بإحساس الجميع بأنهم ينتمون إلي أسرة واحدة وتجمعهم ـ رغم اختلاف الرؤي ـ غاية واحدة‏..‏ فنري في مجلدي الكتاب الذهبي للمحاكم الأهلية كيف أن رجال القضاء ورجال المحاماة قد انصرفوا جميعا إلي همه في خدمة العدالة بلا تحوصل أو تمحور أو انحياز‏,‏ ونعجب لهم وبهم وهم يتبادلون المواقع بلا حساسية‏,‏ فيتحدث قاضي القضاة والقضاة عن المحاماة والمحامين‏,‏ ويتحدث المحامون عن القضاء والقضاة والمحاكم الأهلية والحسبية‏.‏ ومع أن الكتاب الضافي هو للمحاكم الأهلية وعنها بما يغري بأن يقتصر التناول والحديث فيه علي المحاكم والقضاء والقضاة‏,‏ فإننا نري أن الكتاب الذهبي يفسح المجال ـ راغبا مرحبا بالمحاماة وقضاياها وبنائها وسبلها‏..‏

    يكتب الأستاذ زكي عريبي المحامي عن لغة المرافعات‏,‏ ويفسح الكتاب للمحامي النابغة أحمد رشدي ليتحدث عن المحاماة كما يعرفها‏..‏ فيورد ـ فيما يورد ـ عن دراسة المحامي وثقافته الواجبة‏:‏ إن من التزيد في الكلام أن يقال إن علي المحامي أن يتفقه في القوانين فهما واستذكارا‏,‏ فما ينبغي أن يكون المحامي شيئا إذا لم يكن كذلك‏.‏ أما أن يصبح محاميا حقا فذلك يوم لا يفوته النصيب المسعف من كل علم بينه وبين عمله صلة تكاد لا تنقطع‏,‏ إنه لا محيص له من أن يصيب حظا وافرا من الفقه الشرعي والتاريخ والمنطق وعلم الاجتماع وعلم النفس وآداب البحث والمناظرة‏,‏ إلي حظ مؤات من مبادئ العلوم الطبية والميكانيكية‏,‏ وليس ذلك بعجيب ولا هو بمستكثر‏..‏ إن ضرورة العمل وحسن أدائه أصبحا يقتضيان من المحامي أن يختزن في وعاء قلبه من المعارف ما لا يتأدي التوفيق في المرافعة وبحث القضايا إلا به‏.‏ أليس مما يشين المحامي أن يكون لقضيته اتصال بفن من الفنون‏,‏ وأن تنضاف إلي أسنادها تقارير خبراء فنيين ثم يقف هنالك زائغ البصر عاجزا عن تفلية هذه التقارير ليميط ما فيها من باطل أو ليقيم ما بها من حق؟‏!.‏

    ثم في سلاسة حانية‏,‏ وبصيرة نافذة‏,‏ يوصي المحامين بوصاياه النفيسة‏,‏ وبفنون المرافعة من حصاد تجربته الطويلة المتميزة‏.‏

    ومن اللافت أن هؤلاء الأسلاف قد بنوا هذا البناء قبل أن يدين لهم ما دان لنا اليوم من المعارف والعلوم والثقافة‏,‏ مما كان محل سعي وطلب ومجاهدة للتحصيل في زمن هؤلاء الأسلاف الذين وضعوا الأساس‏,‏ فلم يكن في قبضتهم ومتناولهم ما صار سهل المنال‏,‏ ميسور التحصيل في مصادر عديدة تزايد في زماننا مبوبة ومفهرسة في المجموعات والمراجع وشبكات الإنترنت‏..‏ وتراكمت إلي جوار المعارف التقاليد التي صارت دستورا مكتوبا وغير مكتوب‏,‏ ومع ذلك فإن جعبة اليوم خلت من كثير مما ضربه الأسلاف من أمثال‏..‏ وخطوه وحفروه من قيم وتقاليد ومبادئ‏.‏

    كانت جعبة الماضي في هذا الجانب أكثر ثراء وبعدا عن الكبوات‏..‏ وربما كان مرجع هذا إلي موجة الإنشاء والتأسيس‏,‏ وما يصاحب هذا عادة من همم ماضية وجد أخلص تستلزمه الآمال الكبار في البناء‏!!‏ وهذا قريب من دورات الحضارات التي تصاحبها إيجابيات في مرحلة البناء والتكوين والاندفاع‏,‏ ثم سرعان ما يصيبها التراخي ثم الوهن والتحلل والتفكك بما يصاحبه من ميل كل فئة إلي التمحور الذي يسلس ـ ربما باللاوعي ـ إلي الانحيازات الفئوية التي تعطل في الواقع رسالة العدالة‏,‏ وتحل سلبيات ناحرة محل إيجابيات ثرية معطاءة كان حريا بالحاضر أن يضيف إليها لا أن ينحر منها‏!!‏

    ‏(‏للحديث بقية‏)‏
    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    09عال9 رد: رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية السلسله كاملة جمعها محمد راضى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الإثنين أغسطس 03, 2009 7:36 pm

    رسالة المحاماة‏:‏ في محراب العدالة‏(23)‏
    بقلم ‏:‏ رجائي عطية
    الكلمة المنطوقة هي جسر المحامي إلي القاضي أو القضاة في محراب العدالة‏,‏ وكونها كلمة يستوجب أن يكون لها معني‏,‏ وأن توظف في عبارة تحمل وتعطي مضمونا‏,‏ وأن تأتي في سياق يجعل لها غاية‏..‏ أما كونها منطوقة ـ فإنه يستوجب أن يكون لها معمار‏,‏ وأن تكون لها موسيقيتها الذاتية وموسيقاها في سياق عبارتها المتجاوبة مع المعني الذي تنشد بيانه وجلاءه‏..‏ قد قيض لي أن أنتبه إلي منابع هذا كله قبل أن تتاح لي فرصة الاطلاع والدراسة‏..‏ كان أبي ـ رحمه الله ـ محاميا من الجيل الذهبي‏,‏ وعيت منذ الطفولة إهتمامه بالقرآن الكريم‏,‏ يرتله ويختمه في كل رمضان خمس أو ست مرات‏,‏ ويرتب مقرئا يتلو شيئا منه كل صباح في المكتب وفي السكن حتي صار فردا من الأسرة‏..‏ علي أن الذي أدهشني‏,‏ أنني عثرت في غرفة المتروكات بالمكتب علي عود قديم علاه التراب‏,‏ فأبيت إلا أن أبحث عن تفسير يحل ما رأيته آنذاك تناقضا بين قراءة القرآن وترتيله‏,‏ وبين أهازيج العود وموسيقاه‏..‏ لم يشف غليلي إلا كلمات الأب الأستاذ أن للقرآن الكريم موسيقي ومعمارا‏,‏ وأن فنون القراءة والترتيل والتجويد قائمة علي الإمساك بقواعد تجد بغيتها في الموسيقي‏,‏ وأن عالمها عالم واسع‏,‏ وأن الأغاني
    للأصفهاني محيط زاخر في البحور والأوزان والطبقات الصوتية‏,‏ وبفنون الشعر والنثر ـ وأن هذه وتلك الأزمة من لوازم فنون الإلقاء في المحاماة‏,‏ وأن المحامي ليس حسبه أن يلم بالقانون ويبحر في عوالم الثقافة والمعرفة ليمتليء رأسه ويتفتح عقله ويربو حصاده‏,‏ وإنما عليه أن يمسك زمام وسائل الإقناع وأن يدرك أن فرصة الكلام والحجة في بلوغ الغاية تتفاوت صعودا وهبوطا‏,‏ أو إيجابا وسلبا ـ علي قدر ما يستطيع المحامي أن يجدل المعاني في عبارة محبوكة‏,‏ وأن يلقي بها بفن يحفظ له جسرا حيا وواجبا بينه وبين منصة القضاء‏..‏ الحديث في محراب العدالة حديث خاصة إلي خاصة‏,‏ وهكذا ينبغي أن تكون‏..‏ لا يغني المحامي فيه قاعدته المعرفية مهما اتسعت‏,‏ وإنما عليه إستعدادا لما يروم ـ أن يسكب روحه في دعواه‏,‏ وأن يستكنه أسرارها وأن يستنطق وقائعها ويستنبط طريق أو طرق العلاج فيها‏..‏ هذا الإستعداد يلتئم مع فنون الالقاء والأداء‏..‏ هذا الفن موهبة‏.‏ نعم‏,‏ ولكنه إلي جوار ذلك علم ودراسة‏..‏ الدربة تأتي من الممارسة‏,‏ ولكن الدراسة بحورها عميقة لاينبغي للمحامي أن يكف عن الخوض فيها‏..‏

    البيان والتبيين ـ إسم علي مسمي لكتاب وضعه عبقري العربية أبو عثمان الجاحظ‏..‏ فقد ظل منذ القرن الثالث الهجري عمدة المراجع في إرشاد الراغبين في امتلاك ناصية البيان والقدرة علي التعبير وتبيين المشكل ليصير جليا‏..‏ لايمكن لمحام عاشق للمحاماة أن يدع قراءة وتحصيل هذا الكتاب ضميما إليه كتاب فن الإلقاء‏..‏ كتبه عبد الوارث عسر عبقري التمثيل وأستاذ الإلقاء الذي علم فنونه إلي الكثيرين من طلاب بل وأساتذة فنون التمثيل المسرحي والسينمائي‏..‏ الفارق بين الكتابين يكمن في فاصل أكثر من ألف عام‏,‏ ثم فيما حصله القدير عبد الوارث عسر من تجربته المسرحية علي التخصيص‏.‏

    في البيان والتبيين يقول الجاحظ‏:‏ ـ ينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني‏..‏ ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين‏..‏ وبين أقدار الحالات‏..‏ فيجعل لكل طبقة من ذلك كلاما‏.‏ ولكل حالة من ذلك مقاما‏.‏ حتي يقسم أقدار الكلام علي أقدار المعاني‏..‏ ويقسم أقدار المعاني علي أقدار المقامات‏..‏ وأقدار المستمعين علي أقدار تلك الحالات‏.‏

    لم يلق الجاحظ بحكمته ويمضي‏,‏ وإنما تعهدها بالتخديم ليصل مع قارئه إلي غايته‏..‏ البيان والتبيين لهما قواعد تجمع بين العلم والمعرفة من ناحية‏,‏ وبين مجدولة تتكاتف فيها الكلمة بفنون القائها‏,‏ مع الاشارة والإيماءة التي تتناغم مع الكلمة والقائها من ناحية أخري‏!‏ لم يكن الجاحظ ببيانه وتبيينه ولا بإحصائه المتمكن لأدوات ووسائل إخراج الكلام‏,‏ ولا لعيوب اللسان ـ لم يكن بعيدا عن ذاكرتي حين وقعت علي كتاب فن الالقاء للأستاذ القدير عبد الوارث عسر‏..!‏ هذا الكتاب تحفة عصرية لا يستغني عنها كل عامل مهتم بفنون الالقاء‏,‏ خطيبا كان أو ممثلا أو محاضرا أو محاميا‏..‏ الإلقاء فن لأنه مزاوجة بين العلم والذوق والجمال والموهبة‏..‏

    للنطق قواعد تستوجب إتقان مخارج الحروف وصفاتها‏,‏ وأدوات النطق مخارج خمسة للأحرف والكلمات‏:‏ الجوف‏,‏ الحلق‏,‏ و اللسان‏,‏ و الشفتان و الخيشوم‏(‏ داخل الأنف من أعلاه‏)..‏ ولكل مخرج من هذه المخارج حروفه الأقدر من غيره علي إخراجها‏,‏ ولكل أداء وإيقاع المخرج الأنسب له تبعا للمراد‏..‏ يعرف المتقن لفن الالقاء متي يعلو بصوته ومتي ينخفض به ومتي يهمس‏..‏ متي يقترب من المتلقي ومتي يبتعد‏..‏ متي يقف ومتي يبدأ‏..‏ إن القارئ للقرآن ليعرف من مفتاح المصحف علامات الوقف والإبتداء‏:‏ م و لا و صلي و قلي و ج و‏.....‏ لايجيد التلاوة ولا يحصل المعني من لا يعرف متي يكون الوقف لازما ومتي يكون مستحسنا ومتي يكون ممنوعا‏..‏ كذلك الالقاء‏..‏ يتعانق الفن فيه مع المضمون‏.‏ ليقدما شحنة صالحة للبيان قادرة علي التبيين والتأثير والإقناع‏.!‏

    مهمة المحامي في المرافعة أصعب من مهمة أي مرتجل يقف متحدثا إلي فرد أو مجموع‏..‏ الداعية الديني يتحدث إلي مريدين تواقين إلي سماعة والتلقي منه والإهتداء به‏,‏ والخطيب الوطني أو السياسي يخطب في جمهور يواليه وقد يتعصب له ويتشوق إلي الإنصات إليه والأخذ منه واتباعه حتي النخاع‏..‏ أما المحامي فأحسن الفروض بالنسبة له هو رغبة القاضي أو القضاة في أداء الواجب‏,‏ وهذه الرغبة تقابلها عوارض وقد تصادفها منغصات‏,‏ ما بين رول مزدحم بالقضايا‏,‏ أو سخونات في تضاعيف الأداء وظروف الجلسة‏,‏ فضلا عن ضيق المكان ـ ربما‏,‏ وعن الزحام‏,‏ وعن إلحاح الوقت والرغبة في الإنجاز ـ ولذلك فإن المحامي مطالب بأن يعبر مع قاضيه فوق هذا كله‏,‏ وأن يعطيه من الجدية والعمق ورفعة وفن الأداء ما يعينه علي الإنصات ويفتح في حناياه أشواقا إلي المعرفة تجعله مقبلا علي الإستماع لاصادفا أو مشيحا عنه‏..‏ لذلك ففن الإلقاء‏,‏ مع كمال وعراضة العلم‏,‏ أساس لا غني عنه للمحامي والمحاماة‏..‏
    ‏(‏ للحديث بقية‏)‏
    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    09عال9 رد: رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية السلسله كاملة جمعها محمد راضى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الإثنين أغسطس 03, 2009 7:38 pm

    رسالة المحاماة‏:‏ في محراب العدالة‏(24)‏
    بقلم ‏:‏ رجائي عطية
    المرافعة الشفوية‏,‏ وقوامها الارتجال والالقاء اللذان تمتزج فيهما فنونه بناصية الحجة وقوة البيان ـ هي روح القضاء الجنائي علي التخصيص‏..‏ حتي صارت الشفوية ركنا ركينا ومبدأ أصيلا تحيد الاجراءات عن شاطيء السلامة إذا تجاهلتها أو صادرتها أو أشاحت عنها‏.‏ في ذلك تقول محكمة النقض برئاسة أحد الكبار العظام المستشار محمد وجدي عبدالصمد‏:‏ الأصل في الدعاوي الجنائية بعامة وفي مواد الجنايات بخاصة أن يكون الدفاع شفاها‏.‏ إلا إذا طلب الدفاع أن يكون مسطورا‏.‏ إعتبارا بأن القضاء الجنائي يتعلق في صميمه بالأرواح والحريات ومبني علي إقناع القاضي وما يدور في وجدانه‏.‏ حكمة ذلك أن القضاء الجنائي قضاء إقتناع ووجدان‏,‏ يقصد بذلك أن القاضي الجنائي متخفف مما يتقيد به القاضي المدني في الأقضيات المدنية المحكومة بضوابط قد لايستطيع القاضي ذاته أن يتحاشاها حتي وإن وجد الحق والعدل في تحاشيها‏..‏ لذلك قالوا إن الحقيقة القضائية التي يتوسدها حكم القضاء ـ قد تختلف عن الحقيقة الواقعية التي ربما يراها القاضي أو يحسها ولكنه محكوم ـ أمانا لنفسه وللحق ـ بقواعد وقيود للأدلة في المجال المدني لايستطيع أن يهدرها‏..‏ فما يجاوز ـ مثلا ـ نصاب البينة لايجوز إث
    باته بشهادة الشهود‏,‏ ولايجزيء فيه إلا الدليل الكتابي‏,‏ وما هو ثابت بالكتابة لايجوز إثبات عكسه إلا بالكتابة‏..‏ هذه المنظومة إستقرت في الشرائع والقوانين وحكمت ولاتزال تحكم الأقضيات المدنية التي تتنازع وتتصارع أو تتقارع فيها حقوق‏,‏ بيد أن القضاء الجنائي يقضي في الحريات والمصائر بل وفي الحيوات‏,‏ فإذا إحتملت العدالة أن تختلف الحقيقة القضائية عن الحقيقة الواقعية في المجال المدني‏,‏ فإن الضمير الانساني وضمير العدل ـ يأبيانها في المسائل الجنائية التي تمس مصائر وحياة وحريات الناس‏!..‏ لذلك كان مبدأ الاقناع هو أساس القضاء الجنائي‏,‏ في رحابة يحلق القاضي فوق السحاب ناشدا الحقيقة الفعلية الواقعية لأن المصائر والحريات والحيوات لاتحتمل هنة مهما صغرت‏..‏ ومن هنا دلفت المرافعة الشفوية لتكون هي روح القضاء الجنائي‏,‏ فالمنطق الجنائي لايقوم علي منطق الحساب والتقييد‏,‏ وإنما علي سنة الغوص والتعمق والاستشراف والتحليل‏..‏ وكلها مجالات عميقة عريضة لسبر النفس الانسانية التي تطل إطلالا حاضرا في الدعاوي الجنائية بعامة‏,‏ وحكمة ذلك واضحة‏,‏ فاشتراط الدليل الكتابي علي واقعة السرقة أو النصب أو الاختلاس أو إهدار المال العام ـ قصور سق
    يم لأن الجاني لايقدم كتابة صك إدانته‏,‏ كما أن إشتراطه سقم أخطر في جرائم القتل والبلطجة والعدوان والضرب المفضي إلي الموت أو إلي عاهة‏,‏ وفي الجاسوسية أو الحرابة أو الخيانة وما إلي من صور عديدة ومتباينة للجرائم‏..‏ فليس يعقل أن يقترن إرتكاب الجرائم بتقديم الجاني دليلا كتابيا علي فعلته‏,‏ بل إن الفرض في عالم الجريمة أن الجاني ـ فيما عدا جرائم التزوير في محررات ـ يسعي لطمس الألة كتابية كانت أو مادية أو فنية‏,‏ لأن ضبط هذه الأدلة فيها هلاكه الذي يريد أن يتحاشاه ليفر بجريرته أو بجريمته‏..‏ ولكن شهادة الشهود‏,‏ والأدلة المادية والفنية بعامة‏,‏ وعلم الأدلة الجنائية من بصمات وتحاليل وأطياف‏,‏ وهي عدة القاضي الجنائي في تكوين عقيدته التي يأبي ـ ويأبي العدل ـ أن تقوده أو تسليمه لغير الحقيقة الفعلية الواقعية التي لايرضي عنها بديلا‏..‏ وسماع الشهود وإستعراض الأدلة يتم شفاهه بتحقيق المحكمة‏,‏ وتتناولها تحليلات ومرافعات كل من النيابة والدفاع في ساحة القضاء‏..‏ هذا العلم الواسع يتنادي بالغوص والتحليق والتحليل‏..‏ هذه هي بضاعة الاتهام والدفاع‏,‏ وهي عالم القاضي الذي ينشد الحقيقة ويستخرج في الوصول إليها كل ما لديه من أدوات الا
    قتناع من نباهة وفطانة وذكاء وتحليل وعلم واستقراء وإستكناه وإبحار في عوالم شتي تلتئم فيها منظومة قدراته لهدايته إلي الحق الذي يريد ويريده المجتمع منه‏..‏ من أجل هذا وغيره كانت المرافعات هي الشغل الشاغل للمحامين والمحاماة‏,‏ كيف تكون‏,‏ وبأي أسلوب‏,‏ وبأي لغة‏,‏ وبأي صيغة‏,‏ وبأي إيقاع‏..‏ هذه كلها خواطر تثيرها المرافعات وتستلزم الاختيار والانتقاء والاتباع‏..‏ لا يعدم فرسان المحاماة نصائح يلقيها شيوخ المهنة والسابقون من كبار أساتذتها‏..‏

    نسمع فيما نسمع لنجم المحاماة الأستاذ الكبير أحمد رشدي يتحدث عن المرافعة في الكتاب الذهبي للمحاكم الأهلية الصادر‏1937‏ فيقول‏:‏ ـ المرافعة رسالة يؤديها المحامي عن صاحب الحق إلي من يملك إقرار الحق أو إنشاءه؟ إذن لا مناص من أن يتزود المحامي ـ لتبليغ هذه الرسالة ـ صدق اليقين وقوة البرهان‏,‏ وأن يري كيف يمهد سبيلها إلي الأسماع ثم إلي القلوب بلطف الأداء ورفق العبارة وحسن الخطاب‏..‏ فالمرافعة ليست بذلك هي الفصاحة وحدها‏,‏ ولا هي العلم بالقانون وحده‏,‏ ولكنها قبل أن تكون غزارة علم وزخرف كلام‏,‏ يجب أن تكون حول الدعوي سياسة ويقظة واستبصارا‏,‏ وحول الدليل حذقا في الأداء ولباقة في إيراد الأمر وإصداره هكذا تكون المحاماة لمن أراد‏!.‏

    هذه المبادي العامة لا خلاف عليها‏,‏ الوقت المتاح الآن للمترافع أضيق يقينا من الوقت الذي كان متاحا له في الزمن الفائت‏,‏ ولغة الخطاب الآن ـ ومفردات اللغة ـ ليست كلغة الخطاب ومفرداته في الزمن الغابر‏,‏ وظروف الآداء التي تمارس فيها المرافعات اليوم ليست كالظروف التي كانت‏..‏ والمحامي الذي لايدرك التطورات التي تزحف علي المرافعة يفصل نفسه عن الأداء الواجب الذي هو غايته في محراب العدالة‏..‏ فليست المرافعة محض خطابه ـ هي فرع عليها‏:‏ نعم‏,‏ يجزيء فيها الاطلال علي كتاب الخطابة لأرسطو طاسيس‏,‏ وعلي مؤلفات سير ومواطن الفن والاتقان فيمن إشتهروا بالخطابة بدءا من شيشرون ومرورا بنماذج عديدة في الغرب والشرق‏..‏ ذلك أن المرافعة خطاب خاصة إلي خاصة‏,‏ فيها من الخطابة ولكن بمعناها العصري الذي يلائم روح وظروف العصر‏,‏ وطبيعة المحاكمات وظروفها ولغة الخطاب فيها وما تستلزمه‏.‏
    ‏(‏للحديث بقية‏)‏
    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    09عال9 رد: رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية السلسله كاملة جمعها محمد راضى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الإثنين أغسطس 03, 2009 7:38 pm

    رسالة المحاماة‏:‏ واللغـة‏(25)‏
    بقلم ‏:‏ رجائي عطية
    اللغة هي لسان وعي الآدمي‏,‏ وهي وعاء أفكاره وخواطره‏,‏ وأداة تعبيره وبيانه‏..‏ هذه اللغة هي حياة المحاماة ووسيلتها في أداء رسالتها‏..‏ هي جسرها في مخاطبة العقل والوجدان‏,‏ وفي جلاء الفكر وصياغة الحجة وتقديم البرهان‏.‏

    قيمة اللغة تكمن في قدرتها علي التوصيل وهي قدرة مستمدة من ألفاظها وعباراتها‏,‏ ومن موافقتها لأوانها ولمقتضي الحال الذي تستخدم فيه‏.‏

    واللغات بعامة تواجه تحديات في كل عصر‏,‏ وفي كل مجال‏..‏ هذه التحديات واجهتها العربية في الماضي والحاضر‏..‏ واجهت من قديم استشراء الزخارف اللفظية والسجع والجناس والطباق وأمراض مذهب البديع‏..‏ وواجهت عبر العصور ـ ومع الامتداد المكاني ـ تعدد اللهجات المحلية‏,‏ وتسرب العامية المحلية إلي استعمالات الناس قراءة ثم كتابة‏,‏ واستشري الداء حتي وصل إلي المصنفات الأدبية الروائية التمثيلية والشعرية‏,‏ وشاع صداه في الأداء الإذاعي والتليفزيوني والصحفي‏..‏ فغابت الفصحي أو تكاد‏,‏ وتفشت العامية تفشيا يهدد الفصحي‏,‏ وهي مشكلة أضنت ولاتزال الغيورين علي لغة القرآن‏!‏

    قضية اللغة قضية عامة مطروحة بشدة هذه الأيام‏,‏ تستحضر أول ماتستحضر ـ أزمة غياب اللغة الفصحي باعتبارها الأساس المعتمد في صياغة ونقل المعاني والتعبير عنها‏..‏ وعلي مدار تاريخ اللغة بعامة‏,‏ وهي كائن يرد عليها مايرد علي كل حي من تطور‏,‏ تعرضت الفصحي لعاملين متنافرين‏:‏ أولهما الإسراف في الزخارف اللفظية ومذهب البديع الذي عاني منه الأدب العربي معاناة مرضية كانت تأتي في معظم الأحيان علي حساب الفكرة وتحديد وضبط المعاني‏,‏ حتي وجدنا في مقامات الهمذاني ثم الحريري صورا غريبة للإغراق في رصف الكلمات بغض النظر عن المعاني والأفكار‏,‏ فنري في المقامة الثعلبية نسقا يلتزم بحرف منقوط ثم حرف غير منقوط وهكذا إلي آخر المقامة‏,‏ وحتي رأينا مقامة كالمقامة القهقرية تقرأها من آخرها إلي أولها فتجدها بنفس الحروف والكلمات إذا قرأتها من أولها إلي آخرها‏..‏ علي أن هذا المرض الذي عاني منه الأدب طويلا‏,‏ بقي بعيدا عن لغة الفقه والقانون‏,‏ فلم يجد مجالا للنمو والاستشراء لأن الضبط والتحديد هما قوام التعبير في عالم القانون‏,‏ وذلك استلزم ولايزال ضبط الألفاظ وضبط المعاني‏,‏ فيما عدا تسلل الجناس والطباق البديع للمرافعات وغيرها في مرحلة سرعان ما
    انحسرت إزاء تقدم علم القانون وفروعه وتوابعه وما اقتضته من طغيان الفكرة والمعني والحجة والبرهان علي الزخارف الجوفاء‏!‏

    لم تطل إذن مخاطر الجناس والطباق والبديع‏,‏ وإنما زحف محلهما تسرب العامية وتفشيها إزاء الغياب المتزايد للفصحي ـ هذا الغياب الذي استشري فطال حتي مجالات الأدب وانتقل إلي ساحات المحاكم‏..‏

    الخطر الذي يواجه العربية في محراب العدالة الآن‏,‏ لم يعد خطر الزخارف اللفظية أو أمراض مذهب البديع والجناس والطباق والسجع اللفظي والعقلي ـ وإنما الخطر الحقيقي يهب من التآكل العام للغة الفصحي وغياب الإلمام بها وبمفرداتها وترادفاتها وتراكيبها ومعانيها ونحوها وصرفها‏..‏ هذا التآكل العلم ـ مقرونا بطغيان العامية التي لا تلتزم بقواعد ولا بضوابط ـ هو الخطر الحقيقي الذي يهدد محاريب العدالة مثلما هو يهدد حياتنا بعامة وحياتنا الأدبية والفكرية علي التخصيص‏!!‏ وأخطر من عامية اللفظ عامية الفكر‏..‏ ذلك أن عامية اللغة قد تصيب الفكر ذاته بالسطحية‏..‏ نعم‏,‏ هناك من قدموا فكرا عميقا بالعامية‏,‏ مثلما فعل صلاح جاهين‏,‏ أو بيرم التونسي وغيرهما‏,‏ بيد أن عامية أمثال هؤلاء عوضتها أعماقهم وعراضة معارفهم وثقافتهم وأبحارهم في عمق المعاني والأفكار‏.‏

    علي أن الحياة القانونية بالذات لاتحتمل غياب الفصحي‏,‏ ولا تحتمل طغيان العامية‏..‏ لا اعتراض في المرافعات بالذات علي استخدام العامية أحيانا وبحدود‏,‏ حين يكون اللفظ العامي أو العبارة العامية أقدر علي توصيل المعني المراد‏,‏ بيد أن الفصحي هي قوام الأحكام وأساس صياغة الفكر القانوني بعامة‏..‏ هذا الفكر الذي منه تأخذ وفيه تصب المرافعات والمذكرات للنيابة كانت أو للدفاع‏..‏

    رياح غياب الفصحي وطغيان العامية لفظا ومعني‏,‏ لا تهب من محاريب القانون والعدالة‏,‏ وإنما تهب عليها وتؤثر فيها ـ كما تهب وتؤثر علي غيرها‏,‏ فهي قطعة من المجتمع‏,‏ وعناصرها مستمدة منه‏,‏ وتتأثر بالضرورة بما يتأثر به‏..‏ ومع ذلك يبقي للقانون والعدالة درقة تستطيع أن تحتمي فيها ـ كما احتمي الفقه والأدب والدين ـ من مخاطر تآكل الفصحي وتسلل العامية‏!..‏

    ومع أن أسلافنا لم يعانوا منعانيه الآن من تآكل الإلمام بالفصحي أو طغيان العامية‏,‏ واقتصرت المعاناة علي التخلص من المبالغات والزخارف اللفظية ـ إلا أنهم فطنوا لأهمية الحفاظ علي اللغة الخاصة للأحكام والمرافعات‏,‏ واعتنوا بلفت نظر الأجيال إليها‏,‏ وتقديم قواعدها وأنماطها ونماذجها‏..‏ رأينا الكتاب الذهبي للمحاكم الأهلية‏(1937)‏ يكل إلي المحامي زكي عريبي مهمة الكتابة في لغة الأحكام ولغة المرافعات‏,‏ ويحرص علي أن يقدم نماذج وقطعا أدبية ناطقة لهذه وتلك‏,‏ فيها عمق الفكرة مقرونة بعراضة المعني ودقة الصياغة وجمال العبارة‏..‏ كانت المرافعات المتاحة في ذلك الأوان وحتي عهد قريب قبل أن يصيبها ضيق الوقت أو ضيق الصدر‏,‏ مدرسة هائلة للتواصل بين أضلاع المثلث الذهبي للقضاء وبين الأجيال المتعاقبة‏,‏ التي ظلت تتأسي وتتعلم بالتلقي والمحاكاة من بحر هذا المعين الزاخر الذي لاينضب‏!‏
    ‏..(‏ للحديث بقية‏)‏

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 21, 2024 7:34 pm