روح القانون

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
الأستشارات القانونيه نقدمها مجانا لجمهور الزائرين في قسم الاستشارات ونرد عليها في الحال من نخبه محامين المنتدي .. او الأتصال بنا مباشره موبايل : 01001553651 _ 01144457144 _  01288112251

    رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية السلسله كاملة جمعها محمد راضى

    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    09عال9 رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية السلسله كاملة جمعها محمد راضى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الإثنين أغسطس 03, 2009 7:04 pm

    تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :

    رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية السلسله كاملة جمعها محمد راضى - صفحة 2 Ragei2
    المحاماة ــ بغض النظر عن المسمي الإصطلاحي ــ هي نيابة عن الغير في حمايته أو الدفاع عنه‏,‏ قوامها الحجة والبيان والإقناع‏,‏ لدي متلق ما أو متلقين‏,‏ في دائرة ما‏..‏ في مكان وزمان ما‏..‏ وهي بذلك فرع علي أصل عام عرفته البشرية منذ كانت‏..‏ نجد هذه النيابة في أقاصيص وروايات وحكاوي البشر‏,‏ ونجدها في صفحات التاريخ مثلما نجدها في كتب ومدونات الأديان‏..‏ هذه النيابة الإنسانية فيما بين الناس بعضهم وبعضا‏,‏ تؤدي بقدرات خاصة في المختار لهذه النيابة‏,‏ تؤهله للإختيار من ناحية‏,‏ وترشحه للنجاح في مهمته من ناحية أخري‏..‏
    لذلك كان معني الغير حاضرا علي الدوام في المحاماة وفي كل نيابة صادقة ينوب بها الآدمي عن سواه‏,‏ إلا الأنبياء وأصحاب الرسالات فإن معني الغير هو كل الموجود في صفحة وعيهم حيث تذوب ذواتهم ذوبانا كاملا وتتلاشي في المعني الكلي وفي إتجاههم التام إلي الله‏!‏

    الكلمة هي روح وعدة ومهجة وسلاح المحاماة‏..‏ هذه الكلمة ليست محض حروف أو صيغ أو تراكيب‏,‏ وإنما هي حجة وبرهان وبيان‏..‏ ريادة الكلمة قاسم مشترك في رسائل الرسل ودعوات الأنبياء‏,‏ وفي مؤلفات الحكماء والمفكرين والعلماء‏,‏ وفي ممارسات الصحافة وكتابات الصحفيين‏,‏ وفي كتابة المقالات والبحوث‏,‏ وفي قرض الشعر وصياغة الأعمال الأدبية‏,‏ وفي مدونات أحكام القضاء‏,‏ وفي مصنفات الإذاعة والتليفزيون والمسرح والسينما‏,‏ وفيما يتغني به المغنون والشعراء والمنشدون‏,‏ وفيما يلقيه الخطباء والدعاة‏,‏ بل فيما يتحدث به الناس في حواراتهم وشئون معاشهم وحياتهم‏,‏ كلنا شركاء في إستعمال الكلمة‏,‏ تختلف درجات إتقانها وصناعتها وسبكها وصياغتها‏,‏ وتصل إلي أوجها السامق حين تتغيا الإرتفاع بالتعبير بها لتؤدي وظيفتها في التواصل الإنساني وإنارة الألباب والعقول‏.‏
    ويحق لأي آدمي يتقن صناعة الكلمة‏,‏ ويربطها بالفعل والسلوك ــ أن يفاخر بأنه أديب أو شاعر أو صحفي أو كاتب أو مؤلف أو حكيم أو روائي‏,‏ وأن يباهي الدنيا بأنه من صناع الكلمة الموهوبين في نحتها وتراكبيها ومعرفة أسرار معانيها وإيماءاتها وجرسها ومعمارها‏,‏ المتمكنين في التوليف وسبك مترادفاتها في صياغة تجلي المعني وتحفظ الجرس وتستقر شحنتها في وجدان المتلقي‏..‏ بيد أن فروسية الكلمة تجاوز ذلك كله وتتخطاه‏,‏ وتستوجب تحلي صانع الكلمة ــ فوق ذلك ــ بشمائل وخصال وسجايا الفروسية‏..‏ والفروسية ليست محض إمتطاء جواد‏,‏ ولكنها شجاعة‏,‏ وبسالة‏,‏ وإقدام‏,‏ ومروءة‏,‏ وشهامة‏,‏ ونجدة‏,‏ وصدق‏,‏ وعزم‏,‏ ومضاء‏,‏ وبذل‏,‏ وفداء‏..‏ قالوا في الأمثال ليس كل من ركب الحصان خيال‏..‏ كذلك الكلمة‏,‏ فهي ليست محض ظاهرة صوتيه أو قدرة بيانية‏,‏ وإنما هي موصولة ويجب أن تكون موصولة بغاية وهدف‏,‏ لا تتردد أو تحجم عن إبداء ما يستوجبه تخوفا أو توجسا أو جبنا أو أحتياطا أو اتقاء أو طلبا للأمان الشخصي‏!!..‏ لذلك كانت خاصية الفروسية ميزة لا تتحقق لصانع الكلمة ما لم يتحل بأخلاق الفروسية وتقترن كلمته وحجته بهذه الباقة التي يخلق بها الفرسان‏..‏

    لذلك فإن فروسية الكلمة لا تتحقق مالم تكن التزاما بقضية ومبدأ‏,‏ ومالم تكن تعبيرا عن حاصل واقع وقائم في وجدان وحنايا ملقيها‏,‏ مقرونا باستعداد للبذل والنضال والكفاح من أجل تحقيق معانيها‏:‏ في عالم الواقع لا في عالم الخيال‏,‏ في عالم الفعل لا في عالم التفاخر والتباهي والتيه بالكلمات بغض النظر عن قيمتها وما تترجم عنه في عالم الواقع والفعل والعمل والسلوك‏..‏ لم يكن الانبياء والرسل فرسانا للكلمة لمجرد ان حملوا بها الأمانة وألقوها للناس‏,‏ وإنما لانهم صدقوا وكابدوا في حمل ما حملوه من أمانات‏..‏ ولم يكن نبي القرآن فارسا للكلمة ـ لمجرد انه قال‏:‏ انا النبي لاكذب‏,‏ أنا ابن عبد المطلب ـ ولا لمجرد انه قال لعمه ابي طالب في شأن كبار قريش الذين جاءوا يساومونه علي دينه ويعرضون عليه العروض ليصرف النظر عما يدعو اليه‏,‏ فقال‏:‏ والله ياعم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري علي أن أترك هذا الامر حتي يظهره الله أو أهلك دونه ـ ماتركته‏!..‏ ولم يكن عليه السلام فارسا للكلمة لمجرد ان ختم دعاءه الشهير بالطائف قائلا في مناجاته لربه‏:‏ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي‏!..‏ وإنما كان نبي القرآن فارسا للكلمة لانه كان يعني ما يقول‏,‏ ولأنه ترجم الكلمات الي واقع احتمل فيه العذاب والتنكيل والإساءة والإهانة والايذاء‏..‏ جاهد ما وسعته وفوق ما تسعه طاقة أشداء المجاهدين‏,‏ واحتمل جمرات قذائف وطعنات الكفار والمشركين‏,‏ ولم يضق بما كان فيه من مكابدة ونصب‏,‏ بل مضي لاداء رسالته يحول الكلمات الي واقع غير وجه الحياة وحمل النور والضياء الي الانسانية عبر المكان والزمان‏!!‏ لا تفترق المحاماة عن أداتها وهي الكلمة‏,‏ في انها يمكن ان تعلو وأن تهبط‏,‏ تصيب وتخيب‏,‏ تستقيم وتجنح‏,‏ تطفو وتغرق‏..‏ كانت الكلمة هي أداة الرسالات والنبوات ومادة الكتب السماوية‏,‏ مثلما هي عدة المؤلفات والمصنفات والكتب والاسفار‏,‏ وصائغة الفكر الانساني منذ فجر التاريخ الي ما شاء الله‏..‏ لم يزر احد بالكلمة ولا بدورها الهائل العظيم لمجرد هبوط او جنوح في استخدام الكلمة في غير اغراضها السامية‏..‏ لم تفقد الكلمة قيمتها لانها اداة الشاتم او القاذف او المسف‏,‏ ولا لانها عدة التزييف والمزيفين والمضلين والمرائين‏,‏ ولا لكونها مجالا للخداع والغش والمخاتلة والنصب والضلال والتدليس‏..‏ هذه كلها وغيرها عيوب استعمال وممارسة وليست عيبا في الكلمة ذاتها‏..‏ ستبقي الكلمة هي هي حاملة أغلي أفكار الانسانية‏,‏ وهي هي مادة الكتب السماوية والبيان المعجز في آيات القرآن المجيد‏!‏

    والمحاماة التي تتغياها هذه الكلمات‏,‏ هي المحاماة كما هي وكما يجب ان تكون‏!‏ فليست المحاماة جنوح جانح أو خطأ مخالف أو شرود شارد‏,‏ وإنما هي رسالة الحق ونصيره وصوته‏..‏ ترتفع بالكلمة لتكون حياة تدافع وتدرأ بها الشرور والمظالم‏,‏ وتصد التغول والجبروت والطغيان‏!‏
    ‏(‏ للحديث بقية‏)‏


    عدل سابقا من قبل محمد راضى مسعود في الإثنين أغسطس 03, 2009 8:18 pm عدل 1 مرات

    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009

    09عال9 رد: رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية السلسله كاملة جمعها محمد راضى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الإثنين أغسطس 03, 2009 7:38 pm

    رسالة المحاماة‏:‏ في محراب العدالة‏(24)‏
    بقلم ‏:‏ رجائي عطية
    المرافعة الشفوية‏,‏ وقوامها الارتجال والالقاء اللذان تمتزج فيهما فنونه بناصية الحجة وقوة البيان ـ هي روح القضاء الجنائي علي التخصيص‏..‏ حتي صارت الشفوية ركنا ركينا ومبدأ أصيلا تحيد الاجراءات عن شاطيء السلامة إذا تجاهلتها أو صادرتها أو أشاحت عنها‏.‏ في ذلك تقول محكمة النقض برئاسة أحد الكبار العظام المستشار محمد وجدي عبدالصمد‏:‏ الأصل في الدعاوي الجنائية بعامة وفي مواد الجنايات بخاصة أن يكون الدفاع شفاها‏.‏ إلا إذا طلب الدفاع أن يكون مسطورا‏.‏ إعتبارا بأن القضاء الجنائي يتعلق في صميمه بالأرواح والحريات ومبني علي إقناع القاضي وما يدور في وجدانه‏.‏ حكمة ذلك أن القضاء الجنائي قضاء إقتناع ووجدان‏,‏ يقصد بذلك أن القاضي الجنائي متخفف مما يتقيد به القاضي المدني في الأقضيات المدنية المحكومة بضوابط قد لايستطيع القاضي ذاته أن يتحاشاها حتي وإن وجد الحق والعدل في تحاشيها‏..‏ لذلك قالوا إن الحقيقة القضائية التي يتوسدها حكم القضاء ـ قد تختلف عن الحقيقة الواقعية التي ربما يراها القاضي أو يحسها ولكنه محكوم ـ أمانا لنفسه وللحق ـ بقواعد وقيود للأدلة في المجال المدني لايستطيع أن يهدرها‏..‏ فما يجاوز ـ مثلا ـ نصاب البينة لايجوز إث
    باته بشهادة الشهود‏,‏ ولايجزيء فيه إلا الدليل الكتابي‏,‏ وما هو ثابت بالكتابة لايجوز إثبات عكسه إلا بالكتابة‏..‏ هذه المنظومة إستقرت في الشرائع والقوانين وحكمت ولاتزال تحكم الأقضيات المدنية التي تتنازع وتتصارع أو تتقارع فيها حقوق‏,‏ بيد أن القضاء الجنائي يقضي في الحريات والمصائر بل وفي الحيوات‏,‏ فإذا إحتملت العدالة أن تختلف الحقيقة القضائية عن الحقيقة الواقعية في المجال المدني‏,‏ فإن الضمير الانساني وضمير العدل ـ يأبيانها في المسائل الجنائية التي تمس مصائر وحياة وحريات الناس‏!..‏ لذلك كان مبدأ الاقناع هو أساس القضاء الجنائي‏,‏ في رحابة يحلق القاضي فوق السحاب ناشدا الحقيقة الفعلية الواقعية لأن المصائر والحريات والحيوات لاتحتمل هنة مهما صغرت‏..‏ ومن هنا دلفت المرافعة الشفوية لتكون هي روح القضاء الجنائي‏,‏ فالمنطق الجنائي لايقوم علي منطق الحساب والتقييد‏,‏ وإنما علي سنة الغوص والتعمق والاستشراف والتحليل‏..‏ وكلها مجالات عميقة عريضة لسبر النفس الانسانية التي تطل إطلالا حاضرا في الدعاوي الجنائية بعامة‏,‏ وحكمة ذلك واضحة‏,‏ فاشتراط الدليل الكتابي علي واقعة السرقة أو النصب أو الاختلاس أو إهدار المال العام ـ قصور سق
    يم لأن الجاني لايقدم كتابة صك إدانته‏,‏ كما أن إشتراطه سقم أخطر في جرائم القتل والبلطجة والعدوان والضرب المفضي إلي الموت أو إلي عاهة‏,‏ وفي الجاسوسية أو الحرابة أو الخيانة وما إلي من صور عديدة ومتباينة للجرائم‏..‏ فليس يعقل أن يقترن إرتكاب الجرائم بتقديم الجاني دليلا كتابيا علي فعلته‏,‏ بل إن الفرض في عالم الجريمة أن الجاني ـ فيما عدا جرائم التزوير في محررات ـ يسعي لطمس الألة كتابية كانت أو مادية أو فنية‏,‏ لأن ضبط هذه الأدلة فيها هلاكه الذي يريد أن يتحاشاه ليفر بجريرته أو بجريمته‏..‏ ولكن شهادة الشهود‏,‏ والأدلة المادية والفنية بعامة‏,‏ وعلم الأدلة الجنائية من بصمات وتحاليل وأطياف‏,‏ وهي عدة القاضي الجنائي في تكوين عقيدته التي يأبي ـ ويأبي العدل ـ أن تقوده أو تسليمه لغير الحقيقة الفعلية الواقعية التي لايرضي عنها بديلا‏..‏ وسماع الشهود وإستعراض الأدلة يتم شفاهه بتحقيق المحكمة‏,‏ وتتناولها تحليلات ومرافعات كل من النيابة والدفاع في ساحة القضاء‏..‏ هذا العلم الواسع يتنادي بالغوص والتحليق والتحليل‏..‏ هذه هي بضاعة الاتهام والدفاع‏,‏ وهي عالم القاضي الذي ينشد الحقيقة ويستخرج في الوصول إليها كل ما لديه من أدوات الا
    قتناع من نباهة وفطانة وذكاء وتحليل وعلم واستقراء وإستكناه وإبحار في عوالم شتي تلتئم فيها منظومة قدراته لهدايته إلي الحق الذي يريد ويريده المجتمع منه‏..‏ من أجل هذا وغيره كانت المرافعات هي الشغل الشاغل للمحامين والمحاماة‏,‏ كيف تكون‏,‏ وبأي أسلوب‏,‏ وبأي لغة‏,‏ وبأي صيغة‏,‏ وبأي إيقاع‏..‏ هذه كلها خواطر تثيرها المرافعات وتستلزم الاختيار والانتقاء والاتباع‏..‏ لا يعدم فرسان المحاماة نصائح يلقيها شيوخ المهنة والسابقون من كبار أساتذتها‏..‏

    نسمع فيما نسمع لنجم المحاماة الأستاذ الكبير أحمد رشدي يتحدث عن المرافعة في الكتاب الذهبي للمحاكم الأهلية الصادر‏1937‏ فيقول‏:‏ ـ المرافعة رسالة يؤديها المحامي عن صاحب الحق إلي من يملك إقرار الحق أو إنشاءه؟ إذن لا مناص من أن يتزود المحامي ـ لتبليغ هذه الرسالة ـ صدق اليقين وقوة البرهان‏,‏ وأن يري كيف يمهد سبيلها إلي الأسماع ثم إلي القلوب بلطف الأداء ورفق العبارة وحسن الخطاب‏..‏ فالمرافعة ليست بذلك هي الفصاحة وحدها‏,‏ ولا هي العلم بالقانون وحده‏,‏ ولكنها قبل أن تكون غزارة علم وزخرف كلام‏,‏ يجب أن تكون حول الدعوي سياسة ويقظة واستبصارا‏,‏ وحول الدليل حذقا في الأداء ولباقة في إيراد الأمر وإصداره هكذا تكون المحاماة لمن أراد‏!.‏

    هذه المبادي العامة لا خلاف عليها‏,‏ الوقت المتاح الآن للمترافع أضيق يقينا من الوقت الذي كان متاحا له في الزمن الفائت‏,‏ ولغة الخطاب الآن ـ ومفردات اللغة ـ ليست كلغة الخطاب ومفرداته في الزمن الغابر‏,‏ وظروف الآداء التي تمارس فيها المرافعات اليوم ليست كالظروف التي كانت‏..‏ والمحامي الذي لايدرك التطورات التي تزحف علي المرافعة يفصل نفسه عن الأداء الواجب الذي هو غايته في محراب العدالة‏..‏ فليست المرافعة محض خطابه ـ هي فرع عليها‏:‏ نعم‏,‏ يجزيء فيها الاطلال علي كتاب الخطابة لأرسطو طاسيس‏,‏ وعلي مؤلفات سير ومواطن الفن والاتقان فيمن إشتهروا بالخطابة بدءا من شيشرون ومرورا بنماذج عديدة في الغرب والشرق‏..‏ ذلك أن المرافعة خطاب خاصة إلي خاصة‏,‏ فيها من الخطابة ولكن بمعناها العصري الذي يلائم روح وظروف العصر‏,‏ وطبيعة المحاكمات وظروفها ولغة الخطاب فيها وما تستلزمه‏.‏
    ‏(‏للحديث بقية‏)‏

    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009

    09عال9 رد: رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية السلسله كاملة جمعها محمد راضى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الإثنين أغسطس 03, 2009 7:38 pm

    رسالة المحاماة‏:‏ واللغـة‏(25)‏
    بقلم ‏:‏ رجائي عطية
    اللغة هي لسان وعي الآدمي‏,‏ وهي وعاء أفكاره وخواطره‏,‏ وأداة تعبيره وبيانه‏..‏ هذه اللغة هي حياة المحاماة ووسيلتها في أداء رسالتها‏..‏ هي جسرها في مخاطبة العقل والوجدان‏,‏ وفي جلاء الفكر وصياغة الحجة وتقديم البرهان‏.‏

    قيمة اللغة تكمن في قدرتها علي التوصيل وهي قدرة مستمدة من ألفاظها وعباراتها‏,‏ ومن موافقتها لأوانها ولمقتضي الحال الذي تستخدم فيه‏.‏

    واللغات بعامة تواجه تحديات في كل عصر‏,‏ وفي كل مجال‏..‏ هذه التحديات واجهتها العربية في الماضي والحاضر‏..‏ واجهت من قديم استشراء الزخارف اللفظية والسجع والجناس والطباق وأمراض مذهب البديع‏..‏ وواجهت عبر العصور ـ ومع الامتداد المكاني ـ تعدد اللهجات المحلية‏,‏ وتسرب العامية المحلية إلي استعمالات الناس قراءة ثم كتابة‏,‏ واستشري الداء حتي وصل إلي المصنفات الأدبية الروائية التمثيلية والشعرية‏,‏ وشاع صداه في الأداء الإذاعي والتليفزيوني والصحفي‏..‏ فغابت الفصحي أو تكاد‏,‏ وتفشت العامية تفشيا يهدد الفصحي‏,‏ وهي مشكلة أضنت ولاتزال الغيورين علي لغة القرآن‏!‏

    قضية اللغة قضية عامة مطروحة بشدة هذه الأيام‏,‏ تستحضر أول ماتستحضر ـ أزمة غياب اللغة الفصحي باعتبارها الأساس المعتمد في صياغة ونقل المعاني والتعبير عنها‏..‏ وعلي مدار تاريخ اللغة بعامة‏,‏ وهي كائن يرد عليها مايرد علي كل حي من تطور‏,‏ تعرضت الفصحي لعاملين متنافرين‏:‏ أولهما الإسراف في الزخارف اللفظية ومذهب البديع الذي عاني منه الأدب العربي معاناة مرضية كانت تأتي في معظم الأحيان علي حساب الفكرة وتحديد وضبط المعاني‏,‏ حتي وجدنا في مقامات الهمذاني ثم الحريري صورا غريبة للإغراق في رصف الكلمات بغض النظر عن المعاني والأفكار‏,‏ فنري في المقامة الثعلبية نسقا يلتزم بحرف منقوط ثم حرف غير منقوط وهكذا إلي آخر المقامة‏,‏ وحتي رأينا مقامة كالمقامة القهقرية تقرأها من آخرها إلي أولها فتجدها بنفس الحروف والكلمات إذا قرأتها من أولها إلي آخرها‏..‏ علي أن هذا المرض الذي عاني منه الأدب طويلا‏,‏ بقي بعيدا عن لغة الفقه والقانون‏,‏ فلم يجد مجالا للنمو والاستشراء لأن الضبط والتحديد هما قوام التعبير في عالم القانون‏,‏ وذلك استلزم ولايزال ضبط الألفاظ وضبط المعاني‏,‏ فيما عدا تسلل الجناس والطباق البديع للمرافعات وغيرها في مرحلة سرعان ما
    انحسرت إزاء تقدم علم القانون وفروعه وتوابعه وما اقتضته من طغيان الفكرة والمعني والحجة والبرهان علي الزخارف الجوفاء‏!‏

    لم تطل إذن مخاطر الجناس والطباق والبديع‏,‏ وإنما زحف محلهما تسرب العامية وتفشيها إزاء الغياب المتزايد للفصحي ـ هذا الغياب الذي استشري فطال حتي مجالات الأدب وانتقل إلي ساحات المحاكم‏..‏

    الخطر الذي يواجه العربية في محراب العدالة الآن‏,‏ لم يعد خطر الزخارف اللفظية أو أمراض مذهب البديع والجناس والطباق والسجع اللفظي والعقلي ـ وإنما الخطر الحقيقي يهب من التآكل العام للغة الفصحي وغياب الإلمام بها وبمفرداتها وترادفاتها وتراكيبها ومعانيها ونحوها وصرفها‏..‏ هذا التآكل العلم ـ مقرونا بطغيان العامية التي لا تلتزم بقواعد ولا بضوابط ـ هو الخطر الحقيقي الذي يهدد محاريب العدالة مثلما هو يهدد حياتنا بعامة وحياتنا الأدبية والفكرية علي التخصيص‏!!‏ وأخطر من عامية اللفظ عامية الفكر‏..‏ ذلك أن عامية اللغة قد تصيب الفكر ذاته بالسطحية‏..‏ نعم‏,‏ هناك من قدموا فكرا عميقا بالعامية‏,‏ مثلما فعل صلاح جاهين‏,‏ أو بيرم التونسي وغيرهما‏,‏ بيد أن عامية أمثال هؤلاء عوضتها أعماقهم وعراضة معارفهم وثقافتهم وأبحارهم في عمق المعاني والأفكار‏.‏

    علي أن الحياة القانونية بالذات لاتحتمل غياب الفصحي‏,‏ ولا تحتمل طغيان العامية‏..‏ لا اعتراض في المرافعات بالذات علي استخدام العامية أحيانا وبحدود‏,‏ حين يكون اللفظ العامي أو العبارة العامية أقدر علي توصيل المعني المراد‏,‏ بيد أن الفصحي هي قوام الأحكام وأساس صياغة الفكر القانوني بعامة‏..‏ هذا الفكر الذي منه تأخذ وفيه تصب المرافعات والمذكرات للنيابة كانت أو للدفاع‏..‏

    رياح غياب الفصحي وطغيان العامية لفظا ومعني‏,‏ لا تهب من محاريب القانون والعدالة‏,‏ وإنما تهب عليها وتؤثر فيها ـ كما تهب وتؤثر علي غيرها‏,‏ فهي قطعة من المجتمع‏,‏ وعناصرها مستمدة منه‏,‏ وتتأثر بالضرورة بما يتأثر به‏..‏ ومع ذلك يبقي للقانون والعدالة درقة تستطيع أن تحتمي فيها ـ كما احتمي الفقه والأدب والدين ـ من مخاطر تآكل الفصحي وتسلل العامية‏!..‏

    ومع أن أسلافنا لم يعانوا منعانيه الآن من تآكل الإلمام بالفصحي أو طغيان العامية‏,‏ واقتصرت المعاناة علي التخلص من المبالغات والزخارف اللفظية ـ إلا أنهم فطنوا لأهمية الحفاظ علي اللغة الخاصة للأحكام والمرافعات‏,‏ واعتنوا بلفت نظر الأجيال إليها‏,‏ وتقديم قواعدها وأنماطها ونماذجها‏..‏ رأينا الكتاب الذهبي للمحاكم الأهلية‏(1937)‏ يكل إلي المحامي زكي عريبي مهمة الكتابة في لغة الأحكام ولغة المرافعات‏,‏ ويحرص علي أن يقدم نماذج وقطعا أدبية ناطقة لهذه وتلك‏,‏ فيها عمق الفكرة مقرونة بعراضة المعني ودقة الصياغة وجمال العبارة‏..‏ كانت المرافعات المتاحة في ذلك الأوان وحتي عهد قريب قبل أن يصيبها ضيق الوقت أو ضيق الصدر‏,‏ مدرسة هائلة للتواصل بين أضلاع المثلث الذهبي للقضاء وبين الأجيال المتعاقبة‏,‏ التي ظلت تتأسي وتتعلم بالتلقي والمحاكاة من بحر هذا المعين الزاخر الذي لاينضب‏!‏
    ‏..(‏ للحديث بقية‏)‏
    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    09عال9 رد: رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية السلسله كاملة جمعها محمد راضى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الإثنين أغسطس 03, 2009 7:39 pm

    رسالة المحاماة‏:‏ واللغة‏(26)‏
    بقلم ‏:‏ رجائي عطية
    اللغة التي بين أيدينا الآن‏,‏ ليست اللغة التي كانت بأيدي وتناول وتداول أسلافنا منذ قرن من الزمان‏!‏

    ..‏ نعم هي هي اللغة العربية‏,‏ ولكن اللغة مفردات وتراكيب‏,‏ وكلاهما خاضع لسنة الحياة التي لا تبقي شيئا علي حاله‏..‏ اللغات بعامة في حالة تطور دائم‏,‏ تستجد فيها مفردات وتتواري أو تتباعد أخري‏,‏ وتستجد فيها تراكيب وتهجر في الإستعمال تراكيب أخري‏..‏

    وليس المحامي أو غيره من أرباب الكلمة بمستطيع أن يعي لغته وعيا متفطنا‏,‏ ولا أن يستخدمها استخداما صحيحا مؤثرا‏,‏ مالم يلتفت إلي هذا ويدرك أسرار اللغة وتاريخها وتطورها وصيغ أساليبها ومواطن الجمال فيها‏..‏ من عظمة أسلافنا من الجيل الذهبي أنهم كانوا بنائين عبدوا طريقا بالغ القفر والجفاف‏..‏ حينما شقوا طريقهم كانت العربية مهجورة مهيضة في بلدها‏,‏ وكانت الغلبة للتركية والإنجليزية والفرنسية والإيطالية‏!!‏ وتوارت العربية في بلدها بين ناسها‏,‏ حتي عدا الكرد والشركس والإرناءوط وأسري ابراهيم باشا من بلاد المورة وكريت والاناضول علي أهل البلاد فصاروا حكاما يترفعون علي أهل مصر وعلي لغتها‏,‏ فتراجعت اللغة العربية في المرافعات والأحكام‏,‏ ومن يرجع إلي سجلات وأحكام المحاكم في ذلك الزمان يجد العجب العجاب في تردي لغة الأحكام ومصطلحاتها وسيادة التركية التي كانت لغة البلاد الرسمية‏,‏ وتشويه النقل الي اللغة العربية‏,‏ مع تواضع وضعف وركاكة كتابة المذكرات والأحكام‏,‏ ولعل بداية نهضة اللغة العربية في المحررات القضائية الرسمية يرجع إلي البنائين العظام في باقة رائعة كان منها الأستاذ شفيق بك منصور واسماعيل باشا صبري والاستاذ الإمام محمد
    عبده وسعد باشا زغلول وأمين باشا فكري وعبدالعزيز باشا فهمي ومحمد باشا فخري وأحمد فتحي باشا زغلول وقاسم بك أمين ومحمد بك صالح وحفني بك ناصف وغيرهم‏..‏ هؤلاء الذين حملوا الشعلة‏,‏ وانتقلوا نقلة ملحوظة بأسلوب كتابة الأحكام وتطعيمها بمباديء الشرع والقانون‏.‏ حتي النقل إلي العربية‏,‏ كان نقلا ركيكا متأثرا بأفول اللغة كتابة واستعمالا‏,‏ وامتلاء الساحة بهؤلاء الأجانب وأسمائهم ولغاتهم‏..‏ ومن يراجع أوراق المحاكم في ذلك الزمان يجد الموره لي ـ والكريتلي‏..‏ والسلحدار‏,‏ وكخيا‏,..‏ الخ‏,‏ وساعد علي سيادة الأجانب ولغاتهم وغياب العربية وتفشي الأمية تفشيا مريعا وأن اكثر من‏99%‏ من الأهالي لايقرأون ولايكتبون وغلبت الحكام الأجانب علي المصريين‏,‏ فكان أن أصابت الركاكة اللغة العربية حتي بلسان أبنائها والناقلين إليها‏..‏ كان المتداول في المرافعات والمذكرات والأحكام ألفاظا وعبارات مثل‏:‏ ينجمل ـ موكليني ـ منمده ثلاثة شهر ـ عن هذه المادة ـ والآن رغبت انفصالي منه واستولاي علي ـ وعبارات لا علاقة لها بالعربية لفظا أو نحوا وصرفا‏!!‏

    ولعل هذا الغياب المؤلم للعربية‏,‏ سبب المغالاة في رد الفعل الذي أخذ لدي الأسلاف صورة الإسراف في عبادة اللفظ واستخدام الزخارف اللفظية والطباق والجناس والبديع‏,‏ تعويضا ـ فيما يبدو ـ عما أمض النفوس وأوجع القلوب من غياب العربية في بلدها وبين أهلها‏!!‏

    أدرك أسلافنا البناءون العظام أن قضية اللغة قضية القضايا‏,‏ وأن استرداد العربية مكانتها الواجبة في وطنها وبساحات المحاكم تدوينا ومرافعة وأحكاما‏,‏ يستوجب جهودا كبيرة‏,‏ فاهمة وواعية ومتفطنة‏,‏ ومدركة في الوقت نفسه مطالب الأداء القانوني ومايستوجبه من ضبط وتحديد المعاني تحاشيا للميوعة والهلامية التي تضيع معها المعاني أو تشيع بين تفسيرات متعددة يكرهها القانون وتأباها العدالة‏!‏

    حين ندرك هذا‏,‏ ننظر بعين الفهم والعرفان والتقدير لما إهتم به أسلافنا العظام‏,‏ وفيما كلفوا به الأستاذ زكي عريبي المحامي ليكتب للكتاب الذهبي للمحاكم الأهلية ـ بحثا ضافيا مستفيضا في لغة الاحكام وفي لغة المرافعات‏.‏ كان ذلك في ثلاثينات القرن الماضي‏,‏ وكانت اللغة العربية قد جاوزت الأفول الطويل‏,‏ وتعدت الركاكة والضعف‏,‏ وأغتنت استعمالات الألفاظ والتراكيب‏,‏ وحلت الصياغة الأدبية في الكتابة وفي المشافهة محل ماكان من ضعف ووهن‏,‏ وبدأت الأنظار تلتفت الي عيوب مذهب البديع وسلبيات الإفراط فيه علي ضبط المعاني والألفاظ‏..‏ ومع ذلك لم يهمل هؤلاء الأسلاف الكبار أن لغة الأحكام والمرافعات لاتزال تحتاج الي التفات خاص والي عناية خاصة‏,‏ ليس حسبها أن تعطي الساري أو الجاري وإنما طموحها أن تواكب المستحدثات والمستجدات وأن تكون متهيئة لما يأتي به المستقبل‏,‏ قادرة علي الأداء والتعبير طبقا لمعطياته ولوازمه‏!‏

    أدرك هؤلاء البناءون العظام ان الإلمام العام باللغة العربية بيانا وبلاغة ونحوا وصرفا ـ لايغني الكاتب أو المترافع في محراب العدالة عن قواعد وقيود تلزمه ليتحقق في مرافعته أصل البلاغة‏:‏ موافقة الكلام لمقتضي الحال‏..‏ هذه الموافقة تقتضي إدراك متاعب اللغة التي تستوجب ملاحقة الجديد في المعاني والمستحدثات وفروع العلوم التي شملتها وتشملها النهضة بما استدعي ويستدعي الإلمام بالجديد لتستبقي اللغة قدرتها علي التعبير‏.‏ ومن هذه الموافقة لمقتضي الحال الإلتفات الي عدم تجاوز القصد بالوقوع في الاستطرادات والسجع والارداف ـ كمن إذا قال الظلم ألحق به الاستبداد‏,‏ أو إذا تكلم عن الرحمة أردفها بالإشفاق‏..‏ ثروة اللغة بالمترادفات ـ وهذا شأن العربية ـ يغري بهذا الاستطراد والسجع‏,‏ وهو داء يجب علي الأدب بعامة أن يتخلص منه وأن يدرك أهمية نحت اللفظ وصياغة العبارة علي قدر المعني المراد‏..‏ أن يدرك الفروق الدقيقة بين معاني الألفاظ مثل الفارق بين الإقدام أو الشجاعة أو الجرأة إو الهمة او الفارق بين اللين والجلد والاحتمال وأن يعرف أن صياغة القانون وفروعه من مؤلفات وبحوث وأحكام ومذكرات ومرافعات تستوجب الدقة والضبط والتحديد‏..‏ المعاني المتره
    لة ـ قد تفوت في لغة الخطاب العادية أو الأدبية‏,‏ ولكنها لاتسعف في صياغة الفقه والقانون والمرافعة‏.‏ ومن متطلبات الموافقة ـ لبلاغة المرافعة ـ البعد عن التكرار وعن الاملال وعن اللجوء الي المأثورات التي ماعت وأملت من كثرة ترديدها فيما يحسن ومالا يحسن حتي ملت الأسماع من سماعها من كثرة ترديدها وفقدت القدرة علي التأثير المرجو منها‏!‏ وللحديث بقية
    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    09عال9 رد: رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية السلسله كاملة جمعها محمد راضى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الإثنين أغسطس 03, 2009 7:42 pm

    رسالة المحاماة‏:‏ واللغة والتفكير‏27‏
    بقلم‏:‏ رجائي عطية
    حين رأيت أستاذي وأبي بالروح والعقل‏,‏ المرحوم الدكتور محمد عبدالله محمد ـ مدافعا في قضية رشوة أمام محكمة جنايات القاهرة برئاسة المرحوم المستشار صلاح عبدالمجيد في ابريل‏1977,‏ كانت كل معلوماتي عنه من أحاديث متفرقة لأبي رحمه الله‏,‏ يذكره بالخير والتقدير والإعجاب‏,‏ ويصنفه في عباقرة المحاماة‏,‏ وأنه علامة متميزة في جيلهم‏..‏ ولكني لم أكن رأيته حتي ذلك اليوم من ابريل‏1977..‏ سبقه يومها في المرافعة بالقضية وزير سابق للعدل‏,‏ كان الوزير السابق مترافعا طلق اللسان‏,‏ ولكن لاحظت ان الخط بينه وبين المنصة مقطوع‏,‏ حتي إذا ما أنهي مرافعته الطويلة ـ شدني رجل قصير ممتليء أصلع الرأس‏,‏ وقف بخفة ظل يستأذن المحكمة في أنه لابد لمشيخته ان يقول شيئا‏,‏

    ويستأذن في سبع دقائق ليس إلا‏..‏ رأيت الوجوه علي المنصة قد أقبلت وأشرقت‏,‏ ولمحت احتفالا بالرجل دعاني أن اسأل من يكون‏,‏ فقال جاري أنه الاستاذ محمد عبدالله محمد‏,‏ راقبته في شغف بالانبهار الذي زرعه أبي رحمه الله في صفحة وجداني‏,‏ فلفتني انه حريص علي ألا ينقطع الحبل بينه وبين المنصة‏,‏ ولايتقيد بألفاظ متقعرة‏,‏ أو يحرص علي فصاحة متعمدة‏,‏ انما ينساب في سهولة ويسر‏,‏ ولكنها قد أخذت علي المحكمة كل انتباهها‏..‏ فرغ من مرافعته القصيرة‏,‏ ولكنه ضرب فيها الاتهام ببراعة وسهولة ممتنعة في ثلاثة مقاتل لم أرها في المرافعة الطويلة‏,‏ ثم انسحب من أمام المنصة وهو ينظر في ساعته ويعتذر بأنه سرق ثلاث دقائق زيادة عما وعد به‏!..‏

    كانت الوجوه مبتسمة محتفية‏,‏ ثم بعد المداولة صدر الحكم بالبراءة‏..‏ راقبت هذا الدرس في شغف وإعجاب‏...‏ يومها لم أجد فرصة للحديث إليه‏,‏ ولا لتعريفه بنفسي‏..‏ ثم مضت شهور‏,‏ فوجدتني من موافقات المقادير إلي جواره والاستاذ أحمد الخواجة في جناية عرض رشوة متهم فيها زميل منظورة امام محكمة عسكرية عليا في العباسية‏..‏ علي قدر قلقي علي الزميل‏,‏ علي قدر ما تمتعت بصحبة الاستاذ الجليل محمد عبدالله محمد علي مدي ثلاثة اسابيع امتدت إليها المحاكمة‏..‏ لاحظت فيما لاحظت ان الاستاذ أحمد الخواجة‏,‏ شديد الاحترام والتوقير للاستاذ محمد عبدالله‏,‏ يبذل له من الاجلال ما يبذله التلميذ لأستاذه‏,‏ أسر إلي أحمد الخواجة‏,‏ وكانت هذه بداية صداقة عريضة عميقة جمعتنا‏,‏ أن محمد عبدالله محمد من فلتات المحاماة‏,‏ وانه حدوته تكاد تكون بلا نظير‏,‏ راقبت الرجل بحب وإعجاب وانبهار علي مدي الاسابيع الثلاثة‏,‏

    وتمتعت بصحبته بفترات الاستراحة ـ الطويلة احيانا ـ التي كانت تتخلل الجلسات‏..‏ جالسته واستمعت إليه‏,‏ وكانت الحياة مليئة في ذلك الوقت بقضايا لافتة كان من الطبيعي أن تدور حولها أحاديثنا‏..‏ الذي لفتني في البداية وأدهشني‏,‏ أني لاحظت ان الاستاذ الكبير ربما عز عليه اللفظ في الحديث فيتوقف لثوان يبدو فيها باحثا عن لفظ‏,‏ فأقترح كلمة فلا يحفل‏,‏ وثانية فلا اراه يقبلها‏..‏ ثم لاحظت ان ما تصورته لألأة في البحث عن اللفظ‏,‏ ليس عيا في اللسان‏,‏ وليس نضوبا في معين المفردات لدي ذلك العملاق الذي عرفته فيما بعد يجلس إلي قاموس المحكم والمخصص لابن سيدة يزجي بقراءته وقته كأنما يقرأ رواية مسلية‏,‏ وعرفت أن حصاده في اللغة العربية ـ فضلا عن الفرنسية والانجليزية وبعض الإيطالية ـ حصاد هائل ـ وأدركت ان تمهل الرجل الذي ظننته يحتاج إلي نجدتي بما تصورت ـ ساذجا‏!‏ ـ

    أنني أمتلكه من محصول المفردات‏,‏ انما هو تمهل العالم المفكر‏,‏ يبحث عن لفظ بعينه ـ لانه كصانع الأرابيسك فطر نفسه علي ألا يختار إلا اللفظ المحكم المحدد الذي إذا وضعته في العبارة استحال ان تجد لفظا بديلا له يعبر عن المعني العميق الدقيق المحدد الذي قصده‏..‏ تابعت هذا بشغف واجف‏,‏ لأن ثقتي في تدفقي تحولت إلي إشفاق من أن أكون سطحي الفكر والتعبير‏,‏ منصرفا للفصاحة عن الفكرة العميقة والخاطرة المتأملة والصياغة الدقيقة‏,‏ وظل هذا الاشفاق يتزايد‏,‏ حتي أنصرمت المحاكمة وأوصلته بسيارتي في اليوم الأخير إلي بيته بشارع النور بقرب نادي الصيد‏,‏ كنت أقود السيارة وهو إلي جواري‏,‏ فما دريت إلا والرجل يقول لي بحنو الأب أني محام واعد‏,‏ يتوسم أن أحقق المزيد من خطواتي في المحاماة‏..‏ مازلت أذكر عباراته الحانية‏:‏ يا رجائي‏,‏

    لدي ما أعطيه لك‏,‏ فإذا وجدت لديك وقتا فلا تتردد في زيارتي‏..‏ في المكتب ان شئت‏,‏ وفي البيت إذا اردت‏,‏ مر اسبوع علي هذا الحديث وأثر الرجل يزداد عراضة في وجداني‏,‏ واشفاقي يربو أن يكون تدفقي محض فصاحة لفظية لاتتعمق تحت السطح كما رأيت الاستاذ الكبير يتعمق‏..‏ظل هذا الهاجس يربو ويزداد حتي تمكن مني‏,‏ وبدأ يؤثر في تدفقي‏,‏ لأن صورة محمد عبدالله محمد حاضرة في ذهني وصفحة وعيي في كل عبارة أحاول صياغتها في مرافعتي‏!!‏

    أصابني ما يشبه الصدمة من اسلوب محمد عبدالله محمد‏,‏ مع أنني لم أكن يوما من المنتمين لمدرسة البديع‏,‏ بل وتأثرت باكرا بكتابات الاستاذ الكبير يحيي حقي وحرصه الواضح علي التدقيق في اختيار ونحت الألفاظ‏,‏ وبكتابات الاستاذ الدكتور محمد مندور عن جرس العين البديل عن جرس الاذن الذي اصاب الصياغة العربية‏,‏ وعما أسماه الشعر المهموس الذي تتغلغل معانيه وينساب أثره كأنه الهمس تتلقاه العيون وبلا ضجيج يقرع الآذان‏..‏ إلا ان محمد عبدالله محمد فجر أمامي عوالم هائلة‏,‏ لفتني فيه علم هائل غزير لايستعرضه وانما ينضح في كل ما يتناوله‏,‏ والمام هائل باللغة العربية في القواعد والأصول‏,‏ وفي الصرف والنحو‏,‏ وفي المترادفات والصيغ والتراكيب‏,‏ بيد أنه يواري هذا كله عن قصد لأنه منصرف إلي الغاية وهي التوصيل‏,‏ وهو يتحقق بجعل الكلمة والعبارة في خدمة الفكرة لا العكس‏..‏

    لفتتني هذه القدرة الهائلة علي تقديم الموضوع علي الذات‏,‏ وعلي مجافاة الاستعراض الذي يستهوي أنصاف العارفين بينما صاحب هذا العلم الغزير يشفق عليك من استعراضه‏,‏ ويسرب مراده إلي السامعين في سلاسة وبساطة وتواضع حقيقي لا افتعال فيه‏..‏ انشغلت منبهرا بالنموذج العظيم فانحبس لساني إشفاقا من الوقوع في هوي الفصاحة أو الاستعراض‏,‏ وخوفا من أن تكون الفكرة قعيدة عن التحليق الواجب الذي رأيت عليه الأستاذ وكأنه طائر بفكره وحجته فوق السحاب‏!‏ للحديث بقية
    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    09عال9 رد: رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية السلسله كاملة جمعها محمد راضى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الإثنين أغسطس 03, 2009 7:48 pm

    رسالة المحاماة‏:‏ اللغة والتفكير‏(28)‏
    بقلم‏:‏ رجائي عطية
    متحرجا مترددا‏,‏ قصدت الأستاذ محمد عبدالله محمد في مكتبه بعمارة يعقوبيان علي غير موعد‏,‏ بيد أن حفاوة الأب الأستاذ أزالت للفور حرجي وترددي‏,‏ فانسبت أشكو إليه حالي وأنني منذ سمعته شككت فيما لدي وفقدت تدفقي‏,‏ وهذا أخطر ما يتعرض له مرتجل الكلمة‏!!..‏ يالعظمة الأستاذ‏,‏ بحنان الأب أفرخ روعي‏,‏ وفرغ نفسه لي‏,‏ ومازلت أذكر عبارته لا أنساها قط وكأنه لايزال ماثلا أمامي‏:‏ لاتخف‏..‏ إن معني توقفك أن شجرتك طيبة وستورق‏..‏ لمح الدهشة صامتة في عيوني‏,‏ فتابع يقول إن معظم الناس يخرجون من الدنيا كما دخلوها‏,‏ لايتوقفون في إندفاعهم المعتاد‏,‏ ولا يتأملون ولا يراجعون‏,‏ مثل هؤلاء يجافيهم النمو‏..‏ لأن النمو هو حصاد التوقف والمراجعة والتأمل‏..‏ وأن الوقفة التي أزعجتني هي هي التي يجب أن تشحذني‏,‏ لأنها دالة علي رغبة صادقة في التأمل ومراجعة النفس‏,‏ ولا خوف بتاتا من مراجعة النفس‏,‏ لأنها تهيئة لمزيد من الفهم والتعمق‏,‏ وسبيل إلي النمو والتطور‏!‏

    منذ هذا اليوم لم أفارق هذا الأب العظيم‏..‏ علي مدي ربع قرن وحتي وداعه الدنيا آخر أيام سنة‏2000‏ بعد أن جاوز التسعين بعامين‏,‏ جاورته ولازمته‏,‏ لأتلقي منه نبعا فياضا من الأبوة لعلها جاوزت أبوة الدم‏..‏ انقطعت عني أبوة الدم بالرحيل المبكر لأبي رحمه الله وأنا في الثالثة والعشرين قبل أن تتسع الفرصة للتلقي الفاهم الناضج الواعي وبعيدا عن شواغل رحلة الدراسة أو بمأمن من استهلاكات ولعب الصبا وأول الشباب‏..‏ لم يكن الدرس الأول الذي تلقيته منه إلا نقطة من محيط زاخر ظللت أغترف منه طوال خمسة وعشرين عاما التصقت طوالها بالأب الأستاذ‏,‏ ما إن أجلس إليه وأستثيره بفكرة أو بسؤال أو بمعضلة‏,‏ إلا وأتلقي منه رطبا جنية لا تفيض بها إلا شجرة طيبة مورقة‏,‏ وقلب عامر بالمحبة والايثار وبأبوة حقيقية تجاوز الأعراق إلي فهم شامل للكون والحياة وإدراك عميق لدور الآدمي في الحياة‏..‏

    اخترت الحديث عن الأستاذ الجليل محمد عبدالله محمد‏,‏ ليس فقط لكونه صاحب الأفضال علي التي لاتعد ولاتحصي‏,‏ ولكن لأنه المثل الواضح للنقلة الكبيرة التي قطعتها المرافعات والمحاماة بعامة للخروج من الانحصار اللفظي واللغوي إلي عالم الفكر والتأمل وبراعة الاستدلال والاستنباط من قاعدة معلوماتية ومعرفية واسعة وعميقة كان الأستاذ الجليل هو معلم المعلمين في عمق الاغتراف من زادها الذي وفره لنفسه عراضة وعمقا وكثافة علي مدي عمره‏,‏ فكان رجل الفقه‏,‏ والقانون‏,‏ والأدب‏,‏ والشعر‏,‏ والفن‏,‏ والفلك‏,‏ وكم من المعارف في بحورها العديدة المتنوعة‏..‏ كان رحمه الله كالملاح والغواص‏,‏ يسبح ويغوص في هذه العوالم ليستخرج اللؤلؤ والمرجان‏,‏

    وليعطي المثل الأعلي علي جوهر المحاماة كرسالة اقناعية أداتها اللغة نعم‏,‏ ولكن مادتها العلم والفكر‏,‏ وبوصلتها العقل‏..‏ يتجلي ذلك في مقالاته وغالبية مؤلفاته القانونية‏:‏ في جرائم النشر وبسائط علم العقاب‏,‏ مثلما يتجلي في كتابه الرائع معالم التقريب بين المذاهب الاسلامية‏,‏ أو في ديوانيه العارف والطريق اللذين يحتويان دررا من الشعر العمودي في الفكر والكون والحكمة والحياة‏!‏ لم يكن غريبا أن يكون محمد عبدالله محمد قبلة العلماء والكبار‏,‏ كان من المترددين عليه طلبا لعلمه وفضله‏,‏ الاستاذ الدكتور علي راشد‏,‏ والأستاذ الدكتور عز الدين عبدالله‏,‏ والسياسي الكبير فؤاد سراج الدين‏,‏ والأستاذ الدكتور حسن الابراشي‏,‏ والأستاذ الدكتور عبدالمنعم الشرقاوي‏,‏ ولا كان غريبا أن يكون نسيج وحده بين المحامين وأهل الفكر والأدب بعامة‏..‏

    كان محمد عبدالله محمد التجسيد الحي للالتفات الواعي لجوهر المحاماة ومعطيات المرافعة وأن المخاطر علي اللغة تأتي في معظم الأحوال من الالقاء المسموع‏,‏ أو ما يسمي بالخطابة‏,‏ والمرافعة فرع منه فهي لغة حديث لا لغة كتابة‏..‏ ذلك لأن الالقاء المسموع يغري بجرس الأذن‏..‏ مثلما يغري بالتنغيم الذي يؤثر في الوجدان‏..‏ بيد أن مشكلة المرافعة أنها ليست خطابة إلي عاديين‏,‏ وإنما هي خطاب عقل ـ وينبغي أن تكون ـ إلي عقلاء علماء عارفين‏..‏ حسن السبك والصياغة ومعمار العبارة وشحنتها وأثرها مطلوب‏,‏ لكنه في النهاية يتجه إلي عقول‏..‏ هذه المخاطبة للعقول لها قانون خاص‏,‏ قاعدته العلم والمعرفة‏,‏ وأسلوبه الاستخلاص والاستنباط والاستدلال وتوظيف العلم وفنونه المختلفة ليكون في خدمة وجلاء وتقوية الحجة وتجلية ودعم البرهان‏..‏ وليس معني هذا أن مشكلة المترافع مع اللغة قد انتهت‏,‏ فهو لايزال وسيبقي مطالبا بإحسان التعبير ـ وأولي مقوماته في المرافعة بساطة التعبير وبعده عن التقعر والتركيب‏..‏ القاريء يستطيع في تأنية أن يتابع الجمل والعبارات ـ الاعتراضية‏,‏ ولكن السامع ليس في مقدوره ملاحقتها‏..‏

    ليس معني خطاب العقل مجافاة خطاب العاطفة‏,‏ فالمرافعة لا غناء لها عنها في البيان المؤثر المنشود لأسباب الرأفة‏,‏ ثم لا غناء لها عنها في تصوير الظروف ـ ومجالها وارد ومطروح ـ سواء في أثر البواعث أو في انطباعات الناس عن الخطر المحدق الذي يبرر ـ أو لا يبرر ـ الدفاع الشرعي‏..‏ معطيات المرافعات معطيات متنوعة وهي لذلك تستلزم قاعدة حقيقية عريضة تنطلق منها وتبني عليها‏,‏ لذلك لم يكن مصادفة أن تأتي المرافعات تعبيرا عن امتلاء أو خواء صاحبها‏,‏ وأن تترجم عن علمه وثقافته ولغته‏,‏ وعن عقله وفكره وفهمه وعمقه ونباهته وفطنته وبصيرته وإحساسه‏..‏ هذه كلها ملكات وقدرات يتفاوت فيها المحامون كما يتفاوت الناس‏,‏ ولكن مشكلة المحامي أو همه الكبير أنه في تحد دائم وانشغال واجب بتنمية هذه الملكات والقدرات وإلا فقد مشروعية دوره في المحاماة التي هي في جوهرها حمل لأمانات الحقوق والمناضلة للدفاع عنها‏..‏ هذه المناضلة ليست محض كلمة للتباهي‏,‏ وإنما هي معني عميق له مستلزمات أعمق يجب علي المحامي المدرك للمحاماة أن يصرف همه وعمره كله لتحصيلها والاستزادة منها‏!‏

    كان أمثال محمد عبدالله محمد‏,‏ في المحاماة وغير المحاماة ـ ولذلك حديث آخر ـ بمثابة القاطرة التي نقلت جبلا بأكمله من عصر إلي عصر‏,‏ وهم لايزالون ـ رغم الفراق ـ شعلة الضياء التي تنير الطريق وسط هجير الحياة وعتمة الأيام‏!(‏ للحديث بقية‏)‏
    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    09عال9 رد: رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية السلسله كاملة جمعها محمد راضى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الإثنين أغسطس 03, 2009 7:50 pm

    رسالة المحاماة‏:‏ إبداع لغوي وفكري‏(29)‏
    بقلم‏:‏ رجائي عطية
    تشترك المرافعة الشفوية مع المكتوبة‏,‏ في أنهما تسعيان الي هدف واحد‏,‏ وترميان الي غاية واحدة‏,‏ كما تشتركان في أن الإقناع هو حجتهما ووسيلتهما‏..‏ إلا أن الأسلوب فيهما قد يفترق وقد يختلف أشد الاختلاف‏..‏ سواء في المادة‏,‏ او في الصياغة‏,‏ او في الجرس‏..‏ فاحتياج المرافعة الشفوية والمكتوبة الي خطاب العقل والوجدان‏,‏ لا يعني ان الجريمة هنا كالجريمة هناك‏,‏ ولا يعني ان الاسلوب هنا كالأسلوب هناك‏..‏ المرافعة الشفوية أساسها الإلقاء والارتجال‏,‏ وهو فن يكمله الحضور النابع من مقومات الشخصية ومواهبها وقدراتها‏,‏ والمتوقف علي امتلاكها ناصية التواصل مع المتلقين‏,‏ وفنها في قياس مقدار المعمار وجرس الأذن الذي يحرك الوجدان موصولا في ذات الوقت بخطاب وحجة وبرهان العقل‏..‏

    هذا المزيج يطرح حال الارتجال والإلقاء شكلا من اشكال الأداء المسرحي الجاد‏,‏ فيه يقوم المحامي بدور مؤلف النص وبدور المخرج والمؤدي أساسا‏..‏ وربما أتاح له هذا الجمع بين الأدوار الثلاثة أن يوفق بينها من واقع ما يستمده من طبيعته‏,‏ وقدراته وما فطر عليه‏..‏ قد روينا فيما سلف كيف كان امام المعتزلة قادرا علي أن يتكلم بالساعات متفاديا الحرف الذي يظهر لثفته‏,‏ وهذه المقدرة المستمدة من علمه الواسع باللغة وحضور بديهته وسرعة خاطره‏,‏ والتي بها يصوغ العبارات‏(‏ كشأن مؤلف النص‏),‏ هي التي كانت تمكنه من ان يحسن الأداء بتفادي ما يهزه أو يعكره او يفسد الجرس علي آذان المستمعين‏..‏ كذلك المحامي‏,‏ فلا كمال لأحد‏,‏ وكلنا محصلة إيجابياته وسلبياته‏,‏ ما يحسنه وما لا يحسنه‏,‏ واجتماع الصياغة و الأداء له‏,‏ يمكنه من ان يختار في المعالجة وفي السبك والصياغة ما يتفق مع قدراته في الأداء وما يحسنه منه‏..‏ يجري ذلك كله‏,‏

    ويجب أن يجري‏,‏ من خلال سيناريو يحسن اختيار المقدمة مع براعة الاستهلال‏,‏ ويتقن سبل الاستنباط والاستخلاص مع براعة الاستدلال وقوة البيان ومنطق واستقامة البرهان‏,‏ ليخلص ذلك كله في ايقاع محسوب الي الخاتمه التي لها هي الاخري موازين في المرافعة الشفوية التي تشكل قوام الدفاع في القضايا الجنائية خاصة‏.‏

    والمرافعة المكتوبة‏,‏ او ما اصطلح علي تسميته بالمذكرات‏,‏ تتفق مع الشفوية فيما أسلفناه‏,‏ ولكنها تختلف في غير ذلك‏,‏ فتستخدم ما قد يعز استخدامه في الارتجال‏,‏ وتسقط ايضا مالا لزوم لاستعماله فيما تقرأه وتتابعه العيون‏,‏ فجرعة العاطفة اقل بالضرورة والطبيعة في المذكرات عنها في المرافعات‏,‏ ومعمار وجرس الصياغة يختلف فيها وهي تخاطب جرس العين عن المرافعات التي هي كلام منطوق لا غناء فيه عن جرس الأذن‏..‏ علي ان المذكرات تتميز بأنها تأمن مخاطر ومنزلقات الارتجال‏,‏ وتفسح الفرصة للكاتب بأكثر مما يتاح للمرتجل‏,‏ فهو الي نفسه ومراجعه وأوراقه جالس‏,‏ ثم هو يختار للكتابة أنسب الأوقات لصفاء ذهنه وخلو باله وامتلاك قدرته علي إحسان التفكير وصياغة ما يريد في مهل وأناه‏,‏ وفي تمعن وتدبر وتأمل‏..‏ في متناوله الوقت‏,‏

    وفي متناوله مع الوقت ان يعود الي ما يشاء من الكتب والمراجع والمؤلفات مهما تعددت‏,‏ وفي ان يعمل فيها النظر والترجيح والانتقاء‏,‏ وان يأخذ عنها ومنها ـ في أمان ـ ما يريد ان يحتج او يقوي حجته به‏..‏ لا ينشغل وهو يسبك عبارته بما يطبق من ظروف علي المرتجل‏,‏ فيعمل الاختيار والتبديل والتوفيق بين الالفاظ والعبارات‏,‏ ولا يضيره ان يلجأ الي الجمل الاعتراضية‏,‏ فلا بأس عليها فيما تطالعه العيون المتاح لها ان تعاود قراءة ما فاتها تحصيله من العبارة‏,‏ لذلك كله كانت المذكرات مجالا لإبداع من نوع آخر‏,‏ تحتل المقدمة في القضايا المدنية والتجارية والمالية والادارية والدستورية والشرعية‏,‏ ويتاح لها في الاحتجاج والتأثير الممتد مالا يتاح للمرافعات الشفوية‏..‏ المرافعات الشفوية معرضة للبخر‏,‏ بل هو يرد عليها بالحتم والضرورة‏,‏ سواء فيما يتبخر اثناء التدوين الذي لا يمكن ان يلاحق سرعة الكلام والالقاء‏,‏ ام فيما يصيبها من انطمار في صفحة وجدان المتلقي الذي هو في النهاية بشر مشدود بشواغله العامة والشخصية‏,‏ وبتلاحقات القضايا والاعمال‏,‏

    وبتزاحم الصور التي يستقبلها كل يوم بل كل ساعة ولحظة‏,‏ دون ان تتاح له فرصة استرجاع ما استمع اليه بأمس او من زمن مر طال أم قصر وزحفت عليه المستجدات وتبخر ما قبل بددا لا سبيل الي استعادته او استعادة الاستماع اليه‏,‏ بينما المذكرة كالكتاب‏..‏ محفوظة يستطيع طالبها ان يعود اليها في أي وقت يشاء‏,‏ فتذكره بما تعرض للنسيان او البخر او الانطمار‏,‏ ومن اجل ذلك كان اسمها الاصطلاحي المشتق من الذاكرة والتذكر والتذكار‏!.‏

    فالمذكرات كما تمثل بحبوحة وسعة للكاتب‏,‏ تمثل تذكيرا متاحا علي الدوام للمخاطب‏..‏ ثم هي فرصة أوسع بغير مراء ـ من فرصة المرافعة ـ في الاجادة والاتقان وغلبة الفكر والتأمل والتدبر ودقة المعالجة وكمال البيان‏!.‏
    قد يندر بين المحامين من يتقن المرافعة والكتابة معا‏,‏ فلكل منهما عناصر وإمكانات يختلف امتلاكها من شخص إلي آخر‏..‏ علي ان هذه القدرة لم تحل دون ان تشهد محاريب القضاء والمحاماة‏,‏ محامين برعوا في المرافعة وبرعوا في الكتابة‏,‏ وبلغوا القمة في هذه وتلك‏..‏ قد ترجح البراعة هنا علي البراعة هناك‏,‏ فيكون الرجحان في المرافعة الشفوية أكثر من المذكرات المكتوبة رغم البراعة فيها ايضا والاقتدار‏,‏ والعكس‏,‏ علي اني لست انسي براعة الاستاذ الجليل محمد عبد الله محمد في المرافعة وفي الكتابة علي السواء‏,‏ ولست انسي ان امتلاكه الفكر والتعمق قد مزج مرافعاته الشفوية بما يعز علي غيره‏..‏ ولست انسي الاستاذ الجليل مصطفي مرعي الذي ترافع فأبدع‏,‏ وكتب فأجاد وأتقن‏,‏ ولست انسي مرافعات الاستاذ المبدع مكرم عبيد الذي تقرأ مرافعاته الشفوية فتحس بنبضها منطوقة كأنك استمعت اليها من لسانه‏,‏ وتجترها كأنك مع سبك صيغ بمهل واتقان فتبلغ الغاية وقمة المراد‏!.‏

    هؤلاء وأترابهم ـ كانوا قاطرة المحاماة‏,‏ وسدنة العدالة والفكر والقانون‏,‏ الاقتداء بهم وبعلمهم ومثلهم واجب ليتقدم الحاضر الي الماضي الذي كان‏!.‏

    للحديثة بقية
    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    09عال9 رد: رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية السلسله كاملة جمعها محمد راضى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الإثنين أغسطس 03, 2009 7:51 pm

    رسالة المحاماة‏:‏ أمانة وحرية الكلمة‏!(30)‏
    بقلم ‏:‏ رجائي عطية
    كمال النضج أن يتسع أفق الآدمي ليري كل موضوع من شتي نواحيه‏..‏ ألا ينغلق علي نظر فيسقط او يتجاهل او يشيح عن آخر أو لايراه‏!!‏ وظني ان أمانة الكلمة والحرية الواجبة لها والحق من ثم في إبدائها‏,‏ من القضايا التي تتماس مع حقوق اخري او اخرين جديرة هي الاخري بالنظر والرعاية‏..‏ فحق القول وحريته قد يصطدم بشرف وعرض واعتبار اخرين‏,‏ وحق القائل في ابداء ما يريد قد يدمر آخرين‏,‏ وربما يجمح القول فيجافي الحق والصواب فيأتي التدمير اجحافا بحقوق أخري يضطرب أمر المجتمع اذا عجز عن صيانتها بايجاد توازن فاهم واع ومتفطن إلي ان كل حق قد تقابله حقوق أخري‏,‏ وان كل حرية قد تمس حريات آخرين‏,‏ فحق الاستماع إلي مايشاء المرء‏,‏ يصطدم بحق الجار في ألا يقطع عليه جموح الصوت سكينته او يشوش علي هدوئه أو علي ما عساه يختاره للاستماع إليه في حدود مقره وحق صاحب البناء في تعلية حدوده او تجنيحها إلي اخر المدي الذي يتيح له ما يريد من التوسعة علي نفسه‏,‏ يصطدم بحق جاره الموازي لهذا الحق فالحدود المشتركة المتماسة حدود للطرفين‏,‏ وحق كل طرف علي الآخر ألا يسرف او يتعسف في استعمال حقه فيجور علي جاره‏!‏

    وحق النظر والمشاهدة والاستمتاع بالتوسع أو الاختراق بهما‏,‏ يقابله حق الآخر في ان تصان له خصوصيته من الفضول وحب الاستطلاع او التلصص او الاستراق او التصنت أو التجسس‏!!‏ وحق الفرد في اعتناق العقيدة التي يؤمن بها‏,‏ يقابله حق مواز لكل آخر في ان يعتنق العقيدة التي أنس اليها واعتقد انها الصواب‏!‏ وحق ممارس الالعاب الرياضية في اباحة ما تقتضيه الممارسة يقابله حق اللاعب الآخر في وجوب الالتزام بحدودها وإلا غادرت الاباحة إلي التأثيم‏!‏ وقوامة رب الاسرة علي أسرته‏,‏ يقابلها حق أفرادها في حدود لممارسة هذه القوامة حتي لاتشتط فتؤذي وتضر‏!‏ وحق المحامي والخصم بعامة في أن يدلي من الحجج في ساحة الخصومة القضائية بما يكفل اظهار حقه يقابله وجوب التزام مستلزمات ومقتضيات الدفاع‏!‏ وحق الطبيب والجراح في الاباحة الطبية‏,‏ يقابله حق المريض في التزام الطبيب بالأمانة وبالاصول والقواعد الطبية‏!‏

    الحق المطلق لا وجود له‏,‏ والحرية المطلقة قد تعدم حقوق وحريات الآخرين‏!‏ إلي ذلك التفتت كل دساتير العالم المتحضر‏!‏ فتبنت منظومة متكاملة للحقوق تراعي إقرارها وحمايتها من ناحية‏,‏ وتراعي محاذير التصادم او التعارض او التزاحم او التباري او التقابل وتمايز واختلاف اعتبارات ومبررات وتوجهات كل حق بحيث لايجور علي الحقوق الاخري التي رآها الدستور‏,‏ ورآها المجتمع قبل الدستور‏,‏ جديرة بالحماية الدستورية‏,‏ مما ألزم ويلزم بالالتفات إلي ان كل حق يقابله واجب الالتزام باحترام حقوق الآخرين‏!‏

    الدستور المصري يحمي العديد من الحقوق المتقابلة‏..‏ يحمي حق الدفاع بالاصالة وبالوكالة‏,‏ ويحمي حق اللجوء إلي القضاء‏,‏ ويحمي حرية الرأي والتعبير وحرية الصحافة والطباعة والنشر والاعلام‏,‏ ويحمي حرية البحث العلمي والابداع الفني والادبي والثقافي‏,‏ ويحمي استقلال ودور السلطة القضائية ويحصن أعضاءها من العزل‏.‏ إلخ‏,‏ بيد ان الدستور في المقابل قرر وشمل بالحماية الحريات التي يمكن ان تمسها ممارسة هذه الحقوق‏..‏ حمي المقبوض عليه ووضع ضوابط معاملته في المادة‏42/‏ وقرر بالمادة‏43‏ عدم جواز اجراء تجربة طبية او علمية علي انسان بغير رضائه الحر‏,‏ وحمي في المادة‏/45‏ الحياة الخاصة للمواطنين ومراسلاتهم ومحادثاتهم‏..‏ إلخ وحمي في المادة‏/44‏ حرمة المساكن‏,‏ وكفل في المادة‏/46‏ حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية‏,‏ ووصل في المادة‏/57‏ إلي حدم تقرير عدم تقادم كل اعتداء يقع علي الحرية الشخصية أو حرمة الحياة الخاصة التي يكفلها الدستور والقانون وجعل الدولة كافلة التعويض العادل لمن وقع عليه الاعتداء‏!‏

    التفات الفرد‏,‏ والتفات المجتمع‏,‏ إلي هذا التقابل بين الحقوق والحريات‏,‏ هو علامة نضج وفهم‏,‏ والاشاحة او الاعراض عنه او عدم النظر إليه او العجز عن رؤيته‏,‏ آية مراهقة وضيق نظر وانكفاء وسطحية قد تصل إلي العمي الضرير‏!‏

    من العوامل التي تعين المحامي ـ اذا أراد ـ علي الرؤية الشاملة ان مواقفه في القضايا والخصومات بعامة‏,‏ مواقف متعددة متغيرة متنوعة‏,‏ يقف اليوم إلي جوار صاحب رأي او نقد او طعن أبداه وله فيه حجة قوية او متوسطة او ضعيفة‏,‏ او إلي جوار متهم بسب او قذف او اساءة وخدش للاعتبار للمتهم به ذريعة من اباحة او حسن نية او دفاع علي تعد عليه لايقره القانون‏,‏ بيد ان المحامي قد يقف غدا إلي جانب مجني عليه في طعن او قذف او سب او خدش للشرف او العرض او الاعتبار‏..‏

    هذه المواقف المتباينة التي تسلس اليها الحياة تستدعي ـ ويجب ان تستدعي ـ كل معارف وعلم وملكات المحامي لتشكل رؤيته ولتبدو حجته هنا وهناك ـ مقنعة محققة لمرادها‏,‏ وهي لن تكون مقنعة إلا اذا صدرت عن رؤية متكاملة تري الامور باتساعها وبجوانبها المتقابلة‏..‏ فليس يجدي في الاحتجاج‏,‏ ناهيك بالاقناع ان ترصف العبارات انتصارا ضريرا لحق القول والقائل ـ إذا كان واضحا من الظروف ان القائل قد أسرف واشتط ناهيك بان يكون قد حرف او كذب او تجني‏,‏ وليس يجدي المجني عليه التذرع بخصوصية وحرمة حياته اذا كان الطعن او القذف قد انصرف إلي أعمال باشرها المقذوف من واقع نهوضه او تكليفه بأعباء وظيفة عامة أو خدمة عامة‏..‏ قد يجدي دفاعه اثبات عدم ملاءمة العبارات او تركها الاعمال إلي الطعن الشخصي او الايذاء الشخصي دون الغاية العامة‏,‏ ولكن لن يجديه ان يتجاهل حق نقد الأعمال العامة‏,‏ او ان يشيح عن الحقوق المتقابلة وماتفرضه من قواعد وضوابط يجب علي اللبيب ان يلتفت وان يتفطن اليها‏!‏

    رسالة المحاماة تقتضي من المحامي ان يري ذلك كله بعين النضج والفهم والوعي والعقل والانصاف‏..‏ ذلك ماتركه لنا المحامي الفذ والعلامة الجليل محمد عبدالله محمد في درته الخالدة في جرائم النشر‏:‏ حرية الفكر والأصول العامة‏.‏
    ‏(‏للحديث بقية‏)‏
    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    09عال9 رد: رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية السلسله كاملة جمعها محمد راضى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الإثنين أغسطس 03, 2009 7:52 pm

    رسالة المحاماة‏:‏ حرية الفكر والتعبير‏[31]‏
    بقلم‏:‏ رجائي عطية
    لامعني لحرية الفكر بغير رأي يملكه المفكر لايصادر ولايحجر عليه فيه‏,‏ ولامعني لحرية الفكر والرأي بغير الحق والحرية في التعبير عما اهتدي إليه العقل واستقر عليه الفكر والرأي‏..‏ هذا التعبير متعدد الصور والأشكال والوسائل‏..‏ يباشره الآدمي في كلامه وفي حديثه‏..‏ في مشافهته وفي مكاتبته‏..‏ قد يسر به إلي صديق أو جليس أو رفيق قد يبثه في اجتماع أو محفل‏,‏ وقد يضمنه رسالة خاصة إلي واحد أو أكثر من أصدقائه أو معارفه أو من يعني بالتواصل معهم‏..‏ وقد يختار بثه وتعميمه ويتخذ من النشر في مطبوعة أو أخري وسيلة لهذا البث والنشر والتعميم‏..‏ هذه الممارسات المتنوعة‏,‏ يحفل بها الآدمي العادي في خاصة وعامة شئونه‏,‏ ولكن مهنة الكاتب والمؤلف والصحفي بعامة‏,‏ لأن التعبير هو همه وشجنه وغاية عمله ورسالته‏..‏ المحامي يشارك هؤلاء في كل هذه الهموم والشجون‏,‏ ولكن حمله أثقل‏!‏

    حرية الفكر والرأي والتعبير‏,‏ يحتاجها المحامي كما يحتاجها المبدع والمؤلف والكاتب والصحفي‏,‏ ولكن مشكلة ممارسة هذه الحرية لدي المحامي أعوص وأعضل‏..‏ المبدع والمؤلف والكاتب والصحفي‏,‏ يستطيع في سهولة ويسر‏,‏ أن يكون وراء مايعتقده أو حتي يظنه ويتبناه‏..‏ لاتذهب نفسه أشتاتا بين اليمين واليسار‏,‏ أو بين الشمال والجنوب‏..‏ وهو قد أعمل فكره وحصل منه مايري أو يعتقد أو يظن أو يتبني أنه الصواب‏,‏ وليس مطالبا بفصام يدع فيها ما اعتقده إلي مالا يعتقده‏..‏ بيد أن المحامي يوظف ملكاته لآخرين‏,‏ فهو ليس الأصيل وإنما هو نائب أو وكيل في قضاياه‏,‏ وهذه النيابة أو الوكالة تضعه علي امتداد الحياة في مواقف قد تكون متباينة‏..‏ لست أقصد التقابل بين العدل والظلم

    أو بين الحق والباطل‏,‏ فالوقوف إلي جوار الحق والعدل واجب‏,‏ والابتعاد عن مناصرة الباطل والظلم أوجب‏..‏ ما أقصده هو اختلاف زوايا الرؤية تبعا لتقابل المواقف أو اختلافها‏..‏ تتقابل المواقف ـ بغض النظر عمن هو صاحب الحق ـ بين الادعاء والاتهام‏,‏ أو بين المتهم والمجني عليه‏,‏ وتتقابل ـ وتختلف تبعا لذلك زوايا الرؤية ـ بين البائع والمشتري‏,‏ والمؤجر والمستأجر‏,‏ والراهن والمرتهن‏,‏ والمودع والأمين‏,‏ والمقرض والمفترض‏,‏ ورب العمل والعامل‏,‏ والمخدوم والمستخدم‏,‏ وقد تختلف في المسئولية الطبية بين الطبيب والمريض‏,‏ وتختلف وتتباين بالقطع بين المزور والمزور عليه‏,‏ وبين المدعي والمدعي عليه‏,‏ وبين الكفيل والمكفول‏,‏ وبين الطاعن بعامة والمطعون فيه أو عليه‏..‏ صور التقابل والتباين لاتنتهي‏,‏ ولكل موقف من هذه المواقف رؤية‏..‏ تغد ومهمة المحامي بشأنها أيسر فيما يتعلق بجانب الواقع أو الوقائع‏..‏ فالمجادلة في الواقعة مردها إلي الدليل وقوته من ضعفه‏,‏

    واستقامته من اهتزازه‏,‏ وصحته من بطلانه‏..‏ وميدان الحركة والاستنباط والاستدلال والتخريج والإقناع في ذلك كله واسع‏,‏ لايصطدم فيه المحامي بفكره ومعتقده مادام قد اختار الجانب الذي يعتقد بصدق أنه الحق والصواب‏..‏ بيد أن الدفاع بعامة لايجري بمعزل عن التكييف وهذا التكييف ثمرة علم وفكر ورؤية ونظر‏..‏ وهذا هو الجانب المعضل في المسألة‏,‏ هي لاتثأر بقوة في القضايا التي بطبيعتها تتسع المعالجة فيها لجانب الواقع أو الوقائع وتضيق أو تقل مساحة الفكر‏..‏ بيد أن هناك من القضايا ماتضيق فيه مساحة المجادلة في الوقائع‏,‏ لأنها ثابتة ثبوتا لاجدوي من المنازعة فيه‏,‏ كالدليل المستمد من صحيفة دعوي إساءة حق التقاضي‏,‏

    أو صحيفة الدعوي أو المذكرة التي تضمنت سبا وقذفا أو بلاغا كاذبا‏,‏ أو الدليل المستمد من المطبوعة في جرائم النشر‏,‏ مثل هذه القضايا التي تستمد الوقائع فيها برهانها في الإسناد من دليل كتابي يتمثل في صحيفة دعوي أو مذكرة أو مطبوعة‏,‏ تضيق فيها مساحة تناول الواقع لتتسع وربما بلا حدود مساحة الرأي والتكييف والفكر‏..‏ وهذا هو الامتحان الصعب للمحامي‏,‏ لأن ما سوف يقوله اليوم في إطار الرأي والفكر والتكييف‏,‏ قد يصطدم به غدا إن لم يكن قد التزم الموضوعية والرؤية الشاملة المتأملة المتمعنة المنصفة‏..‏ يفقد المحامي وقاره ومكانته واحترامه الواجب إذا تحول الي محض مأجور يعطي عقله وفكره لكل موقف‏!!‏ لايستطيع المحامي حامل رسالة المحاماة أن يقسم الفكر إلي جزر شتي متفرقة يختار منها كل يوم مايريد حسب الطلب‏!!..‏ يبتعد الممارس عن رسالة وجوهر المحاماة إذ وظف ملكاته وقدراته وفكره لتخديم الملوي علي موقف موكل ابتعد بفعله عن الحق والعدل والانصاف‏!!‏

    في قضايا الفكر والرأي‏,‏ سواء كانت قضايا نشر‏,‏ أو إساءة حق التقاضي الذي اقتحمته قضايا التكفير وطلب التفريق وإشفاء الغليل بالطعن والرجم والإساءة‏!!..‏ـ لامناص للمحامي عن معتقد فكري ينطلق منه للدفاع‏,‏ وعن رؤية يجب أن تكون شاملة حتي لاتختلط الأمور والأفكار في صفحة وجدانه‏,‏ وحتي يحافظ علي احترامه لنفسه‏,‏ وهو أولي وأجدر بالرعاية من احترام المخدوعين المعجبين‏..‏ في أثيرته كان عباس العقاد يقول‏:‏ إنني أحرص علي احترامي لنفسي قبل أن أحرص علي احترام الناس لي‏..‏ إذا أحبك الناس مخدوعين فلا تفرح‏,‏ وإذا كرهك الناس مخدوعين فلا تحزن‏,‏ بعض الكراهات خير لك من بعض المحبات

    كثيرون هم الذين أكلوا علي مائدة رائعة محمد عبد الله محمد‏:‏ في جرائم النشر‏:‏ حرية الفكر والأصول العاملة ولكن قليلون من أشاروا في حواشي مؤلفاتهم الي مرجعه الذي أخذوا منه أو نقلوا عنه‏,‏ وقليلون جدا ـ وللأسف ـ من تأملوا برؤية وانتفعوا انتفاعا شاملا بما ورد فيه‏.‏ من عاداتنا السيئة‏,‏ إننا نلجأ إلي المراجع في عجلة نتغيا البحث فيها عما نستشهد به في قضية‏,‏ بيد أن هذه النتف المقتطعة تحت ضغط الظروف والقضايا لاتكون القاعدة المعرفية والنظر الشامل الواجب لحرية الفكر‏..‏ في بداية رائعة محمد عبد الله محمد مائة وأربعون صفحة في حرية الفكر‏:‏ مضمونها ونشأتها وتطورها وصراعاتها ووسائل الاعراب عنها وما واجهته وتواجهه‏..‏ هذه الصفحات قد تبدو غير مسعفة للمتعجل الباحث عن عبارة تفيده أو حكم يسنده‏,‏ ولكنها تكون قاعدة الكتاب وأساس الفهم الشامل والرؤية المتكاملة والتي لاغناء للمحامي وللقاضي عنها‏..‏

    لايمكن لراغب الفهم أن يعي الجزئيات والفروع إذا لم يدرك مضمون الأصول والقواعد العامة‏..‏ لايستطيع طالب الحقيقة أن يري حقائق الأشياء إلا إذا نظر إليها من بعيد‏..‏ لايتعاطي الحكمة إلا ذلك الذي أعطي العين التي تري الأشياء في جملتها لا من جزء منها‏!!‏

    ‏(‏للحديث بقية‏)‏
    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    09عال9 رد: رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية السلسله كاملة جمعها محمد راضى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الإثنين أغسطس 03, 2009 7:56 pm

    رسالة المحاماة‏:‏ حرية الفكر والتعبير‏(32)‏
    بقلم : رجائي عطية
    حرية الفكر والرأي والتعبير‏,‏ هي روح المحاماة‏,‏ مثلما هي روح الإبداع والتأليف والكتابة والصحافة‏...‏ بغير هذه الحرية ينطفيء هذا كله ويصيبه الفقر والإجداب ثم الموت‏!....‏ وعلي قدر أهمية هذه الحرية ولزومها لزوم الحياة نفسها‏,‏ علي قدر مايتعين الإلمام بمعناها‏...‏ كثيرون هم من يتحدثون عن حرية الرأي‏,‏ ولكن قليلون هم من وقفوا ليتأملوا مامعني كلمة الرأي‏,‏ ولو تأملوا لعرفوا أن هذه الكلمة تحمل علي أوسع معانيها‏,‏ ولعرفوا أنها تشمل مايعلمه الفرد ويعتقد صحته أو جديته مما يهم المصلحة العامة‏.‏ وأن هذا يبين ويجلي ويوضح أنه ليس مجرد متنفس لبث الأحقاد والضغائن والمآرب‏,‏

    لأنه لايكون رأيا مالم يكن صاحبه معتقدا صحته أو جديته‏...‏ بغير هذا الإعتقاد بالصحة والجدية في أمر يهم المصلحة العامة لايكون هناك رأي وإنما الميل أو الهوي أو الغرض الذي لايدخل في دائرة الرأي‏!!‏ وكثيرون هم من يتشدقون بحرية الفكر والرأي‏....‏ دون أن يعرفوا أو يدركوا أن حرية الفكر عقيدة أخلاقية لأنها تقوم علي حسن نية العقل الذي ينشد الحقيقة ويستهدف الخير ويرفض الكذب ويعاف الوضيع من الأخلاق‏,‏ وأنه بدون حسن النية والإخلاص‏,‏ لاتوجد حرية الفكر التي ناضلت الإنسانية من أجلها‏,‏ بل يوجد الغرض أو الهوي الذي تستعبده الشهوة أو المصلحة ينطلق مدفوعا بهما لاينشر إلا الشر والفساد

    والإيذاء أينما اتجه‏!...‏ حرية الفكر ليست حرية الكذب والغش‏...‏ ويكون الشخص كاذبا حين يتعمد تغيير الحقيقة أو ذكر مايخالفها أو يغايرها ويتعمد إخفاء حقيقة موقفه ورآيه فيما يقوله لغرض سييء‏,‏ ويكون الغرض سيئا حين يستهدف المرء هدفا قريبا أو بعيدا تمقته الجماعة وتزدريه‏...‏ فالكذب بهذا المعني ولهذا الغرض لايدخل البتة في إطار حسن النية أو حرية الفكر التي ترفض مثل هذا وتأباه‏!!....‏ وكثيرون هم من يتحدثون عن قضايا أو جرائم النشر‏,‏ وقليلون هم من توقفوا ليفهموا ماهي جرائم النشر‏,‏ بل ويسميها بعضهم‏:‏ جرائم الرأي‏,‏ مع أنه لايوجد مايسمي جرائم الرأي‏...‏ فالرأي لا إثم فيه ولاجرم عليه‏,‏

    ولايؤثمه القانون أيا ماكانت المبالغة او الشدة فيه‏,‏ طالما استقامت له مقدماته من اعتقاد مبدية بصدقه أو بجديته وابتعاده عن وهدة الأغراض والمآرب التي تتحرك لإشفاء الغليل بالايذاء المقصود لذاته علي غير اعتقد بصدق أو جدية‏!....‏ جرائم النشر ليست جرائم رأي‏,‏ وإنما هي مسمي للقذف أو السب أو العيب أو الإهانة أو طعن الأعراض الذي وقع بسوء نية بطريق النشر في مطبوعة سواء وقع من صحفي او غير صحفي‏...‏ وهذه الخاصية قد أثارت ولاتزال تثير رؤي متقابلة‏,‏ مردها كفالة الحرية الواجب تهيئتها للصحافة لتباشر رسالتها الحقيقية الصحيحة من ناحية‏,‏

    والوقاية الواجبة أيضا للناس من أثر استخدام المطبعة بعامة في زيادة نطاق تأثيرها ومضاعفة خطرها وصعوبة استدراك أضرارها إذا خرجت المطبوعة عن حدود الرأي والنقد ـ وهو مباح ـ إلي السب والقذف والإهانة والعيب والطعن في الأعراض‏...‏ فدائرة تأثير المطبعة تمتد إلي ملايين بدل الآحاد‏,‏ وتمتد عبر الزمان مابقيت المطبوعة في متناول الناس‏,‏ وقد يمتد هذه لآماد وآماد يطالعها فيها من فاته مطالعتها من عام أو مائة أو ألف عام‏,‏ وهذا يجعل انتشار السب والقذف والطعن والعيب والإهانة في دائرة بالغة الاتساع بغير حد‏!!...‏

    وهذا سلطان هائل للمطبعة‏,‏ يضاعف من أثره الخطير أنه لايمكن قمعه مسبقا مهما اشتط وتجني‏,‏ إذ لا سبيل لمعرفة الجرم ـ إن كان ـ إلا بعد وقوع النشر بالفعل واتصال مضمونه بالجمهور حاملا أثره الضار أو المؤذي او الناسف او المدمر لمن وقعت عليه الجريمة‏...‏ لذلك كانت جرائم النشر أشد من جرائم السب والقذف التي تقع في دائرة محدودة بغير طريق النشر‏,‏ الأمر الذي حدا بالمشرع الإيطالي ـ مثلا ـ إلي تشديد العقاب عليها في المادة‏/595‏ من قانون العقوبات الإيطالي‏...‏ هذا العقاب ليس عقابا علي رأي أو فكر أو نقد‏,‏

    وإنما علي السب والقذف بسوء نية بطريق النشر‏!...‏ تجريم السب والقذف الواقع بطريق النشر ليس ترصدا للصحافة أو للصحفي‏,‏ فالمحامي يعاقب ـ وقد يحبس ـ إذا تجاوز الإباحة المقررة في المادة‏309‏ عقوبات إذا صدر عنه سب وقذف ليس من مستلزمات الدفاع‏,‏ والطبيب قد يعاقب ويحبس رغم سمو رسالة الطب ونبل غرض الطبيب ـ إذا ما وقع منه خطأ مهني جسيم مس مريضه في حياته أو في سلامة بدنه‏.‏ والمهندس قد يعاقب ويحبس رغم أن صناعته وهدفه العمار ـ إذا ما تسبب البناء الذي أخطأ في إقامته في المساس بالأرواح أو الممتلكات‏!...‏

    لم يستثن المشرع أحدا من هؤلاء المهنيين من قواعد المسئولية لأنه لو فعل لخرج عن مبدأ المساواة وهو مبدأ دستوري يفارق التشريع إذا خرج عن هذه الدستورية الواجبة له إذا خالفه أو خرج عن مقتضياته‏...‏ العقاب عن جريمة النشر ليس مصادرة علي حرية القول أو حرية الصحافة أو الكتابة أو التأليف أو التعبير‏...‏ قد يميل الرأي أو ينحاز أو يعنف ويشتط بل وقد يخطي دون أن يكون ذلك سببا لتجريم أو عقاب‏...‏ فحق النقد فرع هام جدا علي حرية الفكر نابع من نظرية استعمال الحق التي تعطي الصحافة والصحفي مشروعية الوجود والأداء والحماية‏...‏

    هذه المشروعية معطاة لنقد الأعمال‏,‏ الأفعال والتصرفات والسلوكيات‏,‏ السياسات وليست للشتم والإهانة والطعن الشخصي في الأعراض‏...‏ ولاتضييق في ذلك علي صاحب الرأي أو النقد‏,‏ فيبقي النقد مباحا حتي ولو كان خاطئا أو اشتد أو حصل بعنف وحدة أو قست عبارته‏...‏ الإلمام بهذا ـ وغيره كثير‏,‏ يشكل البناء الفكري الذي ـ وإن استغني عنه صاحب الغرض أو الهوي‏,‏ فإنه ـ لاغناء عنه للمبدع والمؤلف والصحفي والكاتب‏,‏ ولاغناء عنه بداهة للقاضي وللمحامي‏...‏ الخطر الذي يحيق بممارس الكلمة إذا أخطأ أو قعد عن تحصيل هذه المعاني والقواعد والأصول‏,‏

    مقصور علي الواقعة التي شرد فيها‏,‏ بيد أن الخطر الذي يحيق بالمحامي إذا أخطأ أو قعد عن تحصيل ذلك أو الإلتزام به إن كان قد حصله وترخص في إتباعه‏,‏ يعرضه لفصام داخلي موجع‏,‏ ويصوره أمام الجمهور في صوره لاتليق به ولا بالمحاماة‏...‏ وقد يدفعه ـ مريدا أو غير مريد ـ إلي الاشتراك أو الإسهام في مواكب الصخب والضجيج المغلوط الذي يحول المجني عليهم إلي جناة‏,‏ ويحول الجناة إلي شهداء محاطين بالطبل والزمر تحت شعارات تستخدم في غير موضعها وعلي خلاف معناها ومقصودها‏!!!...‏ في هذا الخلط والتخليط تتماحي الخطوط بين حرية الفكر والرأي والتعبير‏,‏ وبين أمانة الكلمة والصدق الواجب فيها‏,‏ وتنسحب الشرعية أمام الصخب‏.‏ ولايعود أمام المظاليم إلا أخذ حقوقهم بأيديهم‏,‏ وتبتعد المحاماة عن الرسالة السامية التي بقيت حاملة لشعلتها منذ أن كانت‏!‏

    ‏(‏للحديث بقية‏))‏
    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    09عال9 رد: رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية السلسله كاملة جمعها محمد راضى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الإثنين أغسطس 03, 2009 7:57 pm

    رسالة المحاماة‏:‏ التقاليد والآداب‏(33)‏
    بقلم : رجائي عطية
    من المعروف للمحامي ولغير المحامي‏.‏ أن محراب القضاء‏,,‏ في مصر وفي العالم أجمع ـ محوط بتقاليد تكاد لا تترك شيئا إلا شملته‏..‏ في بعض دول العالم يرتدي القضاة‏,‏ فضلا عن الروب أو الوشاح باروكة علي الرأس‏,‏ وكان الطربوش ـ في زمن مضي ـ قسيما مشتركا كغطاء لرأس يرتديه القضاه والمحامون وأعوان القضاء‏..‏ الوشاح برسمه جزء لا يتجزأ من هيئة القاضي حين يجلس مجلس القضاء في مصر‏,‏ و الروب لازمة حث عليها ذات قانون المحاماة توجب علي المحامي ألا يقف في ساحة القضاء إلا مرتديا روب المحاماة‏..‏ تبدأ الجلسات بالنداء المألوف من الحاجب‏:‏ محكمة فيقف الجميع بمن فيهم أعضاء النيابة إن كانوا قد سبقوا الي الساحة كما يجري في محكمة النقض‏..‏ لا يجلسون إلا إذا جلست هيئة المحكمة‏,‏ احتراما وتوقيرا لجلال القضاء كجزء لا يتجزأ من هيبة العدالة‏..‏ مجلس القضاء‏,‏ وهيبة العدالة‏,‏ ركن أساسي من وظيفة العدل‏,‏ جذور ذلك في العالم الإسلامي قديمة‏..‏ كان رسول القرآن عليه الصلاة السلام يقول إذا جلس أحدكم لقضاء فلا يجلس أحد الخصمين مجلسا لا يجلسه صاحبه‏,‏ وليراع الله في مجلسه وفي لحظه وفي إشارته‏..‏ هذه الرعاية توجب فيما توجب هذه الهيبة التي تعارفت عليها النظم القضائية واتخذت من الشكل و المظهر و الرداء سبيلا لإشعار الناس بأن حضورهم بمجالس القضاء يختلف عن اختلاطهم بالناس‏..‏

    فالقاضي رسول عدالة‏,‏ ينال بعدله ـ إذا أراد ـ منازل الأبرار والصديقين والشهداء‏..‏ هو في محراب العدالة يسأل الخصوم‏,‏ ويستجوب المتهمين‏,‏ ويناقش الشهود‏,‏ وكذلك يفعل المحامون الذين أناطت بهم القوانين دورا بالغ الأهمية في الخصومة القضائية‏..‏ مهابة المحامي جزء لا يتجزأ من مساحة عطائه وتأثيره‏,‏ وفرع علي الإحترام الواجب له في محراب العدالة‏..‏ يخطيء من يظنون ان رداء المحاماة عبء يجوز او يحق للمحامي أن يتخلص أو يتخفف منه‏,‏ فهو عند العارفين إعلان واجب عن المحامي والمحاماة وتصنيف للمحامي في مكانه ومكانته اللائقة في ساحة العدالة وحماية له ألا يتجاوز معه أو عليه أحد بذريعة أنه لا يعرف أنه محام‏!‏ مظهر المحامي ـ لباسا ورداء وسلوكا‏,‏ مدخل لازم لاحترامه وانتظامه في تقاليد المحاماة‏,‏ وهو مدخل تتلوه مداخل ودروب يترجم بها المحامي عن معني وروح ورسالة المحاماة‏..‏ التقاليد الموضوعية فرع جوهري في المحاماة علي أمانة الكلمة ومعني الرسالة ذاته في المحاماة‏..‏ لم نكن نري أحدا يخرج في الزمن الجميل عن قيم وتقاليد وأدب ووقار ونبل المحاماة‏,‏ من أسف أنه قد زحفت علي المجتمع آفات بالغة الخطر‏..‏ كانت الكلمات النابية تحذف ويطمس عليها من الحوار في المسرحيات المذاعة‏,‏ فصارت شاشات التليفزيون مرتعا الان لتبادل أقذع الشتائم والبذاءات علي مرأي ومسمع المشاهدين في البيوت‏!!‏ وبتنا نري من يصطنعون الدعاوي اصطناعا للكيد والإعنات وإشفاء الغليل‏,‏ وبتنا نري طلاب السمعة والشهرة ومن لا يحسنون شيئا في الدين‏,‏ وقد لا يحسنون قراءة القرآن أو يعرفون علامات الوقف والأبتداء فيه‏,‏ ينضمون الي المحبطين من عدم الإلتفات اليهم في رفع دعاوي التكفير والتفريق‏,‏ وللطعن الطائش في الكبار‏!..‏ متابعة وموالاة هؤلاء ـ ناهيك بالتخديم عليهم ـ تتردي في عبثية وفي تهريج لا يليق بالمحامي ولا يمت بصلة لرسالة المحاماة‏!..‏ كثرت دعاوي عزل أو بطلان قرارات اختيار أو تعيين الوزراء وغير الوزراء‏,‏ ولم يجد أحد الآشاوس من محاربي طواحين الهواء ـ لم يجد بأسا ولا غضاضة ولا إهتز له جفن وهو يرفع دعوي ـ ورفع الدعاوي يسير ـ ببطلان تعيين الإمام الأكبر شيخا للأزهر الشريف‏..!‏ واستهوي البعض رفع أمثال هذه الدعاوي المصطنعة محققة الخسران ـ بغير حجة ظاهرة أو خفية‏,‏ اللهم إلا الجري اللاهث وراء الشهرة‏,‏ وهي مطلب خادع كالسراب‏.‏

    الشهرة ليست ولا ينبغي أن تكون غاية في ذاتها‏,‏ فبين المشاهير نقائض يدعو بعضها الي الاعجاب‏,‏ ويجلب بعضها الشقفة والامتعاض‏..‏ بين المشاهير العالم الجليل‏,‏ والجاهل المغرق في الجهالة‏!!‏ في المشاهير نجوم لامعة في الفكر والفن والأدب والعلم والمحاماة والصحافة‏,‏ وفيهم مشاهير بالصعلكة والتفاهة والجنوح والبذاءة والبلطجة والإنحراف والإجرام‏!!‏ لا يشتهر آدمي بغير صفة تلاحقه وتلازم شهرته‏,‏ إما إيجابية وإما سلبية‏..‏ ومن الغرور الساذج والحماقة الجهولة أن يسعد المرء بشهرة تلازمها صفات التفاهة أو الجهالة أو الحماقة أو البذاءة أو السفاهة أو الجنوح أو التهور أو الرعونة أو البلطجة‏..‏ هذه شهرة علي صاحبها كالوباء‏,‏ لأنها تحط من قدره في نظر الناس وفي نظر نفسه لو أفاق‏!..‏ لا يجزيء هذا الشهير ولا ينفعه ولا يغنيه صوره أو أخباره في الصحف‏,‏ فهي مجلبة لتندر الناس عليه وسخريتهم منه وانتقاداتهم اللاذعة له في مجالسهم التي ربما تواروا بها إتقاء واحتياطا من ملاحقات الشتائم والبذاءات‏!‏ أخطر من تفشي هذا بين جمهور الناس‏,‏ أن يتسلل الي أرباب الكلمة‏..‏ قد تعلمنا من أسلافنا العظام‏,‏ ومما جادت به تجارب الحياة‏,‏ أن من يملك العلم والأدب والحجة والبيان‏,‏ لا يحتاج الي السباب والشتائم والبذاءات‏..‏ التقدم الي رسالة المحاماة‏,‏ أو الي بلاط صاحبه الجلالة ـ قافلة قوامها وعدتها العلم والمعرفة والأدب والحكمة والوقار‏..‏ أن كلمة واحدة‏.‏ جيدة التعبير والسبك قوية الحجة كفيلة بأن تدك أوكار الظلم أو الباطل أو الضلال أو الإنحراف‏..‏ نبل الغاية لا يبرر التفاهة ولا الإسفاف ولا البذاءة‏,‏ وإنما يستوجب أن يرتفع البيان والحجة الي مقام هذه الغاية النبيلة المرجوة‏!!‏
    أرباب الكلمة إبداعا أو تأليفا أو كتابة أو خطابة أو محاماة أو صحافة‏,‏ هم الحماة الحقيقيون لقيمة وأمانة ونزاهة وجدية ووقار ورسالة الكلمة‏..‏ حمل المحامي والمحاماة في هذا كله أثقل لأن المحامي لا يختار أداءه ولا يطلق كلماته في الفضاء الفسيح يلتقطها من يشاء ويعرف عنها أو يجافيها من يشاء‏,‏ إنما هو يتلامس بها ـ بكلمته ـ مع الحق والعدل والخير والجمال‏..‏ هو في محراب العدالة يسعي والي الحق في سموه يرنو ـ متوسدا هذه الباقة من العلم والمعرفة التي يقضي حياته جامعا لزهراتها‏.‏ وتزيدها تجربته أنصهارا وبصيرة ورونقا تزهو بهم المحاماة وتؤدي نصيبها المقدور في طلب الحق والعدل والكمال والإنصاف حيث كان‏.(‏ للحديث بقية‏)‏
    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    09عال9 رد: رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية السلسله كاملة جمعها محمد راضى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الإثنين أغسطس 03, 2009 7:59 pm

    رسالة المحاماة‏:‏ والحركة الوطنية‏(34)‏
    بقلم : رجائي عطيه
    في خطابه‏12‏ يوليه‏1891,‏ فور حصوله علي شهادة الدراسة الثانوية من المدرسة التجهيزية‏(‏ الخديوية‏)‏ كتب الفتي مصطفي كامل‏,‏ الي شقيقه علي‏(‏ بك‏)‏ فهمي كامل الضابط آنذاك بالسودان يقول‏:‏ أؤمل أن تعود الي القوي لأدخل مدرسة الحقوق الخديوية‏,‏ فقد عزمت علي الانضمام إلي صفوف طلابها لانها مدرسة الكتابة والخطابة ومعرفة حقوق الافراد والأمم‏.‏ وأنت تعلم أني اميل إليها كثيرا‏,‏ وعزمت كذلك علي تأسيس جمعية اسميها جمعية إحياء الوطن‏.‏ لم تكن الفكرة التي نبتت في صفحة وجدان الفتي الغض مصطفي كامل‏,‏ نبت خيال‏,‏ وإنما ترجمة عن واقع دلت عليه سوابق التاريخ‏..‏ لم يكن صدفة‏,‏ ولا من ضربات الحظ ومصادفات المقادير‏,‏ ان يلي رئاسة الولايات المتحدة خمسة وعشرون من المحامين أو الحقوقيين من جملة رؤسائها البالغين‏39‏ رئيسا‏,‏

    ولا أن يلي اربعة عشر منهم رئاسة الجمهورية الفرنسية‏..‏ لم يكن بزوغ المحاماة في الحركات الوطنية للأمم والشعوب إلا ترجمة عن قدرات تتيحها دراسة الحقوق التي قرر مصطفي كامل من البداية الانخراط فيها ليكون باعثا للحركة الوطنية في مصر التي عشقها حتي النخاع‏,‏ والتي تنميها وتصقلها ممارسة المحاماة لذلك لم يكن غريبا هذا الحضور البارز للمحاماة ودارسي الحقوق بعامة في الممارسات البرلمانية وفي الحركات الوطنية‏..‏ كان حضور المحاماة والمحامين حضورا لافتا في الثورة الفرنسية‏(14‏ يوليو‏1789),‏ فكان من زعماء الثورة الكبار روبسبير المحامي‏,‏ والمحامي الشهير‏:‏ جان جوزيف مونيير نائب جرينوبل الذي اقترح علي الجمعية الوطنية قسمها الشهير‏,‏ ودانتون الذي بدأ مستشارا ملكيا يترافع في فرساي عن حقوق النبلاء

    قبل ان يشتري مكتبا للمحاماة ثم ينتقل الي باريس ليخوض الثورة الفرنسية بمنطقه القوي الذي لايباري‏..‏ ولم ينكث المحامون عن أداء رسالتهم المقدسة إلي جوار من مالت عليهم الثورة‏,‏ فتطوع لاموانيون دوما ليزيرب ـ العظيم للدفاع عن الملك لويس السادس عشر والي جواره المحامي ريمون دي سيز الذي لم يتوان أن يقول في ساحة المحكمة إنه يبحث عن قضاة فلا يجد إلا خصوما‏..‏ ثم يودع المحكمة في ختام مرافعته قائلا‏:‏ إنني أشهد التاريخ عليكم‏..‏ فاذكروا أنه سيحكم علي قضائكم‏,‏ ولسوف يكون حكمه حكم قرون‏..‏ يصافح المتأمل في الحركة الوطنية المصرية حضور طاغ للمحاماة والمحامين‏,‏ ويري ان لواء قيادة الحركة الوطنية الحديثة قد انعقد لهم طوال قرنين من الزمان‏:‏ مصطفي كامل باعث الحركة الوطنية الحديثة‏,‏

    وسعد زغلول زعيم الوفد والوزير ورئيس الوزراء ومجلس النواب‏,‏ ومحمد فريد خليفة مصطفي كامل ورئيس الحزب الوطني القديم من بعده‏,‏ ومصطفي النحاس رئيس الوفد والوزير ورئيس الوزراء لعدة مرات‏,‏ وعبدالعزيز فهمي قطب الوفد وثورة‏1919‏ ثم رئيس حزب الاحرار الدستوريين‏,‏ واحمد لطفي السيد استاذ الجيل‏,‏ المحامي والوزير ورئيس مجمع اللغة العربية‏,‏ ورؤساء الوزراء‏:‏ يحيي ابراهيم‏,‏ وحسين رشدي‏,‏ ومحمد سعيد‏,‏ ومحمد محمود‏,‏ ومحمد توفيق نسيم‏,‏ وإسماعيل صدقي‏,‏ وعبدالخالق ثروث‏,‏ واحمد ماهر‏,‏ وعلي ماهر‏,‏ وابراهيم عبدالهادي‏,‏ ونجيب الهلالي‏,‏

    وحديثا الدكتور محمود فوزي والدكتور عاطف صدقي‏..‏ ملأ المحامون ورجال القانون بعامة رئاسة مجلس النواب والشيوخ‏,‏ وتبوأوا معظم مناصب الوزراء علي مدي قرابة قرنين‏,‏ وقامت علي أكتافهم جوانب الحركة الوطنية في الفكر والادب والصحافة والتعليم والاصلاح‏.‏ لإيمان مصطفي كامل بالقضية التي دخل مدرسة الحقوق من أجلها‏,‏ التهم سنوات الدراسة التهاما‏,‏ وجمع في وقت واحد بين دراسة الحقوق العربية والحقوق الفرنسية‏,‏ واستطاع ان يجتاز سنتين دراسيتين في عام واحد‏..‏ ولما استحال اداء الامتحان النهائي في كلية باريس التي لم يكن نظامها يقر اداء امتحانين في سنة واحدة‏,‏

    لجا الي كلية حقوق تولوز حيث اتم الدراسة ودخل امتحانها‏,‏ ونال اجازتي الحقوق العربية والفرنسية في نوفمبر‏1894‏ وهو لم يزل في العشرين من عمره‏,‏ وكأنه في سباق مع الزمن وهو يري روح الخذلان قد تسربت الي الناس عقب اخفاق الثورة العرابية‏(1882/81)‏ وما صاحب إخفاقها من صفحات سوداء مخزية وشيوع اليأس وانقطاع الأمل‏,‏ وطغيان القوات والسياسة الانجليزية‏,‏ وسلبية الدول الاوروبية إزاء التغول البريطاني في بلاده التي تركها كبار العالم لبريطانيا في القسمة الضيزي التي اقتسموا بها بلدان الارض‏,‏ وخضوع الحكومة السنية للقنصل البريطاني العام‏,‏ وتعقيم الجيش المصري وجعل قياداته الي الانجليز‏,‏

    وإذعان الخديوي توفيق ورجالات مصر للسيطرة البريطانية واللورد كرومر‏..‏ مثل هذه التراجعات أصابت الروح الوطنية في الصميم‏,‏ وجعلت من بعث الروح الوطنية مقدمة المقدمات للخروج من وهدة الخذلان والسلبية الي عزيمة العقل والعمل‏..‏ توري حركة مصطفي كامل وهو لم يزل بعد في هذه السن الغضة أنه كان مدركا لميدان ولوازم المعركة التي جعل يعد نفسه لادائها علي محورين بالغي الأهمية‏:‏ بعث الروح الوطنية‏,‏ ومخاطبة الضمير العالمي للفت الانظار الي مصر وما يجري فيها‏.‏ شطر الحقوق ودراستها اتجه مصطفي كامل وفي ضميره ان المحاماة هي في المقام الأول عن حقوق الامم‏..‏ بذلك كتب سنة‏1891‏ إلي أخيه علي فهمي كامل‏..‏

    حتي إذا ما استوت له إجازتا الحقوق العربية والفرنسية‏,‏ يمم فورا شطر المحاماة التي جعلها سبيله الي غايته الكبري‏:‏ قضية مصر وحقوق مصر‏..‏ ما إن عاد إلي مصر في ديسمبر‏1894‏ ـ حتي قيد اسمه في جدول المحامين‏,‏ وجاء في المؤيد عدد‏1894/12/31:‏ قررت لجنة انتخاب المحامين قبول حضره الفاضل الاديب مصطفي افندي كامل صاحب جريدة‏(‏ المدرسة‏)‏ الحائز للشهادة النهائية في الحقوق محاميا امام المحاكم الابتدائية وهو من نخبة الشبان الاذكياء النجباء ويقول الرافعي في كتابه عنه‏(‏ ص‏55/54‏ إن رسالة مصطفي كامل الوطنية شغلته عن قضايا الافراد‏,‏ إذ انصرفت جهوده للمحاماة عن القضية الوطنية‏..‏ علي ان اللافت ان المساحة الهائلة التي قطعها مصطفي كامل المحامي في خدمة القضية الوطنية‏,‏ قد قطعها بغير منصب ولا سلطة‏,‏ وانه مضي لرسالته مضي المحامي الذي يملك الحجة ويملك الكلمة فنجح في بعث روح جديدة فجر بها طاقات ماكان لقوة أن تطفئها أو تحاصرها‏.(‏ للحديث بقية‏)‏
    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    09عال9 رد: رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية السلسله كاملة جمعها محمد راضى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الإثنين أغسطس 03, 2009 8:05 pm

    رسالة المحاماة
    الحركة الوطنية‏(35)‏
    بقلم : رجائي عطية
    أميز ما في سيرة مصطفي كامل‏,‏ وفي عطائه الغزير الذي بث به بعثا جديدا أخرج الحركة الوطنية من وحدة اليأس والانسحاق‏,‏ الي زخم فائر أخذ يتزايد حتي حرك الماء الآسن‏,‏ وألهب مشاعر الشعب الذي صار مصطفي كامل أغنيته الشادية‏,‏ وأقض مضاجع الاستعمار الإنجليزي حتي بات الزعيم الشاب همه الأكبر‏..‏ أميز ما في هذا الإنجاز أن مصطفي حقق هذا كله بغير منصب يطل منه أو يتترس به‏,‏ وبغير سلاح يتمنطق به‏,‏ بل وبغير حزب يسانده‏,‏ أو إعلام يروج له‏..‏ فلم يؤسس مصطفي كامل جريدة اللواء إلا في مطلع عام‏1900‏ بعد أن قطع بالحركة الوطنية أشواطا بعيدة المدي والتأثير بغير إعلام مخصوص يسانده‏,‏ وإنما اعتمد علي ما يستطيع أن يصدره بخطبه وندواته وكتاباته ومراسلاته وعلاقاته التي طرق بها كل باب الي من تلقفوه في الداخل والخارج ليصدر روحه ونشاطه اللاهب الموقظ الي الناس‏!!‏ أما الحزب الوطني القديم‏,‏ فكان تاليا لتأسيس وإصدار اللواء‏,‏

    ولم يبدأ الحزب في استكمال شكله ومقوماته إلا في أخريات عام‏1907‏ قبيل وفاة مصطفي كامل في‏10‏ فبراير‏1908‏ بأشهر معدودة‏..‏ هنا يحق بل واجب علي عشاق المحاماة المؤمنين برسالتها أن يتنبهوا وأن يفخروا وأن يتأسوا بمصطفي كامل الذي كانت رسالة المحاماة وفروسيتها ونبالتها هي مادته الأساسية ومنهجه الرئيسي وأسلوبه الماضي الذي حمل به رسالته فملأ العالم‏,‏ وأقض مضاجع الطغاة‏,‏ وألهب مشاعر الشعب‏,‏ وبث فيه روحا متوهجة وثابة غالب فغلب بها اليأس والإحباط والخذلان والانكسار والانسحاق‏,‏ وجدد في صفحات الوعي عشق مصر وترابها‏,‏ ورغبة التضحية والفناء من أجلها‏..‏ كان سعد زغلول كبيرا وأمينا حين قال في خطابه‏1923:‏ إن مصطفي كامل ـ الأصغر منه سنا بسبعة عشر عاما ــ هو السباق صاحب الفضل الغزير وباعث النهضة والحركة الوطنية عقب الحركة العربية وبالتوازي مع دور الأفغاني وتلاميذه‏..

    ‏ كانت المحاماة هي إذن كل عدة مصطفي كامل فيما أقام به الدنيا ولم يقعدها‏:‏ روحها‏,‏ رسالتها‏,‏ مادتها‏,‏ مواهبها‏,‏ بيانها‏,‏ حجتها‏,‏ فروسيتها ونبلها‏..‏ الفروسية والنبل روح المحاماة علي الدوام‏,‏ تتجلي في قضايا الأفراد كما تتجلي في القضايا الوطنية‏,‏ بيد أن نسب تجليها في القضايا الفردية متفاوتة‏,‏ تتفاوت من قضية لأخري‏,‏ ومن ظرف لآخر‏..‏ فتختلف نسبتها صعودا وهبوطا بالقياس الي اعتبارات عديدة تحكم الوكالات الفردية أو الجماعية المحدودة‏,‏ بيد أن القضايا الوطنية هي العنوان الهائل لفروسية ونبل المحاماة‏,‏ لأن الوكالة فيها معنوية‏,‏ لا يوجد فيها موكل يدفع قليلا أو كثيرا من الأتعاب التي قد يرتجيها أو يقبلها أو يتمناها أو يبالغ فيها البعض بعدا عن رسالة ومعني النجدة في المحاماة‏,‏ بينما وكالة القضية الوطنية لا موكل فيها إلا الوطن والشعب‏,‏ وكلاهما لا يدفع ولا ينبغي ولا يجوز أن يدفع للمحامي الوطني الذي يحمل همهما ويناضل من أجلهما‏..‏

    ومن ناحية ثانية‏,‏ فإن القضية الوطنية هي الحق بعينه في جميع أحوالها‏,‏ لا يمكن أن يخالطها باطل‏,‏ أو تعتريها مغريات أو مثبطات‏,‏ فالولاء للوطن وبنية ولاء للحق‏,‏ والدفاع عنهما دفاع عن الحق‏,‏ هذا البذل والتضحية بغير مقابل ـ هو لبد وجوهر رسالة وفروسية ونبل المحاماة‏..‏ لا ينذر حياته للقضية الوطنية إلا فارس عابد نبيل‏,‏ تصغر في عينه الدنيا‏,‏ ويهون المال‏,‏ ولا تبقي في صفحة وجدانه سوي المثل والقيم والمباديء وعشق الوطن حتي النخاع‏..‏ التجرد في القضايا الوطنية‏,‏ حينما لا يصاحبه رغبة في منصب أو جاه أو سلطان ـ وكما فعل مصطفي كامل ـ هو آية آيات النبل والفروسية في المحاماة التي هي في جوهرها رسالة لا يقبل عليها ـ إقبالا حقيقيا واعيا ـ إلا أصحاب الرسالات‏!..‏ لم يكن غريبا علي الفارس النبيل أنه ترك القضايا الفردية وغاص بروحه ووجدانه ونبضه في القضايا الوطنية حتي النخاع‏,‏ لا يبالي ولا حتي يلتفت للمرض الذي أخذ

    ينهشه حتي قضي عليه وهو لم يزل بعد في الثلاثينيات من عمره‏..‏ وكيف يكترث لشيء غير قضيته وخصمه فيها قوة عظمي لها من السلاح وآلة الحرب وقدرة المؤامرة والإهلاك ما يعصف بالأفراد؟‏!..‏ حاولوا ضربه في أخيه علي فهمي كامل الذي أنزلوه في السودان من ضابط الي نفر في مؤامرة مخزية ظالمة‏,‏ وحاولوا تعطيله هو عن دوره في بعث الحركة الوطنية بتكبيله بالتجنيد‏,‏ وكادوا له في كل مكان‏,‏ ولكن المحاماة كانت عدته وقوته‏..‏ أليس بها يملك الحجة والبيان واللسان الناطق والقلم الذي به أقسم القرآن المجيد‏..‏ كل ذلك قد نذره لوطنه وقضية وطنه‏,‏ مصطفي كامل اكتملت المحاماة في أعلي علاها حين كانت مهجة وطريق المحامي مصطفي كامل الذي ارتفع بالمحاماة‏,‏ وحقق بها لقضية وطنه ما يمثل قدوة للأجيال علي مدار الزمان‏!(‏ للحديث بقية‏)‏
    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    09عال9 رد: رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية السلسله كاملة جمعها محمد راضى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الإثنين أغسطس 03, 2009 8:06 pm

    رسالة المحاماة‏:‏ الحركة الوطنية‏(36)‏
    بقلم ‏:‏ رجاء عطية
    أجل‏,‏ في المحامي مصطفي كامل إكتملت المحاماة في أوجها السامق‏,‏ لأنه فيها وبها ترك مطالب الدنيا وأساليب الإرتزاق بقضايا الأفراد‏,‏ المتابع لسيرة مصطفي كامل يقطع بلا أدني مبالغة أنه نزع نفسه من الدنيا ونذر حياته وكل امكانياته في دفاعه المجيد المتصل عن القضية الوطنية‏..‏ لم يستثمر الصلات ولا العوالم التي تفتحت له في دراسة الحقوق والحصول علي اجازتها من تولوز بعد باريس لإقامة جسور مصالح شخصية وإنما استثمر هذا كله في الدعاية لقضية بلده‏..‏ ألقي من المحاضرات والخطب‏,‏ وعقد من الندوات في مصر ومعظم بلدان العالم ما يعجز عنه عشرات الرجال‏..‏ لم يتحدث في أحاديثه التي ملأت اهم الصحف العالمية بكلمة واحدة عن نفسه‏,‏ وإنما جعل بيانه وعربيته وفرنسيته وحجته وبرهانه لصالح القضية الوطنية التي كرس نفسه للدفاع عنها بلا أجر‏,‏ ولا منصب‏,‏ ولا جاه‏,‏ ولا سلطان‏!!..‏ بلغ به التنسك للقضية أن ابتكر وطبع علي نفقته رسما رمزيا‏,‏ موحيا ومؤثرا‏,‏ لتحريض فرنسا علي الإنجليز‏,‏ جعله في شكل صورة رمزية لمصر ترسف في أغلال الاحتلال الانجليزي وتستصرخ فرنسا لمعاونتها علي إجلاء المستعمر‏,‏ ولم يكتف بتقديم هذا الرسم المؤثر إلي مجلس النواب الفرنسي‏,‏
    فطبع منه آلاف النسخ علي نفقته وجعل يصدره الي الدنيا ليؤلب الرأي العام علي الانجليز‏..‏ لم يكتف بتعرية وضرب انجلترا لدي منافستها التقليدية فرنسا‏,‏ أو في النمسا وألمانيا والمجر‏,‏ وإنما اقتحم علي الانجليز عقر دارهم حاملا حجته بكلمته وبيانه‏..‏ تحكي مكاتباته إلي ومن جلادستون شيخ الأحرار في إنجلترا‏,‏ كيف استطاع هذا المحامي الشاب الهائم في حب مصر أن يقض مضاجع الإنجليز في عقر دارهم‏..‏ وكيف بعث في مصر حركة وطنية هائلة ظلت تتصاعد بمصر بمد ما بذره ونماه‏,‏ حتي دكت معاقل الاستعمار‏,‏ وعرفت به الأمة المصرية طريقها الي النهوض والخلاص وإجلاء المستعمر عبر رحلة طويلة بدأها وحرك ماءها هذا المحامي الوطني الغيور العاشق لوطنه حتي النخاع‏..‏

    لم يصرف انشغال المحامي مصطفي كامل بإيقاظ الوعي وبعث الروح الوطنية‏,‏ وتعرية الاحتلال بالخارج ـ لم يصرفه عن تكريس نشاطه للإسهام في مشروع لنهضة البلاد في التعليم والثقافة والصناعة وفي الحياة الدستورية‏..‏ أليس هو القائل في شعار مجلته المدرسية أحب مدرستك حبك أهلك ووطنك؟‏!‏ ما إن بدأ دعوته الوطنية حتي كرس اهتمامه للدعوة لنشر التعليم سبيل الوطن الي المعرفة وبث الروح الوطنية‏..‏ لبي دعوته المرحوم حسين بك القرشوللي وأسس علي نفقته مدرسة بالحلمية‏,‏ واجتمع بعض الشباب مع بعض السراة فأسسوا مدرسة بسراي العزبي بباب الشعرية وأطلقوا عليها مدرسة مصطفي كامل الذي تولاها وحمل كافة اعبائها‏,‏ وأصدر سنة‏1898‏ كتابا في المسألة الشرقية وشرح فيه المسألة المصرية‏,‏ وأخذ يدعو الي نشر التعليم والكتابة باللغة العربية وتقديمها في التعليم علي ما عداها ـ وطفق يشجع الأعيان علي إنشاء المدارس ويحتفي بافتتاحها كما فعل في افتتاح مدرسة الشوربجي ببريم في ابريل‏1901,‏ ولم يقطع صلته يمدرسة الحقوق‏,‏ فكان حاضرا في شتي شئونها مشجعا علي تخلصها من تأثير المستر دنلوب الانجليزي الذي كان يلاحق التعليم ومؤسساته بنفوذه وأغراضه‏,‏ وترجم في جريدة اللواء ـ كشف
    ا لمخططه ـ المقال الذي نشره الأستاذ لامبير في جريدة‏(‏ ألطان‏)‏ الباريسية إثر اضطراره للإستقالة احتجاجا علي دسائس دنلوب ضد وزير المعارف الوطني سعد زعلول مما فضح أمام الرأي العام سياسة التعليم الحولاء التي جرت عليها سلطات الاحتلال‏!..‏

    لا يملك المرء حين يتأمل في سيرة المحامي مصطفي كامل‏,‏ إلا أن يتساءل وهو ينظر حزينا الي حال الأمة العربية‏,‏ هل بات مستحيلا أن يخرج من باطن الأمة وطني غيور يجعل همه كله أن يوقظ بعثا تعبر به الأمة العربية من هاوية الهوان واليأس والشتات الي حيث يليق بها أن تكون؟‏!‏
    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    09عال9 رد: رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية السلسله كاملة جمعها محمد راضى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الإثنين أغسطس 03, 2009 8:07 pm

    رسالة المحاماة‏:‏ الحركة الوطنية‏37‏
    بقلم : رجائي عطية
    عن تشييع جنازة المحامي مصطفي كامل باعث النهضة الوطنية‏,‏ كتب يحيي حقي أحد نجباء الحقوقيين‏,‏ وأعلام الفكر والأدب ـ يقول‏::‏ لا يشفع لي في العودة من جديد الي الرمز‏(‏ مصطفي كامل‏)‏ الذي اتخذته للعهد السابق إيمانا معي بأن من انغرزت رجله في هذا الشرك لا تنفلت منه بسهولة‏..‏ بقايا طلقاء السجون من أشلاء دنشواي يحملون نعشا وتارة علي البلاد‏,‏ خفيفا كالنسيم‏,‏ يضم روحا لا جسدا‏,‏ لفتي كان جهاده هو الذي فك عنهما لأغلال يخوضون به بحرا لجيا من أهل الريف والقاهرة‏!‏

    قبل أن يفارق مصطفي كامل‏,‏ كان خليفته محمد فريد يمسك بيده علي الراية كي لا تسقط‏..‏ سبق مصطفي كامل في الميلاد بست سنوات‏,‏ فولد بالقاهرة‏1868/1/20,‏ وسبقه في التخرج في مدرسة الحقوق بسبع سنوات‏(1887),‏ بيد أن تجرده المتعبد للقضية الوطنية وإيمانه بعبقرية مصطفي كامل‏,‏ جعلاه يقترب من هذا الزعيم بحب‏,‏ وينضوي تحت لوائه بلا تردد‏..‏ ما لبث محمد فريد بعد تخرجه ان استقال‏1896‏ من وظيفة القضاء الرفيعة التي هيأه لها انتماؤه الإرستقراطي‏,‏ وانطلق ليخوض غمار المحاماة ويواصل في بحبوحتها كتاباته التي بدأها للصحف لتحريك القضية الوطنية‏..‏

    بيد أن اباه الارستقراطي‏:‏ أحمد باشا فريد‏,‏ صدم بترك نجله للقضاء‏,‏ وانتقاله الي المحاماة التي لم تكن في ذلك الأوان كما صارت بعد ذلك بجهود هؤلاء العظماء الذين نحتو في الصخر‏,‏ وأرسوا دعائم وتقاليد وفنون ومكانة المحاماة‏..‏

    واقع الأمر أن لإستقالة محمد بك فريد من النيابة‏,‏ واشتغاله بعدها بالمحاماة‏,‏ قصة بالغة الدلالة علي الوطنية الأصيلة في هذا الفارس النبيل‏,‏ قدم بها أوراق اعتماده للحركة الوطنية ومن قبل أن تتصل حبال الود بينه وبين مصطفي كامل الذي لم يكن قد تخرج آنذاك إلا من عامين‏..‏ كان محمد فريد عام‏1896‏ وكيلا لنيابة استئناف القاهرة حين اثيرت علي مسرح الاحداث قضية جريدة المؤيد الوطنية التي كانت قد ظهرت للرد علي جريدة المقطم التي يمولها ويوجهها الإنجليز‏..‏ كانت سلطات الاحتلال تتربص الدوائر بجريدة المؤيد وبصاحبها الشيخ علي يوسف‏,‏ فإنتهزت فرصة قيامها في‏1896/7/28‏ بنشر برقية وافاها بصورتها عامل التلغراف توفيق كيرلس صادرة من اللورد كتشنر سردار الجيش المصري عن أحوال الحملة علي دنقلة بالسودان‏,‏ وفيها عدد الوفيات والاصابات في الحملة في كل من كروسكو وحلفا‏,‏ فثارت ثائرة سلطات الاحتلال وزجت بالموضوع الي النيابة طالبة التحقيق واتهام توفيق كيرلس موظف تلغراف مكتب الازبكية والشيخ علي يوسف صاحب المؤيد‏,‏ بيد ان وكيل النيابة محمد فريد جاهر بتعاطفه ومال الي حفظ القضية‏,‏ وتابع تعاطفه حينما فرضت السلطات إحالة القضية حيث نظرت ابتدائيا امام محكمة عابدين الجزئية‏,‏ وفيها دافع الأستاذ ابراهيم الهلباوي عن توفيق كيرلس والأستاذ احمد الحسيني عن الشيخ علي يوسف‏,‏ فصدر الحكم بمعاقبة توفيق كيرلس بالحبس ثلاثة اشهر‏,‏ وبراءة الشيخ علي يوسف‏,‏ فجن جنون سلطات الاحتلال‏,‏ وصبت جام غضبها علي القاضي محمود خيرت الذي اصدر الحكم‏,‏ وعلي وكيل النيابة محمد فريد وطلبوا من النائب العام نقله الي إحدي نيابات الوجه القبلي‏,‏ فصدر القرار في نوفمبر‏1896‏ بنقله الي نيابة بني سويف علي أن يكون مقره في مغاغة‏,‏ فقدم محمد بك فريد استقالته انحيازا للحركة الوطنية واحتجاجا علي ما رآه ماسا باستقلال القضاء والذي ضرب بدوره مثلا بالغ الوطنية حيث أيدت المحكمة الاستئنافية براءة الشيخ علي يوسف وقضت أيضا ببراءة موظف التلغراف توفيق كيرلس‏.‏ حين ترك محمد فريد القضاء احتجاجا علي المساس باستقلاله واختار المحاماه سبيلا يعينه علي خدمة القضية الوطنية‏,‏ لم يبال بالنظر الذي كان سائدا آنذاك بين الناس للمحاماة التي لم تكن قد نظمت بعد‏,‏ وعرف كما عرف معاصروه الذين وضعوا الأساس وأقامواصرح المحاماة‏,‏ أنها باب كبير لخدمة القضية الوطنية ومعالجتها بما تحتاجه من قوة وحجة وبيان وبرهان‏.‏
    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    09عال9 رد: رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية السلسله كاملة جمعها محمد راضى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الإثنين أغسطس 03, 2009 8:09 pm

    رسالة المحاماة‏:‏ الحركة الوطنية‏38‏
    بقلم : رجائي عطية
    واقع الأمر أن اهتمام محمد فريد بالقضية الوطنية‏,‏ كان سابقا علي اشتغاله بالمحاماة‏..‏ تدل علي ذلك مذكراته الوافية المتابعة للأحداث الوطنية والتي بدأ في كتابتها منذ عام‏....1899‏ في ذلك العام كان مصطفي كامل في بداية عهده بدراسة الحقوق‏,‏ وكان محمد فريد قد أمضي وكيلا للنيابة أربع سنوات‏...‏

    سجل بمذكراته عام‏1896‏ عن استقالته يقول‏:‏ وبذلك تخلصت من خدمة الحكومة التي لاتقبل إلا كل خاضع لأوامر الانجليز ميت الإحساس غير شريف العواطف‏!...‏ بيد أن محمد فريد لم يكن من الذين يستسلمون لرغاب سلطات الاحتلال‏,‏ فبدأ وهو طالب يخوض غمار الحركة الوطنية ويكتب في مجلة الآداب التي كان يصدرها الشيخ علي يوسف في عامي‏1888/1887‏ تحت توقيع م‏.‏ف‏!‏ ولم يكتف بكتاباته في الصحف الوطنية‏,‏ واستثمر عضويته في الجمعية الجغرافية في القيام برحلات في البلدان العربية والأندلس

    بدأت الصلة بين محمد فريد ومصطفي كامل تحديدا في عام‏1893....‏ روي ذلك محمد فريد في خطبته‏14‏ فبراير‏1908‏ بمناسبة توليه زعامة الحزب الوطني القديم خليفة لمصطفي كامل‏.‏ أنهما تعارفا أيام أنشأ مجلة المدرسة‏(1893),‏ ثم تأكدت الصداقة بينهما منذ سنة‏1895‏ حيث تقابلا بباريس قبيل أن يلقي مصطفي كامل خطبته بمدينة تولوز في‏4‏ يوليو من تلك السنة‏,‏ فصارا صديقين حميمين وزميلين مخلصين في الجهاد‏,‏ وتعاهدا ومعهما الدكتور محمود لبيب محرم سنة‏1896‏ علي خدمة الوطن حتي الممات‏,‏ وشرع ثلاثتهم في تأسيس جريدة أسبوعية باللغتين الفرنسية والألمانية للفت أنظار العالم الغربي إلي القضية المصرية‏,‏ وولي إدارة الجريدة الشاب الألماني هانس رزنر‏,‏ واستمرت في الظهور حتي وفاته‏,‏ فترجم الثلاثة المتعاهدون إلي العربية كتابه عن مصر والاحتلال‏.‏

    ‏...‏ وكما طغت القضية الوطنية علي عمل مصطفي كامل بالمحاماة‏,‏ طغت أيضا علي نشاط رفيقه محمد فريد بها‏...‏ لم تشغله القضايا الفردية عن الواجب الوطني الكبير‏,‏ وعرف عنه عزوفه عن قبول إلا مايتفق مع الحق‏,‏ أما الحق الأكبر‏,‏ وإيمانه بالمحاماة رسالة إليه‏,‏ فقد عبر عنه في المقدمة التي سطرها لكتاب علي فهمي كامل بك عن سيرة الزعيم مصطفي كامل‏.‏ فطفق فيها يقول عن مقومات الزعيم والزعامة أنها‏:‏ سرعة الخاطر مع العلم الصحيح وقوة الخطابة مع الصراحة التامة والإفصاح بلغة صحيحة سهلة مؤثرة‏....‏ ثم يضيف‏:‏ ليست عظمة الرجال مقصورة علي فتح المدائن أو تحرير الأوطان بالسيف والنار‏.‏ فإن هناك رجلا أعظم من كل الرجال‏..‏

    بوفاة الزعيم مصطفي كامل في فبراير‏1908,‏ آلت أعباء الزعامة وقيادة الحركة الوطنية إلي رفيق نضاله محمد بك فريد‏,‏ فاجتمعت الجمعية العمومية للحزب الوطني صباح الجمعة‏14‏ فبراير‏1908‏ بدار اللواء‏.‏ لانتخاب رئيس الحزب‏,‏ في حضور غفير لأعضاء الحزب من القاهرة والثغور والأقاليم‏,‏ حيث تولي رئاستها احمد فائق باشا احد وكيلي الحزب‏,‏ وبدأها محمد فريد بخطبة تأبين للزعيم الراحل‏,‏ أسالت الأشجان والعبرات‏,‏ وأنتهي الاجتماع بانتخاب محمد فريد زعيما للحزب بالإجماع‏,‏ وعلي فهمي كامل وكيلا في الموقع الذي خلال بتعيينه رئيسا‏,‏ وانتخب أحمد بك لطفي المحامي الشهير عضوا بلجنة إدارة الحزب‏,‏ بيد أن محمد بك فريد لم يشأ للاجتماع ان ينفض قبل ان يطلب من الجمعية العامة المجتمعة تعديل لائحة الحزب‏!‏ وقبل ان يفيق المجتمعون من دهشتهم بادرهم محمد فريد يقول‏:‏ إن المادة الأولي من لائحة الحزب تقضي بانتخاب الرئيس مدي الحياة‏....‏ انطلقت اصوات تتنادي بأنهم قد انتخبوه رئيسا مدي الحياة‏,‏ ولكنه قاطعهم في حزم‏,‏ إن هذا النص امتياز خاص بالمغفور له مصطفي كامل باشا‏,‏ ولم يتوان محمد فريد‏,‏ أو يدع للاعتراض سبيلا‏,‏ فطفق يطلب تعديل النص بوضع مدة محددة ل
    انتخاب الرئيس فكان له ما أراد وقررت الجمعية جعل مدة الأنتخاب ثلاث سنوات كانتخاب أعضاء اللجنة الإدارية للحزب‏,‏ ليعود الأمر بعدها إلي الجمعية لتنتخب من تشاء‏.‏
    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    09عال9 رد: رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية السلسله كاملة جمعها محمد راضى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الإثنين أغسطس 03, 2009 8:10 pm

    رسالة المحاماة‏:‏ والحركة الوطنية‏39‏
    بقلم : رجائي عطية
    صدق الأستاذ الكبير المحامي المؤرخ عبد الرحمن الرافعي‏,‏ حين أطلق علي محمد فريد‏,‏ في مطوله الذي ألفه عنه‏,‏ أنهرمز الإخلاص والتضحية‏..‏ كلما مضينا مع سيرة محمد فريد‏,‏ تأكد لنا موافقة هذه التسمية للحقيقة‏..‏ في جسارة غير هيابة استلم الراية بعد مصطفي كامل‏,‏ ورأيناه يبدأ زعامته‏,‏ وقبل أن ينفض اجتماع انتخابه‏,‏ بإرسال برقية الي وزير خارجية انجلترا يجدد فيها الاحتجاج علي احتلال القطر المصري بلا حق‏,‏ والعزم علي مقاومة هذه الاحتلال علي خط سلفه العظيم‏..‏ فلم تنقض عشرة أيام‏,‏ حتي اجتمع في‏1908/2/24‏ باللجنة الادارية للحزب لتصدر قرارا بالمطالبة بإلغاء المحكمة المخصوصة التي أسست فبراير‏1895‏ واضطلعت في يونيو‏1906‏ بأحكام مأساة دنشواي‏,‏

    ثم يحتج احتجاجا شديدا علي تصريحات وزير الحربية البريطانية اللورد هلدين بمجلس العموم في رده علي أحد الاعضاء الذي طلب تخفيض جيش الاحتلال في مصر والهند وأفريقية الجنوبية‏,‏ وأبدي فيها تذرعا بما سماه وقوع اختلافات جنسية او دينية في مصر مما يستدعي‏-‏ فيما صرح به‏-‏ بقاء جيش الاحتلال بها‏,‏ وأبدي محمد فريد في احتجاجه أن الامة كلها متحدة وأنها علي قلب رجل واحد في وجوب الجلاء عن البلاد‏,‏ فلما سكتت الحكومة المصرية علي تصريح لذات وزير الخارجية البريطانية بمجلس العموم في ابريل‏1908‏ يعرض فيه تعريضا سافرا بتبعية الوزراء المصريين للمستشارين الانجليز والي المعتمد والحكومة البريطانية‏-‏ أطلق محمد فريد صيحته مطالبا الوزارة المصرية بالاستقالة‏,‏

    ناعيا عليها قبول هذا الهوان ان يكون الوزراء المصريون موظفين تابعين يتلقون الاوامر من الحكومة البريطانية ورجالها‏!‏ أدرك محمد فريد‏,‏ ما أدركه سلفه مصطفي كامل‏,‏ أن معركة الاستقلال ليست ببعيدة عما يجري من المتخاذلين في مصر الذين ارتضواالتبعية الخفية او الظاهرة لسلطات الاحتلال‏,‏ ومنهم من تعاون معها سرا وعلانية‏!..‏ حتي الخديو الذي كان يظهر تعاطفا مع الحركة الوطنية‏,‏ استبان انه كان تعاطفا مغرضا بدأ يتراجع مع اقبال الخديو علي توطيد صلاته بملك انجلترا وحكومتها‏,‏ ثم تطور الي ارتياح كامل لاستقالة اللورد كرومر في ابريل‏1907‏ وتعيين السير إلدون جورست خلفا له‏,‏ بدأت تظهر معه بوادر سياسة وفاق اوجس منها مصطفي كامل خيفة‏,‏

    وبدأ يبتعد عن الخديو‏,‏ وكتب في‏23‏ اغسطس‏1907‏ رسالة الي رفيق كفاحه محمد فريد يقول فيها‏:‏ أرجوك عدم تفخيم الخديو فقد علمت عنه ما لا يسر‏,‏ ولابد ان تضر السياسة ذات الوجهين ضررا كبيرا‏,‏ وكلما كان عمل الوطنيين بعيدا عنه كان الفلاح محققا‏..‏ لذلك كان محمد فريد حذرا حصيفا حين لقائه بالخديو يوم انتخابه خليفة لمصطفي كامل في رئاسة الحزب الوطني‏(‏ القديم‏),‏ فرفض عرضه مساعدة الحركة الوطنية بالمال‏,‏ وكتب محمد فريد في مذكراته‏(‏ ص‏4-‏ الرافعي ص‏79)‏ تعقيبا علي ذلك‏:‏ فرفضت حتي لا أكون أسيره وطوع أمره‏,‏ وانصرفت‏,‏ رأي الرجل عقب ذلك بأني لست ممن يطيعون أوامره طاعة عمياء‏,‏ فأخذ يدس الدسائس لاسقاطي من جهة‏,‏ ويظهر لي التودد من جهة أخري‏!‏

    شرع محمد فريد يكتب تحت عنوان‏:‏ ماذا يقولون؟‏-‏ سلسلة من المقالات الشديدة في التعريض بالخديو وسياسته الجديدة‏,‏ وكشف فيها التخوف من تكرار زيارات السير الدون جورست لسراي عابدين شبه اليومية‏,‏ بينما تخفق قلوب المصريين كافة بالحصول علي الدستور الذي أخذ الحزب الوطني يجمع التوقيعات من الامة علي عرائض للمطالبة به‏,‏ ولم يتحرج ان يبدي أن القائلين يقولون ان قصد الخديو من التعاطف السابق الذي كان يظهره للحركة الوطنية انما كان محاربة اللورد كرومر شخصيا‏,‏ لا محاربة الاحتلال ولا تأييد المصريين وأنه استعمل رجال الحركة الوطنية لهذا الغرض‏,‏ فلما رحل كرومر تبدل موقفه وأخذ يقف أمام مطالب الامة في الجلاء والدستور‏!!‏
    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    09عال9 رد: رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية السلسله كاملة جمعها محمد راضى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الإثنين أغسطس 03, 2009 8:11 pm

    رسالة المحاماة‏:‏ والحركة الوطنية‏40‏
    بقلم : رجائي عطية
    اهتاجت خواطر الخديو وسلطات الاحتلال للمقالات الشديدة التي أخذت تنشرها جريدة اللواء من مارس‏1908‏ نقدا للخديو وللصنائع ولسياسة الوفاق مع الانجليز‏,‏ فأضمروا السوء للجريدة وللشيخ عبدالعزيز جاويش الذي كان محمد فريد قد اختاره لرئاسة تحريرها‏,‏ وأخذوا يتحينون ويختلقون الذرائع والفرص للعصف بالجريدة وبالشيخ جاويش وبمحمد فريد إن طالوه‏!!‏ كانت الذريعة الأولي فيما نشرته اللواء عن حادثة بلدة الكاملين بالسودان‏,‏ وتجريد الحكومة قوة من الجيش نكلت بالثوار وزعيمهم الشيخ عبدالقادر‏,‏ وقتلت كثيرين من أتباعه‏,‏ وقدمتهم للمحاكمة حيث صدرت أحكام بإعدام كثيرين علي رأسهم الشيخ عبدالقادر‏,‏ وسجن آخرين‏,‏ ونشرت جريدة اللواء أخبار ذلك في عددها‏28‏ مايو‏1908‏ تحت عنوان‏:‏ دنشواي أخري في السودان‏!!..‏

    فلما أرسلت وزارة الحربية تصحيحا لأرقام المحكوم باعدامهم‏,‏ وأظهرت الجريدة في عددها‏31‏ مايو‏1908‏ تشككها في التصحيح‏,‏ سارعت سلطات الاحتلال لتدفع الأمور لمحاكمة الشيخ جاويش بتهمتي‏:‏ إهانة وزارة الحربية‏,‏ ونشر أخبار مثيرة للخواطر‏..‏ وسورع بالقضية والشيخ المتهم إلي محكمة عابدين الجزئية‏,‏ وتصدت المحاماة للدفاع عن الشيخ جاويش وفي‏4‏ أغسطس‏1908‏ صدر الحكم ببراءة الشيخ جاويش من تهمة إثارة الخواطر بنشر خبر كاذب‏,‏ وبتغريمه عشرين جنيها عن تهمة إهانة وزارة الحربية‏,‏ فاستأنف الحكم واستأنفته النيابة لتغليظ العقوبة‏,‏ ولكن محكمة الجنح المستأنفة قضت في‏30‏ أغسطس‏1908‏ برئاسة محمود بك رشاد رئيس محكمة مصر‏,‏ وعضوية محمد بك عبداللطيف وزكي بك أبوالسعود ـ ببراءة الشيخ عبدالعزيز جاويش من التهمتين‏,‏

    لتواصل الحركة الوطنية ومعها رسالة المحاماة والحقوقيون نضالها‏,‏ في مقاومة وإجلاء الاحتلال‏.‏ ومع استمرار الزخم الذي يدفعه الحزب الوطني القديم الي الساحة مقاومة للاحتلال ولموافقات السراي‏,‏ وتراجعات الحكومة‏,‏ طفقت الأمة تنظر بغير عين الرضا‏,‏ بل وبالرفض والامتعاض‏,‏ إلي إقبال الخديو علي حضور الاستعراضات الانجليزية التي تقام في ميدان عابدين‏,‏ والوقوف تحت العلم البريطاني إلي جوار المعتمد‏,‏ فلما حمل عليه مصطفي كامل والقوي الوطنية بشدة‏,‏ تراجع عن حضور العرض في نوفمبر عامي‏1907,1906,‏ ولكن مع اقتراب نوفمبر‏1908‏ مصحوبا بهبوب رياح سياسة الوفاق بين الخديو والسلطات البريطانية‏,‏ خشي محمد فريد أن يرتد الخديو إلي سابق عهده‏,‏ فبادر محمدفريد إلي توجيه

    تحذير استباقي إلي الخديو من حضور الإحتفال وجرح الشعور الوطني الذي يتأذي من وقوف حاكم البلاد الي جانب المعتمد تحت علم الانجليز ووسط التهاب الشعور الوطني‏,‏ خرج طلبة الحقوق‏,‏ بذور الحقوقيين المشغولين بهموم الوطن ـ خرجوا في مظاهرة وطنية يوم العرض الموافق‏9‏ نوفمبر‏1908,‏ وتعالت هتافاتهم بميدان عابدين بطلب الاستقلال‏,‏ فتنادت إليهم الجماهير مرددة هتافاتهم بالاستقلال والحرية‏.‏ كان العهد قد طال بوزارة مصطفي فهمي باشا التي استمرت أكثر من ثلاثة عشر عاما واتسمت سياستها بالاستسلام والولاء للاحتلال البريطاني‏,‏ حتي ضاقت النفوس وانشقت الصدور‏,‏ فلجأ المحتل والصنائع إلي امتصاص الغضب بتغيير الوزارة‏,‏ ولكن الأمر بدا وكأنه محض استعانة علي الرمضاء بالنار‏..‏

    ففي‏12‏ نوفمبر‏1908,‏ عهد الخديو الي بطرس باشا غالي الموالي تماما للانجليز‏,‏ وسفير سياسة الوفاق بين الخديو وبينهم‏,‏ برئاسة الوزارة التي كان وزيرا للخارجية في سابقتها‏,‏ فاحتفظ لنفسه بمحفظتها إلي جوار رئاسته للوزارة‏,‏ والتي استمر فيها من الوزارة السابقة‏:‏ الحقوقي سعد باشا زغلول‏,‏ ودخلها أربعة وزراء جدد‏,‏ ثلاثة منهم من الحقوقيين‏:‏ حسين رشدي باشا للحقانية‏,‏ ومحمد سعيد باشا للداخلية‏.‏ وأحمد باشا حشمت للمالية‏,‏ فضلا عن المهندس اسماعيل باشا سري‏..‏ ومع هذا التشكيل الذي شمل أنصارا للنظام الدستوري أمل الشعب خيرا‏,‏ بيد أن الأمل سرعان ماخب اوانطفأ حين استبان أن الوزارة الجديدة وليدة سياسة الوفاق لا الكفاح‏.‏

    في‏25‏ ديسمبر‏1908,‏ اجتمعت الجمعية العمومية للحزب الوطني‏(‏ القديم‏),‏ في مؤتمر وطني حاشد بزعامة محمد فريد‏,‏ انتهي إلي تشكيل لجنة من عشرة من أعضاء المؤتمر‏,‏ كلهم من المحامين والحقوقيين بعامة‏,‏ ولم ينفض المؤتمر قبل أن يصدر بالإجماع قرارين حملتهما عريضة تجدد الاحتجاج علي الاحتلال الانجليزي‏,‏ وتطالب باعادة الدستور والمجلس النيابي للبلاد‏.‏
    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    09عال9 رد: رسالة المحاماة بقلم‏ :‏ رجائي عطية السلسله كاملة جمعها محمد راضى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الإثنين أغسطس 03, 2009 8:12 pm

    رسالة المحاماة‏:‏ والحركة الوطنية‏(41)‏
    بقلم : رجائي عطية
    تدل مراجعة الحركة الوطنية من أولويات القرن الماضي‏,‏ بدءا من مصطفي كامل ومحمد فريد اللذين بدآ حركتهما من أواخر القرن التاسع عشر ـ علي أن المحاماة‏,‏ والحقوقيين بعامة ـ كانوا المحرك الحقيقي الفاعل المؤثر في الحركة الوطنية‏..‏ وتوقفي في رصد الحركة الوطنية عن دور المحاماة والحقوقيين‏,‏ وان كان ينطلق من انتماء لا أنكره‏,‏ إلا أنه يصيب في معني عام هو بيان المكنات والقدرات والمؤهلات والمواهب التي تلزم المتصدين للحركات الوطنية‏.‏

    في مذكرته‏(‏ ج‏/1513‏ ـ‏161)‏ يكشف أحمد شفيق باشا الذي كان رئيسا للديوان الخديوي‏,‏ كثيرا مما كان يجري وراء الكواليس بين الخديو والانجليز‏,‏ وكيف كان توجسهم من الحزب الوطني الذي يؤجج الشعور الوطني‏,‏ وترصدهم له ولزعيمه محمد فريد‏,‏ وما صاحب تشكيل الوزارة الجديدة‏(1908)‏ من تدخل الانجليز في الترجيح لرئاستها بين فخري باشا وبطرس باشا غالي الذي استقر عليه الأمر في النهاية‏,‏ وكيف أبدي المعتمد البريطاني جورست أنه مع استيائه الشديد لجفاء اخلاق وتكبر سعد باشا زغلول وقسوة كلامه ـ مثل الحجر ـ علي حد تعبيره‏,‏ فإنه لايري خروجه في الوزارة الجديدة مخافة توابع خروجه مع الخارجين‏,‏ وعلي أن يدبروا لاخراجه من الوزارة بعد شهرين أو ثلاثة‏,‏ ولكن الخديو طفق يطمئنه بأن بطرس باشا غالي قال له‏:‏ إذا طلب الإنجليز إبقاء سعد‏,‏ فاتركه لي وأنا أعرف ما أفعله لخروجه‏!‏

    كان الرفض الوطني لرئاسة بطرس غالي للنظار كبيرا‏,‏ وفي‏14‏ نوفمبر‏1908‏ وصلت الخديو رسالة تهديد ـ لتعيينه ـ بإمضاء أحد رجال جمعية الانتقام المصري وطالبته بعزله من رئاسة المحكمة المخصوصة‏,‏ فعزا الخديوي هذه الرسالة الي تدبير اتباع محمد فريد الذي صار شوكة في حلق الخديوي وسلطات الاحتلال والمتعاونين معهم‏,‏ حتي تصاعدت الأزمة بين الحزب الوطني والخديوي الذي اعتبر مقالات محمد فريد بجريدة اللواء تلميحا الي خيانته للوطن‏(‏ أحمد شفيق باشا جـ‏3‏ ـ‏169)!!‏ وماإن جاءت ذكري توقيع اتفاقية السودان التي كان قد وقعها بطرس غالي في‏1899/1/19‏ إبان ان كان ناظرا للخارجية‏,‏ حتي جدد محمد فريد ـ في‏1909/1/19‏ ـ احتجاجه علي الاتفاقية وبعث به الي الخديوي والحكومة وطيره الي العالم وإلي وزير الخارجية البريطانية‏,‏ فتحالف الخديوي والاحتلال علي قمع الحركة الوطنية متمثلة في محمد فريد وإصدارات الحزب الوطني التي أججت مقالاتها مع خطبه الشعور الوطني‏,‏ وأدت الي اندلاع مظاهرات الشعب في مارس‏1909..‏ وإزاء هذا الزخم‏,‏ تفتق ذهن الوزارة علي إعادة قانون المطبوعات لتكميم الصحافة‏,‏ وأصدرت في‏1909/3/35‏ قرارا باعادة قانون المطبوعات القديم الصادر‏1881/
    11/26‏ إبان الثورة العرابية‏,‏ فسارعت اللجنة الإدارية للحزب الوطني ـ وكلها تقريبا من المحامين والحقوقيين ـ الي الاجتماع والاحتجاج بذات يوم صدور القرار الذي يخول نظارة الداخلية حق إنذار الصحف‏,‏ وتعطيلها مؤقتا أو نهائيا‏,‏ ودون محاكمة أو دفاع‏,‏ وطير محمد فريد هذا الاحتجاج الي العالم‏,‏ وفي حديثه الي جريدة كورييه ديجيبت كشف محمد فريد مثالب هذا القانون والمآرب المخططة وراء إعادة العمل به‏,‏ ناعيا علي الوزارة وعلي بطرس باشا غالي هذه النكسة المدمرة لحرية الصحافة‏!!‏

    حاول الشيخ علي يوسف في مقابلة له مع الخديوي يوم‏1909/3/19‏ اثناءه عن هذا الاتجاه فأخفق‏,‏ في الوقت الذي عارض اصداره الوزيران محمد سعيد باشا وحسين رشدي باشا حتي كاد الخديوي يرجع عما أزمعه‏,‏ ولكنه عاد فأحالهما علي رئيس النظار بطرس غالي الذي أبدي تمكسا بما يريد وضيقا من تجاوز النظار له وحديثهم مباشرة مع الخديوي‏,‏ ولم يشأ بطرس باشا ان يتزحزح عن موقفه فتمسك النظارالثلاثة‏..‏ سعد زغلول باشا ومحمد سعيد باشا وحسين رشدي باشا بمعارضتهم‏,‏

    وأبدوا استعدادهم للاستقالة التي جاهد الخديوي لاثنائهم عنها‏..‏ ومضي الأمر رغم اعتراض النظار الثلاثة حتي اضطر سعد زغلول ان يبدي في نهاية الاجتماع عدم ارتياح ضميره الي اصدار هذه اللائحة التي غلبوا فيها علي أمرهم‏!!‏ فما إن صدر القانون ونشر بالوقائع الرسمية في‏1909/3/27‏ ـ حتي التهب الشعور الوطني واندلعت المظاهرات وحملت جريدة اللواء حملة عنيفة شعواء علي القانون الذي يقبر حرية الصحافة‏!‏ حتي كاد مجلس شوري القوانين بجلسة‏1909/4/13‏ أن يقبل اقتراح علي شعراوي باشا مؤيدا بثمانية من الأعضاء بإلغاء قانون المطبوعات‏,‏ لولا الهجوم المضاد الذي قاده مقار باشا عبد الشهيد وحصل علي أغلبية للإبقاء علي القانون بغير إلغاء أو تعديل ولتكسب الوزارة وسلطات الاحتلال سلاحا للضغط به علي الصحف وعلي حرية الصحافة‏!‏

      الوقت/التاريخ الآن هو السبت مايو 11, 2024 5:41 pm