مجلة المحاماة – العدد الخامس
السنة العشرون سنة 1940
واجب المحاكم في قضايا الخبرة
بحث حول المادة (243) مكررة من قانون المرافعات
من زمن بعيد والشكوى عامة مستفيضة من قضايا الخبرة والصعوبات التي تقوم في وجهها وتلاقيها، وهي شكوى ذات حدين: حدها الأول جمهور المتقاضين، وحدها الثاني الخبراء.
فهي من ناحية الجمهوري: تتردد بين ما يحسه أطراف الدعوى من تراخٍ في العمل وتهاون في أدائه وعدم توخي جانب الحق في التحري عنه والسير به بعيدًا عن الرقابة القضائية الفعالة.
وهي من ناحية الخبراء: تقوم على عدم التيسير لهم في أجورهم وأرزاقهم والصعوبة التي يجدونها في تحصيل المصاريف التي ينفقونها مقدمًا وبنوع خاص في تحصيل ما يقدر لهم من الأتعاب وليس في قانون المرافعات من الوسائل المجدية ما يكفي لتلافيا.
لهذا رأى الشارع مشكورًا أن يتدخل ويصلح ذات البين.
ففي 10 يوليه سنة 1933 صدر القانون رقم (75) لسنة 1933 والقانون رقم (76) لسنة 1913 بتعديل قانون الخبراء وتعديل بعض مواده في قانون المرافعات تعديلاً وإن لم يصل في مجموعه إلى حد الكمال إلا أنه في يقيني وتقديري أشبه بعلاج مسكن لحالة استفاضت الشكوى منها وضاقت صدور الناس بها.
من بين هذه التعديلات مادة جديدة، هي المادة (243 مكررة)، أضافها الشارع إلى الفرع الرابع من الفصل الثاني من الباب السابع من الكتاب الأول من قانون المرافعات ونصها كالآتي:
يحضر الخبير في اليوم المحدد للمناقشة في التقرير ليبين للمحكمة رأيه والأوجه التي تبرره وللمحكمة أن توجه إليه من الأسئلة ما تراه مفيدًا لاستنارتها في الدعوى سواء من تلقاء نفسها أو بناءً على طلب الخصوم وتحصل المناقشة في هذه الجلسة ولو لم تكن القضية صالحة للمرافعة في موضوعها إلا إذا وجدت أسباب استثنائية وجب إثباتها في المحضر وللمحكمة في حالة اتفاق الخصوم أن تعفي الخبير من الحضور لمناقشة تقريره.
وقد عنى الشارع الإفصاح عما أراده ودار بذهنه عند إضافة هذا النص الجديد بما جاء في مذكرته الإيضاحية المؤرخة 9 نوفمبر سنة 1932 ونصها كالآتي:
(وينص المشروع كذلك على أنه يجب على القاضي أن يحدد تاريخ الجلسة التي تؤجل لها القضية للمناقشة في التقرير وللفصل في الموضوع إن كانت القضية صالحة للفصل فيها، ومن أهم التعديلات التي أدخلها المشروع ذلك التعديل الذي يحتم حضور الخبير أمام المحكمة للإدلاء برأيه والأوجه التي تبرر هذا الرأي ومناقشته فيه، ولا شك أن في ذلك ضمانًا تتحقق به الرقابة الفعالة من المحكمة ويعطي فرصة للخصوم لمناقشة الخبير استجلاء للحقيقة وتحريًا للدقة، وقد أجيز للمحكمة أن توجه إليه من الأسئلة ما تراه مفيدًا لتنويرها وتكوين عقيدتها في موضوع الدعوى سواء من تلقاء نفسها أو بناءً على طلب الخصوم كما أجيز لها في حالة اتفاق الخصوم أن تعفي الخبير من الحضور أمامها).
عبارة هذا النص المحكم لا إشارته تقطع في الدلالة على الآتي:
1 - حضور الخبراء أمام المحاكم لشرح تقاريرهم ومناقشة أعمالهم مناقشة علنية وبحضور أطراف الدعوى أصبح إجراءً واجبًا وحتميًا من إجراءات المرافعة في قضايا الخبرة.
وهذا الوجوب ظاهر من قول المادة: (يحضر الخبير في اليوم المحدد للمناقشة في التقرير ليبين رأيه والأوجه التي تبرره)، وقولها: (وللمحكمة في حالة اتفاق الخصوم أن تعفي الخبير من الحضور لمناقشة تقريره (بما يستفاد منه قطعًا ويقينًا أن حضور الخبير أمام المحكمة إجراء واجب لا بد منه.
وهو ظاهر أيضًا من عبارة المذكرة الإيضاحية وقولها: (أنه يجب على القاضي أن يحدد تاريخ الجلسة التي تؤجل لها القضية للمناقشة في التقرير) وقولها: (ومن أهم التعديلات التي أدخلها المشروع ذلك التعديل الذي يحتم حضور الخبير أمام المحكمة للإدلاء برأيه والأوجه التي تبرره ومناقشته فيه) وقولها: (كما أجيز لها – أي للمحكمة - في حالة اتفاق الخصوم أن تعفي الخبير من الحضور أمامها) إذ في القول بأنه يجب على القاضي أن يحدد جلسة للمناقشة في التقرير وأنه يتحتم حضور الخبير للإدلاء برأيه ما يقطع ولا شك في أن حضور الخبير أمام المحكمة إجراء واجب لا يغني عنه ولا يعفي منه سوى اتفاق الخصوم على عدم لزومه.
2 - وهو إجراء له حكمته وأهميته ليدلي الخبير أمام المحكمة برأيه والأوجه التي تبرر هذا الرأي ومناقشته فيه و (لتوجه إليه المحكمة من الأسئلة ما تراه مفيدًا لتنورها وتكوين عقيدتها في موضوع الدعوى سواء من تلقاء نفسها أو بناءً على طلب الخصوم) وعلى حد تعبير المذكرة: (لا شك أن في ذلك ضمانًا تتحقق به الرقابة الفعالة من المحكمة ويعطي فرصة للخصوم لمناقشة التقرير استجلاء للحقيقة وتحريًا للدقة).
3 - وهو إجراء واجب لازم ليس للمحكمة أن تعفي الخبير منه وتتسلب من مقتضاه إلا باتفاق الخصوم.
ولكي تدرك جوهر هذا التعديل وأهميته أرجع إلى ما جرى عليه العمل قبله ثم قارن بين الوصفين وأحكم منصفًا.
( أ ) فقد جرى العمل قبل التعديل على أن يباشر الخبير مأموريته ويقدم تقريره عنها بعيدًا عن رقابة المحكمة الفعالة تاركًا لها مهمة مراجعته وفحصه وتفهمه وبعيدًا عن رقابة الخصوم ملقيًا عليهم عبء الدفاع عنه أو الطعن عليه، ويومئذ تكون الغلبة لمن هو ألحن بحجته….
ومع أنه قل أن تخلو أعمال الخبراء من عيوب وطعون، فقد قل كذلك أن تأمر المحكمة بحضورهم لمناقشتهم فيما اختلف عليه لديها مكتفية بترجيح إحدى وجهتي النظر وتغليبها على الأخرى هكذا في غيبة الخبير صاحب الرأي ومن واقع ما عساه يكون مقدمًا لديها من أوراق ومذكرات..!!..
وإن هي تجوزت وأمرت بحضوره ففي نطاق ضيق محدود ولمناقشته (فيما هو لازم) أو على قدر معلوم وللكشف عن بعض مسائل غمضت واستعصى حلها عليها ليشرح لها رأيه ومبررات هذا الرأي عن آخرها.
(ب) أما الآن فقد أصبح مجرد قيام الخبير بمباشرة مأموريته وتقديم تقريره عنها إجراء غير كافٍ ولا شافٍ، بل لا بد له من إجراء آخر يتبعه ويكمله، هو تحديد جلسة لمناقشة التقرير وحضور الخبير أمام المحكمة ليشرح رأيه ويبين أسانيده ومناقشته فيه.
وعندئذ تتهيأ للمحكمة الفرصة لسماع رأي الخبير ومبرراته ولتوجه إليه من الأسئلة ما تراه مفيدًا لتنورها وتكوين عقيدتها في موضوع النزاع وفي عمل الخبير نفسه.
وعندئذ تتهيأ للخصوم الفرصة لإبداء ما لديهم من اعتراضات وطعون على عمل الخبير في موجهته وبحضوره لا في غيبته وبعيدًا عنه.
وعندئذ أيضًا تتهيأ للخبير الفرصة للدفاع عن تقريره والرد بنفسه على الطعون الموجهة إليه أولى من إلقاء هذا العبء على عاتق من جاء التقرير في مصلحته.
وبهذا تتهيأ الفرص جميعًا للكشف عن حقيقة النزاع ورأي الخبير ووجه الحق فيه علنًا وبحضور أصحاب الشأن في الدعوى.
وما بهذا الإجراء الجديد من شذوذ ولا عجب:
إذ الواقع أن حضور الخبير أمام المحكمة للإدلاء برأيه وبيان الأوجه التي تبرره ومناقشته فيه مناقشة علنية وبحضور أصحاب الشأن هو وضع للخبير تحت رقابة المحكمة الفعالة ورقابة الخصوم المباشرة، وفي ذلك ضمان بعيد لحسن سير العمل والاقتراب به ولو نسبيًا إلى حدود الكمال.
وما من شك في أن الخبير الذي يباشر مأموريته وهو يعلم بأنه (موضوع تحت المراقبة) وملزم بالدفاع عن تقريره أمام المحكمة قل أن يخاطر بنفسه ويخاطر بجهوده خشية إحراجه والتضييق عليه.
لا بل لك أن تقول بأن حضور الخبير أمام المحكمة ليبين رأيه ومبرراته علنًا وفي مواجهة أصحاب الشأن يهيئ لها مجالاً أوسع للكشف عن حقيقة النزاع والحكم على عمل الخبير وتقدير الطعون المسندة إليه وبالتالي يسهل لها سبيل استنارتها وتكوين رأيها والفصل في الدعوى عن عقيدة وباطمئنان.
وأخيرًا… فلا أقل من أن نفترض بأن مناقشة أعمال الخبير بغير حضوره وفي غيبته قد تسهل للخصوم طريق استرابته وتجريحه واستباحته وتترك لهم حبل الطعن ممتدًا على الغارب، فيعاتبونه حينًا، ويلومونه حينًا، ويعنفونه أحيانًا، ومن شأن التعديل أن يهيئ له فرصة الدفاع عن نفسه وعن عمله أمام المحكمة وبحضور أصحاب الشأن وشهود الجلسة وفي ذلك ما فيه من مصلحة محققة له أقلها درء الحدود وسد الذرائع وقطع الألسنة التي قد يحلو لها أن تتحرك للطعن عليه عفوًا وبالباطل.
قد يعترض: وكيف تناقش المحكمة تقرير الخبير قبل أن تطلع عليه.
ليس هذا بعذر… وفي وسع المحكمة استجلاءً للحقيقة وبغير حاجة إلى نص في القانون أن تؤجل القضية لاطلاعها هي كما تؤجلها لاطلاع الخصوم ولو اطلاعًا أوليًا وبالقدر الذي يمكنها من تتبع الرأي والمناقشة فيه، ومع ذلك فها هو الشارع قد عالج هذا النقص وأوجب تحديد جلسة للمناقشة في التقرير حتى وإن لم تكن القضية صالحة للمرافعة في موضوعها.
على أن الفكرة في التعديل لا تقف عند حد (المناقشة) ولكنها تمتد إلى غرض أبعد وأسمى، ذلك هو حضور الخبير أمام المحكمة ليشرح لها تقريره ويدلي برأيه وأسانيده، وقد يغني هذا الشرح عن المناقشة، وقد يفتتح لها ألف باب وباب، ومن يدرينا فقد تكشف مع الحذر والتفرس عن خفايا وخبايا قد لا تصل إليها أو تتعفف عنها ألسنة الدفاع وقد لا تفيد معها محاولة الإقناع.
ولعل الشارع أراد بتعديله أن يضع لقضايا الخبرة دستورًا جديدًا بعدم سماع المرافعة فيها قبل أن تطلع المحكمة على تقرير الخبير وقبل أن يحضر ليشرحه لها بنفسه وقبل أن يتمكن الخصوم من مواجهته بطعونهم ومناقشته فيها مناقشة علنية.
كذلك قد يعترض: وكيف تناقش المحكمة تقرير الخبير وهي لا مصلحة لها فيها في تلك المناقشة وكيف تسير بها قبل أن يترافع الخصوم وتتبين طعونهم فتقدرها بقدرها وتسمح بعد ذلك أولاً تسمح بالمناقشة.
وهو اعتراض مردود، إن لم يكن بذاته مصدر الشكوى وموضع الداء، رأى الشارع علاجه أو تسكينه بتحتيم حضور الخبير أمام المحكمة ليشرح تقريره وتمكين طرفي الخصوم من مناقشته والطعن عليه في مواجهة الخبير وبحضوره، حيث قدر بأن مثل هذه المناقشة الحضورية العلنية لا بد وأن تكشف عن حقيقة النزاع وتجلي أوجه الحق فيه وأوجه الخطأ أو الصواب في أعمال الخبير وادعاءات الخصوم بشأنها.
ولم لا يكون الشارع قد أراد أن يجعل مناقشة أعمال الخبراء حقًا موسعًا للخصوم بعد أن كان حقًا ضعيفًا متزلزلاً ومقيدًا برأي المحكمة فتأمر بها أو لا تأمر على حسب الأحوال.
والآن… ما قولك في أن هذا النص الكامل الفاضل مهمل التطبيق في مجال العمل، ألا تأسف معي على أن الشارع في وادٍ، ولا يزال العمل في وادٍ.
أحمد زكي
المحامي
بوزارة الأوقاف
السنة العشرون سنة 1940
واجب المحاكم في قضايا الخبرة
بحث حول المادة (243) مكررة من قانون المرافعات
من زمن بعيد والشكوى عامة مستفيضة من قضايا الخبرة والصعوبات التي تقوم في وجهها وتلاقيها، وهي شكوى ذات حدين: حدها الأول جمهور المتقاضين، وحدها الثاني الخبراء.
فهي من ناحية الجمهوري: تتردد بين ما يحسه أطراف الدعوى من تراخٍ في العمل وتهاون في أدائه وعدم توخي جانب الحق في التحري عنه والسير به بعيدًا عن الرقابة القضائية الفعالة.
وهي من ناحية الخبراء: تقوم على عدم التيسير لهم في أجورهم وأرزاقهم والصعوبة التي يجدونها في تحصيل المصاريف التي ينفقونها مقدمًا وبنوع خاص في تحصيل ما يقدر لهم من الأتعاب وليس في قانون المرافعات من الوسائل المجدية ما يكفي لتلافيا.
لهذا رأى الشارع مشكورًا أن يتدخل ويصلح ذات البين.
ففي 10 يوليه سنة 1933 صدر القانون رقم (75) لسنة 1933 والقانون رقم (76) لسنة 1913 بتعديل قانون الخبراء وتعديل بعض مواده في قانون المرافعات تعديلاً وإن لم يصل في مجموعه إلى حد الكمال إلا أنه في يقيني وتقديري أشبه بعلاج مسكن لحالة استفاضت الشكوى منها وضاقت صدور الناس بها.
من بين هذه التعديلات مادة جديدة، هي المادة (243 مكررة)، أضافها الشارع إلى الفرع الرابع من الفصل الثاني من الباب السابع من الكتاب الأول من قانون المرافعات ونصها كالآتي:
يحضر الخبير في اليوم المحدد للمناقشة في التقرير ليبين للمحكمة رأيه والأوجه التي تبرره وللمحكمة أن توجه إليه من الأسئلة ما تراه مفيدًا لاستنارتها في الدعوى سواء من تلقاء نفسها أو بناءً على طلب الخصوم وتحصل المناقشة في هذه الجلسة ولو لم تكن القضية صالحة للمرافعة في موضوعها إلا إذا وجدت أسباب استثنائية وجب إثباتها في المحضر وللمحكمة في حالة اتفاق الخصوم أن تعفي الخبير من الحضور لمناقشة تقريره.
وقد عنى الشارع الإفصاح عما أراده ودار بذهنه عند إضافة هذا النص الجديد بما جاء في مذكرته الإيضاحية المؤرخة 9 نوفمبر سنة 1932 ونصها كالآتي:
(وينص المشروع كذلك على أنه يجب على القاضي أن يحدد تاريخ الجلسة التي تؤجل لها القضية للمناقشة في التقرير وللفصل في الموضوع إن كانت القضية صالحة للفصل فيها، ومن أهم التعديلات التي أدخلها المشروع ذلك التعديل الذي يحتم حضور الخبير أمام المحكمة للإدلاء برأيه والأوجه التي تبرر هذا الرأي ومناقشته فيه، ولا شك أن في ذلك ضمانًا تتحقق به الرقابة الفعالة من المحكمة ويعطي فرصة للخصوم لمناقشة الخبير استجلاء للحقيقة وتحريًا للدقة، وقد أجيز للمحكمة أن توجه إليه من الأسئلة ما تراه مفيدًا لتنويرها وتكوين عقيدتها في موضوع الدعوى سواء من تلقاء نفسها أو بناءً على طلب الخصوم كما أجيز لها في حالة اتفاق الخصوم أن تعفي الخبير من الحضور أمامها).
عبارة هذا النص المحكم لا إشارته تقطع في الدلالة على الآتي:
1 - حضور الخبراء أمام المحاكم لشرح تقاريرهم ومناقشة أعمالهم مناقشة علنية وبحضور أطراف الدعوى أصبح إجراءً واجبًا وحتميًا من إجراءات المرافعة في قضايا الخبرة.
وهذا الوجوب ظاهر من قول المادة: (يحضر الخبير في اليوم المحدد للمناقشة في التقرير ليبين رأيه والأوجه التي تبرره)، وقولها: (وللمحكمة في حالة اتفاق الخصوم أن تعفي الخبير من الحضور لمناقشة تقريره (بما يستفاد منه قطعًا ويقينًا أن حضور الخبير أمام المحكمة إجراء واجب لا بد منه.
وهو ظاهر أيضًا من عبارة المذكرة الإيضاحية وقولها: (أنه يجب على القاضي أن يحدد تاريخ الجلسة التي تؤجل لها القضية للمناقشة في التقرير) وقولها: (ومن أهم التعديلات التي أدخلها المشروع ذلك التعديل الذي يحتم حضور الخبير أمام المحكمة للإدلاء برأيه والأوجه التي تبرره ومناقشته فيه) وقولها: (كما أجيز لها – أي للمحكمة - في حالة اتفاق الخصوم أن تعفي الخبير من الحضور أمامها) إذ في القول بأنه يجب على القاضي أن يحدد جلسة للمناقشة في التقرير وأنه يتحتم حضور الخبير للإدلاء برأيه ما يقطع ولا شك في أن حضور الخبير أمام المحكمة إجراء واجب لا يغني عنه ولا يعفي منه سوى اتفاق الخصوم على عدم لزومه.
2 - وهو إجراء له حكمته وأهميته ليدلي الخبير أمام المحكمة برأيه والأوجه التي تبرر هذا الرأي ومناقشته فيه و (لتوجه إليه المحكمة من الأسئلة ما تراه مفيدًا لتنورها وتكوين عقيدتها في موضوع الدعوى سواء من تلقاء نفسها أو بناءً على طلب الخصوم) وعلى حد تعبير المذكرة: (لا شك أن في ذلك ضمانًا تتحقق به الرقابة الفعالة من المحكمة ويعطي فرصة للخصوم لمناقشة التقرير استجلاء للحقيقة وتحريًا للدقة).
3 - وهو إجراء واجب لازم ليس للمحكمة أن تعفي الخبير منه وتتسلب من مقتضاه إلا باتفاق الخصوم.
ولكي تدرك جوهر هذا التعديل وأهميته أرجع إلى ما جرى عليه العمل قبله ثم قارن بين الوصفين وأحكم منصفًا.
( أ ) فقد جرى العمل قبل التعديل على أن يباشر الخبير مأموريته ويقدم تقريره عنها بعيدًا عن رقابة المحكمة الفعالة تاركًا لها مهمة مراجعته وفحصه وتفهمه وبعيدًا عن رقابة الخصوم ملقيًا عليهم عبء الدفاع عنه أو الطعن عليه، ويومئذ تكون الغلبة لمن هو ألحن بحجته….
ومع أنه قل أن تخلو أعمال الخبراء من عيوب وطعون، فقد قل كذلك أن تأمر المحكمة بحضورهم لمناقشتهم فيما اختلف عليه لديها مكتفية بترجيح إحدى وجهتي النظر وتغليبها على الأخرى هكذا في غيبة الخبير صاحب الرأي ومن واقع ما عساه يكون مقدمًا لديها من أوراق ومذكرات..!!..
وإن هي تجوزت وأمرت بحضوره ففي نطاق ضيق محدود ولمناقشته (فيما هو لازم) أو على قدر معلوم وللكشف عن بعض مسائل غمضت واستعصى حلها عليها ليشرح لها رأيه ومبررات هذا الرأي عن آخرها.
(ب) أما الآن فقد أصبح مجرد قيام الخبير بمباشرة مأموريته وتقديم تقريره عنها إجراء غير كافٍ ولا شافٍ، بل لا بد له من إجراء آخر يتبعه ويكمله، هو تحديد جلسة لمناقشة التقرير وحضور الخبير أمام المحكمة ليشرح رأيه ويبين أسانيده ومناقشته فيه.
وعندئذ تتهيأ للمحكمة الفرصة لسماع رأي الخبير ومبرراته ولتوجه إليه من الأسئلة ما تراه مفيدًا لتنورها وتكوين عقيدتها في موضوع النزاع وفي عمل الخبير نفسه.
وعندئذ تتهيأ للخصوم الفرصة لإبداء ما لديهم من اعتراضات وطعون على عمل الخبير في موجهته وبحضوره لا في غيبته وبعيدًا عنه.
وعندئذ أيضًا تتهيأ للخبير الفرصة للدفاع عن تقريره والرد بنفسه على الطعون الموجهة إليه أولى من إلقاء هذا العبء على عاتق من جاء التقرير في مصلحته.
وبهذا تتهيأ الفرص جميعًا للكشف عن حقيقة النزاع ورأي الخبير ووجه الحق فيه علنًا وبحضور أصحاب الشأن في الدعوى.
وما بهذا الإجراء الجديد من شذوذ ولا عجب:
إذ الواقع أن حضور الخبير أمام المحكمة للإدلاء برأيه وبيان الأوجه التي تبرره ومناقشته فيه مناقشة علنية وبحضور أصحاب الشأن هو وضع للخبير تحت رقابة المحكمة الفعالة ورقابة الخصوم المباشرة، وفي ذلك ضمان بعيد لحسن سير العمل والاقتراب به ولو نسبيًا إلى حدود الكمال.
وما من شك في أن الخبير الذي يباشر مأموريته وهو يعلم بأنه (موضوع تحت المراقبة) وملزم بالدفاع عن تقريره أمام المحكمة قل أن يخاطر بنفسه ويخاطر بجهوده خشية إحراجه والتضييق عليه.
لا بل لك أن تقول بأن حضور الخبير أمام المحكمة ليبين رأيه ومبرراته علنًا وفي مواجهة أصحاب الشأن يهيئ لها مجالاً أوسع للكشف عن حقيقة النزاع والحكم على عمل الخبير وتقدير الطعون المسندة إليه وبالتالي يسهل لها سبيل استنارتها وتكوين رأيها والفصل في الدعوى عن عقيدة وباطمئنان.
وأخيرًا… فلا أقل من أن نفترض بأن مناقشة أعمال الخبير بغير حضوره وفي غيبته قد تسهل للخصوم طريق استرابته وتجريحه واستباحته وتترك لهم حبل الطعن ممتدًا على الغارب، فيعاتبونه حينًا، ويلومونه حينًا، ويعنفونه أحيانًا، ومن شأن التعديل أن يهيئ له فرصة الدفاع عن نفسه وعن عمله أمام المحكمة وبحضور أصحاب الشأن وشهود الجلسة وفي ذلك ما فيه من مصلحة محققة له أقلها درء الحدود وسد الذرائع وقطع الألسنة التي قد يحلو لها أن تتحرك للطعن عليه عفوًا وبالباطل.
قد يعترض: وكيف تناقش المحكمة تقرير الخبير قبل أن تطلع عليه.
ليس هذا بعذر… وفي وسع المحكمة استجلاءً للحقيقة وبغير حاجة إلى نص في القانون أن تؤجل القضية لاطلاعها هي كما تؤجلها لاطلاع الخصوم ولو اطلاعًا أوليًا وبالقدر الذي يمكنها من تتبع الرأي والمناقشة فيه، ومع ذلك فها هو الشارع قد عالج هذا النقص وأوجب تحديد جلسة للمناقشة في التقرير حتى وإن لم تكن القضية صالحة للمرافعة في موضوعها.
على أن الفكرة في التعديل لا تقف عند حد (المناقشة) ولكنها تمتد إلى غرض أبعد وأسمى، ذلك هو حضور الخبير أمام المحكمة ليشرح لها تقريره ويدلي برأيه وأسانيده، وقد يغني هذا الشرح عن المناقشة، وقد يفتتح لها ألف باب وباب، ومن يدرينا فقد تكشف مع الحذر والتفرس عن خفايا وخبايا قد لا تصل إليها أو تتعفف عنها ألسنة الدفاع وقد لا تفيد معها محاولة الإقناع.
ولعل الشارع أراد بتعديله أن يضع لقضايا الخبرة دستورًا جديدًا بعدم سماع المرافعة فيها قبل أن تطلع المحكمة على تقرير الخبير وقبل أن يحضر ليشرحه لها بنفسه وقبل أن يتمكن الخصوم من مواجهته بطعونهم ومناقشته فيها مناقشة علنية.
كذلك قد يعترض: وكيف تناقش المحكمة تقرير الخبير وهي لا مصلحة لها فيها في تلك المناقشة وكيف تسير بها قبل أن يترافع الخصوم وتتبين طعونهم فتقدرها بقدرها وتسمح بعد ذلك أولاً تسمح بالمناقشة.
وهو اعتراض مردود، إن لم يكن بذاته مصدر الشكوى وموضع الداء، رأى الشارع علاجه أو تسكينه بتحتيم حضور الخبير أمام المحكمة ليشرح تقريره وتمكين طرفي الخصوم من مناقشته والطعن عليه في مواجهة الخبير وبحضوره، حيث قدر بأن مثل هذه المناقشة الحضورية العلنية لا بد وأن تكشف عن حقيقة النزاع وتجلي أوجه الحق فيه وأوجه الخطأ أو الصواب في أعمال الخبير وادعاءات الخصوم بشأنها.
ولم لا يكون الشارع قد أراد أن يجعل مناقشة أعمال الخبراء حقًا موسعًا للخصوم بعد أن كان حقًا ضعيفًا متزلزلاً ومقيدًا برأي المحكمة فتأمر بها أو لا تأمر على حسب الأحوال.
والآن… ما قولك في أن هذا النص الكامل الفاضل مهمل التطبيق في مجال العمل، ألا تأسف معي على أن الشارع في وادٍ، ولا يزال العمل في وادٍ.
أحمد زكي
المحامي
بوزارة الأوقاف