قالوا إن المرأة كم مهمل في المجتمع المسلم... وقالوا أيضاً اأنها تعامل كالجواري... ورددوا أنها تعيش في ظلمات الرجال... وأنها يجب أن تخرج إلى النور وعصر التنوير وتعيش كما تعيش المرأة الأوروبية... وقالوا الكثير والكثير... وقدموا للمرأة نماذج ممسوخة من خلال الكتب والمجلات والصحف والتلفاز والإذاعة تنقل بكلماتها التحلل الاجتماعي إلى مجتمعنا...
وأخرى ذات شهرة معينة أصبحت نجمة من نجوم الإعلام والمجتمع... وتبقى المرأة المسلمة المؤمنة صامدة أمام هذا كله مقتدية بنساء السلف الصالح اللواتي شاركن في الحياة التي كفلها الشرع لهن في هذه المجتمعات التي وصمت بالتخلف. ولم يمنعهن الشرع الشريف كما ذكر المستغربون من ممارسة حقوقهن.
وترد وثائق المحاكم الشرعية العثمانية والآثار العمرانية للمرأة المسلمة والحقائق التي سجلها المؤرخون والرحالة المسلمون والإفرنج على المستغربين رداً لا يحتاج إلى تعليق من جاحد. فمن ينكر الوثائق الواضحة التي تسجل الحياة اليومية للمجتمع إلا إذا كان أعمى النظر والعقل والقلب!
ومن خلال هذا الموضوع سأطرح بعض ما ورد في هذه الوثائق، لكي نعلم ما كان عليه حال المرأة في المجتمعات المسلمة.
قضايا المرأة
تعتبر سجلات المحاكم الشرعية المحفوظة في دار الوثائق القومية في القاهرة، سجلاً حافلاً لتطبيق الشرع الشريف العادل في قضايا المرأة المختلفة، ويتضح من استقراء عقود الزواج ما يأتي:
إن عقود الزواج التي تم إبرامها في المحكمة الشرعية كانت لشتى فئات المجتمع من عامة الشعب على حد السواء، وكذلك لطوائف الجند العثماني المقيمين في البلاد. هذا فضلاً عن الجالية التي وفدت إلى مصر ومعظمها من الشام والمغرب والسودان. وهو ما يوضح ان المجتمع في ذلك العصر لم يكن يفرق بين الناس على أساس موطنهم الذي ولدوا فيه، بل الكل صهر في بوتقة الإسلام، ليشكلوا المجتمع المسلم، وتؤكد عقود الزواج وتنوعها أيضاً حيوية المجتمع المسلم في مصر وسلامة بنائه الاجتماعي، في ظل الشريعة الاسلامية وتطبيق تعاليمها على أسس من المودة. وذلك في جانب من أهم جوانب الحياة، وهي الأحوال الشخصية، وهو الأمر الذي جعل من الأسرة المصرية نموذجاً عالياً في الترابط والتماسك، وهو الأمر الذي تأصلت معالمه على امتداد العصر العثماني، وبهر العالم الأوروبي حين اتصل بمصر في مطلع العصر الحديث.
وتكشف وثائق الزواج الدقة الكاملة في تحرير العقود. وذلك بما يكفل سلامة العقود، ومن نماذج وثائق الزواج التي تم إجراؤها في محكمة الباب العالي بالقاهرة:
- وثيقة بتاريخ 11 شعبان سنة 1013 هجرية، وتتضمن تلك الوثيقة ثلاثة أركان أساسية لها دورها في إتمام عقد الزواج وهي، تحديد شخصية طرفي التعاقد وهما الزوج والزوجة والصداق ووكيل للزوجة، حيث تؤكد نصوص الشريعة الإسلامية وجود وكيل للزوجة عند إتمام عقد الزواج، وهو أمر يحقق للمرأة، كما يقرر الفقهاء، توفير ركن الحياء لها ولكرامتها... فضلاً عما يحمله وجود الوالي من تكريم أسرة المرأة المتزوجة. ونصت أيضاً الوثيقة على وجود الشهود... وتتضمن الوثيقة أيضاً عدداً من الأركان المهمة منها ما نصت عليه من ذكر اسم الزوج والزوجة ثلاثياً، بما ينافي الجهالة، والركن الثاني الذي تتضمنه الوثيقة الإيجاب والقبول اللذان بهما يستدل على توافق الرغبتين واجتماعهما على عقد الزواج المعين. والإيجاب سواء ما صدر أولاً، سواء كان من ولى الزوجة أو من الزوج. ونصت الوثيقة على هذا الركن بعد ذكر الصداق، وأن وكيل الزوجة قبض مقدم الصداق. ومن ثم زوجها له بذلك وكيلها المذكور أعلاه تزويجاً شرعياً وقبله الزوج المذكور أعلاه لنفسه على ذلك قبولاً شرعياً. والركن الثالث من أركان عقد الزواج، يؤكد قيام الزوج بالعمل على حسن العشرة مع زوجته، وتوفير أسباب الراحة المادية والمعنوية لها، والعمل أيضاً على إثبات حسن النية في مراعاة العشرة مع زوجته بتأمينها طبقاً لشروطها التي أتاحتها لها تعاليم الإسلام السامية. فنصت الوثيقة في عقد الزواج على أن الزوج «قرر لها (زوجته) بدلاً عن كسوتها الشرعية لها عليه سلخ كل شهر من تاريخه (عقد الزواج) من الفضة الأحمدية ثمانية أنصاف»، أي مبلغاً من النقود ثابتاً تأخذه عند مطلع كل شهر هجري.
ونصت الوثيقة بعد ذلك على أن الزوج قبل راضياً شروط زوجته لضمان حسن العشرة لها (أي لزوجته) على نفسه برضاه، ومن شروط الزوجة التي وردت بالعقد، أنه متى ضربها ضرباً مبرحاً يظهر أثره على جسدها في غيظ، أو نام خارجاً بغير منزلها ثلاث ليال متوالية بغير ضرورة شرعية، أو سافر وتركها مدة أربعة أشهر، وهي بلا نفقة ولا منطق وثبت ذلك عليه أو شيء منه بطريقة الشرعي، وأبرأته زوجته المذكورة في ربع دينار من بقية صداقها عليه تكون حين ذلك طالق طلقة واحدة تملك بها نفسها تطليقها تطليقاً شرعياً.
ويؤكد هذا الركن الثالث من أركان عقد الزواج الذي تم إبرامه في محكمة الباب العالي في القاهرة على مدى الاحترام الذي نالته المرأة، وما قرره العقد لها من ضمانات، خصوصاً في ما يتعلق بالجانب المعنوي من حياتها، وأن الأزواج كما تقرر في العقد قبلوا شروط أزواجهن عن طيب خاطر، وهي الروح التي نصت عليها التعاليم الإسلامية.
وتبين قضايا الطلاق حين تضرر المرأة من زوجها، مدى استجابة القضاء الشرعي لذلك، ومن هذه القضايا قضية سجلتها سجلات محكمة الباب العالي بتاريخ 20 ذي القعدة سنة 994 هجرية، ونلاحظ أن القاضي طلب حضور كل من الزوجة والزوج إلى المحكمة أمام القاضي عند طلب الطلاق، وحرصت المحكمة على التأكد من شخصية أطراف الدعوى، خصوصاً أن المرأة هي التي تقدمت بطلب الطلاق، منعاً لأي شبهة قد تتعلق بشخصية طالبة الطلاق. فجاء في نص الوثيقة عن هذا الركن الأول ما يأتي:
- سألت الحرمة دلال المرأة بنت حسن بن قاسم الرماح وهي ربعة القامة مدورة الوجه ذهبية اللون مفروقة الحاجبين زوجها الشيخ محمد بن موسى أبي زيني الأزهري أن يخلعها من عصمته وعقد نكاحه خلفاً شرعياً.
ويوضح نص هذه الوثيقة أن الزوجة هي التي تقدمت برفع دعوى الطلاق من زوجها، وأن الإجراءات كانت تتطلب ذكر الاسم ثلاثياً، منعاً للجهالة، ثم إضافة الأوصاف الخاصة التي تزيد من التأكد من شخصيتها، وذلك حين تكون لها صفات جسمية مميزة أو شكل مميز، ثم تذكر الوثيقة اسم الزوج أيضاً ثلاثياً، منعاً للجهالة أيضاً، مع ذكر لقب الزوج المميز له والدال على مكانته الاجتماعية.
الركن الثاني من الوثيقة وهو تطبيق قواعد الخلع، الذي طالبت به المرأة زوجها، وذلك تطبيقاً للشريعة الإسلامية حيث تقدم المرأة للزوج ما يقبله في مقابل القيام بخلعها، وبالتالي تطليقها وفقاً للتراضي بينهما وأمام القاضي تأكيداً لهذا الخلع، ونصت الوثيقة على أن الزوجة طلبت الخلع في مقابل التنازل عن مؤخر صداقها، وما تجمد لها من نفقة على الزوج، وذلك على بقية صداقها عليه، الشاهد به كتاب الزوجية بينهما وعلى ما تجمد لها عليه من الكسوة إلى تاريخه. ثم أقر كل من الزوجين الإقرار الشرعي أنه لا يحق على الآخر حقاً مطلقاً ولا صداق ولا فضة.
والركن الثالث في الوثيقة ويتضمن شهادة الشهود على هذا الخلع وما ارتبط به من اتفاق، وذلك بحضور أقارب للزوجة، فضلاً عن شهود المحكمة، وأصدر القاضي حكمه بطلاق دلال بنت حسن من زوجها محمد بن موسى بناءً على طلبها .