مجلة المحاماة - العدد العاشر
السنة الثالثة - عدد يوليه سنة 1923
أبحاث قانونية وشؤون قضائية
تعارض الأحكام
ولد في نفسي وضع هذا العنوان اطلاعي ذات يوم على مجلة المحاماة (السنة الثالثة - العدد السابع) إذ وقع نظري في صفحة 300 بين أحكام المحاكم الشرعية على ملخص خطير الشأن لتعلقه بالنظام فضلاً عن مصالح الأفراد.
ولكي يسهل على القارئ الإلمام بسبب دهشتي ولاحتمال أن يشاطرني وجهة النظر التي سأبديها بهذا الصدد أراني مضطرًا إلى نقل هذا الملخص بنصه وفصه وها هو:
(لا التحقيقات الجنائية التي تجريها النيابة العمومية ولا الأحكام الجنائية التي تصدرها
محاكم الجنايات بإدانة شخص والحكم عليه بالعقوبة تكفي في نظر المحاكم الشرعية لإثبات جريمة القتل على شخص إثباتًا يمنعه من الميراث بل يلزم لاعتبار الشخص قاتلاً ومحرومًا من الإرث أن يقدم مدعي القتل البينة الشرعية على دعواه أمام المحكمة الشرعية).
ولا أخفي أنني تعجبت لدى إمعان النظر في تلك القاعدة إلى درجة حدت بي إلى التوهم بأنه ربما كان فيها بعض الخروج عن حد الحكم المصدر هو بها ورأيت قطعًا لدابر الشك أن أرجع إلى الوقائع والأسباب التي أكون على بينة من الأمر فوضح لي حينئذٍ بعد أن مررت على شيء كثير (من مذكور ومذكروة)، وتعثرت في طائفة غير قليلة من (مرقوم ومرقومة) أن التلخيص صواب لأن الواقعة الصادر فيها هذا الحكم من المحكمة العليا الشرعية بتاريخ 25 ديسمبر سنة 1916 مؤداها أن إحدى السيدات رفعت دعوى مقتضاها أن المدعى عليه الثاني قام به مانع شرعي يمنعه من وراثته لأخيه المتوفى لأنه هو القاتل الوحيد له وقد اعتمدت في ذلك على حكم محكمة الجنايات المبني على التحقيقات التي عملت وثبت منها ومن شهادة الشهود أن هذا المدعى عليه هو المرتكب لجريمة القتل هذه حتى بإقراره وإن كان قد تعلل في اعترافه بأن القتل إنما وقع خطأ.
لم تقتنع المحكمة الشرعية بكل ما تقدم وقالت إن الأوراق المقدمة غير كافية رغمًا مما أوردناه من أن الخصم معترف بالقتل وغاية الأمر أنه أسنده إلى الخطأ، وليس في ذلك ما يؤثر في الاستدلال، إذ من المعلوم شرعًا أن القتل بجميع أنواعه مانع من الإرث لكنها أي المحكمة قررت أن اعترافه هذا لا يفيد أنه هو القاتل لأخيه قتلاً يؤدي إلى الحرمان من الميراث.
لم يبقَ طبعًا إلا تكليف المدعية بإثبات دعواها فأتت بشهود شهدوا،ولكن قضى سوء الطالع إن لم تأخذ المحكمة بشهادتهم، ولمَ يا ترى ؟ قيل لقصورها، وما وجه ذلك ؟ - قيل لأنهم شهدوا على إقرار المدعي بالضرب بالطبنجة وأن الإقرار به لا يكون إقرارًا بالقتل - وكيف ذلك ؟ قيل هذا ما صرح به الفقهاء.
وإذا لم تأخذ المحكمة بشهادة الشهود ولم تعول على ذلك الإقرار عدت المدعية عاجزة عن إثبات دعواها ولم يبقَ إلا توجيه اليمين للمدعى عليه وهي اليمين التي جرى العرف على تسميتها (بيمين العاجز).
وغني عن البيان أن اليوم الذي قررت المحكمة فيه هذا التحليف كان من أسعد الأيام في نظر الخصم حيث طاب نفسًا وقر عينًا، ذلك لأن تمتعه بالميراث أصبح معلقًا على إرادته فسارع طبعًا إلى تأدية اليمين ونال تلك الأمنية التي كانت تصبو إليها نفسه، ولا حاجة بنا إلى القول بأن ختام هذه المناضلة كان رفض دعوى المدعية والحكم عليها بما يترتب على ذلك من المستلزمات القانونية.
ونحن إذ أردنا تلخيص ما تقدم كله بعبارة وجيزة تسني لنا القول إن من قضت بإدانته محكمة الجنايات المتوج حكمها باسم ولي الأمر أصبح في حكم البريء في نظر المحكمة الشرعية حالة كونها تصدر الأحكام هي أيضًا نيابةً عن ولي الأمر نفسه.
ليت شعري كيف يمكن احتمال هذه النتيجة القاسية التي ربما لم يفكر فيها أولئك الذين أصدروا ذلك الحكم التفكير العميق الذي كانت تقضيه الحال: شخص عد جانيًا بقوة التحقيقات وأنزل القضاء العقاب به فيأتي قضاء آخر وهو فرع من السلطة القضائية العامة ويعامله كأنه بريء مظلوم لم يقتل ومن ثم يبقيه متمتعًا بحق الإرث في أموال القتيل.
لو أن هذه الواقعة فريدة في بابها لهان الأمر ولكن من نكد الدنيا في هذه البلاد أن كثيرًا ما يقع القتل بين الأقارب مما يؤدي إلى قيام مثل تلك الدعوى أمام المحاكم الشرعية ولا سيما إذا روعي أن القتل بجميع أنواعه يجر شرعًا إلى الحرمان من الميراث، ويكفي الإشارة هنا إلى أننا عثرنا بطريق المصادفة على مقالة لأحد رجال القضاء الشرعي منشورة في العدد العاشر من مجلة القضاء صـ 486، وما يليها يؤخذ منها أن القضايا من هذا النوع غير قليلة وأن منها ما نظم بمحكمة طنطا الشرعية ومحكمة مصر الشرعية.
ومن سوء الحظ أن أحكام المحاكم الشرعية بهذا الصدد صدرت كلها على المنهج المتقدم من حيث عدم الاعتداد بالأحكام الجنائية حسبما تبين من المقال المشار إليه.
من المعلوم أن السلطة القضائية موزعة في القطر المصري على جهات متعددة تفصل كل منها في طائفة معينة من الدعاوى، وقد خولت هذه السلطة بمقتضى الأنظمة الموضوعة من قبل ولي الأمر كما أنه من المعلوم شرعًا ونظامًا أن القضاء يتخصص بالزمان والمكان والنوع والنصاب والرأي إلى غير ذلك مما لا حاجة بنا إلى التبسيط فيه، ولا يخفي أن قيام كل جهة بالحكم فيما انفردت به مما هو داخل في دائرة وظيفتها يقتضي وجوب أن تكون أحكامها محترمة معمولاً بها لدى الجهات الأخرى إذ بدون ذلك يختل النظام وتعم الفوضى وتصبح كل جهة تعيد النظر ثانية فيما فصلت فيه الجهة الأخرى وهو ما يجر لزومًا إلى عدم الاعتداد بالأحكام ولا الاكتراث بالتحقيقات التي كانت أساسًا لها.
أن بناء الأحكام على القرائن أمر معروف في كتب الفقه ومعهود بطبيعة الحال لدى رجال القضاء الشرعي بحيث يكون من الميسور أن تنظر المحاكم الشرعية إلى الحكم الانتهائي الصادر من محكمة الجنايات بمثابة قرينة قاطعة على ارتكاب الجاني للجريمة المسندة إليه، على أن هناك ما قد يغني عن الأخذ بمجرد القرينة إلا هو النص الوارد في لائحة المحاكم الشرعية م (138) فقد قضى بأن الأوراق الرسمية تكون كافية للحكم دون حاجة إلى إثبات آخر معها والمفروض في الحادثة أن الحكم الجنائي وهو من الأسانيد الرسمية بلا جدال وصادر في حق جهة المحكوم عليه تضمن الدليل القضائي على كونه هو القاتل الوحيد للمتوفى.
ألا يرى قضاة المحاكم الشرعية أنه بسبب ما تقدم من جهة وجوب اعتبار الحكم حجة بما فيه أن من بيده حكم من المحاكم الجنائية يقتصر في رفع الدعوى المدنية بشأن المطالبة بالتعويض على الاستدلال بهذا الحكم وحده وتقنع المحكمة حينئذٍ بهذا البرهان دون اقتضاء سواه وتكون مهمتها الوحيدة إنما هو النظر في تقدير التعويض ليس إلا.
إن ذلك المذهب الذي سارت عليه المحاكم الشرعية بالاطراد قد يؤدي إلى نتيجة غريبة من نوع آخر، فقد تحكم المحاكم الأهلية بالبراءة ثم يأتي ذو الشأن في الميراث رغمًا من ذلك ويرفع الأمر للقضاء الشرعي فإذا فرض واقترنت الدعوى بأدلة الثبوت التي تراها المحكمة الشرعية كافية وجب بالبداهة أن تقضي بالحرمان من الميراث اعتمادًا على استقلالها بالأمر وتكون بذلك قد ضربت بالحكم عرض الحائط.
من حق الجمهور أن يتأفف ويشمئز إذا ما رأى أحكام المحاكم في قطر واحد تتعارض إلى هذا الحد بحيث أن الحكم الصادر مثلاً بإدانة القاتل من محكمة باب الخلق لا يُقام له وزن إذا ما تباعدنا بضعة مئات من الأمتار عن هذا المكان وبلغنا جهة الحلمية حيث مقر المحكمة الشرعية.
إن الذوق السليم ينفر والحق يقال عند مشاهدته للقاتل يتنعم في أموال القتيل هازئًا بالحكم الأهلي من ناحية ما كان يقتضيه من جهة حرمانه من الميراث.
تلك حالة خطيرة الشأن لا يصح عدلاً السكوت عليها ولا شك أنها خليقة بالنظر وجديرة بالعلاج العادل وهو في يد أولياء الأمور فيما نعتقد، وخير الطرق لمنع هذا التضارب وأقربها منالاً على ما نرى أن تضاف مادة على لائحة المحاكم الشرعية مؤداها وجوب الأخذ بالأحكام الجنائية بالمعنى الأعم فيما تدون بها أو أن يضاف بين مستلزمات العقوبة المشار إليها في قانون العقوبات نص يؤدي من نفسه إلى حرمان القاتل من ميراث القتيل كعقوبة تبعية في جميع الحالات التي يقتضيها الحكم الشرعي.
السنة الثالثة - عدد يوليه سنة 1923
أبحاث قانونية وشؤون قضائية
تعارض الأحكام
ولد في نفسي وضع هذا العنوان اطلاعي ذات يوم على مجلة المحاماة (السنة الثالثة - العدد السابع) إذ وقع نظري في صفحة 300 بين أحكام المحاكم الشرعية على ملخص خطير الشأن لتعلقه بالنظام فضلاً عن مصالح الأفراد.
ولكي يسهل على القارئ الإلمام بسبب دهشتي ولاحتمال أن يشاطرني وجهة النظر التي سأبديها بهذا الصدد أراني مضطرًا إلى نقل هذا الملخص بنصه وفصه وها هو:
(لا التحقيقات الجنائية التي تجريها النيابة العمومية ولا الأحكام الجنائية التي تصدرها
محاكم الجنايات بإدانة شخص والحكم عليه بالعقوبة تكفي في نظر المحاكم الشرعية لإثبات جريمة القتل على شخص إثباتًا يمنعه من الميراث بل يلزم لاعتبار الشخص قاتلاً ومحرومًا من الإرث أن يقدم مدعي القتل البينة الشرعية على دعواه أمام المحكمة الشرعية).
ولا أخفي أنني تعجبت لدى إمعان النظر في تلك القاعدة إلى درجة حدت بي إلى التوهم بأنه ربما كان فيها بعض الخروج عن حد الحكم المصدر هو بها ورأيت قطعًا لدابر الشك أن أرجع إلى الوقائع والأسباب التي أكون على بينة من الأمر فوضح لي حينئذٍ بعد أن مررت على شيء كثير (من مذكور ومذكروة)، وتعثرت في طائفة غير قليلة من (مرقوم ومرقومة) أن التلخيص صواب لأن الواقعة الصادر فيها هذا الحكم من المحكمة العليا الشرعية بتاريخ 25 ديسمبر سنة 1916 مؤداها أن إحدى السيدات رفعت دعوى مقتضاها أن المدعى عليه الثاني قام به مانع شرعي يمنعه من وراثته لأخيه المتوفى لأنه هو القاتل الوحيد له وقد اعتمدت في ذلك على حكم محكمة الجنايات المبني على التحقيقات التي عملت وثبت منها ومن شهادة الشهود أن هذا المدعى عليه هو المرتكب لجريمة القتل هذه حتى بإقراره وإن كان قد تعلل في اعترافه بأن القتل إنما وقع خطأ.
لم تقتنع المحكمة الشرعية بكل ما تقدم وقالت إن الأوراق المقدمة غير كافية رغمًا مما أوردناه من أن الخصم معترف بالقتل وغاية الأمر أنه أسنده إلى الخطأ، وليس في ذلك ما يؤثر في الاستدلال، إذ من المعلوم شرعًا أن القتل بجميع أنواعه مانع من الإرث لكنها أي المحكمة قررت أن اعترافه هذا لا يفيد أنه هو القاتل لأخيه قتلاً يؤدي إلى الحرمان من الميراث.
لم يبقَ طبعًا إلا تكليف المدعية بإثبات دعواها فأتت بشهود شهدوا،ولكن قضى سوء الطالع إن لم تأخذ المحكمة بشهادتهم، ولمَ يا ترى ؟ قيل لقصورها، وما وجه ذلك ؟ - قيل لأنهم شهدوا على إقرار المدعي بالضرب بالطبنجة وأن الإقرار به لا يكون إقرارًا بالقتل - وكيف ذلك ؟ قيل هذا ما صرح به الفقهاء.
وإذا لم تأخذ المحكمة بشهادة الشهود ولم تعول على ذلك الإقرار عدت المدعية عاجزة عن إثبات دعواها ولم يبقَ إلا توجيه اليمين للمدعى عليه وهي اليمين التي جرى العرف على تسميتها (بيمين العاجز).
وغني عن البيان أن اليوم الذي قررت المحكمة فيه هذا التحليف كان من أسعد الأيام في نظر الخصم حيث طاب نفسًا وقر عينًا، ذلك لأن تمتعه بالميراث أصبح معلقًا على إرادته فسارع طبعًا إلى تأدية اليمين ونال تلك الأمنية التي كانت تصبو إليها نفسه، ولا حاجة بنا إلى القول بأن ختام هذه المناضلة كان رفض دعوى المدعية والحكم عليها بما يترتب على ذلك من المستلزمات القانونية.
ونحن إذ أردنا تلخيص ما تقدم كله بعبارة وجيزة تسني لنا القول إن من قضت بإدانته محكمة الجنايات المتوج حكمها باسم ولي الأمر أصبح في حكم البريء في نظر المحكمة الشرعية حالة كونها تصدر الأحكام هي أيضًا نيابةً عن ولي الأمر نفسه.
ليت شعري كيف يمكن احتمال هذه النتيجة القاسية التي ربما لم يفكر فيها أولئك الذين أصدروا ذلك الحكم التفكير العميق الذي كانت تقضيه الحال: شخص عد جانيًا بقوة التحقيقات وأنزل القضاء العقاب به فيأتي قضاء آخر وهو فرع من السلطة القضائية العامة ويعامله كأنه بريء مظلوم لم يقتل ومن ثم يبقيه متمتعًا بحق الإرث في أموال القتيل.
لو أن هذه الواقعة فريدة في بابها لهان الأمر ولكن من نكد الدنيا في هذه البلاد أن كثيرًا ما يقع القتل بين الأقارب مما يؤدي إلى قيام مثل تلك الدعوى أمام المحاكم الشرعية ولا سيما إذا روعي أن القتل بجميع أنواعه يجر شرعًا إلى الحرمان من الميراث، ويكفي الإشارة هنا إلى أننا عثرنا بطريق المصادفة على مقالة لأحد رجال القضاء الشرعي منشورة في العدد العاشر من مجلة القضاء صـ 486، وما يليها يؤخذ منها أن القضايا من هذا النوع غير قليلة وأن منها ما نظم بمحكمة طنطا الشرعية ومحكمة مصر الشرعية.
ومن سوء الحظ أن أحكام المحاكم الشرعية بهذا الصدد صدرت كلها على المنهج المتقدم من حيث عدم الاعتداد بالأحكام الجنائية حسبما تبين من المقال المشار إليه.
من المعلوم أن السلطة القضائية موزعة في القطر المصري على جهات متعددة تفصل كل منها في طائفة معينة من الدعاوى، وقد خولت هذه السلطة بمقتضى الأنظمة الموضوعة من قبل ولي الأمر كما أنه من المعلوم شرعًا ونظامًا أن القضاء يتخصص بالزمان والمكان والنوع والنصاب والرأي إلى غير ذلك مما لا حاجة بنا إلى التبسيط فيه، ولا يخفي أن قيام كل جهة بالحكم فيما انفردت به مما هو داخل في دائرة وظيفتها يقتضي وجوب أن تكون أحكامها محترمة معمولاً بها لدى الجهات الأخرى إذ بدون ذلك يختل النظام وتعم الفوضى وتصبح كل جهة تعيد النظر ثانية فيما فصلت فيه الجهة الأخرى وهو ما يجر لزومًا إلى عدم الاعتداد بالأحكام ولا الاكتراث بالتحقيقات التي كانت أساسًا لها.
أن بناء الأحكام على القرائن أمر معروف في كتب الفقه ومعهود بطبيعة الحال لدى رجال القضاء الشرعي بحيث يكون من الميسور أن تنظر المحاكم الشرعية إلى الحكم الانتهائي الصادر من محكمة الجنايات بمثابة قرينة قاطعة على ارتكاب الجاني للجريمة المسندة إليه، على أن هناك ما قد يغني عن الأخذ بمجرد القرينة إلا هو النص الوارد في لائحة المحاكم الشرعية م (138) فقد قضى بأن الأوراق الرسمية تكون كافية للحكم دون حاجة إلى إثبات آخر معها والمفروض في الحادثة أن الحكم الجنائي وهو من الأسانيد الرسمية بلا جدال وصادر في حق جهة المحكوم عليه تضمن الدليل القضائي على كونه هو القاتل الوحيد للمتوفى.
ألا يرى قضاة المحاكم الشرعية أنه بسبب ما تقدم من جهة وجوب اعتبار الحكم حجة بما فيه أن من بيده حكم من المحاكم الجنائية يقتصر في رفع الدعوى المدنية بشأن المطالبة بالتعويض على الاستدلال بهذا الحكم وحده وتقنع المحكمة حينئذٍ بهذا البرهان دون اقتضاء سواه وتكون مهمتها الوحيدة إنما هو النظر في تقدير التعويض ليس إلا.
إن ذلك المذهب الذي سارت عليه المحاكم الشرعية بالاطراد قد يؤدي إلى نتيجة غريبة من نوع آخر، فقد تحكم المحاكم الأهلية بالبراءة ثم يأتي ذو الشأن في الميراث رغمًا من ذلك ويرفع الأمر للقضاء الشرعي فإذا فرض واقترنت الدعوى بأدلة الثبوت التي تراها المحكمة الشرعية كافية وجب بالبداهة أن تقضي بالحرمان من الميراث اعتمادًا على استقلالها بالأمر وتكون بذلك قد ضربت بالحكم عرض الحائط.
من حق الجمهور أن يتأفف ويشمئز إذا ما رأى أحكام المحاكم في قطر واحد تتعارض إلى هذا الحد بحيث أن الحكم الصادر مثلاً بإدانة القاتل من محكمة باب الخلق لا يُقام له وزن إذا ما تباعدنا بضعة مئات من الأمتار عن هذا المكان وبلغنا جهة الحلمية حيث مقر المحكمة الشرعية.
إن الذوق السليم ينفر والحق يقال عند مشاهدته للقاتل يتنعم في أموال القتيل هازئًا بالحكم الأهلي من ناحية ما كان يقتضيه من جهة حرمانه من الميراث.
تلك حالة خطيرة الشأن لا يصح عدلاً السكوت عليها ولا شك أنها خليقة بالنظر وجديرة بالعلاج العادل وهو في يد أولياء الأمور فيما نعتقد، وخير الطرق لمنع هذا التضارب وأقربها منالاً على ما نرى أن تضاف مادة على لائحة المحاكم الشرعية مؤداها وجوب الأخذ بالأحكام الجنائية بالمعنى الأعم فيما تدون بها أو أن يضاف بين مستلزمات العقوبة المشار إليها في قانون العقوبات نص يؤدي من نفسه إلى حرمان القاتل من ميراث القتيل كعقوبة تبعية في جميع الحالات التي يقتضيها الحكم الشرعي.