أبنائي الأعزاء..
هذه رسالتي إليكم من والد وهن العظم منه واشتعل الرأس شيبًا، يريد أن يشد على أيديكم ويقبّل جباهكم ويعبِّر عن تقديره لجهودكم وتضحياتكم، ويتضرع بكلِّ مشاعر الصدق والإخلاص إلى الله أن يتقبل الشهداء ويسكنهم فسيح جناته وكريم جواره في صحبة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.
أبنائي الأعزاء.. قبل أن أدخل في موضوع رسالتي أود أن أذكركم وأذكر غيركم ممن تلقوا كتابات بعض الكتاب كقضايا مسلَّمة، وعلى رأسها أن الشعب المصري لا يثور، أذكِّر الجميع أنها دعوى باطلة، أبطلتها ثورتكم المجيدة، وأبطلها من قبل تاريخ مصر، وأكتفي هنا بالتاريخ الحديث، فقد ثار الشعب المصري ثورتين عظيمتين على الحملة الفرنسية خلال ثلاثة أعوام فقط رغم فرق القوة والسلاح، ورغم جسامة الخسائر في الأرواح والممتلكات واغُتيِل كليبر قائد الحملة بعد نابليون، ولم يسترح الفرنسيون يومًا واحدًا طيلة الأعوام الثلاثة حتى انسحبوا مدحورين.
والشعب المصري هو الذي ثار على الوالي العثماني خورشيد وخلعه وعين محمد علي واليًا بدلاً منه.
والشعب المصري هو الذي تصدى لحملة فريزر، وقتل معظم جنودها في رشيد وبأسلحة بدائية.
وهو الذي هزم الحملة الصليبية بقيادة لويس الرابع عشر وأسره في المنصورة، ولم يفرج عنه إلا بعد دفع الفدية.
وهو الذي هزم التتار في عين جالوت بقيادة السلطان قطز، بعد أن اجتاحوا الشرق كله ولم يقف في وجههم جيش ولا شعب.
وهو الذي هزم الصليبيين في حطين وحرر القدس بقيادة صلاح الدين الأيوبي وأكمل تحرير الشام بعد ذلك.
وهو الذي ثار على طغيان الخديوي توفيق وعمالته للإنجليز، ثار بقيادة عرابي وسامي البارودي وغيرهما.
وهو الذي ثار على الإنجليز سنة 1919م واستمرت الثورة الشعبية ما يزيد على العامين.
وهو الذي ثار على فساد الملك فاروق سنة 1952م حتى سارع الجيش إلى خلعه وطرده والتف الشعب حول الجيش وأيده في مبادئه الستة التي أعلنها.
وهو الذي ثار أخيرًا في 25 يناير 2011م، حينما انحرف النظام انحرافًا شديدًا حتى الانقلاب على معظم هذه المبادئ الستة وأهمها إقامة حياة ديمقراطية سليمة وعدالة اجتماعية، والقضاء على سيطرة رأس المال على الحكم، فإذا بالظلم والاستبداد وسيطرة رأس المال والفساد الذي لا يتصوره خيال الشياطين وليس البشر هو الذي يسود، وتسقط الملايين تحت خط الفقر ويعاني الشباب من البطالة وينتشر الجهل والمرض، وتتسع الفوارق بين الطبقات اتساعًا مخيفًا، وتُصادر الحريات ويُحكم الناس بالإرهاب والقتل والاعتقال والتعذيب وتزور إرادة الشعب، ويتم تقنين الظلم والفساد والتلاعب بالدستور، الأمور التي أفقدت مصر مكانتها الإقليمية والدولية التاريخية، ودفعتها دفعًا إلى تبعية ذليلة للسياسة الأمريكية والصهيونية.
إذًا فالشعب المصري ليس شعبًا خانعًا كما يزعم الأفاكون، نعم يكون صبورًا، كما أن الثورة ليست نزهة يقوم بها الناس كل يوم ولكنها عمل فدائي ضخم يقوم بخلع النظم الفاسدة من جذورها، ويحل محلها نظمًا صالحة، وهو أمر يحتاج إلى جهد جهيد، ووقت مديد، وخصوصًا عملية البناء حتى تتم على أسس سليمة.
أبنائي الأعزاء..
لقد أثمرت الثورة دروسًا كثيرة تحتاج إلى كتيبة من المفكرين المخلصين لاستخلاصها بيد أنني سأقدم لكم ما فتح الله به عليَّ:
أول هذه الدروس أن نرى فضل الله تعالى (الفعال لما يريد) في مسارها ونتائجها حتى الآن، فلم يكن هناك فرد على وجه الأرض مهما أوتي من علم واستشراف وتطلع يتوقع أن يحدث ما حدث، وذلك ليثبت الله تعالى قدرته الطليقة وعدله الكامل وأخذه الشديد للظالمين، وأن دعوات المظلومين وأنات المعذبين لم تذهب سدى، وأنه يمهل ولكنه لا يهمل، ولقد كان بمقدوره سبحانه أن يقبض روح الطاغية، بيد أن ذلك كان يعني استمرار النظام بظلمه وفساده واستبداده لمزيد منها جميعًا مع بقاء ملفات الفساد والظلم في طي الكتمان، ولكنه سبحانه أبى إلا أن يخرج ذليلاً مهينًا مفضوحًا هو وأركان نظامه تطاردهم لعنات الناس وتطلبهم يد العدالة لإيقاع القصاص العادل بهم أجمعين.
ولقد كان من الممكن أن يقدم الرئيس المخلوع تنازلات كبيرة من بداية الثورة ترضي الجموع الثائرة وتدفعها إلى الانصراف، ويخرج هو يوم يخرج مكرمًا معززًا منصورًا، ولكن الله لم يوفقه لذلك، فركبه الكبر والعناد؛ الأمر الذي حرض الناس على مزيد من الغضب والثورة إلى أن انتهت الأمور على النحو الذي أراده الله.
وكان من الممكن أيضًا أن يفعل الحديث العاطفي للطاغية المخلوع الذي خرج به على الناس من أنه يريد أن يموت بمصر ويُدفَن في ترابها، أن يفعل هذا الحديث فعله والشعب المصري عاطفي بطبعه، وقد حدث، وانقلب كثير من الناس على الثوار واتهموهم بالتصعيد الزائد في مطالبهم، وكفى ما قدم من تنازلات، وينبغي الانصراف إلى العمل والحفاظ على البلد، ولا سيما أن إرهاب البلطجية وفرق الأمن قد انتشرت في معظم الأحياء، ولكن الله تعالى- البالغ أمره- أعماهم فسيروا الخيل والجمال وجحافل البلطجية وفرق الأمن والقناصة لذبح الشباب في ميدان التحرير فثبَّت الثائرين ونصرهم، وانقلب السحر على الساحر، وزال الأثر العاطفي للحديث المخادع المستكين، وتجمعت إرادة الشعب خلف الثوار وبدأت المظاهرات تتزايد إلى أن وصلت إلى ثمانية ملايين متظاهر في يوم واحد على مستوى الجمهورية.
كما أن الله عزَّ وجلَّ هو الذي أوقف الجيش هذا الموقف الوطني النبيل كجيش للشعب وليس جيشًا للنظام، يحمي ثورة الشعب ويعترف بعدالة مطالبه ومشروعيتها، ويرفض أوامر الحاكم الطاغية.
وهذا كله يدفعنا أن نسجد لله شكرًا ونردد مع القرآن الكريم قوله تعالى: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (آل عمران: من الآية 126)، وقوله تعالى: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) (الأنفال: من الآية 17).
ونتذكر هيئة النبي صلى الله عليه وسلم يوم دخل مكة ظافرًا منتصرًا وهو يخفض رأسه؛ تواضعًا لله وإقرارًا بفضله حتى لتكاد لحيته تلمس عنق راحلته، أي عنق ناقته التي كان يركبها.
الدرس الثاني: وهو الإيجابية:
فإن الله تعالى وإن كان نصرنا في هذه الثورة، فإنه لم ينصرنا ونحن قابعون في بيوتنا باحثون عن أمننا، راضون بظلمنا، ولكن نصرنا بعد أن خرجنا نحمل رءوسنا على أكفنا، ثائرين على أوضاعنا، مضحين بالغالي والنفيس من أجل حريتنا وكرامتنا وعزتنا، آمرين بالمعروف، ناهين عن المنكر، حافظين لحدود الله فلم نخرب ولم نحرق ولم نقتل رغم ما طالنا من أعوان النظام.
وهذه سنة من السنن الإلهية، وقانون من قوانين الاجتماع الإنساني، فإن الله تعالى يقول (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: من الآية11) ونصر الله تعالى مشروط بنصر العباد لله بقيامهم بواجباتهم الشرعية (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد: من الآية 7)، وإن التدافع بين الحق والباطل والخير والشر سنة من سنن الله (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة: من الآية 251).
وهذه الإيجابية تتظاهر النصوص الشرعية على تأكيدها، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"، وقوله صلى الله عليه وسلم "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك الله أن يعمهم بعذاب من عنده"، وقوله: "أفضل الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام (حاكم) جائر فأمره ونهاه فقتله".
وقد قرأنا في تراثنا الفقهي قول الإمام ابن حزم الظاهري: "عجبت لِمَن لم يجد قوته ألا يخرج على الناس شاهرًا سيفه" وإذا كان ابن حزم هنا يحرض على الثورة نتيجة للظلم الاجتماعي فهي للظلم السياسي والاجتماعي والاقتصادي والنهب والفساد أحرى، وإذا كان يحض على الثورة المسلحة، فثقافة العصر تحضُّ على الثورة السلمية وهي بالغة إلى أهدافها- بإذن الله- مهما كانت قوة الظالمين، فإرادة الشعوب من إرادة الله وقوتها من قوته.
ولا تعني الإيجابية، الإيجابية الثورية فقط، فهناك إيجابية إصلاحية وقائية تقف في وجه الفساد، وهذه تقتضي نبذ السلبية التي كان يتصف بها غالبية الشعب المصري إزاء العمل السياسي، فلا مشاركة في الأحزاب أو القوى السياسية والعزوف عن الانتخابات بصفة عامة بل عن استخراج البطاقات الانتخابية، فضلاً عن عزوف الشرفاء الصالحين عن الترشح لتمثيل الشعب في المجالس النيابية، والعزوف عن إبداء الرأي في الإعلام، والعزوف عن الإبلاغ عن مظاهر الفساد والانحراف في مؤسسات الدولة، إلى آخر المظاهر السلبية التي كان يوصم بها الشعب المصري.
هذا الأمر ينبغي أن يتغير إلى نقيضه فإرادة الإصلاح ينبغي أن تظهر في إدارة شئون الوطن وعدم الإغضاء عن أي انحراف مهما صغر وفي أي مجال، فالبلد بلدنا وكل خير فيه أو شر يمسنا ويلحق بنا، فلا ينبغي أن ننتظر حتى يتولى أمره الأشرار ويفسدوا فيه لنقوم نواجههم، ولكن ينبغي أن نولي الأخيار الصالحين من البداية، ومَن يفشل أو ينحرف فلا بدَّ من التصدي له وعزله على الفور، وإذا كان للبعض عذره فيما مضى، فليس لأي واحد أي عذر الآن في ممارسة هذا الحق وأداء هذا الواجب.
وقد رأينا في تاريخنا مَن يقترح على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُوحَى إليه، ويأخذ الرسول عليه الصلاة والسلام باقتراحه، ويتكرر ذلك في مواقف شتى ومناسبات مختلفة.
ورأينا امرأة تراجع عمر رضي الله عنه وتصحح له، فينزل على قولها ويقر بخطئه وسمعنا مَن يهدده إن اعوج أن يقومه بسيفه، فيهش لذلك ولا يغضب.
الدرس الثالث: هو الثقة:
وأنى بها أولاً الثقة في الله تعالى ثم الثقة في الشعب ثم الثقة في النفس، فأما الثقة في الله تعالى فأعتقد أنه بعدما أرانا سبحانه ما نحب، فينبغي أن نثق فيه ثقةً بلا حدود، ونطرح عن أنفسنا اليأس والتشكك والقنوط فلقد ظلَّ الناس يدعون الله أن يغير الأحوال ويصلحها، وطال أمد الدعاء حتى ملَّه البعض وظنوا استحالة تغيير النظام بل لجأ بعض اليائسين- للأسف الشديد- إلى شنق أنفسهم أو حرقها، وما كان لمؤمن أن يفعل هذا، فإن تأخير الإجابة يكون إمهالاً للظالم واختبارًا للمظلوم، فإن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، كما أن من السنن الإلهية سنة الاختبار (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة: 214).
فلا يحسن أن نتعجل من الله ما نريد أو أن ننصرف عن دعائه لطول أمد أو أن نيأس من رحمته وعدله فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
أما الثقة في الشعب، فالشعوب هي الأقوى وإن كانت عزلاء، وهي المنتصرة وإن كثر منها الشهداء ذلك درس التاريخ، والطغاة الباطشون من أجبن الناس وأحقر الناس وكلما ازداد جبنهم ازداد بطشهم وها نحن أولاء نراهم من حولنا يفرون كالجرذان إذا شعروا بأقل خطر، ويحتمون بجحافل من الجنود والأسلحة من شعوبهم، وصدق الشابي حين قال:
إذا الشعب يومًا أراد الحياة فلا بدَّ أن يستجيب القدر
ولا بدَّ لليل أن ينجلي ولا بدَّ للقيد أن ينكسر
أما الحاكم العادل فيحميه عدله ويحميه حب الناس له ودفاعهم عنه.
وما أروع ما وصف به شاعر النيل حافظ عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قوله:
وراعَ صاحبَ كسرى أن رأى عمرًا بين الرعية عُطْلا وهو راعيها
وعهده بملوك الفرس أن لها سورًا من الجند والأحراس تحميها
رآه مستغرقًا في نومه فرأى فيه الجلالة في أسمى معانيها
فوق الثرى في ظل الدوح مشتملاً ببردة كاد طول العهد يُبليها
فهان في عينه ما كان يُكبره من الأكاسر والدنيا بأيديها
وقال قولة حق أصبحت مثلاً وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها
أمنتَ لمّا أقمتَ العدلَ بينهمُ فنمت نوم قرير العين هانيها
فلا ينبغي أبدًا أن يستصغر الشعب نفسه ويستقل عدده ويستضعف قوته فإن زئيره بالحق يقتلع حصون الجبارين وينتزع قلوب الطغاة المتكبرين ويهزم جحافل الظالمين.
والشعب هو مجموع أفراده فما دامت القضية عادلة والغاية نبيلة فليثق كلُّ فرد في نفسه وفي إخوانه وفي قدرته على إحقاق الحق وإزهاق الباطل (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) (الأنبياء: 18).
الدرس الرابع: هو الوحدة:
فلقد ظلَّ النظام البائد يلعب على تفريق الشعب عملاً بالمبدأ الدنيء (فرق تسد) وبالمنهج الفرعوني (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (القصص: 4).
فظل النظام يقرب هؤلاء ويقصي هؤلاء، ويثير الفتن بين المسلمين والمسيحيين وبين الأحزاب والإخوان وبين الأحزاب بعضها البعض، ويفجر الأحزاب من داخلها، ويشتري بذهب المعز أعوانًا، ويضرب بسيفه إخوانًا، ويثير الشك فيما بين القوى والجماعات، ويستخدم أجهزة إعلامه الرهيبة وصحفييه لتشويه صورة الإخوان وتخويف الناس منهم، حتى أصبح الناس إذا رأوهم يتظاهرون للقضايا الوطنية ويُضرَبون ويُعتقلون ويحاكمون يخشون من إنصافهم أو التعاطف معهم، وفي الثورة الأخيرة حينما انتصر الناس على خوفهم وتلاحموا مع بعضهم وذابت الخلافات السياسية والاجتماعية بل والدينية فيما بينهم وتوحدت أهدافهم، استطاعوا- بفضل الله- تحقيق النصر وخلع الطاغوت.
وليس معنى ذلك أن يَنصبَّ الجميع في قالت فكري واحد، فهذا مستحيل، والخلاف من سنن الحياة، فلتختلف الفصائل في الأفكار والرؤى والمذاهب والمناهج ما شاءت أن تختلف ولكنَّ هناك أهدافًا عليا ومبادئ سامية لا يجوز الاختلاف حولها مثل: الحرية والعدل والحق والكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان وغيرها، فلا يجوز التفريط فيها ولا الرضاء مطلقًا بنقيضها.
الدرس الخامس: هو الولاء:
لقد اُتهم شبابنا بقلة الولاء للوطن والانتماء للشعب نتيجة للظلم والاستبداد والفساد، والإحساس بأن البلد ليس بلدهم، ومن ثَمَّ كثرت الهجرة إلى الخارج حتى ركب بعضهم البحر في سفن متهالكة غرقت كثير منها بِمَن تحملهم من شباب بل هاجر عدد ليس بالقليل إلى دولة العدو الصهيوني وعملوا في خدمة هذه الدولة، والآن فقد سقط هذا العذر وأصبح البلد بلدنا وهو بحاجة لكلِّ عقل وفكر ولكل ساعد وجهد لإعادة بناء ما خربه المفسدون ووضع البلد على طريق النهوض في كلِّ مجالات الحياة وميادين العمل، وهذا يقتضي حماية مؤسسات الدولة والحفاظ عليها، كما يقتضي إتقان العمل والإخلاص فيه، وعدم السكوت إزاء أي مظهر من مظاهر الانحراف أو الفساد.
وكان من مظاهر قلة الولاء بالنسبة للطلبة العزوف عن تحصيل العلم باعتباره لا يوفر عملاً ويفتح بيتًا، والآن، وبعد أن أصبحت مصر في أمس الحاجة إلى الإصلاح والبناء والتقدم ولن يقوم بهذا إلا أبناؤها المخلصون، والعلم هو أهم وسائل النهوض والتقدم ومن ثَمَّ أصبح فرضًا شرعيًّا ووطنيًّا الاهتمام بتحصيل العلم والبحث العلمي واستيعاب وسائل التقنية والعلوم العصرية، كما ينبغي حماية الجامعات والمدارس ومعاهد العلم والحرص على سلامة المعامل والأجهزة والمكتبات، واحترام الأساتذة والمعلمين لفضيلة العلم والسن، وعدم التدخل في سلوكيات بعضهم السلبية إبان العهد البائد، فهم كفيلون بتطهير صفوفهم وتصحيح أوضاعهم، كذلك ينبغي المشاركة في كلِّ الأنشطة وتوجيه الاتحادات الطلابية لرفع مستوى الطلاب سياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا ورياضيًّا على أن توجه الأنشطة لجموع الطلاب دون استثناء.
كما يقتضي الولاء والحب للأهل والوطن من كل عامل، وأعني بالعامل كل من يمارس عملاً أيًّا كان، عاملاً في مصنع، أو طبيبًا في مستشفى، أو مهندسًا في موقع، أو مدرسًا في معهد من معاهد التعليم أن يتقي الله في عمله، فيتقنه فإن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه، وأن يحافظ على ما تحت يده من معدات وآلات ومبانٍ وأموال، وأن يحسن تعامله مع رؤسائه وزملائه ومرءوسيه، أما مَن يمارس عملاً خدميًّا فعليه أن يقدم الخدمة لمستحقيها بأخلاق حسنة ومعاملة كريمة واحترام وتوقير للجميع على قدم المساواة دون نظر لقرابة أو مستوى اجتماعي أو منصب وظيفي، وتحاشي المفاسد الأخلاقية من رشوة ومحسوبية ومحاباة، فالعمل في عقيدتنا عبادة، والعبادة لا تُقبل إلا بالطهارة والرقي والإخلاص.
الدرس السادس: العزوف عن حياة اللهو والهزل واللا مبالاة:
إن الأنظمة الفاسدة المستبدة تحرص على أن يضعف شعوبها، ومن أسباب الضعف الجهل، فالشعوب الجاهلة أسلس قيادة من الشعوب الواعية، وأول ما تحرص الأنظمة على تجهيل الشعوب به هو جهلها بحقوقها، كما أن من أسباب الضعف الفرقة والنزاع ومنها أيضًا الخوف والفقر، ومن أهمها أيضًا إطلاق الشهوات وحرية التفلت والانحلال الأخلاقي، فالأنظمة تطلق هذه الحريات الدنيا للناس حتى تنفرد هي بحرية الاستبداد والنهب والسلب، ولقد برع النظام البائد في استخدام هذه الأسباب كلها، ولا سيما موضوع الشهوات، فانطلقت غرائز الشباب وتدنت اهتماماتهم وعلت في نظرهم قيمة الفن والفنانين وانتشرت الأغاني الهابطة والأفلام الفاضحة التي تحرض على الرذيلة وتشعل الغرائز الحيوانية، ورأينا التحرش الفردي والجماعي بالإناث، وانتشر التدخين وإدمان المخدرات، وكذلك ساد التعصب الكروي وغذته الفضائيات ووقعت المعارك بين مشجعي الأندية في مصر، ووقعت بين المشجعين المصريين والجزائريين، وتحولت إلى أزمة سياسية واقتصادية بين البلدين الشقيقين رفيقي الكفاح في السابق.
ولقد صهرت الثورة كل المصريين في بوتقتها وأذابت ما صنعه النظام الفاسد، ورأينا الشباب والفتيات في الميدان ولم تحدث حادثة تحرش واحدة، ولم تقع حادثة طائفية واحدة وتخلَّى الجميع عن العصبيات الجاهلية، وأحس الجميع أن هناك أهدافًا عليا وقيمًا سامية وحياة راقية ينبغي الحرص عليها والتضحية من أجلها ليصير الإنسان سيدًا لنفسه سيدًا في وطنه وليصير الوطن عزيزًا كريمًا بين الأمم، فغابت العصبيات وتراجعت الغرائز، وانتهى اللهو والعبث، ودقت ساعة الجد والعمل، والتطهير والبناء والشعور بالمسئولية الفردية والاجتماعية الدينية والوطنية.
فما أحرانا أن نستصحب هذا الدرس في مقتبل أيامنا، وكريم مستقبلنا، ليرتفع بناؤنا كما قال أمير الشعراء:
قل لبانٍ بنى فشاد فغالى لم يجز مصر في الزمان بناءُ
الدرس السابع: المشروع القومي:
ما من مرة في التاريخ التف المصريون حول مشروع إلا وحققوه بفضل الله تعالى، ولقد كانت ثورة 25 يناير مشروعًا قوميًّا عظيمًا التف حوله المصريون، وها نحن أولاء نرى تحقيق بعض أهدافه، رغم استحالة تصورها قبل ذلك، وهذا يبشرنا بإمكانية تحقيق كل الأهداف بإذن الله، ولذلك ينبغي التزام اليقظة والتكاتف حتى لا يلتف على الثورة سراق الثورة ولا يجهض أهدافها أصحاب المصالح الضائعة والأموال المنهوبة والمناصب المفقودة ولا الانتهازيون الذين يصادمون هوية الأمة وضمير الشعب وإرادته.
لذلك ينبغي التمسك بكلِّ المطالب الشعبية وعدم التفريط في واحد منها؛ حتى يتم تطهير البلاد من الفساد والاستبداد، من فرعون وهامان وجنودهما في السياسة والاقتصاد والثقافة والإعلام، وحتى يستعيد الشعب حرياته وسيادته وحقوقه وأمواله وإرادته وإدارته للشأن العام دون قهر أو خداع أو تضليل، وعمومًا فإن عملية الهدم والتطهير هي الجانب الأسهل في عملية النهضة، ثم تأتي العملية الأصعب وهي عملية البناء، وهذه تقتضي اختيار الأكفاء والأمناء والمخلصين لكلِّ المواقع الشعبية والنيابية والتنفيذية، وهذا يلقي علينا مسئولية جسيمة باعتبارها أمانة أمام الله يترتب عليها إما نهوض الوطن وإما تعثره (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) (النساء: من الآية 58).
ومن ثَمَّ لا يصح مطلقًا أن تكون الخلافات السياسية أو غيرها سببًا في الافتئات على الآخرين، فضلاً عن الافتراء عليهم، أو محاولات إقصائهم، فذلك كله كفيل بإثارة الصراع حول المشروع القومي (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) (الأنفال: من الآية 46) ولكن من حق كل فصيل أن يطرح رؤيته ومنهجه بصدق وأمانة ثم يترك للشعب أن يختار بإرادته الحرة التي ينبغي أن يحترمها الجميع ويتكاتفوا ويتعاونوا من أجل تحقيقها فإن الأمة لن تجتمع هي أو أغلبيتها على باطل.
هذا ما فتح الله تعالى به، أسأله أن ينفع به وأن يجمع عليه وأن يتقبله بفضله، ولا ريب أن هناك دروسًا ودروسًا أرجو من كل من يهتدي إليها أو إلى بعضها أن ينفعنا بها كي تستقيم حياتنا وتتوحد وجهتنا وأن نجتمع على الخير (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران: من الآية110) (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران:104)
بقلم: د. محمود غزلان
* عضو مكتب الإرشاد