أولاً
مدى دستورية حرمان بعض الفئات من الترشح لمجلسي الشعب و الشورى و الانتماء للأحزاب السياسية
تحت وطأة ضغط الرأي العام و استجابة لمطالب ثورة 25 ينايرالمجيدة أصدرالمجلس الأعلى للقوات المسلحة المرسوم بقانون رقم 131 لسنة 2011بتعديل بعض أحكام المرسوم بقانون رقم344 لسنة 1952 في شأن جريمة الغدر والمعدل بالمرسوم بقانون رقم 113 لسنة 1953 ، و قانون الغدر المذكورينص في مادته الأولى على أنه : " فى تطبيق احكام هذا القانون يعد مرتكبا لجريمة الغدر كل من كان موظفاً عاماً وزيراً أو غيره وكل من كان عضواً فى أحد مجلسى البرلمان أو أحد المجالس البلدية أو القروية أو مجالس المديريات وعلى العموم كل شخص كان مكلفاً بخدمة عامة أو له صفة نيابية عامة وارتكب بعد أول سبتمبر سنة 1939 فعلا من الأفعال الآتية : أ- عمل من شأنه افساد الحكم أو الحياة السياسية....." ، كما نصت المادة الثانية منه المستبدلة بموجب المرسوم بقانون المشارإليه سلفاً على أنه : " مع عدم الإخلال بالعقوبات الجنائية أو التاديبية يجازى على الغدر بالجزاءات الآتية أو بأحدها........
ب- سقوط العضوية فى مجلسى الشعب أو الشورى أو المجالس الشعبية المحلية.
ج- الحرمان من حق الانتخاب أو الترشيح لأى مجلس من المجالس المنصوص عليها فى الفقرة( ب) من هذه المادة لمدة خمس سنوات من تاريخ الحكم.
هـ- الحرمان من الانتماء لأى حزب سياسي لمدة 5 سنوات من تاريخ الحكم..... ".
و قد ثارالخلاف في شأن مدى دستورية هذا الحرمان من ممارسة حقوق الترشيح و الانتماء للأحزاب السياسية ، سواء كان المقصود من الحرمان قيادات الحزب الوطني الديمقراطي و الذي سبق حله بموجب حكم المحكمة الإدارية العليا ، أم غيرهم ؟
(1) الأصول العامة التي تحكم حق الترشح و الحقوق السياسية :
قضت المحكمة الدستورية العليا في تبيان قيمة و أهمية حق الترشح بأن :
" و حيث أن الدستورنص في المادة 62 منه – التي وردت أيضاً في الباب الخاص بالحريات و الحقوق العامة - على أن ( للمواطن حق الانتخاب و الترشيح و إبداء الرأي في الاستفتاء وفقاً لأحكام القانون ، و مساهمته في الحياة العامة واجب وطني ) ، مما مفاده أن الحقوق السياسية المنصوص عليها في هذه المادة – و من بينها حق الترشيح الذي عنى الدستوربالنص عليه صراحة مع حقي الانتخاب و ابداء الرأي في الاستفتاء – اعتبرها الدستورمن الحقوق العامة التي حرص على كفالتها و تمكين المواطنين من ممارستها لضمان اسهامهم في اختيارقياداتهم و ممثليهم في إدارة دفة الحكم و رعاية مصلحة الجماعة ، و على أساس أن حقي الانتخاب و الترشيح خاصة هما حقان متكاملان لاتقوم الحياة النيابية بدون أيهما و لا تتحقق للسيادة الشعبية أبعادها الكاملة إذاما هما أفرغا من المضمون الذي يكفل ممارستها ممارسة جدية و فعالة ، و من ثم كان هذان الحقان لازمين لزوماً حتمياً لإعمال الديمقراطية في محتواها المقرر دستورياً و لضمان أن تكون المجالس النيابية كاشفة في حقيقتها عن الإرادة الشعبية و معبرة تعبيراً صادقاً عنها .
و لذلك لم يقف الدستورعند مجرد ضمان حق كل مواطن في ممارسته تلك الحقوق السياسية ، و إنما جاوز ذلك إلى اعتبارمساهمته في الحياة العامة عن طريق ممارسته لها واجباً وطنياً يتعين القيام به في أكثرمجالات الحياة أهمية لاتصالها بالسيادة الشعبية التي تعتبرقواماً لكل تنظيم يرتكز على إرادة هيئة الناخبين ".
( حكمها في الدعوى رقم 37 لسنة 9 ق " دستورية " – جلسة 19/5/1990)
و حق الترشيح فقاً لهذه المبادئ الدستورية ركيزة من ركائظ النظام الديمقراطي ، و يتعلق بعموم المواطنين يمارسونه على قدم المساواة فيما بينهم متى توافرت فيهم شروطه المقررة ، و يتقيد المشرع حال تنظيمه له بتلك القواعد الدستورية بحيث لا يجوز له أن يتخذ من هذا التنظيم ستاراً للانتقاص أو النيل منه .
فقد قضت المحكمة الدستورية في ذلك بأن :
" و لئن كانت المادة 62 من الدستورقد أجازت للمشرع العادي تنظيم الحقوق السياسية الثلاثة بما نصت عليه من أن ممارسة هذه الحقوق تكون " وفقاً لأحكام القانون " ، فإنه يتعين عليه أن يراعي في القواعد التي يتولى وضعها تنظيماً لتلك الحقوق ألا تؤدي إلى مصادرتها أو الانتقاص منها و ألا تنطوي على التمييز المحظوردستورياً أو تتعارض مع مبدأ تكافؤ الفرص الذي كفلته الدولة لجميع المواطنين ممن تتماثل مراكزهم القانونية و بوجه عام ألا يتعارض التنظيم التشريعي لتلك الحقوق مع أي نص في الدستور بحيث يأتي التنظيم مطابقاً للدستورفي عموم قواعده و أحكامه ...... حيث كفل – الدستور- للمواطنين حقي الانتخاب و الترشيح و جعلهم سواء في ممارسة هذين الحقين و لم يجز التمييزبينهم في أسس مباشرتهما و لاتقريرأفضلية لبعض المواطنين على بعض في أي شأن يتلعق بهما ، و إنما أطلق هذين الحقين للمواطنين – الذين تتوافرفيهم الشروط المقررة لذلك – على اختلاف انتماءآتهم و آرائهم السياسية لضمان أن يظل العمل الوطني جماعياً لا امتياز فيه لبعض المواطنين على بعض .... ".(حكمها سالف الذكر).
و يلاحظ أن المبادئ سالفة الذكرو إن كانت صادرة في ظل العمل بأحكام الدستورالمعطل الصادرسنة 1971 ، إلا أنها لا زالت سارية إلى الآن حتى بعد تعطيل العمل بالدستورالمذكور، لكون ذات مضمون النص المنظم لحقي الانتخاب و الترشيح في ذلك الدستور تبناه الإعلان الدستوري الساري حالياً و الصادربتاريخ 30/3/2011 .
كما أنه ، ابتناءً على ما تقدم ، يجب تفسيرالنصوص المتعلقة بحق الترشيح تفسيراً ضيقاً ، لا يهدرأصول هذا الحق و جوهره ، فقد قضت المحكمة الدستورية العليا بأن :
" إن حقي الترشيح و الانتخاب من الحقوق الأساسية التي كفلها الدستور، وهما باعتبارهما كذلك ، لا يجوز المساس بهما ، أو تفسير النصوص التشريعية التي تنظمهما على نحو يؤدي إلى الانتقاص من محتواهما ، بل يتعين تفسيرها تفسيراً ضيقاً يؤدي إلى عدم مصادرة حق الناخبين في اختيارالمرشح الذي يرون أنه أهلاً لتمثيلهم في مجلس الشعب ، و فتح باب الترشيح أمام كل من يرغب في الترشيح لعضوية ذلك المجلس ".
( حكمها الصادرفي الطلب رقم واحد لسنة 26 ق " تفسير" – جلسة 7/3/2004 )
هذا ، و إذا كان لا يجوز التمييز بين المواطنين في مجال ممارسة حق الترشيح ، إلا أنه يجوز وضع شروط و ضوابط لممارسته و قبول المرشحين ، و ذلك في إطار أسس موضوعية تتفق و طبيعة هذا الحق ، و الدور المنوط بالنائب البرلماني بصفته ممثلاً للأمة في خدمة الوطن ، و مقتضيات الوطنية و المؤهلات و الثقة المتطلبة في الحياة النيابية باعتبارها نيابة عن الشعب ، فقد نص الإعلان الدستوري الصادربتاريخ 30/3/2011 في المادة رقم 38 منه على أن " ينظم القانون حق الترشيح لمجلسي الشعب و الشورى وفقاً لأي نظام انتخابي يحدده ...." ، كما تنص المادة 39 من ذات الإعلان على أن : " يحدد القانون الشروط الواجب توافرها في أعضاء مجلسي الشعب و الشورى ، و يبين أحكام الانتخاب و الاستفتاء" ، و قد قضت المحكمة الدستورية العليا في ظل العمل بالمادتين 62 و 88 من الدستورالمعطل ، و كانتا تشتملان على ذات مضمون المادتين آنفتي الذكر، بأن :
" شروط الترشيح لمجلس الشعب – و هو مجلس ذو صفة تمثيلية – تُعد في ذات الوقت شروطاً لشغل العضوية فيه ، و سلطة المشرع في تحديد هذه الشروط مرجعها نص المادة 88 من الدستور، و هي شروط لا يجوز تقريرها بعيداً عن متطلبات ممارستها ، بأن يكون فرضها لازماً لأداء المهام التي تقوم عليها ، بما مؤداه أن شروط الترشيح لعضوية مجلس الشعب و التي تضمنها نص المادة الخامسة من قانون مجلس الشعب ترتبط بطبيعة المهام التمثيلية التي يقوم بها المرشح حال انتخابه عضواً بهذا المجلس باعتباران الترشيح يمثل المرحلة الأولى من مراحل اكتمال العضوية إذا حاز المرشح على أغلبية أصوات الناخبين ، مما يتعين معه أن يتوافرفي المرشح ابتداءً كافة الشروط اللازم توافرها في عضو مجلس الشعب ...... من حق المشرع تحديد شروط الترشيح لتلك العضوية ، و بدهي أن تحديد شروط العضوية لا يعتبرتقييداً لحق الترشيح لأن التنظيم التشريعي لحق من الحقوق لا يعتبرتقييداً له ما دام ما تقررمن ضوابط و شروط لممارسة هذا الحق يتفق و طبيعته و يقوم على أسس موضوعية تبرره عقلاً و منطقاً ". ( حكمها الصادرفي الدعوى رقم 201 لسنة 27 ق " دستورية " – جلسة 3/2/2008 ).
(2)الرأي القانوني بشأن منع بعض الفئات من الترشح و الانتماء للأحزاب السياسية :
لما كان الأصل المقرردستورياً – و على نحو ما سبق بيانه - أن حق الترشيح و الانتماء للأحزاب السياسية من الحقوق الدستورية ، و من ركائز النظام الديمقراطي ، إلا أن تلك الحقوق ليست عصية على الخضوع لأطر و قواعد تنتظمها ، لبيان حدودها و كيفية ممارستها ، و ذلك بما يتفق و طبيعة المهام التي تقتضيها العضوية البرلمانية ، التي يمثل فيها النائب جموع الناخبين ، معبراً عن آمالهم و طموحاتهم في تحقيق التقدم في مختلف مناحي حياتهم ، سواء منها السياسي و الاجتماعي و الاقتصادي للبلاد ، ساعياً إلى تحقيق الأهداف التي تعبربتلك الآمال و الطموحات إلى واقع تنفيذها ، من خلال رؤية و خلفية وطنية تسيطرعلى فؤداه ، و تحيط بأفكاره ، و تقارنه في الغداة و العشي ، و ذلك كله غايات كبرى تتعلق بصالح الوطن و المواطنين ، و يتلاقى عندها كافة أعضاء المجلس أياً كانت انتماءاتهم الحزبية ، بل هي – بلا مراء - مجمع القوى السياسية التي تُعنى أساساً بالعمل بالوسائل الديمقراطية للحصول على ثقة الناخبين بقصد المشاركة في مسئوليات الحكم لتحقيق برامجها التي تستهدف الصالح العام ، فإذا ما ثبت يقيناً أن شخصاً ما قد ساهم في إفساد الحياة السياسية أو شئون الحكم أو استغل أي من الشئون العامة التي أولاها إليه الشعب ، صغرت أو كبرت تلك المهام ، استغلالاً غير مشروع ، فإنه لا ريب يكون قد خان الثقة التي أولاها إياه جموع الناخبين ، و صار مفتقداً لمفهوم الوطنية ، و لا جرم أن تلك الخيانة تعظم و تضحى طامة كبرى حين يكون ذلك الخائن و المفتقد لتلك الثقة يرغب في تمثيل المواطنين في مجلس الشعب الممثل للأمة .
وعلى ذلك يكون الحرمان المؤقت من الترشح للانتخابات و الانتماء للأحزاب السياسية لمن توافرت في حقه صور إفساد الحكم و الحياة السياسية أو استغل منصبه الوظيفي العام في الصورالتي حددها قانون الغدر، قد جاء مرتكناً إلى أسس موضوعية قد استوت على سوقها بلا اعوجاج ، أصلها ثابت و فرعها من النصوص و المبادئ الدستورية القانونية صادع ، بعد أن درس النص سند الحرمان عن بصيرة حقيقة و جوهرالحقوق محل الحرمان ، و أحاط بمضامين و ضوابط ممارستها الشرعية ، فكان بصره بها حديدا ، مما يجعله حصيناً من قالة عدم الدستورية جديراً بالتأييد.
و قد أعملت ذلك المحكمة الدستورية العليا بمناسبة الطعن بعدم دستورية البند (5) من المادة الخامسة من القانون رقم 38 لسنة 1972 في شأن مجلس الشعب ، و ذلك فيما يترتب على مقتضاه من الحرمان الأبدي المطلق من الحق في الترشيح لعضوية مجلس الشعب لكل من لم يؤد الخدمة العسكرية الإلزامية أو أعفي من أدائها طبقاً للقانون و عوقب عن تخلفه عن أدائها حتى تجاوزسن التجنيد بعقوبة الغرامة أو كان رد اعتباره (قضاءً أو بقوة القانون )، و تنص المادة المذكورة بند رقم (5) على أنه : " مع عدم الإخلال بالأحكام المقررة في قانون مباشرة الحقوق الياسية ، يشترط فيمن يرشح لعضوية مجلس الشعب : 1- ......... 2- ........ 3- ........ 4-.......................
5- أن يكون قد أدى الخدمة العسكرية الإلزامية أوأعفي من أدائها طبقاً للقانون " .
و قد قضت المحكمة الدستورية بدستورية البند المذكور، موضحة الارتباط بين حق الترشيح و شروطه و بين المهام التمثيلية الواقعة على كاهل المرشح حال انتخابه عضواً بالمجلس ، و جواز وضع شروط للترشيح تتفق مع طبيعة ذلك الحق و مهام عضو المجلس النيابية .
فقد قضت المحكمة الدستورية العليا بأن :
" شروط الترشيح لعضوية مجلس الشعب و التي تضمنها نص المادة الخامسة من قانون مجلس الشعب ترتبط بطبيعة المهام التمثيلية التي يقوم بها المرشح حال انتخابه عضواً بهذا المجلس...... و إذ كانت عضوية مجلس الشعب التي يكتسبها أحد المرشحين المتنافسين حال حصوله على ثقة الناخبين ، مناطها النيابة عن جماعة الناخبين للاضطلاع بالواجبات الوطنية التي يفرضها الدستورو قانون مجلس الشعب ، و من ثم فليس بمستغرب أن اشترط النص المطعون عليه وجوب أداء المرشح لعضوية مجلس الشعب الخدمة العسكرية الإلزامية ، تلك الخدمة التي تعد من أجل و أقدس الواجبات الوطنية ، أو الإعفاء من أدائها قانوناً للاعتبارات التي قدرها المشرع ، لما في ذلك من دلالة على أن هذا المرشح قادرعلى أداء ما يناط به من مهام تستلزمها الواجبات الوطنية العامة .......... و حيث إن ما اشترطه النص المطعون فيه من أداء المرشح لعضوية مجلس الشعب الخدمة العسكرية الإلزامية أو الإعفاء منها قانوناً ، يقوم على أساس أن الدفاع عن الوطن و أراضيه واجي مقدس ، و أن أداء الخدمة العسكرية إلزامي على كل مكلف بها ما لم يقم به سبب من الأسباب التي حددها القانون لإعفائه من أدائها ، و لذا كان من المنطقي الاعتداد بشرط أداء الخدمة العسكرية كأحد شروط الترشيح لعضوية مجلس الشعب ، و ذلك على أساس أن من تحمل ضريبة الدم مقدِّماً روحه فداءً للوطن لهو الأقدرو الأصلح على تحمل مهام العضوية و ما تفرضه عليه من أعباء ذات الصلة بالشأن العام ، و من ثم فقد توافرلهذا الشرط الأسس الموضوعية التي تبرره دستورياً لارتباطه بأهدافه المتمثلة في أن تتولى مهام الشأن العام أفضل عناصر المجتمع التي لم تتردد في أن تلبي نداء الوطن و أداء ما افترضه عليها من واجب مقدس ". ( حكمها الصادرفي الدعوى رقم 201 لسنة 27 ق " دستورية " – جلسة 3/2/2008 ).
كما أنه قد سبق عرض مثل ذلك النص على المحكمة الدستورية العليا ، في ظروف مماثلة لما نحيا فيه الآن ، فقد صدرالقانون رقم 33 لسنة 1978 بشأن حماية الجبهة الداخلية و السلام الاجتماعي ، ناصاً على عدم جواز الانتماء إلى الأحزاب السياسية أو مباشرة الحقوق أو الأنشطة السياسية لكل من تسبب في إفساد الحياة السياسية قبل ثورة يوليو1952 ، ممن تولوا بعض المناصب قبل ثورة 23 يوليو 1952 ، و قد قضت المحكمة بعدم دستورية ذلك النص ، و لكنها لم ترتكن في قضائها إلى مجرد حرمان النص لهؤلاء من الانتماء إلى الأحزاب السياسية و من مباشرة الحقوق و الأنشطة السياسية ، و لم تعب عليه كونه يسري بأثر رجعي ، و لا كونه يسري عليهم لمجرد توليهم تلك المناصب دون ثبوت فسادهم بحكم قضائي ، وإنما تساند قضائها في ذلك إلى كونه حرماناً مطلقاً و مؤبداً ، و بمفهوم المخالفة لو كان الحرمان مؤقتاً – على نحو ما نص عليه قانون الغدر- و لم يشكل عقوبة جنائية تسري بأثر رجعي ، لكان جائزاً من الوجهة الدستورية ، و هذا ما يؤكده حكم المحكمة ذاتها في شأن حرمان من لم يؤد الخدمة العسكرية أولم يعف منها وفقاً للقانون ، من الترشيح لانتخابات مجلس الشعب ، على النحو السابق ذكره ، بل إن الحكم الأخيريشيرإلى تأييد الحرمان المطلق و المؤبد ، لأن عدم أداء الخدمة العسكرية أوعدم الإعفاء منها وفقاً للقانون أمر ملازم للشخص لا فكاك منه ، ولا يستطيع تغييره ، و بالتالي يظل محروماً من الترشيح ما بقي حياً ، و مع ذلك أيدت المحكمة الدستورية ذلك الحرمان الأبدي نظراً لاتفاقه مع طبيعة و مقتضيات و مقومات حق الترشيح و النيابة البرلمانية ، و لا شك أن إفساد شئون الحكم أو الحياة السياسية أو استغلال النفوذ إضراراً بالمال العام أمورتتلاقى مع عدم أداء الخدمة العسكرية أو عدم الإعفاء منها وفقاً للقانون في كونها إخلالاً بجوهرو متطلبات الوطنية ، و خرقاً للسيادة الشعبية بعد أن أراد أولئك أن يعلوا عليها علواً كبيراً ، بل إن من لم يؤد الخدمة العسكرية اتخذ موقفاً سلبياً نحو وطنه بالامتناع عن أدائها ، أما أولئك فقد عاثوا في البلاد فساداً ، و عتوا عتواً كبيراً ، وجعلوا من الوطنية و التضامن الاجتماعي بين المواطنين هباءً منثوراً ، سلبوا من الشعب آماله قبل أن يسرقوا أمواله ، ولم يتركوا صغيرة و لا كبيرة إلا سعوا سعياً حثيثاً نحو استلابها ، و على ذلك ، فإن تلك الشرذمة بعد كسر شوكتها و خوار قوتها و انهزام أعوانها ، و المتصفة بخراب الذمة ، و الغير صالحة للتقرب إلى الشرفاء زلفى ، و الذبن هم بحق دُعاة فسق قد اقتسموا الغنائم ، أفعالهم مَهالك و أقوالهم تضليل ، ضُيِّع الفقيرُ فيهم واليتيمُ ابنُ السبيل، حقيق بها هذا الحرمان المؤقت .
فقد قضت المحكمة الدستورية العليا بأن :
" و حيث إن المادة الرابعة من القانون رقم 33 لسنة 1978 بشأن حماية الجبهة الداخلية و السلام الاجتماعي – المطعون عليها – تنص على أنه :
" لا يجوزالانتماء إلى الأحزاب السياسية أومباشرة الحقوق أو الأنشطة السياسية لكل من تسبب في إفساد الحياة السياسية قبل ثورة يوليوسنة 1952 ، سواء كان ذلك بالاشتراك في تقلد المناصب الوزارية منتمياً إلى الأحزاب السياسية التي تولت الحكم قبل 23 يوليو1952 ، أو بالاشتراك في قيادة الأحزاب و إدارتها ، و ذلك كله فيما عدا الحزب الوطني و الحزب الاشتراكي (حزب مصرالفتاة).
و يعتبراشتراكاً في قيادة الحزب و إدارته ، تولي مناصب الرئيس أو نواب الرئيس أو وكلائه أو السكرتيرالعام أو السكرتيرالعام المساعد أو أمين الصندوق أو عضوية الهيئة العليا للحزب .
و يخطرالمدعي العام الاشتراكي مجلس الشعب ، و ذوي الشأن خلال خمسة عشريوماً من تاريخ العمل بهذا القانون ، ببيان أسماء من ينطبق عليهم حكم الفقرة الأولى ، و لصاحب الشأن خلال عشرة أيام من تاريخ إبلاغه بذلك ، أن يتظلم إلى مجلس الشعب من إدراج اسمه في هذا البيان إذا لم يكن قد تقلد أحد المناصب المشارإليها بالفقرة الأولى .
و يبت المجلس في النظام بأغليبة أعضائه مع مراعاة حكم المادة 96 من الدستور".
و حيث إنه مما ينعاه قرارالإحالة على هذه المادة أنها إذ قضت بحرمان فئة من المواطنين من حق الانتماء إلى الأحزاب السياسية ، و من مباشرة الحقوق و الأنشطة السياسية ، تكون قد انطوت على مخالفة لحكم كل من المادتين 5 ، 62 من الدستور.
وحيث إن المادة 5 من الدستور- المعدلة بتاريخ 22 مايوسنة 1980 – تنص على أن ( يقوم النظام السياسي في جمهورية مصر العربية على أساس تعدد الأحزاب ، و ذلك في إطارالمقومات و المبادئ الأساسية للمجتمع المصري المنصوص عليها في الدستور، و ينظم القانون الأحزاب السياسية ) ، و قد تحقق بهذا التعديل تغييرجذري في إحدى ركائز النظام السياسي في الدولة ، ذلك أن هذه المادة كانت تنص قبل تعديلها على أن ( الاتحاد الاشتراكي العربي هو التنظيم السياسي الذي يمثل بتنظيماته القائمة على أٍساس مبدأ الديمقراطية تحالف قوى الشعب العاملة من الفلاحين و العمال و الجنود و المثقفين و الرأسمالية الوطنية ، و هو أداة هذا التحالف في تعميق قيم الديمقراطية و الاشتراكية ، و في متابعة العمل الوطني في مختلف مجالاته و دفع هذا العمل إلى أهدافه المرسومة ) ، وبموجب هذا التعديل يكون الدستورقد استعاض عن التنظيم الشعبي الوحيد ممثلاً في الاتحاد الاشتراكي العربي بنظام تعدد الأحزاب ، و ذلك تعميقاً للنظام الديمقراطي الذي أقام عليه الدستورالبنيان السياسي للدولة بما نص عليه في مادته الأولى من أن ( جمهورية مصر العربية دولة نظامها اشتراكي ديمقراطي يقوم على تحالف قوى الشعب العاملة ... ) ، و بما ردده في كثيرمن مواده من أحكام ومبادئ تحدد مفهوم الديمقراطية التي أرساها ، و تشكل معالم المجتمع الذي ينشده ، سواء ما اتصل منها بتوكيد السيادة الشعبية – و هي جوهر الديمقراطية – أو بكفالة الحقوق و الحريات العامة – و هي هدفها – أو بالاشتراك في ممارسة السلطة – و هي وسيلتها – ، كما جاء ذلك التعديل انطلاقاً من حقيقة أن الديمقراطية تقوم أصلاً على الحرية ، و أنها تتطلب – لضمان إنفاذ محتواها – تعدداً حزبياً ، بل هي تحتم هذا التعدد كضرورة لازمة لتكوين لإرادة الشعبية و تحديد السياسة القومية تحديداً حراً واعياً .
لما كان ذلك ، و كان الدستورإذ نص في مادته الخامسة على تعدد الأحزاب كأساس للنظام السياسي في جمهورية مصر العربية ، و جعل هذا التعدد غيرمقيد إلا بالتزام الأحزاب جميعها – سواء عند تكوينها أو في مجال ممارستها لعملها ، - بالمقومات و المبادئ الأساسية للمجتمع المصري المنصوص عليها في الدستور، و هو ما لا يعني أكثرمن تقيد الأحزاب كتنظيمات سياسية بالعمل في ظل الدستور- بمراعاة الأحكام المنصوص عليها فيه ، فإن الدستورإذ تطلب تعدد الأحزاب ليقوم على أساسه النظام السياسي في الدولة ، يكون قد كفل بالضرورة حرية تكوينهافي الإطارالذي رسمه لها ، بما يستتبع حتماً ضمان حق الانضمام إليها ، ذلك أنه من خلال ممارسة هذا الحق ، و به أساساً ، يتشكل البنيان الطبيعي للحزب وتتأكد شرعية وجوده في واقع الحياة السياسية ، و بالتالي فإن الحرمان منه يشكل اعتداء على حق كفله الدستور.
و حيث إن المادة 62 من الدستور، التي وردت في الباب الثالث منه الخاص بالحريات و الحقوق و الواجبات العامة ، التي تنص على أن ( للمواطن حق الانتخاب و الترشيح وإبداء الرأي في الاستفتاء وفقاً لأحكام القانون ، و مساهمته في الحياة العامة واجب وطني ) ، ومؤدى ذلك أن الحقوق السياسية المنصوص عليها في هذه المادة ، اعتبرها الدستورمن الحقوق العامة التي حرص على كفالتها تمكين المواطنين من ممارستها ، لضمان إسهامهم في اختيارقياداتهم و ممثليهم في إدارة دفة الحكم و رعاية مصالح الجماعة ، ولم يقف الدستورعند مجرد ضمان حق كل مواطن في ممارسة تلك الحقوق ، و إنما جاوز ذلك إلى اعتبارمساهمته في الحياة العامة عن طريق ممارسته لها واجباً وطنياً يتعين عليه القيام به في أكثرمجالات الحياة أهمية لاتصالها بالسيادة الشعبية ، و من ثم فإن إهدار تلك الحقوق يعد بدوره مخالفة لأحكام الدستورممثلة في المادة 62 منه .
و حيث إنه لما كان مقتضى نص الفقرة الأولى من المادة الرابعة من القانون رقم 33 لسنة 1978 بشأن حماية الجبهة الداخلية و السلام الاجتماعي ، حسبما يبين من عبارتها المطلقة ، حرمان فئة من المواطنين من حقهم في الانتماء إلى الأحزاب السياسية ، و من مباشرة الحقوق والأنشطة السياسية كافة ، حرماناً مطلقاً و مؤبداً ، بما ينطوي على إهدارلأصل تلك الحقوق ، و يشكل بالتالي اعتداء عليها بالمخالفة لحكم كل من المادتين 5 ، 62 من الدستور.
و حيث إنه لا يقدح في هذا النظر، ما ذهبت إليه الحكومة من أن النص المطعون فيه يسانده ما قدره المشرع من استبعاد من أفسدوا الحياة السياسية قبل الثورة من ممارسة أي نشاط سياسي وذلك في إطارالسلطة التقديرية المخولة له إعمالاً للتفويض الدستوري الذي تضمنته المادتان 5 ، 62 من الدستورعندما أحالتا تنظيم الأحزاب السياسية و مباشرة الحقوق السياسية إلى القانون ، دون وضع قيود محددة لهذا التنظيم ، ذلك أنه و إن كان الأصل في سلطة التشريع عند تنظيم الحقوق أنها سلطة تقديرية ، و أن الرقابة على دستورية التشريعات لا تمتد إلى ملاءمة إصدارها ، إلا أن هذه لايعني إطلاق هذه السلطة في سن القوانين دون التقيد بالحدود و الضوابط التي نص عليها الدستور، و من ثم فإن تنظيم المشرع لحق المواطنين في الانتماء إلى الأحزاب السياسية و مباشرتهم لحقوقهم السياسية ينبغي ألا يعصف بهذه الحقوق أويؤثرعلى بقائها على نحو ما سلكه النص المطعون فيه ، إذ تعرض لحقوق عامة كفلها الدستور، و حرم فئة من المواطنين منها حرماناً مطلقاً و مؤبداً على ما سلف بيانه ، مجاوزاً بذلك دائرة تنظيم تلك الحقوق ، الأمرالذي يحتم إخضاعه لما تتولاه هذه المحكمة من رقابة دستورية .
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة بعدم دستورية المادة الرابعة من القانون رقم 33 لسنة 1978 بشأن حماية الجبهة الداخلية و السلام الاجتماعي ".
( حكمها الصادرفي الدعوى رقم 56 لسنة 6ق " دستورية " – جلسة 21/6/1986 )
و يلاحظ على حكم المحكمة الدستورية العليا آنف الذكر ، أنه لم يتعرض لكون الحرمان الوارد بالمادة الرابعة المذكورة يسري على بعض الفئات لمجرد كونها تولت مناصب معينة إبان عهد الفساد السياسي السابق على ثورة 23 يوليو 1952، و هذا إشارة منها بجواز ذلك ، و أنه لا يشترط للحرمان ثبوت الفساد بحكم أو ارتكاب جريمة معينة .
ثانياً
قانون حرمان بعض رموز النظام السابق من مباشرة الحقوق السياسية :
أصدر مجلس الشعب قانوناً يحرم بمقتضاه بعض رموز النظام السابق – ممن عمل خلال العشر سنوات السابقة على تاريخ 11/2/2011 رئيساً للجمهورية أو نائباً له أو رئيساً للوزراء أو رئيساً للحزب الوطني الديمقراطي المنحل أو أميناً عاماً له أو كان عضواً بمكتبه السياسي أو أمانته العامة - من مباشرة الحقوق السياسية لمدة عشرسنوات اعتباراً من تاريخ 11/2/2011 ، و قد انتقد البعض هذا القانون نظراً لما يشوبه من عيب عدم الدستورية ، والعيب الأساسي الذي يُرمى به القانون هوكونه يسري بأثر رجعي ، و هو ما لا يجوز عند القائلين بعدم دستوريته ، على اعتبار أن الحرمان الذي انطوى عليه يمثل عقوبة ، و هي لا يجوز أن تسري بأثر رجعي ، الأمر الذي يقتضي كمسألة أولية بحث ما إذا كان ذلك الحرمان يشكل عقوبة أم لا ؟
تنص المادة (19) من الإعلان الدستوري الصادر بتاريخ 30/3/2011 و الذي يحكم الحياة الدستورية الآن ، على أنه : " العقوبة شخصية ، و لا جريمة و لا عقوبة إلا بناءً على قانون ، و لا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي ، و لا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون " ، و هي بذاتها التي كانت تنص عليها المادة 66 من الدستور المعطل ، كما كانت المادة (187 ) من الدستور المعطل تنص على أنه " لا تسري أحكام القوانين إلا على ما يقع من تاريخ العمل بها ، و لا يترتب عليها أثر فيما وقع قبلها ، و مع ذلك يجوز في غير المواد الجنائية النص في القانون على خلاف ذلك بموافقة اغلبية أعضاء مجلس الشعب ".
و قد رددت هاتان المادتان – على ما جري به قضاء المحكمة الدستورية العليا في ظل العمل بالدستور المعطل – مبدأ أساسياً من مبادئ الدساتير الحديثة يقيد الشارع ، فلا يملك أن يصدر تشريعاً عقابياً بأثر رجعي عن أفعال وقعت قبل نفاذه و إلا كان هذا التشريع مخالفاً للدستور ( حكمها الصادرفي الدعوى رقم 49 لسنة 6 قضائية " دستورية " – جلسة 4/4/1987 ) .
و المستفاد من ذلك أن المادتين المذكورتين تتحدثان عن العقوبة الجنائية ، و العقوبة الجنائية تتحدد بنص قانوني ، إعمالاً لنص المادتين ( 66 ، 19 ) سالفتي الذكر، فلا عقوبة إلا بناء على قانون ، و قد حدد قانون العقوبات في نصوصه العقوبات المقررة للجرائم بأنواعها الثلاثة ( جناية – جنحة – مخالفة ) ، و قسّم العقوبات إلى أصلية و تبعية ، فالأصلية ( الإعدام – السجن – الحبس – الغرامة ) ، والتبعية ( العزل من الوظائف الأميرية – وضع المحكوم عليه تحت مراقبة البوليس – المصادرة – الحرمان من القبول في أي خدمة في الحكومة مباشرة أو بصفة متعهد أو ملتزم أياً كانت أهمية الخدمة - الحرمان من التحلي برتبة أو نيشان – الحرمان من الشهادة أمام المحاكم مدة العقوبة إلا على سبيل الاستدلال – الحرمان من إدارة أشغاله الخاصة بأمواله و أملاكه مدة اعتقاله – الحرمان من البقاء من يوم الحكم عليه نهائياً عضواً في أحد المجالس الحسبية أو مجالس المديريات أو مجالس البلدية أو المحلية أو أي لجنة عمومية – الحرمان من صلاحية العضوية في إحدى الهيئات المبينة بالفقرة الخامسة أو أن يكون خبيراً أو شاهداً في العقود إذا حكم عليه نهائياً بعقوبة السجن المشدد ).
إذن لابد لكي يوصف جزاء ما بأنه عقوبة أن يرد به نص قانوني بذلك ، سواء في قانون العقوبات أو غيره ، و سواء بوصفها عقوبة أصلية أو تبعية ، و الحرمان من مباشرة الحقوق السياسية ( فيما يتعلق بمجلسي الشعب و الشورى ) أو الانتماء للأحزاب السياسية لم ينص قانون العقوبات على كونه عقوبة ، لا أصلية و لا تبعية ، و إنما يمكن أن يشكل الحرمان المذكور عقوبة جنائية ، إذا كان مقرراً بنص قانوني كجزاء لمن ارتكب إحدى الجرائم الجنائية ، فهنا يكون عقوبة يجب أن تسري بأثر مباشر و ليس بأثر رجعي ، على نحو ما ينص عليه قانون مباشرة الحقوق السياسية رقم 73 لسنة 1956 في مادته الثانية و التي عددت من يُحرم من مباشرة الحقوق السياسية ، و القانون المذكور يسري بأثر مباشر وفقاً للمادة الأخيرة منه ، اما إذا كان الحرمان لا يرتبط تطبيقه بجريمة جنائية ، فإنه لا يعد حينئذ عقوبة ، و إنما من قبيل الضوابط و الحدود لمباشرة الحقوق السياسية ، اتساقاً مع مقتضيات مباشرة تلك الحقوق و تحقيقاً للصالح العام ، وهو ما نراه في القانون المعروض ، و الذي نص على حرمان بعض من تولى مناصب معينة من مباشرة الحقوق السياسية لمدة معينة .
و هذا ما طبقته المحكمة الدستورية العليا في حكمها المار ذكره ، حين قضت بعدم دستورية المادة الرابعة من قانون حماية الجبهة الداخلية ، فقد ارتكنت المحكمة في قضائها إلى كون ذلك الحرمان يهدر حقوقاً عامة في الدستور بصفة مطلقة أبدية ، و لم تشر المحكمة إلى أن ذلك الحرمان يشكل عقوبة جنائية ، و لوكان كذلك لاستندت إليه في قضائها بعدم الدستورية ، لأن الحرمان بوصفه عقوبة يسري حينذ على فترة سابقة على صدور القانون المذكور باعتبارأن ذلك القانون يسري بأثر رجعي ، و لأفصحت عنه كسبب آخر لعدم الدستورية ، باعتباره واجبها بل هو سبب يغنيها عن التعرض للسبب الآخر المتمثل في تأبيد الحرمان ، حسبما جرى به قضاؤها ، و هذا الموقف منها لأن الحرمان في تلك الواقعة – محل الحكم – لم يكن جزاء جريمة جنائية ، بل تقرر لمن أفسد الحياة السياسية في البلاد وقتاً ما ممن تولوا مناصب معينة حددتها المادة المقضي بعدم دستوريتها ، و عيب هذا الحرمان كونه أبدياً، و ليس في الحرمان ذاته ، فالحرمان جائز ولكن شريطة ألا يكون مؤبداً ، و ألا يشكل عقوبة تسري بأثر رجعي .
و لذلك حين نص القانون سالف الذكر في المادة الخامسة منه على ذلك الحرمان لمن أدين في الجناية رقم 1 لسنة 1971 مكتب المدعي العام الخاصة بمن شكلوا مراكز قوى بعد ثورة 23 يوليو 1952 ، و وصل الأمر إلى المحكمة الدستورية العليا ، قضت المحكمة بعدم دستورية ذلك الحرمان ، دون أن تستند إلى إخلاله بحقوق الترشيح الدستورية ، بل لأن ذلك الحرمان في تلك الصورة ، و لكونه خاص بمن ارتكب جريمة جنائية و أدين فيها ، يعتبر عقوبة جنائية ، و لا يجوز بالتالي أن تسري بأثر رجعي ، باعتبار تلك الجريمة وقعت بتاريخ سابق على صدور القانون المذكور فقد قضت المحكمة الدستورية العليا بأن :
" و حيث إن المادة 66 من الدستور تنص في فقرتها الثانية على أنه " لا جريمة و لا عقوبة إلا بناء على قانون ، و لا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي ، و لا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون " ، كما تنص المادة 187 من الدستور على أنه " لا تسري أحكام القوانين إلا على مايقع من تاريخ العمل بها ، و لا يترتب عليها أثر فيما وقع قبلها ، و مع ذلك يجوز في غير المواد الجنائية النص في القانون على خلاف ذلك بموافقة أغلبية أعضاء مجلس الشعب " ، و قد رددت هاتان المادتان مبدأ أساسياً من مبادئ الدساتيرالحديثة يقيد الشارع ، فلا يملك أن يصدر تشريعاً عقابياً بأثر رجعي عن أفعال وقعت قبل نفاذه و إلا كان هذا التشريع مخالفاً للدستور .
حيث إن ما نصت عليه المادة الخامسة من القانون رقم 33 لسنة 1978 في البند (أ) منها من حظر الانتماء إلى الأحزاب السياسية أو مباشرة الحقوق أو الأنشطة السياسية لكل من حُكم بإدانته في الجناية رقم 1 لسنة 1971 مكتب المدعي العام الخاصة بمن شكلوا مراكز قوى بعد ثورة 23 يوليو 1952 ينطوي على عقوبة جنائية قررها القانون المشارإليه لتلحق حتماً بالمحكوم بإدانتهم في تلك الجناية تحقيقاً لما تغياه المشرع من هذا القانون و أفصح عنه في مذكرته الإيضاحية و هو استبعاد مراكز القوى التي أدانتها محكمة الثورة من ممارسة أي نشاط سياسي .
لما كان ذلك ، و كان الثابت من صورة الحكم في الجناية رقم 1 لسنة 1971 مكتب المدعي العام المرفقة بالأوراق أن الأفعال التي حكم بإدانة المتهمين فيها وقعت خلال سنة 1971 قبل صدور القانون رقم 33 لسنة 1978 بشأن حماية الجبهة الداخلية و السلام الاجتماعي الذي عمل به من تاريخ نشره في 3 يونية سنة 1978 ، و من ثم فإن العقوبة الجنائية التي تضمنتها المادة الخامسة من القانون المشار إليه في البند (أ) منها ، تكون قد فرضت عن فعل سابق على نفاذ القانون الذي قررها ، بالمخالفة للمادتين 66 و 187 من الدستور ، مما يتعين معه الحكم بعدم دستورية هذا البند ".
( حكمها الصادر في الدعوى رقم 49 لسنة 6 ق " دستورية " – جلسة 4/4/1987 )
أما عن كون القانون المذكور قد صدر بخصوص شخص بعينه ، بالمخالفة للعمومية و التجريد اللتين تميزان أي قانون يصدر ، فاعتقد أن ذلك ليس في محله ، فالقانون المذكور يسري على كل من توافرت فيه الصفات و الشروط التي وضعها ، بغض النظر عن شخص هذا الفرد ، و أما كون إصدار هذا القانون قد صدر بمناسبة ترشيح السيد / عمر سليمان نفسه لانتخابات الرئاسة ، فهذا إن صح يمثل الباعث على إصدار القانون ، فأي قانون لا يصدر إلا بمناسبة واقعة ما أو تجدد ظروف أو تغيرها ، تستدعي مواجهة ذلك عن طريق التشريع ، طالما كان الهدف من ذلك تحقيق مصلحة عامة أو دفع شر و ضرر و لو محتمل عن المجتمع ، فليس المرشح المذكور هو فقط من تتوافر فيه الصفات و الشروط الموجبة للحرمان الذي نص عليه القانون المذكور ، و لذا لا يوجد – عندي – شخصنة للقانون كما يقول البعض ، وعلى كل فالأمر يحتمل الرأي و الرأي الآخر ، إلى أن تفصل فيه المحكمة الدستورية العليا بحكم يقطع دابر الخلاف فيه .
أشرف سعد الدين المحامي بالإسكندرية
مدى دستورية حرمان بعض الفئات من الترشح لمجلسي الشعب و الشورى و الانتماء للأحزاب السياسية
تحت وطأة ضغط الرأي العام و استجابة لمطالب ثورة 25 ينايرالمجيدة أصدرالمجلس الأعلى للقوات المسلحة المرسوم بقانون رقم 131 لسنة 2011بتعديل بعض أحكام المرسوم بقانون رقم344 لسنة 1952 في شأن جريمة الغدر والمعدل بالمرسوم بقانون رقم 113 لسنة 1953 ، و قانون الغدر المذكورينص في مادته الأولى على أنه : " فى تطبيق احكام هذا القانون يعد مرتكبا لجريمة الغدر كل من كان موظفاً عاماً وزيراً أو غيره وكل من كان عضواً فى أحد مجلسى البرلمان أو أحد المجالس البلدية أو القروية أو مجالس المديريات وعلى العموم كل شخص كان مكلفاً بخدمة عامة أو له صفة نيابية عامة وارتكب بعد أول سبتمبر سنة 1939 فعلا من الأفعال الآتية : أ- عمل من شأنه افساد الحكم أو الحياة السياسية....." ، كما نصت المادة الثانية منه المستبدلة بموجب المرسوم بقانون المشارإليه سلفاً على أنه : " مع عدم الإخلال بالعقوبات الجنائية أو التاديبية يجازى على الغدر بالجزاءات الآتية أو بأحدها........
ب- سقوط العضوية فى مجلسى الشعب أو الشورى أو المجالس الشعبية المحلية.
ج- الحرمان من حق الانتخاب أو الترشيح لأى مجلس من المجالس المنصوص عليها فى الفقرة( ب) من هذه المادة لمدة خمس سنوات من تاريخ الحكم.
هـ- الحرمان من الانتماء لأى حزب سياسي لمدة 5 سنوات من تاريخ الحكم..... ".
و قد ثارالخلاف في شأن مدى دستورية هذا الحرمان من ممارسة حقوق الترشيح و الانتماء للأحزاب السياسية ، سواء كان المقصود من الحرمان قيادات الحزب الوطني الديمقراطي و الذي سبق حله بموجب حكم المحكمة الإدارية العليا ، أم غيرهم ؟
(1) الأصول العامة التي تحكم حق الترشح و الحقوق السياسية :
قضت المحكمة الدستورية العليا في تبيان قيمة و أهمية حق الترشح بأن :
" و حيث أن الدستورنص في المادة 62 منه – التي وردت أيضاً في الباب الخاص بالحريات و الحقوق العامة - على أن ( للمواطن حق الانتخاب و الترشيح و إبداء الرأي في الاستفتاء وفقاً لأحكام القانون ، و مساهمته في الحياة العامة واجب وطني ) ، مما مفاده أن الحقوق السياسية المنصوص عليها في هذه المادة – و من بينها حق الترشيح الذي عنى الدستوربالنص عليه صراحة مع حقي الانتخاب و ابداء الرأي في الاستفتاء – اعتبرها الدستورمن الحقوق العامة التي حرص على كفالتها و تمكين المواطنين من ممارستها لضمان اسهامهم في اختيارقياداتهم و ممثليهم في إدارة دفة الحكم و رعاية مصلحة الجماعة ، و على أساس أن حقي الانتخاب و الترشيح خاصة هما حقان متكاملان لاتقوم الحياة النيابية بدون أيهما و لا تتحقق للسيادة الشعبية أبعادها الكاملة إذاما هما أفرغا من المضمون الذي يكفل ممارستها ممارسة جدية و فعالة ، و من ثم كان هذان الحقان لازمين لزوماً حتمياً لإعمال الديمقراطية في محتواها المقرر دستورياً و لضمان أن تكون المجالس النيابية كاشفة في حقيقتها عن الإرادة الشعبية و معبرة تعبيراً صادقاً عنها .
و لذلك لم يقف الدستورعند مجرد ضمان حق كل مواطن في ممارسته تلك الحقوق السياسية ، و إنما جاوز ذلك إلى اعتبارمساهمته في الحياة العامة عن طريق ممارسته لها واجباً وطنياً يتعين القيام به في أكثرمجالات الحياة أهمية لاتصالها بالسيادة الشعبية التي تعتبرقواماً لكل تنظيم يرتكز على إرادة هيئة الناخبين ".
( حكمها في الدعوى رقم 37 لسنة 9 ق " دستورية " – جلسة 19/5/1990)
و حق الترشيح فقاً لهذه المبادئ الدستورية ركيزة من ركائظ النظام الديمقراطي ، و يتعلق بعموم المواطنين يمارسونه على قدم المساواة فيما بينهم متى توافرت فيهم شروطه المقررة ، و يتقيد المشرع حال تنظيمه له بتلك القواعد الدستورية بحيث لا يجوز له أن يتخذ من هذا التنظيم ستاراً للانتقاص أو النيل منه .
فقد قضت المحكمة الدستورية في ذلك بأن :
" و لئن كانت المادة 62 من الدستورقد أجازت للمشرع العادي تنظيم الحقوق السياسية الثلاثة بما نصت عليه من أن ممارسة هذه الحقوق تكون " وفقاً لأحكام القانون " ، فإنه يتعين عليه أن يراعي في القواعد التي يتولى وضعها تنظيماً لتلك الحقوق ألا تؤدي إلى مصادرتها أو الانتقاص منها و ألا تنطوي على التمييز المحظوردستورياً أو تتعارض مع مبدأ تكافؤ الفرص الذي كفلته الدولة لجميع المواطنين ممن تتماثل مراكزهم القانونية و بوجه عام ألا يتعارض التنظيم التشريعي لتلك الحقوق مع أي نص في الدستور بحيث يأتي التنظيم مطابقاً للدستورفي عموم قواعده و أحكامه ...... حيث كفل – الدستور- للمواطنين حقي الانتخاب و الترشيح و جعلهم سواء في ممارسة هذين الحقين و لم يجز التمييزبينهم في أسس مباشرتهما و لاتقريرأفضلية لبعض المواطنين على بعض في أي شأن يتلعق بهما ، و إنما أطلق هذين الحقين للمواطنين – الذين تتوافرفيهم الشروط المقررة لذلك – على اختلاف انتماءآتهم و آرائهم السياسية لضمان أن يظل العمل الوطني جماعياً لا امتياز فيه لبعض المواطنين على بعض .... ".(حكمها سالف الذكر).
و يلاحظ أن المبادئ سالفة الذكرو إن كانت صادرة في ظل العمل بأحكام الدستورالمعطل الصادرسنة 1971 ، إلا أنها لا زالت سارية إلى الآن حتى بعد تعطيل العمل بالدستورالمذكور، لكون ذات مضمون النص المنظم لحقي الانتخاب و الترشيح في ذلك الدستور تبناه الإعلان الدستوري الساري حالياً و الصادربتاريخ 30/3/2011 .
كما أنه ، ابتناءً على ما تقدم ، يجب تفسيرالنصوص المتعلقة بحق الترشيح تفسيراً ضيقاً ، لا يهدرأصول هذا الحق و جوهره ، فقد قضت المحكمة الدستورية العليا بأن :
" إن حقي الترشيح و الانتخاب من الحقوق الأساسية التي كفلها الدستور، وهما باعتبارهما كذلك ، لا يجوز المساس بهما ، أو تفسير النصوص التشريعية التي تنظمهما على نحو يؤدي إلى الانتقاص من محتواهما ، بل يتعين تفسيرها تفسيراً ضيقاً يؤدي إلى عدم مصادرة حق الناخبين في اختيارالمرشح الذي يرون أنه أهلاً لتمثيلهم في مجلس الشعب ، و فتح باب الترشيح أمام كل من يرغب في الترشيح لعضوية ذلك المجلس ".
( حكمها الصادرفي الطلب رقم واحد لسنة 26 ق " تفسير" – جلسة 7/3/2004 )
هذا ، و إذا كان لا يجوز التمييز بين المواطنين في مجال ممارسة حق الترشيح ، إلا أنه يجوز وضع شروط و ضوابط لممارسته و قبول المرشحين ، و ذلك في إطار أسس موضوعية تتفق و طبيعة هذا الحق ، و الدور المنوط بالنائب البرلماني بصفته ممثلاً للأمة في خدمة الوطن ، و مقتضيات الوطنية و المؤهلات و الثقة المتطلبة في الحياة النيابية باعتبارها نيابة عن الشعب ، فقد نص الإعلان الدستوري الصادربتاريخ 30/3/2011 في المادة رقم 38 منه على أن " ينظم القانون حق الترشيح لمجلسي الشعب و الشورى وفقاً لأي نظام انتخابي يحدده ...." ، كما تنص المادة 39 من ذات الإعلان على أن : " يحدد القانون الشروط الواجب توافرها في أعضاء مجلسي الشعب و الشورى ، و يبين أحكام الانتخاب و الاستفتاء" ، و قد قضت المحكمة الدستورية العليا في ظل العمل بالمادتين 62 و 88 من الدستورالمعطل ، و كانتا تشتملان على ذات مضمون المادتين آنفتي الذكر، بأن :
" شروط الترشيح لمجلس الشعب – و هو مجلس ذو صفة تمثيلية – تُعد في ذات الوقت شروطاً لشغل العضوية فيه ، و سلطة المشرع في تحديد هذه الشروط مرجعها نص المادة 88 من الدستور، و هي شروط لا يجوز تقريرها بعيداً عن متطلبات ممارستها ، بأن يكون فرضها لازماً لأداء المهام التي تقوم عليها ، بما مؤداه أن شروط الترشيح لعضوية مجلس الشعب و التي تضمنها نص المادة الخامسة من قانون مجلس الشعب ترتبط بطبيعة المهام التمثيلية التي يقوم بها المرشح حال انتخابه عضواً بهذا المجلس باعتباران الترشيح يمثل المرحلة الأولى من مراحل اكتمال العضوية إذا حاز المرشح على أغلبية أصوات الناخبين ، مما يتعين معه أن يتوافرفي المرشح ابتداءً كافة الشروط اللازم توافرها في عضو مجلس الشعب ...... من حق المشرع تحديد شروط الترشيح لتلك العضوية ، و بدهي أن تحديد شروط العضوية لا يعتبرتقييداً لحق الترشيح لأن التنظيم التشريعي لحق من الحقوق لا يعتبرتقييداً له ما دام ما تقررمن ضوابط و شروط لممارسة هذا الحق يتفق و طبيعته و يقوم على أسس موضوعية تبرره عقلاً و منطقاً ". ( حكمها الصادرفي الدعوى رقم 201 لسنة 27 ق " دستورية " – جلسة 3/2/2008 ).
(2)الرأي القانوني بشأن منع بعض الفئات من الترشح و الانتماء للأحزاب السياسية :
لما كان الأصل المقرردستورياً – و على نحو ما سبق بيانه - أن حق الترشيح و الانتماء للأحزاب السياسية من الحقوق الدستورية ، و من ركائز النظام الديمقراطي ، إلا أن تلك الحقوق ليست عصية على الخضوع لأطر و قواعد تنتظمها ، لبيان حدودها و كيفية ممارستها ، و ذلك بما يتفق و طبيعة المهام التي تقتضيها العضوية البرلمانية ، التي يمثل فيها النائب جموع الناخبين ، معبراً عن آمالهم و طموحاتهم في تحقيق التقدم في مختلف مناحي حياتهم ، سواء منها السياسي و الاجتماعي و الاقتصادي للبلاد ، ساعياً إلى تحقيق الأهداف التي تعبربتلك الآمال و الطموحات إلى واقع تنفيذها ، من خلال رؤية و خلفية وطنية تسيطرعلى فؤداه ، و تحيط بأفكاره ، و تقارنه في الغداة و العشي ، و ذلك كله غايات كبرى تتعلق بصالح الوطن و المواطنين ، و يتلاقى عندها كافة أعضاء المجلس أياً كانت انتماءاتهم الحزبية ، بل هي – بلا مراء - مجمع القوى السياسية التي تُعنى أساساً بالعمل بالوسائل الديمقراطية للحصول على ثقة الناخبين بقصد المشاركة في مسئوليات الحكم لتحقيق برامجها التي تستهدف الصالح العام ، فإذا ما ثبت يقيناً أن شخصاً ما قد ساهم في إفساد الحياة السياسية أو شئون الحكم أو استغل أي من الشئون العامة التي أولاها إليه الشعب ، صغرت أو كبرت تلك المهام ، استغلالاً غير مشروع ، فإنه لا ريب يكون قد خان الثقة التي أولاها إياه جموع الناخبين ، و صار مفتقداً لمفهوم الوطنية ، و لا جرم أن تلك الخيانة تعظم و تضحى طامة كبرى حين يكون ذلك الخائن و المفتقد لتلك الثقة يرغب في تمثيل المواطنين في مجلس الشعب الممثل للأمة .
وعلى ذلك يكون الحرمان المؤقت من الترشح للانتخابات و الانتماء للأحزاب السياسية لمن توافرت في حقه صور إفساد الحكم و الحياة السياسية أو استغل منصبه الوظيفي العام في الصورالتي حددها قانون الغدر، قد جاء مرتكناً إلى أسس موضوعية قد استوت على سوقها بلا اعوجاج ، أصلها ثابت و فرعها من النصوص و المبادئ الدستورية القانونية صادع ، بعد أن درس النص سند الحرمان عن بصيرة حقيقة و جوهرالحقوق محل الحرمان ، و أحاط بمضامين و ضوابط ممارستها الشرعية ، فكان بصره بها حديدا ، مما يجعله حصيناً من قالة عدم الدستورية جديراً بالتأييد.
و قد أعملت ذلك المحكمة الدستورية العليا بمناسبة الطعن بعدم دستورية البند (5) من المادة الخامسة من القانون رقم 38 لسنة 1972 في شأن مجلس الشعب ، و ذلك فيما يترتب على مقتضاه من الحرمان الأبدي المطلق من الحق في الترشيح لعضوية مجلس الشعب لكل من لم يؤد الخدمة العسكرية الإلزامية أو أعفي من أدائها طبقاً للقانون و عوقب عن تخلفه عن أدائها حتى تجاوزسن التجنيد بعقوبة الغرامة أو كان رد اعتباره (قضاءً أو بقوة القانون )، و تنص المادة المذكورة بند رقم (5) على أنه : " مع عدم الإخلال بالأحكام المقررة في قانون مباشرة الحقوق الياسية ، يشترط فيمن يرشح لعضوية مجلس الشعب : 1- ......... 2- ........ 3- ........ 4-.......................
5- أن يكون قد أدى الخدمة العسكرية الإلزامية أوأعفي من أدائها طبقاً للقانون " .
و قد قضت المحكمة الدستورية بدستورية البند المذكور، موضحة الارتباط بين حق الترشيح و شروطه و بين المهام التمثيلية الواقعة على كاهل المرشح حال انتخابه عضواً بالمجلس ، و جواز وضع شروط للترشيح تتفق مع طبيعة ذلك الحق و مهام عضو المجلس النيابية .
فقد قضت المحكمة الدستورية العليا بأن :
" شروط الترشيح لعضوية مجلس الشعب و التي تضمنها نص المادة الخامسة من قانون مجلس الشعب ترتبط بطبيعة المهام التمثيلية التي يقوم بها المرشح حال انتخابه عضواً بهذا المجلس...... و إذ كانت عضوية مجلس الشعب التي يكتسبها أحد المرشحين المتنافسين حال حصوله على ثقة الناخبين ، مناطها النيابة عن جماعة الناخبين للاضطلاع بالواجبات الوطنية التي يفرضها الدستورو قانون مجلس الشعب ، و من ثم فليس بمستغرب أن اشترط النص المطعون عليه وجوب أداء المرشح لعضوية مجلس الشعب الخدمة العسكرية الإلزامية ، تلك الخدمة التي تعد من أجل و أقدس الواجبات الوطنية ، أو الإعفاء من أدائها قانوناً للاعتبارات التي قدرها المشرع ، لما في ذلك من دلالة على أن هذا المرشح قادرعلى أداء ما يناط به من مهام تستلزمها الواجبات الوطنية العامة .......... و حيث إن ما اشترطه النص المطعون فيه من أداء المرشح لعضوية مجلس الشعب الخدمة العسكرية الإلزامية أو الإعفاء منها قانوناً ، يقوم على أساس أن الدفاع عن الوطن و أراضيه واجي مقدس ، و أن أداء الخدمة العسكرية إلزامي على كل مكلف بها ما لم يقم به سبب من الأسباب التي حددها القانون لإعفائه من أدائها ، و لذا كان من المنطقي الاعتداد بشرط أداء الخدمة العسكرية كأحد شروط الترشيح لعضوية مجلس الشعب ، و ذلك على أساس أن من تحمل ضريبة الدم مقدِّماً روحه فداءً للوطن لهو الأقدرو الأصلح على تحمل مهام العضوية و ما تفرضه عليه من أعباء ذات الصلة بالشأن العام ، و من ثم فقد توافرلهذا الشرط الأسس الموضوعية التي تبرره دستورياً لارتباطه بأهدافه المتمثلة في أن تتولى مهام الشأن العام أفضل عناصر المجتمع التي لم تتردد في أن تلبي نداء الوطن و أداء ما افترضه عليها من واجب مقدس ". ( حكمها الصادرفي الدعوى رقم 201 لسنة 27 ق " دستورية " – جلسة 3/2/2008 ).
كما أنه قد سبق عرض مثل ذلك النص على المحكمة الدستورية العليا ، في ظروف مماثلة لما نحيا فيه الآن ، فقد صدرالقانون رقم 33 لسنة 1978 بشأن حماية الجبهة الداخلية و السلام الاجتماعي ، ناصاً على عدم جواز الانتماء إلى الأحزاب السياسية أو مباشرة الحقوق أو الأنشطة السياسية لكل من تسبب في إفساد الحياة السياسية قبل ثورة يوليو1952 ، ممن تولوا بعض المناصب قبل ثورة 23 يوليو 1952 ، و قد قضت المحكمة بعدم دستورية ذلك النص ، و لكنها لم ترتكن في قضائها إلى مجرد حرمان النص لهؤلاء من الانتماء إلى الأحزاب السياسية و من مباشرة الحقوق و الأنشطة السياسية ، و لم تعب عليه كونه يسري بأثر رجعي ، و لا كونه يسري عليهم لمجرد توليهم تلك المناصب دون ثبوت فسادهم بحكم قضائي ، وإنما تساند قضائها في ذلك إلى كونه حرماناً مطلقاً و مؤبداً ، و بمفهوم المخالفة لو كان الحرمان مؤقتاً – على نحو ما نص عليه قانون الغدر- و لم يشكل عقوبة جنائية تسري بأثر رجعي ، لكان جائزاً من الوجهة الدستورية ، و هذا ما يؤكده حكم المحكمة ذاتها في شأن حرمان من لم يؤد الخدمة العسكرية أولم يعف منها وفقاً للقانون ، من الترشيح لانتخابات مجلس الشعب ، على النحو السابق ذكره ، بل إن الحكم الأخيريشيرإلى تأييد الحرمان المطلق و المؤبد ، لأن عدم أداء الخدمة العسكرية أوعدم الإعفاء منها وفقاً للقانون أمر ملازم للشخص لا فكاك منه ، ولا يستطيع تغييره ، و بالتالي يظل محروماً من الترشيح ما بقي حياً ، و مع ذلك أيدت المحكمة الدستورية ذلك الحرمان الأبدي نظراً لاتفاقه مع طبيعة و مقتضيات و مقومات حق الترشيح و النيابة البرلمانية ، و لا شك أن إفساد شئون الحكم أو الحياة السياسية أو استغلال النفوذ إضراراً بالمال العام أمورتتلاقى مع عدم أداء الخدمة العسكرية أو عدم الإعفاء منها وفقاً للقانون في كونها إخلالاً بجوهرو متطلبات الوطنية ، و خرقاً للسيادة الشعبية بعد أن أراد أولئك أن يعلوا عليها علواً كبيراً ، بل إن من لم يؤد الخدمة العسكرية اتخذ موقفاً سلبياً نحو وطنه بالامتناع عن أدائها ، أما أولئك فقد عاثوا في البلاد فساداً ، و عتوا عتواً كبيراً ، وجعلوا من الوطنية و التضامن الاجتماعي بين المواطنين هباءً منثوراً ، سلبوا من الشعب آماله قبل أن يسرقوا أمواله ، ولم يتركوا صغيرة و لا كبيرة إلا سعوا سعياً حثيثاً نحو استلابها ، و على ذلك ، فإن تلك الشرذمة بعد كسر شوكتها و خوار قوتها و انهزام أعوانها ، و المتصفة بخراب الذمة ، و الغير صالحة للتقرب إلى الشرفاء زلفى ، و الذبن هم بحق دُعاة فسق قد اقتسموا الغنائم ، أفعالهم مَهالك و أقوالهم تضليل ، ضُيِّع الفقيرُ فيهم واليتيمُ ابنُ السبيل، حقيق بها هذا الحرمان المؤقت .
فقد قضت المحكمة الدستورية العليا بأن :
" و حيث إن المادة الرابعة من القانون رقم 33 لسنة 1978 بشأن حماية الجبهة الداخلية و السلام الاجتماعي – المطعون عليها – تنص على أنه :
" لا يجوزالانتماء إلى الأحزاب السياسية أومباشرة الحقوق أو الأنشطة السياسية لكل من تسبب في إفساد الحياة السياسية قبل ثورة يوليوسنة 1952 ، سواء كان ذلك بالاشتراك في تقلد المناصب الوزارية منتمياً إلى الأحزاب السياسية التي تولت الحكم قبل 23 يوليو1952 ، أو بالاشتراك في قيادة الأحزاب و إدارتها ، و ذلك كله فيما عدا الحزب الوطني و الحزب الاشتراكي (حزب مصرالفتاة).
و يعتبراشتراكاً في قيادة الحزب و إدارته ، تولي مناصب الرئيس أو نواب الرئيس أو وكلائه أو السكرتيرالعام أو السكرتيرالعام المساعد أو أمين الصندوق أو عضوية الهيئة العليا للحزب .
و يخطرالمدعي العام الاشتراكي مجلس الشعب ، و ذوي الشأن خلال خمسة عشريوماً من تاريخ العمل بهذا القانون ، ببيان أسماء من ينطبق عليهم حكم الفقرة الأولى ، و لصاحب الشأن خلال عشرة أيام من تاريخ إبلاغه بذلك ، أن يتظلم إلى مجلس الشعب من إدراج اسمه في هذا البيان إذا لم يكن قد تقلد أحد المناصب المشارإليها بالفقرة الأولى .
و يبت المجلس في النظام بأغليبة أعضائه مع مراعاة حكم المادة 96 من الدستور".
و حيث إنه مما ينعاه قرارالإحالة على هذه المادة أنها إذ قضت بحرمان فئة من المواطنين من حق الانتماء إلى الأحزاب السياسية ، و من مباشرة الحقوق و الأنشطة السياسية ، تكون قد انطوت على مخالفة لحكم كل من المادتين 5 ، 62 من الدستور.
وحيث إن المادة 5 من الدستور- المعدلة بتاريخ 22 مايوسنة 1980 – تنص على أن ( يقوم النظام السياسي في جمهورية مصر العربية على أساس تعدد الأحزاب ، و ذلك في إطارالمقومات و المبادئ الأساسية للمجتمع المصري المنصوص عليها في الدستور، و ينظم القانون الأحزاب السياسية ) ، و قد تحقق بهذا التعديل تغييرجذري في إحدى ركائز النظام السياسي في الدولة ، ذلك أن هذه المادة كانت تنص قبل تعديلها على أن ( الاتحاد الاشتراكي العربي هو التنظيم السياسي الذي يمثل بتنظيماته القائمة على أٍساس مبدأ الديمقراطية تحالف قوى الشعب العاملة من الفلاحين و العمال و الجنود و المثقفين و الرأسمالية الوطنية ، و هو أداة هذا التحالف في تعميق قيم الديمقراطية و الاشتراكية ، و في متابعة العمل الوطني في مختلف مجالاته و دفع هذا العمل إلى أهدافه المرسومة ) ، وبموجب هذا التعديل يكون الدستورقد استعاض عن التنظيم الشعبي الوحيد ممثلاً في الاتحاد الاشتراكي العربي بنظام تعدد الأحزاب ، و ذلك تعميقاً للنظام الديمقراطي الذي أقام عليه الدستورالبنيان السياسي للدولة بما نص عليه في مادته الأولى من أن ( جمهورية مصر العربية دولة نظامها اشتراكي ديمقراطي يقوم على تحالف قوى الشعب العاملة ... ) ، و بما ردده في كثيرمن مواده من أحكام ومبادئ تحدد مفهوم الديمقراطية التي أرساها ، و تشكل معالم المجتمع الذي ينشده ، سواء ما اتصل منها بتوكيد السيادة الشعبية – و هي جوهر الديمقراطية – أو بكفالة الحقوق و الحريات العامة – و هي هدفها – أو بالاشتراك في ممارسة السلطة – و هي وسيلتها – ، كما جاء ذلك التعديل انطلاقاً من حقيقة أن الديمقراطية تقوم أصلاً على الحرية ، و أنها تتطلب – لضمان إنفاذ محتواها – تعدداً حزبياً ، بل هي تحتم هذا التعدد كضرورة لازمة لتكوين لإرادة الشعبية و تحديد السياسة القومية تحديداً حراً واعياً .
لما كان ذلك ، و كان الدستورإذ نص في مادته الخامسة على تعدد الأحزاب كأساس للنظام السياسي في جمهورية مصر العربية ، و جعل هذا التعدد غيرمقيد إلا بالتزام الأحزاب جميعها – سواء عند تكوينها أو في مجال ممارستها لعملها ، - بالمقومات و المبادئ الأساسية للمجتمع المصري المنصوص عليها في الدستور، و هو ما لا يعني أكثرمن تقيد الأحزاب كتنظيمات سياسية بالعمل في ظل الدستور- بمراعاة الأحكام المنصوص عليها فيه ، فإن الدستورإذ تطلب تعدد الأحزاب ليقوم على أساسه النظام السياسي في الدولة ، يكون قد كفل بالضرورة حرية تكوينهافي الإطارالذي رسمه لها ، بما يستتبع حتماً ضمان حق الانضمام إليها ، ذلك أنه من خلال ممارسة هذا الحق ، و به أساساً ، يتشكل البنيان الطبيعي للحزب وتتأكد شرعية وجوده في واقع الحياة السياسية ، و بالتالي فإن الحرمان منه يشكل اعتداء على حق كفله الدستور.
و حيث إن المادة 62 من الدستور، التي وردت في الباب الثالث منه الخاص بالحريات و الحقوق و الواجبات العامة ، التي تنص على أن ( للمواطن حق الانتخاب و الترشيح وإبداء الرأي في الاستفتاء وفقاً لأحكام القانون ، و مساهمته في الحياة العامة واجب وطني ) ، ومؤدى ذلك أن الحقوق السياسية المنصوص عليها في هذه المادة ، اعتبرها الدستورمن الحقوق العامة التي حرص على كفالتها تمكين المواطنين من ممارستها ، لضمان إسهامهم في اختيارقياداتهم و ممثليهم في إدارة دفة الحكم و رعاية مصالح الجماعة ، ولم يقف الدستورعند مجرد ضمان حق كل مواطن في ممارسة تلك الحقوق ، و إنما جاوز ذلك إلى اعتبارمساهمته في الحياة العامة عن طريق ممارسته لها واجباً وطنياً يتعين عليه القيام به في أكثرمجالات الحياة أهمية لاتصالها بالسيادة الشعبية ، و من ثم فإن إهدار تلك الحقوق يعد بدوره مخالفة لأحكام الدستورممثلة في المادة 62 منه .
و حيث إنه لما كان مقتضى نص الفقرة الأولى من المادة الرابعة من القانون رقم 33 لسنة 1978 بشأن حماية الجبهة الداخلية و السلام الاجتماعي ، حسبما يبين من عبارتها المطلقة ، حرمان فئة من المواطنين من حقهم في الانتماء إلى الأحزاب السياسية ، و من مباشرة الحقوق والأنشطة السياسية كافة ، حرماناً مطلقاً و مؤبداً ، بما ينطوي على إهدارلأصل تلك الحقوق ، و يشكل بالتالي اعتداء عليها بالمخالفة لحكم كل من المادتين 5 ، 62 من الدستور.
و حيث إنه لا يقدح في هذا النظر، ما ذهبت إليه الحكومة من أن النص المطعون فيه يسانده ما قدره المشرع من استبعاد من أفسدوا الحياة السياسية قبل الثورة من ممارسة أي نشاط سياسي وذلك في إطارالسلطة التقديرية المخولة له إعمالاً للتفويض الدستوري الذي تضمنته المادتان 5 ، 62 من الدستورعندما أحالتا تنظيم الأحزاب السياسية و مباشرة الحقوق السياسية إلى القانون ، دون وضع قيود محددة لهذا التنظيم ، ذلك أنه و إن كان الأصل في سلطة التشريع عند تنظيم الحقوق أنها سلطة تقديرية ، و أن الرقابة على دستورية التشريعات لا تمتد إلى ملاءمة إصدارها ، إلا أن هذه لايعني إطلاق هذه السلطة في سن القوانين دون التقيد بالحدود و الضوابط التي نص عليها الدستور، و من ثم فإن تنظيم المشرع لحق المواطنين في الانتماء إلى الأحزاب السياسية و مباشرتهم لحقوقهم السياسية ينبغي ألا يعصف بهذه الحقوق أويؤثرعلى بقائها على نحو ما سلكه النص المطعون فيه ، إذ تعرض لحقوق عامة كفلها الدستور، و حرم فئة من المواطنين منها حرماناً مطلقاً و مؤبداً على ما سلف بيانه ، مجاوزاً بذلك دائرة تنظيم تلك الحقوق ، الأمرالذي يحتم إخضاعه لما تتولاه هذه المحكمة من رقابة دستورية .
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة بعدم دستورية المادة الرابعة من القانون رقم 33 لسنة 1978 بشأن حماية الجبهة الداخلية و السلام الاجتماعي ".
( حكمها الصادرفي الدعوى رقم 56 لسنة 6ق " دستورية " – جلسة 21/6/1986 )
و يلاحظ على حكم المحكمة الدستورية العليا آنف الذكر ، أنه لم يتعرض لكون الحرمان الوارد بالمادة الرابعة المذكورة يسري على بعض الفئات لمجرد كونها تولت مناصب معينة إبان عهد الفساد السياسي السابق على ثورة 23 يوليو 1952، و هذا إشارة منها بجواز ذلك ، و أنه لا يشترط للحرمان ثبوت الفساد بحكم أو ارتكاب جريمة معينة .
ثانياً
قانون حرمان بعض رموز النظام السابق من مباشرة الحقوق السياسية :
أصدر مجلس الشعب قانوناً يحرم بمقتضاه بعض رموز النظام السابق – ممن عمل خلال العشر سنوات السابقة على تاريخ 11/2/2011 رئيساً للجمهورية أو نائباً له أو رئيساً للوزراء أو رئيساً للحزب الوطني الديمقراطي المنحل أو أميناً عاماً له أو كان عضواً بمكتبه السياسي أو أمانته العامة - من مباشرة الحقوق السياسية لمدة عشرسنوات اعتباراً من تاريخ 11/2/2011 ، و قد انتقد البعض هذا القانون نظراً لما يشوبه من عيب عدم الدستورية ، والعيب الأساسي الذي يُرمى به القانون هوكونه يسري بأثر رجعي ، و هو ما لا يجوز عند القائلين بعدم دستوريته ، على اعتبار أن الحرمان الذي انطوى عليه يمثل عقوبة ، و هي لا يجوز أن تسري بأثر رجعي ، الأمر الذي يقتضي كمسألة أولية بحث ما إذا كان ذلك الحرمان يشكل عقوبة أم لا ؟
تنص المادة (19) من الإعلان الدستوري الصادر بتاريخ 30/3/2011 و الذي يحكم الحياة الدستورية الآن ، على أنه : " العقوبة شخصية ، و لا جريمة و لا عقوبة إلا بناءً على قانون ، و لا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي ، و لا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون " ، و هي بذاتها التي كانت تنص عليها المادة 66 من الدستور المعطل ، كما كانت المادة (187 ) من الدستور المعطل تنص على أنه " لا تسري أحكام القوانين إلا على ما يقع من تاريخ العمل بها ، و لا يترتب عليها أثر فيما وقع قبلها ، و مع ذلك يجوز في غير المواد الجنائية النص في القانون على خلاف ذلك بموافقة اغلبية أعضاء مجلس الشعب ".
و قد رددت هاتان المادتان – على ما جري به قضاء المحكمة الدستورية العليا في ظل العمل بالدستور المعطل – مبدأ أساسياً من مبادئ الدساتير الحديثة يقيد الشارع ، فلا يملك أن يصدر تشريعاً عقابياً بأثر رجعي عن أفعال وقعت قبل نفاذه و إلا كان هذا التشريع مخالفاً للدستور ( حكمها الصادرفي الدعوى رقم 49 لسنة 6 قضائية " دستورية " – جلسة 4/4/1987 ) .
و المستفاد من ذلك أن المادتين المذكورتين تتحدثان عن العقوبة الجنائية ، و العقوبة الجنائية تتحدد بنص قانوني ، إعمالاً لنص المادتين ( 66 ، 19 ) سالفتي الذكر، فلا عقوبة إلا بناء على قانون ، و قد حدد قانون العقوبات في نصوصه العقوبات المقررة للجرائم بأنواعها الثلاثة ( جناية – جنحة – مخالفة ) ، و قسّم العقوبات إلى أصلية و تبعية ، فالأصلية ( الإعدام – السجن – الحبس – الغرامة ) ، والتبعية ( العزل من الوظائف الأميرية – وضع المحكوم عليه تحت مراقبة البوليس – المصادرة – الحرمان من القبول في أي خدمة في الحكومة مباشرة أو بصفة متعهد أو ملتزم أياً كانت أهمية الخدمة - الحرمان من التحلي برتبة أو نيشان – الحرمان من الشهادة أمام المحاكم مدة العقوبة إلا على سبيل الاستدلال – الحرمان من إدارة أشغاله الخاصة بأمواله و أملاكه مدة اعتقاله – الحرمان من البقاء من يوم الحكم عليه نهائياً عضواً في أحد المجالس الحسبية أو مجالس المديريات أو مجالس البلدية أو المحلية أو أي لجنة عمومية – الحرمان من صلاحية العضوية في إحدى الهيئات المبينة بالفقرة الخامسة أو أن يكون خبيراً أو شاهداً في العقود إذا حكم عليه نهائياً بعقوبة السجن المشدد ).
إذن لابد لكي يوصف جزاء ما بأنه عقوبة أن يرد به نص قانوني بذلك ، سواء في قانون العقوبات أو غيره ، و سواء بوصفها عقوبة أصلية أو تبعية ، و الحرمان من مباشرة الحقوق السياسية ( فيما يتعلق بمجلسي الشعب و الشورى ) أو الانتماء للأحزاب السياسية لم ينص قانون العقوبات على كونه عقوبة ، لا أصلية و لا تبعية ، و إنما يمكن أن يشكل الحرمان المذكور عقوبة جنائية ، إذا كان مقرراً بنص قانوني كجزاء لمن ارتكب إحدى الجرائم الجنائية ، فهنا يكون عقوبة يجب أن تسري بأثر مباشر و ليس بأثر رجعي ، على نحو ما ينص عليه قانون مباشرة الحقوق السياسية رقم 73 لسنة 1956 في مادته الثانية و التي عددت من يُحرم من مباشرة الحقوق السياسية ، و القانون المذكور يسري بأثر مباشر وفقاً للمادة الأخيرة منه ، اما إذا كان الحرمان لا يرتبط تطبيقه بجريمة جنائية ، فإنه لا يعد حينئذ عقوبة ، و إنما من قبيل الضوابط و الحدود لمباشرة الحقوق السياسية ، اتساقاً مع مقتضيات مباشرة تلك الحقوق و تحقيقاً للصالح العام ، وهو ما نراه في القانون المعروض ، و الذي نص على حرمان بعض من تولى مناصب معينة من مباشرة الحقوق السياسية لمدة معينة .
و هذا ما طبقته المحكمة الدستورية العليا في حكمها المار ذكره ، حين قضت بعدم دستورية المادة الرابعة من قانون حماية الجبهة الداخلية ، فقد ارتكنت المحكمة في قضائها إلى كون ذلك الحرمان يهدر حقوقاً عامة في الدستور بصفة مطلقة أبدية ، و لم تشر المحكمة إلى أن ذلك الحرمان يشكل عقوبة جنائية ، و لوكان كذلك لاستندت إليه في قضائها بعدم الدستورية ، لأن الحرمان بوصفه عقوبة يسري حينذ على فترة سابقة على صدور القانون المذكور باعتبارأن ذلك القانون يسري بأثر رجعي ، و لأفصحت عنه كسبب آخر لعدم الدستورية ، باعتباره واجبها بل هو سبب يغنيها عن التعرض للسبب الآخر المتمثل في تأبيد الحرمان ، حسبما جرى به قضاؤها ، و هذا الموقف منها لأن الحرمان في تلك الواقعة – محل الحكم – لم يكن جزاء جريمة جنائية ، بل تقرر لمن أفسد الحياة السياسية في البلاد وقتاً ما ممن تولوا مناصب معينة حددتها المادة المقضي بعدم دستوريتها ، و عيب هذا الحرمان كونه أبدياً، و ليس في الحرمان ذاته ، فالحرمان جائز ولكن شريطة ألا يكون مؤبداً ، و ألا يشكل عقوبة تسري بأثر رجعي .
و لذلك حين نص القانون سالف الذكر في المادة الخامسة منه على ذلك الحرمان لمن أدين في الجناية رقم 1 لسنة 1971 مكتب المدعي العام الخاصة بمن شكلوا مراكز قوى بعد ثورة 23 يوليو 1952 ، و وصل الأمر إلى المحكمة الدستورية العليا ، قضت المحكمة بعدم دستورية ذلك الحرمان ، دون أن تستند إلى إخلاله بحقوق الترشيح الدستورية ، بل لأن ذلك الحرمان في تلك الصورة ، و لكونه خاص بمن ارتكب جريمة جنائية و أدين فيها ، يعتبر عقوبة جنائية ، و لا يجوز بالتالي أن تسري بأثر رجعي ، باعتبار تلك الجريمة وقعت بتاريخ سابق على صدور القانون المذكور فقد قضت المحكمة الدستورية العليا بأن :
" و حيث إن المادة 66 من الدستور تنص في فقرتها الثانية على أنه " لا جريمة و لا عقوبة إلا بناء على قانون ، و لا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي ، و لا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون " ، كما تنص المادة 187 من الدستور على أنه " لا تسري أحكام القوانين إلا على مايقع من تاريخ العمل بها ، و لا يترتب عليها أثر فيما وقع قبلها ، و مع ذلك يجوز في غير المواد الجنائية النص في القانون على خلاف ذلك بموافقة أغلبية أعضاء مجلس الشعب " ، و قد رددت هاتان المادتان مبدأ أساسياً من مبادئ الدساتيرالحديثة يقيد الشارع ، فلا يملك أن يصدر تشريعاً عقابياً بأثر رجعي عن أفعال وقعت قبل نفاذه و إلا كان هذا التشريع مخالفاً للدستور .
حيث إن ما نصت عليه المادة الخامسة من القانون رقم 33 لسنة 1978 في البند (أ) منها من حظر الانتماء إلى الأحزاب السياسية أو مباشرة الحقوق أو الأنشطة السياسية لكل من حُكم بإدانته في الجناية رقم 1 لسنة 1971 مكتب المدعي العام الخاصة بمن شكلوا مراكز قوى بعد ثورة 23 يوليو 1952 ينطوي على عقوبة جنائية قررها القانون المشارإليه لتلحق حتماً بالمحكوم بإدانتهم في تلك الجناية تحقيقاً لما تغياه المشرع من هذا القانون و أفصح عنه في مذكرته الإيضاحية و هو استبعاد مراكز القوى التي أدانتها محكمة الثورة من ممارسة أي نشاط سياسي .
لما كان ذلك ، و كان الثابت من صورة الحكم في الجناية رقم 1 لسنة 1971 مكتب المدعي العام المرفقة بالأوراق أن الأفعال التي حكم بإدانة المتهمين فيها وقعت خلال سنة 1971 قبل صدور القانون رقم 33 لسنة 1978 بشأن حماية الجبهة الداخلية و السلام الاجتماعي الذي عمل به من تاريخ نشره في 3 يونية سنة 1978 ، و من ثم فإن العقوبة الجنائية التي تضمنتها المادة الخامسة من القانون المشار إليه في البند (أ) منها ، تكون قد فرضت عن فعل سابق على نفاذ القانون الذي قررها ، بالمخالفة للمادتين 66 و 187 من الدستور ، مما يتعين معه الحكم بعدم دستورية هذا البند ".
( حكمها الصادر في الدعوى رقم 49 لسنة 6 ق " دستورية " – جلسة 4/4/1987 )
أما عن كون القانون المذكور قد صدر بخصوص شخص بعينه ، بالمخالفة للعمومية و التجريد اللتين تميزان أي قانون يصدر ، فاعتقد أن ذلك ليس في محله ، فالقانون المذكور يسري على كل من توافرت فيه الصفات و الشروط التي وضعها ، بغض النظر عن شخص هذا الفرد ، و أما كون إصدار هذا القانون قد صدر بمناسبة ترشيح السيد / عمر سليمان نفسه لانتخابات الرئاسة ، فهذا إن صح يمثل الباعث على إصدار القانون ، فأي قانون لا يصدر إلا بمناسبة واقعة ما أو تجدد ظروف أو تغيرها ، تستدعي مواجهة ذلك عن طريق التشريع ، طالما كان الهدف من ذلك تحقيق مصلحة عامة أو دفع شر و ضرر و لو محتمل عن المجتمع ، فليس المرشح المذكور هو فقط من تتوافر فيه الصفات و الشروط الموجبة للحرمان الذي نص عليه القانون المذكور ، و لذا لا يوجد – عندي – شخصنة للقانون كما يقول البعض ، وعلى كل فالأمر يحتمل الرأي و الرأي الآخر ، إلى أن تفصل فيه المحكمة الدستورية العليا بحكم يقطع دابر الخلاف فيه .
أشرف سعد الدين المحامي بالإسكندرية