من طرف رمضان الغندور الجمعة يوليو 24, 2009 6:08 am
ثانيا: طبيعة التحكيم الاختياري
يعتبر التحكيم الاختياري اتفاقا بين أطراف النزاع من جهة، وبينهم وبين المحكم من جهة أخرى. ففي المقام الأول، يجب ان يتفق المتخاصمون مع بعضهم على اللجوء إلى التحكيم مع تسمية المحكم. وبعد ذلك، يجب عليهم ان يعرضوا اتفاقهم على المحكم الذي اختاروه لقبول هذه المهمة.وتطبق الأحكام الفقهية العامة على عقد (اتفاق) التحكيم شانه في ذلك شان أي عقد، ومن هذه الأحكام ما يلي(17): 1- ان انعقاده بحاجة لإيجاب من أحد طرفيه وقبول من الطرف الآخر. وبتطبيق هذا المبدأ على التحكيم، لا بد من إيجاب من أحد المتخاصمين للجوء إلى التحكيم وقبول من المتخاصم الآخر. وبعد اتفاقهما على هذا النحو، لا بد من إيجاب آخر منهما معا وقبول من المحكم الذي اختاراه للتحكيم في منازعاتهما. ويستوي في ذلك ان يكون الاتفاق الأول في شرط التحكيم وارد في العقد الأصلي قبل نشوب النزاع، أو في صيغة اتفاقية لاحقة على النزاع، وهو ما يطلق عليه في الاصطلاح الحديث بـ "مشارطة التحكيم". كما يستوي في الاتفاق الثاني ان يكون مباشرة بين المتخاصمين من جهة والمحكم من جهة أخرى، أو يتم ذلك بطريق غير مباشر، بان يعهد المتخاصمان لطرف ثالث لتعيين محكم يرتضيانه أي غير مطعون فيه من احدهما أو كليهما. وفي التطبيق الحديث، اكثر ما تتم الحالة الثانية بـ"التحكيم المؤسسي" (institutional) مثل قواعد غرفة التجارة الدولية، أو في التحكيم الفردي أو المطلق أو الحر (ad hoc)، حيث يتفق الطرفان على سلطة ثالثة لتعيين المحكم في حال عدم اتفاقهما، كما هو الحال في فواعد اليونسترال للتحكيم لسنة 1976. وتطبق القواعد العامة على عقد (اتفاق) التحكيم الخاصة بالإيجاب والقبول من حيث صور التعبير عن الإرادة، وضرورة مطابقة القبول بالإيجاب، والأحكام المشتركة لكل من الايجاب والقبول وغير ذلك. ثالثا: موضوع (محل) الاتفاق
يجب ان يكون محل الاتفاق التحكيمي قابلا للتعاقد شرعا أي، باختصار، ان يكون مالا بالمعنى الواسع. ويشمل ذلك المنقولات والعقارات والخدمات عموما بما في ذلك الحقوق المعنوية مثل الملكية الفكرية. وبناء عليه، ذا كان الشيء المتنازع عليه لا يعتبر مالا بالمفهوم الشرعي، فلا يجوز ان يكون محلا للتعاقد، مثل الميتة ولحم الخنزير ودين القمار، وعلى التحديد حيث يكون المتخاصمان من المسلمين، وهذا هو الرأي الفقهي التقليدي. ومع ذلك، ترى انه من غير المحظور شرعا ان يلجأ المتخاصمان للتحكيم لتقرير طبيعة المعاملة بينهما واثار ذلك حسب القانون الإسلامي. فعلى سبيل المثال قد يطلب (أ) المسلم من (ب) المسلم مبلغا من المال ثمنا لخمرة باعها الأول للثاني، ويرفض (ب) ذلك مما أدى إلى نشوب نزاع بينها. في هذه الحالة، سيكون من حق (أ) ان يلجأ للقضاء بصرف النظر عن رأي القاضي في هذه الصفقة. فلا مانع اذن من الاتفاق على اللجوء الى التحكيم بدلا من القضاء. وعندئذ، فان المحكم، مثله مثل القاضي، قد يقرر تطبيقا للقانون الإسلامي بطلان البيع وبالتالي عدم أحقية (أ) بمطالبة (ب) بالثمن(18). رابعا:المحكم
أسهب الفقه الإسلامي في بحث المسائل المتعلقة بالمحكم مما لا مجال للخوص فيه تفصيلا لغايات ورقة العمل هذه. ولكن من المفيد ان نشير لبعض هذه المسائل كما يلي:1- يجوز ان يحال النزاع لمحكم فرد أو لأكثر من محكم. فإذا تعدد المحكمون يمكن لكل طرف من المتخاصمين ان يعين محكمه كما هو الحال في قواعد التحكيم الحديثة. ويستدل على ذلك مباشرة من الآية الكريمة التي سبق ذكرها "وان خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها"(19).2- ونظرا لكون المحكم كالقاضي، شدد الفقهاء المسلمون، أو بعض منهم، في الشروط التي يجب ان تتوفر فيه من حيث العدالة والنزاهة والحياد والعلم والمواصفات الأخرى مثل الكتابة وطهارة المولد وغير ذلك. ويمكن ان نشير هنا إلى شرطين في المحكم أشارت إليهما كتب الفقه الإسلامي: الأول الدين، الثاني الجنس من حيث الذكورة والأنوثة.أ- فبالنسبة للدين، يجب ان يكون المحكم مسلما إذا كان النزاع ما بين مسلمين. ونرى ان هذا الشرط ربما يكون منطقيا في الحالة التي يتوجب فيها تطبيق القانون الإسلامي بصرف النظر عن دين المتخاصمين سواء كانوا مسلمين أو غير ذلك. ولكن حيث يجب تطبيق قانون غير إسلامي وارتضى به الطرفان لسبب أو لآخر، فلا مانع، من وجهة نظرنا، من ان يكون المحكم غير مسلم حتى ولو كان المتخاصمون مسلمين، او كانوا شركة بعض شركائها من المسلمين، مثل الشركات المساهمة العامة، خاصة إذا كانت المعاملة مدنية بحتة ولا علاقة للشرع، كدين، بها. ومثال ذلك ان يتنازع العامل (أ) المسلم البريطاني مع صاحب العمل (ب) المسلم الفرنسي حول الحقوق العمالية للأول في مواجهة الثاني، ويتفقا على تطبيق القانون الإنكليزي في علاقتهما ويحيلا النزاع إلى المحكم الإنكليزي (ج) وهو غير مسلم، ولكنه خبير بقوانين العمل والعمال في بريطانيا. أو تكون العلاقة بينهما علاقة بيع وشراء ويطالب احدهما بدفع الثمن في حين يطالب الآخر بتسليم البيع وفق القانون المتفق عليه (القانون الإنكليزي مثلا)، أو علاقة كمبيالة أو شيك بدون رصيد أو اعتماد مستندي مما لا علاقة له بالشرع الإسلامي كدين. في هذه الأحوال ومثيلاتها، لا نرى ما يمنع في القانون الإسلامي من ان يكون المحكم غير مسلم.ب- وبالنسبة للجنس من حيث الذكورة والانوثة، هناك راي في الفقه الاسلامي التقليدي بان المحكم، كالقاضي، يجب ان يكون ذكرا. ولكن بعض الفقهاء المسلمين أجاز قضاء المرأة وتحكيمها على ما هو الحال عليه في القوانين الحديثة بما في ذلك غالبية قوانين الدول الاسلامية.خامسا: اثر التحكيم
يترتب على الاتفاق على التحكيم معرفة مدى جواز الرجوع عن الاتفاق بعد انعقاده وموافقة المحكم على القيام به، ولكن قبل صدور قرار التحكيم. وقد اختلف الفقهاء المسلمون في ذلك. فمنهم من يرى جواز الرجوع عن التحكيم قبل صدور الحكم حتى بإرادة أحد طرفي الخصومة ولو لم يوافق الطرف الاخر على ذلك. ومنهم من يرى العكس تماما من حيث انه ليس لاحد الفريقين الرجوع عن التحكيم في هذه الحالة. وهناك رأي ثالث مفاده انه يجوز لاحدهما نقض التحكيم والرجوع عنه ما دام المحكم لم يباشر التحكيم، اما اذا قام بذلك، اي باشر العملية التحكيمية، فليس لاحد الرجوع عن التحكيم. ولكن هذه الآراء تتفق على عدم جواز الرجوع عن التحكيم بعد صدور قرار التحكيم. الموضوع الأصلى من هنا: شبكة عدوية الاسلامية
http://www.adaweya.net/showthread.php?t=20391واقرب هذه الآراء للواقع المعاصر، الرأي الذي يذهب الى عدم جواز الرجوع عن التحكيم بعد الاتفاق على إحالة النزاع الى التحكيم، وهو ما تقضي به القواعد العامة في مختلف النظم القانونية الحديثة، وقواعد التحكيم الدولية، ومن ضمنها القانون النموذجي للتحكيم الذي اعدته اليونسترال (المادة . ويترتب على صدور قرار التحكيم انتهاء ولاية المحكمين من جهة، ووجوب تنفيذه من جهة اخرى سواء رضي به او لم يرضى به الخصوم، شانه في ذلك شان أي حكم قضائي. ويقتصر اثر القرار على طرفي الخصومة ولا يتعداها إلى أي طرف ثالث. ويضرب الفقهاء المسلمون مثلا على ذلك انه لو اتفق البائع (أ) مع المشتري (ب) على إحالة نزاعهما الخاص بعيب المبيع على المحكم (ج)، فقضى (ج) بوجوب رد المبيع من (أ) الى (ب) لثبوت العيب فيه، فانه ليس للبائع (ب) ان يرده إلى بائعه الأصلي (د) دون موافقة (د) على ذلك، بمعنى ان حكم التحكيم لا يكون حجة على (د). سادسا:التحكيم في مجلة الأحكام العدلية
أعدت الدولة العثمانية مجلة الأحكام العدلية وابتدأ نفاذها فيها اعتبارا من سنة 1876، باعتبارها القانون المدني للدولة، وهي مستمدة من الفقه الإسلامي، وعلى التحديد من المذهب الحنفي. وعالجت المجلة أحكام التحكيم في المواد 1841-1851 بالإضافة لتعريف التحكيم في المادة 1790. ونوجز فيما يلي أهم تلك الأحكام. 1- عرفت المجلة التحكيم بانه عبارة عن اتخاذ الخصمين لشخص آخر ليكون حاكما (أي محكما) برضاهما لفصل خصومتهما ودعواهما. ويستدل من هذا التعريف بوضوح بان التحكيم عبارة عن اتفاق. 2- يشترط ان يكون التحكيم في دعاوى المال المتعلقة بحقوق الناس. والهدف من ذلك هو عدم جواز التحكيم في حقوق الله تعالي مثل الحدود كحد الزنا وحد السرقة.3- يقتصر اثر التحكيم على المتخاصمين وفي الخصوص الذي تم التحكيم بشأنها، ولا يمتد أثره إلى غيرهم أو إلى مواضيع أخرى لم تكن محلا للتحكيم. 4- إذا تعدد المحكمون، فيجب ان يصدر قرارهم بالإجماع. الموضوع الأصلى من هنا: شبكة عدوية الاسلامية
http://www.adaweya.net/showthread.php?t=203915- إذا تم تحديد مدة لصدور قرار التحكيم فيجب على المحكمين التقيد بها. 6- يجوز لأي من طرفي التحكيم عزل المحكم في أي وقت قبل صدور القرار إلا إذا ثبت القاضي تعيين المحكم. وفي هذه الحالة ليس لاحدهما (أو حتى كليهما) عزله. 7- يعتبر قرار التحكيم ملزما لأطراف الخصومة ويجب عليهم تنفيذه. ولكن إذا عرض القرار على القاضي، فيجب عليه تصديقه إذا كان موافقا للأصول الشرعية، وإلا يتوجب عليه نقضه.