أصبحت
أحوال الاقتصاد المصري ومستقبله محور التركيز في الوقت الراهن بصورة توحي
للشعب بأن الاقتصاد المصري علي شفا الانهيار وأن الثورة وما تلاها من
تداعيات هي السبب في ذلك, وهو أمر مجاف للحقيقة, لأن أي انهيارات اقتصادية
تعاني منها مصر, هي تركة عصر مبارك وليست حدثا جديدا.
ولنأخذ المؤشرات الاقتصادية
التي يجري الحديث عنها باعتبارها علامة علي الانهيار الاقتصادي, وأولها
استنزاف ثمانية مليارات دولار من احتياطي مصر من العملات الحرة. وهذا
الاستنزاف تم لتغطية عجز الميزان التجاري وميزان الحساب الجاري ولتوفير
النقد الأجنبي وضخه في السوق للحفاظ علي سعر الجنيه المصري مقابل الدولار
والعملات الحرة الأخري. والسببان اللذان تم استنزاف الاحتياطي من خلالهما
يرتبطان بأوضاع سابقة علي الثورة أصلا, حيث أن العجز الهائل في الميزان
التجاري لمصر, بلغ25.1 مليار دولار في2010/2009, وبلغ عجز تجارة السلع
والخدمات معا نحو14.8 مليار دولار, نظرا لأن تجارة الخدمات التي تضم
السياحة وقناة السويس تحقق فائضا وتعوض جزءا من عجز التجارة السلعية, وإذا
أضفنا تحويلات العاملين بالخارج التي بلغت9.8 مليار دولار, وبعض التحويلات
الأخري المحدودة, فإن ميزان الحساب الجاري أسفر في العام المالي المذكور عن
عجز بلغ4.3 مليار دولار. وشكل العجز في ميزان الحساب الجاري نحو2.3%,2% من
الناتج المحلي الإجمالي في عامي2010/2009,2009/2008 علي الترتيب, بعد
ثمانية أعوام من الفائض بفضل السياحة وتحويلات العاملين في الخارج وإيرادات
قناة السويس وارتفاع أسعار النفط. وقبل الثورة, انخفض سعر صرف الجنيه
مقابل الدولار خلال عام من5.45 جنيه لكل دولار, إلي نحو5.8 جنيه لكل دولار,
أي بأكثر من6%.
أما سياسة البنك المركزي المصري باستنزاف الاحتياطي
الرسمي من العملات الحرة فهي تعكس تفكيرا قديما وجامدا, فتجربة استنزاف
الاحتياطي في الدفاع عن العملة, هي تجربة فاشلة, والأهم منها هو إنهاء
أسباب ضعف العملة وهو العجز في الموازين الخارجية من خلال ترشيد الواردات
وتطوير الصادرات, وتتبني سياسة واقعية في سعر الصرف يمكن أن تسمح بارتفاع
أو انخفاض العملة في حدود5% علي أقصي تقدير في الوقت الراهن دون استخدام
للاحتياطي, حتي لو اقتضي الأمر تطبيق نظام سعر الصرف التحكمي المتغير كل
ثلاثة شهور بناء علي التغيرات في المؤشرات الاقتصادية في مصر وفي الدول
صاحبة العملات الحرة الرئيسية, علي أن يترافق مع ذلك عملية ضبط للأسعار
وحماية حقيقية للمستهلكين من استغلال مثل هذا التغير في رفع الأسعار بلا
مبرر.
وتجدر الإشارة إلي أن إجمالي الديون الخارجية لمصر, بلغ30.7 مليار
دولار في نهاية مارس عام2009, وارتفع إلي34.7 مليار دولار في نهاية سبتمبر
عام2010, وهي تعني أن الحفاظ علي الاحتياطيات تم من خلال الاستدانة, وهو
نفس المنهج الذي تتبعه الحكومة الراهنة. أما التباكي طوال الوقت علي
الاستثمارات الأجنبية, فإن ما يعرقل تدفقها أساسا هو غياب الأمن, بسبب
تقصير آلة الدولة في حفظه. كما أن مصر تحتاج استثمارات أجنبية مباشرة
حقيقية وفعالة في الصناعة والزراعة والخدمات الحقيقية وليس في شراء أراضي
مصر أو مشروعات القطاع العام القائمة بأقل من5% من اسعار أراضيها في صفقات
فساد.
أما ما استجد من بعض العوامل السلبية في الاقتصاد فهي ناجمة عن
قيام ذلك النظام المجرم بإستخدام العنف الرهيب في مواجهة ملايين المتظاهرين
مما أوقع أكثر من846 شهيدا وأكثر من سبعة آلاف من الجرحي, ثم قيامه بإطلاق
السجناء لترويع المجتمع, ثم استخدامه لجحافل حقيرة من البلطجية الذين
كانوا تحت رعايته لترويع المواطنين وتزوير الانتخابات دائما, ثم ارتكاب
وزير الداخلية الأسبق حبيب العادلي وبعض قيادات الشرطة لجريمة خيانة عظمي
بالانسحاب من تأمين المدن والأحياء والقري بعد إطلاق كل المجرمين والبلطجية
عليها, واستمرار التقصير الأمني حتي الآن... كل ذلك أدي لتراجع كبير في
التجارة الداخلية والخارجية وفي إيرادات السياحة رغم أنها كانت مرشحة لأن
تستعيد عافيتها سريعا وتحقق انطلاقة كبري بسبب الصورة الانطباعية الرائعة
عن مصر في كل بلدان العالم والتي يعود الفضل فيها للثورة السلمية المتحضرة.
لكن بطء السلطات في مصر في محاكمة القيادات الفاسدة للحزب الوطني وكل رموز
نظام مبارك الفاسدة وآلته الدنيئة المتمثلة في جهاز أمن الدولة الذي ارتكب
كل الجرائم التي تستوجب المحاكمة من تلصص واعتقال وتعذيب وقتل للمواطنين,
مكنتهم من تدبير وإثارة اضطرابات أمنية وطائفية وصلت إلي حد حرق بعض
الكنائس لأسباب عبثية ومشينة, باستغلال كل الرواسب الطائفية والعصبية التي
خلفها نظام مبارك والتي يسهل استدراج بعض البسطاء والغوغاء إليها, وهو ما
أساء لصورة مصر في الخارج ووضع الكثير من علامات الاستفهام لدي السياح
الأجانب حول حالة الاستقرار والأمن في مصر, وهي أمور يجب أن يتصدي المجلس
الأعلي للقوات المسلحة لها بكل حزم, لأن الدولة وحدها بكل مؤسساتها هي التي
تملك الحق في سن وتنفيذ القوانين وفي حماية المواطنين ولا دور في هذا
الصدد للمسجد أو الكنيسة أو المتطرفين من أي نوع.
وعلي أية حال فإن
استعادة الأمن والاستقرار نهائيا سوف يساعد علي استعادة السياحة من كل
بلدان العالم وتعويض خسائرها. كما أن تنشيط السياحة الداخلية وحفز
المواطنين الذين يقومون بالسياحة في الخارج علي الاقتصار علي السياحة
الداخلية لدعم الاقتصاد الوطني, وإعطاء السياح المصريين الأفراد والجماعات,
نفس الشروط المتساهلة التي تعطي للأجانب, يمكن أن يقدم دعما لقطاع السياحة
في المرحلة الحرجة بين تراجع السياحة الخارجية واستعادتها. كما أنه من
المهم التأكيد علي دعوة من يرغبون في القيام بالعمرة أو الحج المتكرر
لتأجيله لتوفير أكثر من عشرة مليارات جنيه لمصر هو أمر مهم أيضا. وفي كل
الأحوال فإن الاقتصاد المصري يملك قدرات كبيرة, تحتاج لإدارتها بصورة أكثر
كفاءة وفعالية ووطنية من خلال استثمارات خاصة وعامة ورعاية لمبادرات
المصريين في الخارج وللمشروعات الصغيرة في الداخل, ويمكن من خلالها تحقيق
نهوض قوي, بدلا من التباكي الخامل علي حالة الاقتصاد.
رمضان الغندور