حين ولد الأستاذ الإمام محمد عبده في قرية محلة نصر من أعمال مديرية الغربية في عام 1849، لم يكن أحد يعرف أن ميلاده في هذا الزمن القفر من موافقات المقادير، ولا كان أحد يمكن أن يتنبأ بأن هذا الوليد سوف يملأ الدنيا ويشغل الناس بعد زمن وجيز، وأنه مقدور أن يحمل شعلة الإصلاح لينشر النور والضياء في ربوع مصر والشرق بعد ظلام ليل طويل من الجهالة والجمود، ومع ذلك فإن الأستاذ الإمام لم يكن من عظماء الفرصة، وإنما كانت عظمته مستمدة من "القدرة الخالصة" التي تحمل مقوماتها وتعبر عن نفسها في كل وقت وعصر.. نعم كان العصر عصر إظلام يتحرق شوقا للخروج من متاهات الجهل والجمود، وقيض له في الأستاذ الإمام وأترابه أن يحملوا شعلة الاستنارة ويقودوا حملة الإصلاح، إلا أن عبقرية محمد عبده الإصلاحية عبقرية عريضة عميقة، لا تنحبس انتظارا لفرصة تسنح للتعبير عن نفسها، وإنما في نسيجها وبصيرتها ما يهيئ لها تهيئة الظروف وتذليل الصعاب وتعبيد الوهاد وخلق فرص التقدم خلقا قوامه هذه العبقرية الإصلاحية بفطرتها وصفاتها وسجاياها.. كان الأستاذ الإمام أعظم من أنجبته القرية المصرية ونهض برسالة الأزهر في عصره، وكان ينبوع قوة روحانية تطوي عوارض الزمن وصغائر الدنيا فيما تفيض به من حياة إنسانية متعددة الجوانب، لم تدع مجالا إلا طرقته ببصيرتها المفطورة، ونظرتها العميقة، وعقلانيتها الفياضة التي بعثت الحياة بعثا جديدا في عصر بأكمله.. من المحال أن نقرأ لأحد من أعلام التنوير من أواخر القرن التاسع عشر وحتى الآن، دون أن نجد الأستاذ الإمام حاضرا في كتاباته، مؤثرا في نسيجه وتكوينه.. عن أثره العميق فيه وفي جيله أشار عميد الأدب العربي خريج الأزهر والجامعة ـ الدكتور طه حسين في كتابه الأيام، وعن أثره في سنوات التكوين تحدث الأستاذ العقاد حتى قال فيمن تمنى أن يكتب عنهم ـ إنه لم يتيسر له أن يكتب عن الأستاذ الإمام محمد عبده خليفة الغزالي أحب المفكرين الإسلاميين إليه وأقدرهم تفكيرا على الإطلاق، إلا بعد أن أجمع أمره على إطراح التردد الطويل الذي يلازمه عند الكتابة عن أحب الشخصيات وأقربهم إليه، وجاهد نفسه للاكتفاء بثلاثمائة صفحة في كتابة ترجمة كانت ألف صفحة دون الكفاية عنده لموضوعها وجلال قدر الأستاذ الإمام وعظمة دوره ورسالته الإصلاحية التي تركت أثرا بالغا في عصره، شمل من تسامعوا به فضلا عمن تلقوا مباشرة عنه.
كان الأستاذ الإمام مطبوعا على عبقرية الإصلاح وعبقرية التعليم، مدركا إدراكا عميقا أن الإصلاح لا يتأتى إلا بالتعليم، وأن إنارة العقول لاكتساب القدرة على الفهم واختيار سبل الإصلاح لا تكون إلا بالتعليم ودربة العقل على النظر والتفكير.. هذه العبقرية الإصلاحية يلمسها المتتبع لسيرة الأستاذ الإمام في كل مجال طرقه أو عرض له، في الفقه والشرع، وفي التعليم والترشيد، وفي السياسة والوطنية، وفي التربية والاجتماع، وفي الصحافة والكتابة والتأليف، وفي القضاء، وفي الأعمال الخيرية.. لم تفارقه هذه النظرة الإصلاحية قط، حتى عندما دفع به النفي الإجباري إلى خارج البلاد، في أعقاب الثورة العرابية، فيأبى أن يفارق بيروت إلا بعد أن أودع آراءه في إصلاح الأمة الإسلامية بالتعليم والتربية في رسالتين (لائحتين) أرسل إحداهما إلى شيخ الإسلام بالآستانة، وأرسل الثانية إلى بيروت، يشرح فيهما ما اهتدى إليه أثناء مقامه في منفاه من وسائل إصلاح البلاد عن طريق التعليم والتربية .. هذا النابغة ـ الريفي الأزهري ـ عرف بالسليقة والفطرة، وبالعلم والتأمل والخبرة ـ بل آمن إيمان الدين المتين أن "التقدم العصري" رهين بعلوم لنا أهملناها وهجرناها، وعلوم للمعتدين علينا سبقونا إليها ولم نلحقهم في غير القليل منها، فيقول للناس في مقال له في صحيفة الأهرام:
"ليت شعري إذا كان هذا حالنا بالنسبة إلى علوم أرضعت ثدي الإسلام وغذيت بلبانه وتربت في حجره وتقلدت إيوانه منذ زمن يزيد على ألف سنة. فما حالنا بالنسبة إلى علوم مفيدة هي من لوازم حياتنا في هذه الأزمان.. لا بد لنا من اكتسابها وبذل الجهود في طلبها".
في القضاء
أرادوا إبعاده عن السياسة والتعليم فصار إليه إصلاح القضاء!
من موافقات المقادير، أن تعيين الأستاذ الإمام بالقضاء عام 1888، لم يكن خاليا من الغرض، فردت المقادير على المغرضين غرضهم!.. كانت عبقرية الإمام الإصلاحية قد أقضت مضاجع، وكانت روحه الوطنية الوثابة قد أقلقت السلطات، فهو مصلح لا يهدأ ولا يدع أحدا يهدأ أو يستنيم، فكانت حوادث الثورة العرابية سنة 1881 التكئة التي اتخذت ذريعة لنفيه وإبعاده عن البلاد، ولكنه بعد أن أمضى السنوات الثلاث في الشام التي اختارها مقاما لنفيه المرهون نهوه بإذن من الخديوي، شد الرحال إلى باريس ليلحق بأستاذه جمال الدين الأفغاني، وليصدرا معا جريدة "العروة الوثقى" التي منعت الحكومة المصرية دخولها للبلاد، وانتهت سنوات النفي والتغريب بعودته إلى مصر سنة 1887، فتلاقى توجس السلطات من استئناف نشاطه مع احتياج نظارة الحقانية إليه في وظيفة القضاء الذي كان يعاني معاناة مرة وفي حاجة إلى إصلاحه وتطعيمه بذوي العلم والفقه والكفاءة.. كان أمل الأستاذ الإمام فيما يبدو ـ أن يستأنف حين عاد مسيرته الإصلاحية في التعليم، وربما كانت أنسب الأماكن آنذاك لعطائه ـ معهد دار العلوم الذي يجمع بين ثقافة الأزهر وعلوم العصر الحديث، إلا أن ولاة الأمر أوجسوا ـ على ما يظهر ـ من إسناد وظيفة التدريس في دار العلوم إليه تحسبا لتمكنه واقتداره على بث القوة التي لديه في نفوس الناشئة من معلمي المستقبل على امتداد البلاد، فأرادوا من ثمّ إبعاده عن التعليم، وتلاقت هذه الرغبة مع احتياجات القضاء ونظارة الحقانية إلى وظائف ريم أن يتوفر في شاغليها العلم بالشريعة والفقه، مع النزاهة والكفاية للحكم الصالح. ولقد أوشك الأستاذ الإمام أن يرفض الوظيفة المختارة له التي رأى أن اختياره لها لم يراع رغبته ولا كفايته للإصلاح عن طريق التربية والتعليم، ولأنه ـ كما قال ـ "جرب عمله في التعليم وعلم أنه قد خلق له، وأنه لم يخلق ليقول حكمت على هذا وحكمت لذاك..." .
وقد قلنا إن تعيين الأستاذ الإمام بالقضاء كان من موافقات المقادير؛ لأن هذا التعيين ـ وعلى غير توقع من أرادوا التخلص والإبعاد! ـ أضاف إلى كل من القضاء وإلى تاريخ الأستاذ الإمام، أضاف إلى القضاء نضج التجربة التي خاضها الأستاذ الإمام بروحه الوثابة وعلمه العريض وإخلاصه الهائل وعبقريته الإصلاحية، فكان على المنصة مثالا جديدا لم يسبقه إليه أحد، وكان في كتابة الأحكام أحد أضلاع استحداث لغة جديدة في الحيثيات جمعت بين الفقه والشرع والقانون، وبين متانة العبارة وجلاء المعنى والبعد عن التقعر والنطاعة، وأضاف هذا العطاء إلى تاريخ الأستاذ الإمام صفحات جديدة لم يكن ليسطرها لولا أن أتيحت له فرصة العمل في القضاء الذي تجلت فيه جوانب جديدة في هذه العبقرية الإصلاحية التي لا يحدها حد، ولا تنطوي في مجال دون مجال.
".
كان الأستاذ الإمام مطبوعا على عبقرية الإصلاح وعبقرية التعليم، مدركا إدراكا عميقا أن الإصلاح لا يتأتى إلا بالتعليم، وأن إنارة العقول لاكتساب القدرة على الفهم واختيار سبل الإصلاح لا تكون إلا بالتعليم ودربة العقل على النظر والتفكير.. هذه العبقرية الإصلاحية يلمسها المتتبع لسيرة الأستاذ الإمام في كل مجال طرقه أو عرض له، في الفقه والشرع، وفي التعليم والترشيد، وفي السياسة والوطنية، وفي التربية والاجتماع، وفي الصحافة والكتابة والتأليف، وفي القضاء، وفي الأعمال الخيرية.. لم تفارقه هذه النظرة الإصلاحية قط، حتى عندما دفع به النفي الإجباري إلى خارج البلاد، في أعقاب الثورة العرابية، فيأبى أن يفارق بيروت إلا بعد أن أودع آراءه في إصلاح الأمة الإسلامية بالتعليم والتربية في رسالتين (لائحتين) أرسل إحداهما إلى شيخ الإسلام بالآستانة، وأرسل الثانية إلى بيروت، يشرح فيهما ما اهتدى إليه أثناء مقامه في منفاه من وسائل إصلاح البلاد عن طريق التعليم والتربية .. هذا النابغة ـ الريفي الأزهري ـ عرف بالسليقة والفطرة، وبالعلم والتأمل والخبرة ـ بل آمن إيمان الدين المتين أن "التقدم العصري" رهين بعلوم لنا أهملناها وهجرناها، وعلوم للمعتدين علينا سبقونا إليها ولم نلحقهم في غير القليل منها، فيقول للناس في مقال له في صحيفة الأهرام:
"ليت شعري إذا كان هذا حالنا بالنسبة إلى علوم أرضعت ثدي الإسلام وغذيت بلبانه وتربت في حجره وتقلدت إيوانه منذ زمن يزيد على ألف سنة. فما حالنا بالنسبة إلى علوم مفيدة هي من لوازم حياتنا في هذه الأزمان.. لا بد لنا من اكتسابها وبذل الجهود في طلبها".
في القضاء
أرادوا إبعاده عن السياسة والتعليم فصار إليه إصلاح القضاء!
من موافقات المقادير، أن تعيين الأستاذ الإمام بالقضاء عام 1888، لم يكن خاليا من الغرض، فردت المقادير على المغرضين غرضهم!.. كانت عبقرية الإمام الإصلاحية قد أقضت مضاجع، وكانت روحه الوطنية الوثابة قد أقلقت السلطات، فهو مصلح لا يهدأ ولا يدع أحدا يهدأ أو يستنيم، فكانت حوادث الثورة العرابية سنة 1881 التكئة التي اتخذت ذريعة لنفيه وإبعاده عن البلاد، ولكنه بعد أن أمضى السنوات الثلاث في الشام التي اختارها مقاما لنفيه المرهون نهوه بإذن من الخديوي، شد الرحال إلى باريس ليلحق بأستاذه جمال الدين الأفغاني، وليصدرا معا جريدة "العروة الوثقى" التي منعت الحكومة المصرية دخولها للبلاد، وانتهت سنوات النفي والتغريب بعودته إلى مصر سنة 1887، فتلاقى توجس السلطات من استئناف نشاطه مع احتياج نظارة الحقانية إليه في وظيفة القضاء الذي كان يعاني معاناة مرة وفي حاجة إلى إصلاحه وتطعيمه بذوي العلم والفقه والكفاءة.. كان أمل الأستاذ الإمام فيما يبدو ـ أن يستأنف حين عاد مسيرته الإصلاحية في التعليم، وربما كانت أنسب الأماكن آنذاك لعطائه ـ معهد دار العلوم الذي يجمع بين ثقافة الأزهر وعلوم العصر الحديث، إلا أن ولاة الأمر أوجسوا ـ على ما يظهر ـ من إسناد وظيفة التدريس في دار العلوم إليه تحسبا لتمكنه واقتداره على بث القوة التي لديه في نفوس الناشئة من معلمي المستقبل على امتداد البلاد، فأرادوا من ثمّ إبعاده عن التعليم، وتلاقت هذه الرغبة مع احتياجات القضاء ونظارة الحقانية إلى وظائف ريم أن يتوفر في شاغليها العلم بالشريعة والفقه، مع النزاهة والكفاية للحكم الصالح. ولقد أوشك الأستاذ الإمام أن يرفض الوظيفة المختارة له التي رأى أن اختياره لها لم يراع رغبته ولا كفايته للإصلاح عن طريق التربية والتعليم، ولأنه ـ كما قال ـ "جرب عمله في التعليم وعلم أنه قد خلق له، وأنه لم يخلق ليقول حكمت على هذا وحكمت لذاك..." .
وقد قلنا إن تعيين الأستاذ الإمام بالقضاء كان من موافقات المقادير؛ لأن هذا التعيين ـ وعلى غير توقع من أرادوا التخلص والإبعاد! ـ أضاف إلى كل من القضاء وإلى تاريخ الأستاذ الإمام، أضاف إلى القضاء نضج التجربة التي خاضها الأستاذ الإمام بروحه الوثابة وعلمه العريض وإخلاصه الهائل وعبقريته الإصلاحية، فكان على المنصة مثالا جديدا لم يسبقه إليه أحد، وكان في كتابة الأحكام أحد أضلاع استحداث لغة جديدة في الحيثيات جمعت بين الفقه والشرع والقانون، وبين متانة العبارة وجلاء المعنى والبعد عن التقعر والنطاعة، وأضاف هذا العطاء إلى تاريخ الأستاذ الإمام صفحات جديدة لم يكن ليسطرها لولا أن أتيحت له فرصة العمل في القضاء الذي تجلت فيه جوانب جديدة في هذه العبقرية الإصلاحية التي لا يحدها حد، ولا تنطوي في مجال دون مجال.
".