عن نصب ومكابدة المحامين, عبرالمرحوم الأستاذ مرقص فهمي أصدق تعبير حين وقف يدافع قائلا: نحن المحامين نعالج آلام الناس ونرافقهم في شقائهم. ولذلك نرتدي الثوب الأسود ونقف في هذا المكان المنخفض.. فإذا ما أعيانا التعب جلسنا علي هذا الخشب. فنحن حقيقة بؤساء رفقاء بؤساء! ولكن رغم هذه المظاهر الخداعة فإن الذي في قلبه إيمان بالحق يرتفع من هذا المركز إلي السمو الذي لا حد له. لأن عماده كله الحق, ولأن مأمورية المحامي تمثل حق الدفاع المقدس, والقداسة لا تحتاج لسلطة ولا تحتاج لمظهر قوة بل هي جميلة..
روي تاريخ المحاماة ان أسلافها العظام لم ينتظروا ضمانة أو حصانة لأداء رسالتهم التي كثيرا ما جرت عليهم المتاعب, وأغضبت منهم قضاة وأعضاء نيابة, ودفع بعضهم ثمنا لهذا الغضب, لكنهم لم يتراجعوا عن إبداء ما آمنوا به أن الصواب واجب الإبداء لاظهار الحق! وضع النقيب الكبير دي بوي حدود العلاقة بين النيابة والمحاماة في رده علي الاتهام الذي اقامته النيابة ضده بأنه تجاوز الحدود المسموح بها! يومها وقف دي بوي مترافعا يقول: لقد شكا المحامي العام من حدة الكلام الذي وجهته إليه, بل أضاف أن ما أبديته جزء من ترتيبات موكلي المسيو بونتو كما لو كان من واجباتي أن أخضع لترتيبات وتنظيمات موكلي؟! ليس مطلوبا مني أن أبرر حدتي في المرافعة, فإنني اعتقد أنها كانت في الحدود الضيقة لواجبي وحقي كمحام, ومع ذلك فلا بأس وقد أساء المحامي العام فهم عواطفي ـ أن أقدم له تفسيرا أرجو أن يرضيه: إنني احترم وظيفة النيابة احتراما أصيلا عميقا, وأفضل أنواع الاحترام ذلك الذي يصدر حرا ومن تلقاء ضميري للرسالة السامية التي نؤديها ولضرورتها للهيئة الاجتماعية, وإذا كان لي أن أضيف شيئا فإنني أقول إن تقديري لأخلاقه وكفاءته كبير, وان كان السيد
المحامي العام لا يطلب مني ذلك وقد لا يأبه له أما وقد قلت ذلك فهو لا يستطيع أن يطلب مني احترامي وتقديري إلي مرافعته وحججه. فلست مطالبا بالنسبة إليها لا بالاحترام ولا بالتقدير بل ولا بالرعاية! إنما جئت إلي هنا لاحاربها وأهاجمها وأقضي عليها ما استطعت إلي ذلك سبيلا, ولا استبعد من بينها الحدة إن كانت لازمة لتوضيح بياني ونجاح قضيتي! إن المتهمين إنما جاءوا إلي هنا ليدافعوا عن أنفسهم( لا ليصادقوا علي ما يقال عنهم) إن شرفهم وحريتهم في خطر يجب إزاءه التساهل مع من يتكلم باسمهم حتي ولو تخطي الحدود جدلا.. فيجب أن يكون عندكم من الكرم والسماحة ما يجعلكم تغضون النظر عن ذلك!
في ذلك الزمن الجميل, اتسعت حجج المحامين, ولازمها الأدب الرفيع, والمنطق النافذ, وقابلتها سماحة نيابة وسماحة قضاء لم يصادر علي هذا الاحترام المتبادل تحوصل في السلطة أو تلويح أو استعمال لشوكتها أثناء محاكمة الأديب الأشهر إميل زولا عن مقال مشهور كتبه في قضية دريفوس تحت عنوان إني أتهم! وقف المحامي العام يلمز علي محاميه النقيب الشهير: لابوري فقال للمحكمة ساخرا: إن الذين يسبون الجيش جاءوا أمامكم يشيدون به! وفي غضب جريح لم يفقد جمال واتقان العبارة وقف لا بوري معاتبا في أدب لم يفقد فصاحة ونفاذ سهم الحجة إنني لم اتعود أن أتلقي في حرم العدالة طعنات شخصية من هذا النوع! لست ممن يتوارون وراء أي إنسان ولست ممن يقبلون مثل هذا الهجوم ولو صدر من مقعد الاتهام, أو يقبلون هجوما وغمزا لا يمكن أن يصعد إلي برغم ارتفاع المنصة التي صدر عنها! ثم يستأنف لابوري عاتبا ومقرعا إن المحامي العام قد أثرت فيه علي مايبدو مظاهر السلطة التي جاء بعضهم يتظاهر بها هنا, وتصور أن من حقه أن يلقي علينا دروسا؟! لكنني أرفض الدرس بإباء وشمم, وأضيف أنني أعرف لماذا اختار كلمات رنانة طنانة لينطق بها.. إنها قصيرة لا يمكن أن تحدث أث
را بذاتها! ولكنه أعدها وألقاها ليثير بها مظاهرة ـ كان واجبا عليه أن يتوقعها ـ من قاعة حشدت وأعدت خصيصا ضدنا! ثم يتجه لابوري إلي المحلفين قائلا: إن صيحات هؤلاء الذين لا يدركون الاحترام الواجب للعدالة يجب أن تملي عليكم الصلابة المطلوبة منكم.. إنكم سادة فقولوا ـ إن استطعتم!! هذا الرجل مذنب لأنه اجترأ علي الجهاد ضد الشهوات والاحقاد, ولأنه غضب غضبته من أجل العدالة ومن أجل الحق والحرية!.
اتسع صدر النائب العام شيه دي ستانج للمحاماة ومقتضياتها, فوضع في قضية الأستاذ أوليفييه المشهورة ـ تحديدا دقيقا لحرية المحامي واستقلاله وحدود علاقته بالنيابة العامة, فطفق يقول: لا أحد ينكر حرية المحاماة, إن هذه الحرية حق للمحاماة, ويجب أن تبقي لها حقوقها, إنها ليست مكسبا للمحاماة, وهي ملك لها. فإن المحاماة لا تتمتع بها من أجل المحامين, ولكن من أجل الصالح العام: صالح المتقاضين وصالح جميع المحامين.. من حق المحامي حين يهاجم الدعوي العمومية ـ أن يهاجم نظرياتها, ويقول ويكشف فسادها, ويهاجم الأساس الذي أقيمت عليه تلك النظريات ويعري خطأها ويهاجم الوقائع التي أسست عليها, وان يثبت عكسها, من حقه أن يبدي مايريد في اندفاع وحرارة لا يخلوان من الحماسة, فإن الارتجال موهبة يعلم موهوبوها أكثر من سواهم أنها تتطلب حماسة واندفاعا,قد تشوبه أغلاط لغوية أو نحوية أو غيرها ـ ولكنها تدل كلها علي جريان ماء الحياة في شرايين المحامي المترافع!
قد حمل المحامون علي مدار التاريخ نصيبهم من المسئولية عن مخاطر الارتجال وهو عدة المرافعات, فلم تستطع العدالة أن تنظر إلي ذلك بعين الإشاحة أو الإهمال, فكان ما أوردته التشريعات عن حصانة المحامي في مرافعته الشفوية والمكتوبة!
(للحديث بقية)
روي تاريخ المحاماة ان أسلافها العظام لم ينتظروا ضمانة أو حصانة لأداء رسالتهم التي كثيرا ما جرت عليهم المتاعب, وأغضبت منهم قضاة وأعضاء نيابة, ودفع بعضهم ثمنا لهذا الغضب, لكنهم لم يتراجعوا عن إبداء ما آمنوا به أن الصواب واجب الإبداء لاظهار الحق! وضع النقيب الكبير دي بوي حدود العلاقة بين النيابة والمحاماة في رده علي الاتهام الذي اقامته النيابة ضده بأنه تجاوز الحدود المسموح بها! يومها وقف دي بوي مترافعا يقول: لقد شكا المحامي العام من حدة الكلام الذي وجهته إليه, بل أضاف أن ما أبديته جزء من ترتيبات موكلي المسيو بونتو كما لو كان من واجباتي أن أخضع لترتيبات وتنظيمات موكلي؟! ليس مطلوبا مني أن أبرر حدتي في المرافعة, فإنني اعتقد أنها كانت في الحدود الضيقة لواجبي وحقي كمحام, ومع ذلك فلا بأس وقد أساء المحامي العام فهم عواطفي ـ أن أقدم له تفسيرا أرجو أن يرضيه: إنني احترم وظيفة النيابة احتراما أصيلا عميقا, وأفضل أنواع الاحترام ذلك الذي يصدر حرا ومن تلقاء ضميري للرسالة السامية التي نؤديها ولضرورتها للهيئة الاجتماعية, وإذا كان لي أن أضيف شيئا فإنني أقول إن تقديري لأخلاقه وكفاءته كبير, وان كان السيد
المحامي العام لا يطلب مني ذلك وقد لا يأبه له أما وقد قلت ذلك فهو لا يستطيع أن يطلب مني احترامي وتقديري إلي مرافعته وحججه. فلست مطالبا بالنسبة إليها لا بالاحترام ولا بالتقدير بل ولا بالرعاية! إنما جئت إلي هنا لاحاربها وأهاجمها وأقضي عليها ما استطعت إلي ذلك سبيلا, ولا استبعد من بينها الحدة إن كانت لازمة لتوضيح بياني ونجاح قضيتي! إن المتهمين إنما جاءوا إلي هنا ليدافعوا عن أنفسهم( لا ليصادقوا علي ما يقال عنهم) إن شرفهم وحريتهم في خطر يجب إزاءه التساهل مع من يتكلم باسمهم حتي ولو تخطي الحدود جدلا.. فيجب أن يكون عندكم من الكرم والسماحة ما يجعلكم تغضون النظر عن ذلك!
في ذلك الزمن الجميل, اتسعت حجج المحامين, ولازمها الأدب الرفيع, والمنطق النافذ, وقابلتها سماحة نيابة وسماحة قضاء لم يصادر علي هذا الاحترام المتبادل تحوصل في السلطة أو تلويح أو استعمال لشوكتها أثناء محاكمة الأديب الأشهر إميل زولا عن مقال مشهور كتبه في قضية دريفوس تحت عنوان إني أتهم! وقف المحامي العام يلمز علي محاميه النقيب الشهير: لابوري فقال للمحكمة ساخرا: إن الذين يسبون الجيش جاءوا أمامكم يشيدون به! وفي غضب جريح لم يفقد جمال واتقان العبارة وقف لا بوري معاتبا في أدب لم يفقد فصاحة ونفاذ سهم الحجة إنني لم اتعود أن أتلقي في حرم العدالة طعنات شخصية من هذا النوع! لست ممن يتوارون وراء أي إنسان ولست ممن يقبلون مثل هذا الهجوم ولو صدر من مقعد الاتهام, أو يقبلون هجوما وغمزا لا يمكن أن يصعد إلي برغم ارتفاع المنصة التي صدر عنها! ثم يستأنف لابوري عاتبا ومقرعا إن المحامي العام قد أثرت فيه علي مايبدو مظاهر السلطة التي جاء بعضهم يتظاهر بها هنا, وتصور أن من حقه أن يلقي علينا دروسا؟! لكنني أرفض الدرس بإباء وشمم, وأضيف أنني أعرف لماذا اختار كلمات رنانة طنانة لينطق بها.. إنها قصيرة لا يمكن أن تحدث أث
را بذاتها! ولكنه أعدها وألقاها ليثير بها مظاهرة ـ كان واجبا عليه أن يتوقعها ـ من قاعة حشدت وأعدت خصيصا ضدنا! ثم يتجه لابوري إلي المحلفين قائلا: إن صيحات هؤلاء الذين لا يدركون الاحترام الواجب للعدالة يجب أن تملي عليكم الصلابة المطلوبة منكم.. إنكم سادة فقولوا ـ إن استطعتم!! هذا الرجل مذنب لأنه اجترأ علي الجهاد ضد الشهوات والاحقاد, ولأنه غضب غضبته من أجل العدالة ومن أجل الحق والحرية!.
اتسع صدر النائب العام شيه دي ستانج للمحاماة ومقتضياتها, فوضع في قضية الأستاذ أوليفييه المشهورة ـ تحديدا دقيقا لحرية المحامي واستقلاله وحدود علاقته بالنيابة العامة, فطفق يقول: لا أحد ينكر حرية المحاماة, إن هذه الحرية حق للمحاماة, ويجب أن تبقي لها حقوقها, إنها ليست مكسبا للمحاماة, وهي ملك لها. فإن المحاماة لا تتمتع بها من أجل المحامين, ولكن من أجل الصالح العام: صالح المتقاضين وصالح جميع المحامين.. من حق المحامي حين يهاجم الدعوي العمومية ـ أن يهاجم نظرياتها, ويقول ويكشف فسادها, ويهاجم الأساس الذي أقيمت عليه تلك النظريات ويعري خطأها ويهاجم الوقائع التي أسست عليها, وان يثبت عكسها, من حقه أن يبدي مايريد في اندفاع وحرارة لا يخلوان من الحماسة, فإن الارتجال موهبة يعلم موهوبوها أكثر من سواهم أنها تتطلب حماسة واندفاعا,قد تشوبه أغلاط لغوية أو نحوية أو غيرها ـ ولكنها تدل كلها علي جريان ماء الحياة في شرايين المحامي المترافع!
قد حمل المحامون علي مدار التاريخ نصيبهم من المسئولية عن مخاطر الارتجال وهو عدة المرافعات, فلم تستطع العدالة أن تنظر إلي ذلك بعين الإشاحة أو الإهمال, فكان ما أوردته التشريعات عن حصانة المحامي في مرافعته الشفوية والمكتوبة!
(للحديث بقية)