المصريون يعيشون أوقاتا عصيبة.. يشعرون بالخوف.. ويرعبهم الهدف الثالث للإرهاب
لماذا تثور الآن مسألة «مسيحيي الشرق الأوسط» ومن الذي يريد من مصر أن تدفع الفواتير؟
لكل زلزال توابع.. وقد كان الإرهاب في الإسكندرية بشعاً
ومزلزلاً.. وبعض الزلازل تتحول توابعها إلي (تسونامي).. حيث تدفع تأثيرات
الزلازل أمواج المحيط إلي أن تكون هادرة فتطيح بكل ما أمامها علي الشواطئ
كما يحدث في جنوب آسيا.. الكل في مصر يترقب أمواج الـ (تسونامي).
والترقب
أنواع: البعض يتطلع.. والبعض يأمل.. والبعض ينفخ في المحيط لعل أنفاسه
المتقطعة تغضب الأمواج فتهدر.. والأغلبية تخشي علي البلد بكل إخلاص..
وتتحسب من التوالي.. وتتهجد إلي الله بالدعاء: الطف يارب.
أخطر ما
في الأمر هو أن الإرهاب قد حقق (البند الثاني) من أهدافه.. وهو الأكبر
أهمية.. (البند الثالث) هو الأهم علي الإطلاق.. (البند الأول) هو إلحاق
الأذي البشع بالضحايا الذين استهدفهم أمام (كنيسة القديسين) في سيدي بشر
ليلة رأس السنة.. وهو علي فظاعته ومأساويته أسهل الأمور في خطة المدبر
الأخبث لهذا الذي جري.. الهدف الثاني هو اعتصار المصريين في حالة جماعية
داخل (سجن الخوف) العظيم وقبو الهلع من الغد وشحن النفوس بحالة من التوتر
والخصومة وتعبئتها بطاقة قابلة للانفجار في أي لحظة.. (البند الثالث) من
الأهداف هو ألا تقوي النفوس علي احتمال ما ملأها من شحن.. وحدوث الانفجار
نفسه.. واندلاع النيران في المجتمع كله.. وتحويل أهم معالم قوة البلد
(تداخل مسلميها ومسيحييها بدون تقسيم جغرافي) إلي (قنبلة نووية بشرية)
مدمرة تطيح بكل ما في البلد.
نعم المصريون (خائفون).. هذه مشاعر لا
يمكن أن تتجاهلها.. أغلبية الناس التي تقبع في البيوت ـ الكثيرون جداً..
خصوصاً في العاصمة ـ في حالة توتر ملتهب.. ولهذا فإن الشائعات تضرب كل
الأسماع.. إن شخصا يلقي بـ(لفافة ورق) في الشارع يمكن أن يثير الريبة بين
ألوف من الناس الآن.. كما حدث في الإسكندرية يوم الاثنين.. والمتسوقون
والمتمشون في المراكز التجارية لم يعودوا يتحركون كثيرا نحوها.. لأنه يسري
بينهم أنها سوف تتعرض لهجوم من الإرهاب.. وحتي لو كان مضمون هذه الشائعات
التي تنقلها رسائل علي تليفونات المحمول ومواقع الإنترنت تعني أن الهدف ليس
هو الكنائس والأقباط وإنما مصر كلها.. فإن ذلك لا ينفي أن الخوف يضرب
الناس.
لك أن تتخيل، وسط كل هذه المشاعر، بعضًا من البشر يتحركون
في مركز تجاري مثل (سيتي ستارز) أو (كارفور)، ثم سمعوا صوت فرقعة بالونة
(تافهة) كيف يمكن أن يتدافعوا هرباً وفزعاً.. وكيف يمكن أن يؤدي هذا
التدافع غير المخطط إلي كوارث غير متوقعة.
الاستقرار انهزم في
النفوس، وهذه أخطر حالات عدم الشعور بالاستقرار، الثقة مهتزة.. وتلك هي
الفرصة الذهبية لاندلاع الفوضي.. خصوصاً إذا كان عود الثقاب هو المشاعر
الدينية.
• الحذر.. الحذر
لقد أعلن
الملايين من المسلمين، بوسائل مختلفة، تضامنهم مع إخوتهم الأقباط، ألوف من
المسلمين يريدون أن يحضروا قداسات أعياد الميلاد تضامنًا وعزاء واحتفالاً..
لكن هذه الرغبات غير سهلة التحقيق.. إما لاعتبارات أمنية.. أو لأن بعض
الأشقاء الأقباط لم يستطيعوا بعد أن يغالبوا أحزانهم.
كما أن
الكثيرين يعربون عن خوفهم من أي رد فعل ينتمي للمسلمين رداً علي المظاهرات
القبطية التي قال قداسة البابا شنودة إن فيها مندسين.. والبعض يتحدث عن
خشيته من أن يحدث أي تفجير لمسجد.. فيكون هذا هو قتيل يفجر الأرض بما
عليها.. ولكن تلك المشاعر والتحسبات- ولا أقول التوقعات- إنما تعبر عن
انتباه حقيقي لحجم الكارثة.. وإن الرأي العام يحللها بنفس دقة تحليل مديري
الأزمة.. وجود هذا التحسب يعني أن الحذر قائم.
«الوعي العام
والأصيل» هو الحصن الذي يمكن أن يصون البلد من «تسونامي الأخطار المتوقع»..
لكن «الخطة الشريرة» التي وضعت لمصر لديها بدائل وخيارات متنوعة.. وتصر
علي أن تمضي إلي أبعد نقطة.. كمثال فإن المصريين في حي شبرا، حيث يتجسد
التنوع العريق الذي نفتخر به، حولوا مظاهرة غامضة الأهداف مساء يوم الأحد
إلي عمل تضامني رائع، عبر عن رسالة عميقة من عمق مضمون المجتمع، ومن ثم كان
أن لجأت الخطة إلي الخيار التالي، تنظيم مظاهرة جديدة، ذات طابع طائفي، في
شبرا أيضا، ظلت متأججة.. بكل ما فيها من مساوئ حتي الواحدة من صباح
«الاثنين- الثلاثاء».. وقد بقي المتظاهرون مشاركين فيها حتي بعد أن أذيع
حوار قداسة البابا شنودة في التليفزيون المصري.
• مسيحيو الإقليم
في
أعقاب الجريمة البشعة والمروعة التي وقعت في الإسكندرية.. كان أن خرج
بينديكت السادس عشر بابا الفاتيكان لكي يطلب الحماية للمسيحيين في الشرق
الأوسط.. وطالبهم «بعدم الاستسلام للإحباط والإذعان».. ومن ثم كان أن تصدي
فضيلة الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر لمسئولياته ودوره وانتقد هذا التدخل
في شئون مصر ورفضه.. ولكن المتحدث باسم بينديكت كان أن قال تعليقًا علي
كلام شيخ الأزهر إن هناك «سوء تفاهم»، وإن البابا «لم يتدخل وإنما أعرب عن
التضامن ثم أعرب عن تداعيات القلق علي كل السكان مسلمين أو مسيحيين».
غير
أن هذه العبارات لم تنف الشعور الهائل بما يريب في تلك الترديدات الآتية
من الغرب بشأن مسألة صار عنوانها «المسيحيون في الشرق الأوسط».. تحيط بها
ملابسات غامضة.. وتعطي انطباعًا بأن هناك من يريد أن يستغل تلك المسألة لكي
يعطي لنفسه حق التدخل في شئون المنطقة.. التدخل الإضافي للدقة.
في
اليوم التالي لوقوع الحادث كان أن وزعت وكالة رويترز تقريرًا موسعًا عما
رأت أنه يتعرض له المسيحيون في الشرق الأوسط.. وفي اليوم التالي لتعليق
المتحدث باسم بينديكت كان أن نشر رئيس تحرير موقع دويتش فيلله الألماني
مقالا عن جريمة الإسكندرية قال فيه ما يلي: «وضع الأقليات في دول مصر
والعراق والأراضي الفلسطينية في الواقع وضع صعب.. فالمسيحية تتراجع وهي في
خطر حقيقي علي المدي البعيد ويجب أخذ الكثير من التدابير لمنع هذا
الاتجاه».
الزميل محمد علي إبراهيم عالج هذه النقطة بتحليل واضح
قبل يومين في مقاله بجريدة «الجمهورية» التي يرأس تحريرها ومن حقنا أن نطرح
تساؤلات حول ما إذا كان هناك أمر يدبر من أجل اتخاذ هذه التدابير التي
يتحدثون عنها.. خصوصًا مع تصاعد تحليلات مختلفة المشارب تؤكد أن هناك
اختراقًا إسرائيليا وأمريكيا لتنظيم «القاعدة».. والاختراق لا يكون هدفه
فقط أن تتم معرفة المعلومات.. وإنما تحويل هذا التنظيم الإرهابي المنتمي
إلي المسلمين إلي وسيلة لتنفيذ أهداف بعيدة جدا.. في ضوء أن «القاعدة» لم
تتمكن حقًا من أداء عمليات حقيقية في العالم الغربي بعد الهجمة البشعة
والفظيعة في سبتمبر 2001 .
هذا لا ينفي انتباهنا إلي المواقف
المساندة التي اتخذها عدد من الزعماء الأوروبيين مع مصر وزعيمها، وعلي
رأسهم الرئيس الفرنسي ساركوزي ورئيس الوزراء الإيطالي بيرلسكوني.
إن
المنطقة قيد إعادة الرسم، ومصر مطلوب منها أن تدفع بعض الفواتير المؤجلة،
أو التي ترفض أن تدفعها، أو التي يجب أن يفرض عليها دفعها، ومن المؤكد أن
هناك عشرات من الرسائل قد تلقتها الدولة خلال تفجير سيدي بشر المروع، لا
علاقة لها علي الإطلاق بما يجري داخل مصر بين المسلمين والأقباط.. ولكن لها
علاقة بحسابات إقليمية معقدة.. وترتيبات كان لها موقف فيها.. وإذا لم يكن
الرأي العام قد انتبه إلي هذا.. فإن من المفترض في النخبة أن تكون قد أدركت
هذا.. وفي مقاله اليوم المنشور في «روزاليوسف» يقول الكاتب اللبناني
الكبير خير الله خير الله: «هذه حرب علي مصر.. وقد كانت هناك حرب علي مصر
في غزة عام 2009» اقرأ المقال ومقالات أخري ص: «4».
كثير من
مستخدمي موقع الفيس بوك المصريين وضعوا أيقونة «الصليب يعانق الهلال»
بديلاً لصورهم في صفحاتهم الشخصية تعبيرًا عن التضامن والوحدة.. بينما أصر
بعض قليل من الأشقاء الأقباط الغاضبين والحزاني علي أن ينفردوا بصورة
الصليب.. دليل المعاناة في عمق العقيدة المسيحية.. وهذه مظاهر ذات دلالة..
لكن الكثير من هؤلاء قد لا يستوعب أن بلدهم مستهدف من قبل مجموعة من طالبي
الاستحقاقات.. أو المبتزين.. أو راغبي تصفية الحسابات.. أو قاصدي إبعاد رقم
مصر الصعب من المعادلات المعقدة.. أو حتي الغيورين الذين لا يمكنهم أن
يسمعوا الرئيس يتحدث عن اتجاه البلد إلي تحقيق معدل نمو قدره 8% ويسكتوا.
• أحصنة طروادة
المعضلة
خلال تلك اللحظات الجلل والأوقات العصيبة ليست في عموم الناس أنقياء
الطوية أيا ما كانت تصرفاتهم.. وإنما في مجموعات من السياسيين والصحفيين
ومنابر الإعلام التي تمضي - بقصد غالبا.. وبغير قصد نادرًا - في اتجاه
إضافة زخم إلي توابع زلزال سيدي بشر.. وقد تخيلوا أن الوقت قد حان.. وأن
ساعة النظام قد اقتربت.. فإما أنهم يعتقدون أنهم يساعدون علي ذلك ويحفزون
من أجله.. وإما أنهم يحجزون مقعدًا فيما يتصورون أنه قطار جديد.. وإما أنهم
يساندون برنامجًا سياسيا بعينه ويوفرون مزيدًا من الفرص من أجله.
صحيفة
(المصري اليوم) التي تنسب إليها مجموعة من التصرفات المحرضة علي التأجيج
الطائفي بانتظام شديد، وكانت هي التي نشرت حوار الأنبا بيشوي الذي أثار
مشاعر المصريين، وكانت هي التي نشرت بداية مقالات لسليم العوا ضد الكنيسة
المصرية، وهي التي تنشر مقالات مستمرة ليوسف زيدان الطاعن في عمق الكنيسة
الأرثوذكسية، وهي التي تقاضيني مرة جديدة لكي أسكت عما تفعل، هذه الجريدة
هي التي نشرت في خلال الثلاثة أيام الأخيرة مقالات متنوعة تبشر بهذه الساعة
التي حانت للنظام.. وتقول ما يردده محمد البرادعي حول عجز النظام عن حماية
المصريين.. ويقول رئيس تحريرها إن النظام غير قادر.. وقد أضاف أن هذا
النظام يخدم أهداف 200 شخص لا غير.
المقاضاة لن توقفني عن تبني
مواقف محددة ضد هذه الرسالة الإعلامية التي تخالف ما أفهمه من (الوطنية)،
والثقة في عدل القضاء أكبر من كل ابتزاز.. إن المقالات يكون الرد عليها
بالمقالات.. وسوف تكون تلك فرصة مهمة للغاية لمحاسبة سياسية لمنهج ورسالة
ومضمون تلك الجريدة في ساحة القضاء، ولكن الأهم هنا هو أن الرسالة التي
تكتبها (المصري اليوم) في هذه اللحظات الجلل تعبر عن منهج مؤسف وعن اتساقها
مع مناهج شديدة الخطورة علي مصالح استقرار البلد.
لقد ضربت
الاضطرابات فرنسا بسبب قانون التقاعد الذي اقترحه الرئيس ساركوزي.. وعاشت
الدولة الفرنسية أيامًا عصيبة من الإضرابات والمظاهرات والاحتجاجات
العنيفة.. وقبلها بسنوات ضربت الاضطرابات ضواحي باريس بطريقة ترقب نتائجها
الكثيرون.. كما ضربت الاضطرابات المروعة اليونان قبل أشهر بسبب الأزمة
الاقتصادية.. وظل التوتر مخيمًا علي البلد بعنف لأيام عديدة.. ولكن هذا لم
يكن يعني أبداً أن النظام في أي من البلدين قد أوشك علي السقوط أو بشر
البعض بذلك.
الأنظمة تؤسس علي شرعية اجتماعية واسعة، لكي تختبر ليس
في لحظات الهدوء والاستقرار وقدرتها علي حمايته، وإنما لكي تتصدي للتحديات
الخطرة في الأوقات القاسية.. والنظام الذي ينتمي إلي ثورة 23 يوليو 1952
الذي يبشرون بأنهم قد قاربوا من نيل ثأرهم منه لن يتبدل في أوقات مثل هذه..
ومن ثم فإن عليكم توفير تذاكر القطار الجديد إلي وقت آخر لن يأتي.. لقد
فعلها من قبلكم منتظرون آخرون في التسعينيات ولكن في النهاية لم يحصدوا
تحقيق أحلامهم.. بل إن مثل تلك المواقف هي التي تحكم علي بعض المطبوعات
بمصير مستقبلها.. ومواقفها هي التي تحدد كيف سيكون عليه تالي أيامها.. وسوف
نري.
لقد حانت بالفعل ساعة النظام.. (بمعناه الأوسع).. بمعناه
النظامي والتنظيمي.. بمعني الترتيب والضبط.. بمعناه المناقض للفوضي..
وللتهييج.. ولإثارة النعرات.. حان وقت الترتيب الذي يؤدي إلي مزيد من حماية
القوام الداخلي والنسيج الوطني.. ليس فقط من كل أبعاد الخطط الشريرة..
التي تأتي من الخارج.. وإنما أيضًا من كل طابور خامس.. وكل حصان طروادة..
وكل من أتاح لهم الحراك السياسي أن يمارسوا العبث دون حساب اكتفاء بوهم
جدوي المتكرر من العتاب.
حانت ساعة النظام بمعناه السياسي لكي يلم
شتات الحراك الذي ترك علي غابره.. فوجده البعض فرصة لكي يفعلوا أي شيء.. لا
نريد تقويضًا للديمقراطية ولا نريد هدمًا للحرية.. فهذا أحد أهداف
الإرهاب.. بل علي العكس نريد مزيدًا من الحريات المدنية التي تسهم في ترسيخ
حقوق المواطنة.. وإنما نريد فرض القواعد المعروفة دوليا والمقرة حقوقيا
علي حريات الرأي والتعبير .. فلا تكون ساحة للفوضي ومنبراً للإثارة
الطائفية التي ندفع ثمنها الآن.
عبدالله كمال